الدرس الحادي عشر

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

3132 12
الدرس الحادي عشر

فضل الإسلام

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله، وحيا الله الإخوة جميعًا.
{نشرعُ في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب من باب "قول الله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا...﴾"، من قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولهما عنه مرفوعًا: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُـحسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ حَتَّى تَكُونُوا أَنتُمْ تَجْدَعُونَهَ» ثم قرأ أبو هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَ﴾ [الروم: 30] متفق عليه.
وعن حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- عَنْ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ»، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: «قَوْمٌ يستنون بغير سنتي و يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ»، قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ! فِتْنَةٌ عَمْيَاْء، وَدُعَاةٌ على أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، فَقَالَ: «قومٌ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَ»، قُلْتُ يا رسول الله: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذلِكَ؟، قَالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ»، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلا إِمَامٌ؟ قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ على أَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ». أخرجاه. وزاد مسلم: ثُمَّ مَاذَا؟، قَالَ: «ثُمَّ يَخْرُجُ الدَّجَّالُ مَعَهُ نَهْرٌ وَنَارٌ فَمَنْ وَقَعَ فِي نَارِهِ وَجَبَ أَجْرُهُ وَحُطَّ وِزْرُهُ وَمَنْ وَقَعَ فِي نَهْرِهِ وَجَبَ وِزْرُهُ وَحُطَّ أَجْرُهُ»، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟، قَالَ: «ثُمَّ هِيَ قِيَامُ السَّاعَةِ».
وقال أبو العالية: "تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تنحرفوا عن الصراط يمينًا ولا شمالًا، وعليكم بسُنة نبيكم وإياكم وهذه الأهواء". انتهى.
تأمل كلام أبي العالية -رحمه الله تعالى – هذا؛ ما أجله وأعرف زمانه الذي يحذر فيه من الأهواء التي من اتبعها فقد رغب عن الإسلام، وتفسير الإسلام بالسُنة، وخوفه على أعلام التابعين وعلمائهم من الخروج عن السُنة والكتاب، يتبين لك معنى قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ﴾ [البقرة: 131]. وقوله: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾، وأشباه هذه الأصول الكبار التي هي أصل الأصول والناس عنها في غفلة وبمعرفتها يتبين معنى الأحاديث في هذا الباب وأمثالها، وأما الإنسان الذي يقرأها وأشباهها وهو آمن مطمئن أنها لا تناله ويظنها في قوم كانوا فبادوا. ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف:99].
وعَنْ ابن مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- خَطًّا ثُمَّ قَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ»، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: «هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ»، ثُمَّ تَلا: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153]»
. رواه أحمد والنسائي)}.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعدُ؛ فهذا إكمالٌ للباب الذي عنونَ له الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه "فضل الإسلام" بعنوان: باب قول الله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا...﴾، وأوردَ في هذ الباب الآيات الكريمة: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا...﴾، ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ...﴾، ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا...﴾، ثمَّ أوردَ مجموعةً من الأحاديث عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وقد تقدَّمَ بعضها في الحلقة الماضية، ووصلنا إلى هذا الحديث، وهو حديثٌ عظيمٌ، حديثٌ يُبين فيه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- معنى قول الله تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَ﴾، حيث يقول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُـحسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ حَتَّى تَكُونُوا أَنتُمْ تَجْدَعُونَهَ»، ثم قرأ أبو هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَ﴾ [الروم: 30]، وهذا الحديث مُتفق على صحَّته، رواه البخاري ومسلم.
ومعنى قوله: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ»، يعني: من بني آدم، فكل بني آدم يُولَدون على هذا النَّحو، وهو أنهم يُولَدون على الفطرة السليمة.
المراد بالفطرة: قبول الحق والميل إليه ومحبَّته والرغبة فيه، والميل إلى أدلَّة الحق وظهورها، لأنه لا يُمكن أن تُغيَّر هذه الفطرة، فكل مولود يُولَد في أرجاء المعمورة ومن جميع الأمم ومن جميع الأجناس على هذا النَّحو السليم، ثم يأتي العارض والمُفسِد من خارج هذا المولود، فيحدث الفساد في عقيدته وفي دينه.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ»، أي: يجعلانه يهوديًّا لأنهما يهوديان.
قال: «أَوْ يُنَصِّرَانِهِ»، أي: يجعلانه نصرانيًّا لأنهما نصرانيَّانِ.
قال: «أَوْ يُمَجِّسَانِهِ»، أي: يجعلانه مجوسيًّا، لأنَّ الأبوين مجوسيَّانِ.
قال: «كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ»، يعني: كما تُولَد البهيمة، ولا يُقال: "تُولِد" البهيمة؛ لأن عبارة الولادة تُقال في الإنسان، وفي بعض الحيوانات وليس كلها، ولكن في البهيمة ونحوها يُقال: "تنتَج"، ولهذا في حديث الثلاثة الأقرع والأبرص والأعمى؛ قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «فولَّد هذا وأنتج هذان»، فالإنتاج هنا بمعنى الولادة.
قوله: «بَهِيمَةً جَمْعَاءَ»، يعني: مجتمعة الأذُن والخَلق، ما في نقص في أذنها.
قوله: «هَلْ تُـحسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟»، يعني: هل تجدون قطعًا في أذنها؟ لأن الجاهليين كانوا يُقطِّعون الآذان، فإذا أنتجت البهيمة قطعوا أذنها، إما يقطعون نصفها أو ربعها، أو يقطعونها كاملة، أو يشقُّونها شقًّا ويُخرِّقونها، فهذا من تصرفات الجاهليين.
وضرب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- هذا المثل ليُبيِّن للصحابة أنه إذا أنتجت هذه البهيمة فإن نتاجها يأتي ببهيمة جمعاء، فهل تجدون فيها مقطعة الأذن؟! ثم قال: «حَتَّى تَكُونُوا أَنتُمْ تَجْدَعُونَهَ».
وهذا يُبيِّن أنَّ الإنسان يُولَد سليمًا على قبول الحق والميل إليه، كما أن البهيمة تُولَد مجتمعة الأذن، فالإنسان لا يُولَد على الشِّرك، بل يُولَد على السلامة وقبول الحق والميل إليه، ولا يقع الشرك في نفس الإنسان ولا يريده ولا يقصده ولا قلبه ممتلئ به من حين ولادته؛ بل يُولَد بعيدًا عن هذه الضلالات، مقبلًا على الحق مائلًا إليه، حتَّى يأتي مَن يَحرِفه ويصرفه عنه من النصارى أو المجوس أو اليهود أو الملاحدة. وهذا يؤكِّد لنا معنى قوله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفً﴾.
ثم أورد المؤلف حديث حذيفة بن اليمان، وهو حديثٌ عظيمٌ في لزوم الجماعة، وفيه علامات الساعة، وفيه فوائد شتَّى، قال: (وعن حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- عَنْ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي)، هذا فيه دليلٌ على أنَّ الإنسان يجب عليه أن يخاف مِنَ الشَّرِّ، ويُغلق أبوابه دونه، ويبتعد عن دُعَاةِ الشَّرِّ ودعاة الفتن حتى لا يقع فيها.
ولهذا قال القائل:
عرفت الشر لا للشر، ولكن لتوقيه ** ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه
ويجب أن نعلم أنفسنا ونعلم أبناءنا وبناتنا أن يحذروا من الشرك، وأن يحذروا من الكفر، وأن يحذروا من الضلالات.
قوله: (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟)، يعني بعثة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- خير، والإسلام كله خير، والرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- كله خير محض، ما فيه أدنى نقص، فاللهم صلِّ وسلم عليه، وكل ما جاء به هدى ونور ورحمة وسلامة ونعم لا تحصى، فاللهم صلِّ وسلِّم عليه.
فالله -جَلَّ وَعَلَا- جاءنا بهذا الخير، وهو بعثة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قَالَ: (فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟)، يعني: بعدَ بعثتكَ وما جئتَ به من الخير؛ هل يأتي شر؟
والكلام هنا عن الأزمان، والمعنى: أننا كنَّا في زمان جاهليَّةٍ وشرٍّ، ثم جئتَ بالهدى والنور -يقصد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فهل بعد هذا الخير من شر؟
فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «نَعَمْ»، سيأتي شر.
قوله: (قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟)، يعني: إذا جاءنا شر، فهل سيأتي بعده خير؟
فقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ»، يعني: ليس خيرًا صافيًا مثل بعثة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- خير مُطلق، ورحمةٌ مُطلقة كاملة، كل ما جاء به خير، ولا شرَّ فيه بأي وجهٍ من الوجوه -صلوات الله وسلامه عليه.
قوله: (قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: «قَوْمٌ يستنون بغير سنتي ويَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ»).
قوله: «قَوْمٌ» يقصد بهم ولاة الأمر.
قوله: «يستنون بغير سنتي ويَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي»، يعني: يتركون سنن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وبعض الأمور، ويهتدون بغير هدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
قوله: «تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ»، يعني: فيه أمور من المعروف يعرفونها، مثل أنهم يصلُّونَ ويصومون ويزكُّونَ ويحجُّونَ؛ فهذا من المعروف، وربما يقعون في معاصٍ من خمرٍ أو من زنا، أو من تأخير الصلاة عن وقتها.
قوله: (قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ! فِتْنَةٌ عَمْيَاْء، وَدُعَاةٌ على أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَ»)، نسأل الله العافية والسلامة.
يعني: الخير الذي فيه دخن لا يستمر أيضًا، وسيأتي بعده نقصٌ أشد، وهو «فِتْنَةٌ عَمْيَاْء»، يعني شديدة، لا تكاد ترى فيها الحق إلَّا قليلًا بسبب شدَّتها وعظمتها، إلا مَن هدى الله -جَلَّ وَعَلَا- فإنه يهتدي بنور الحق.
ثم قال: «وَدُعَاةٌ على أَبْوَابِ جَهَنَّمَ»، أي: دعاة سوء، سواء كانوا أمراء ضلالة، أو علماء فسق، أو عبَّاد جهلٍ؛ فهؤلاء الثلاثة هم الذين يضلون الناس.
والذين يضلون الناس ويدعونهم إلى الباطل:
- إما أمراء ضلالة.
- وإما علماء سوء.
- وإما عباد جهالة.
ويدخل في الأمراء أحيانًا شيوخ القبائل، أو رؤساء الجيش، فإذا كانوا على ضلالةٍ عظيمةٍ يدعون إلى النار دخلوا في هذا الوصف.
و "دعاة" جمع "داعٍ"، والداعي يقول للناس: تعالوا معي، أنا عندي كذا...، وكذا...؛ ولكنه واقفٌ على الباب، وهذا الباب يدخل على جهنَّم. قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَ»، وهذا يكون أوضح ما يكون فيمَن يدعو إلى تكذيب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أو يدعو إلى تصديق المتنبئين الكذابين مدَّعي النبوَّة، أو يدعو إلى تنحية الشريعة الإسلاميَّة، أو يُعاند سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، فهناك من يدعو إلى تصديق بعض الأحزاب الاشتراكيَّة والشُّوعيَّة والعلمانيَّة، وتنحية الإسلام، وإبعاد القرآن والسنَّة عن المجتمع، ودعاة إلحاد وكفر؛ فهذه أمثلة على قوله «وَدُعَاةٌ على أَبْوَابِ جَهَنَّمَ»، فهؤلاء يأتون في وسط المجتمعات الإسلاميَّة، أما لو كانوا وسط الأعداء فالناس يعرفونَ أنهم مع الأعداء، ولكنهم يأتون إلى وسط المجتمعات الإسلاميَّة فيدعونَ إلى هذه الضلالة.
ثم سأل حذيفة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- سؤالًا، فقال: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، فَقَالَ: «قومٌ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَ»).
وكما تقدَّم؛ أنَّ هؤلاء داخل المجتمع الإسلامي، ومن داخل المسلمين، وهم من بني جلدة المسلمين، ويتكلَّمون بلسان المسلمين، فيضلونَ الناس، وهنا يأتي خطر دعاة الضلالة، وخطر الدعوة إلى الضلالات، وهذه الظلمات -نسأل الله العافية والسلامة.
فقال حذيفة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (قُلْتُ يا رسول الله: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذلِكَ؟، قَالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ»)، وهذه نصيحة مُهمَّة جدًّا!
وحذيفة -والله أعلم- لم يدركه ذلك، فمات قديمًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ولكن هذا السؤال من حذيفة نفع الله به المسلمين إلى قيام الساعة، وهكذا طريقة أسئلة الصحابة، فإنَّ أسئلتهم مفيدة، ونافعة لأنها عن علم، ولأن فيها مصلحة، فلا يسألون عما لا مصلحة فيه أو على أمور من التَّنطُّع، وهذه طريقة الصحابة -رضي الله تعالى عنهم.
والله -عز وجل- هو الذي يُوحي إلى رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، وهو يعلم السر وأخفى، ويعلم ما كان وما سيكون، ويعلم كل شيء -سبحانه وتعالى- فهو رب العالمين، وهو الذي خلق هذه الخلائق، ويعلم كل ما سيجري في هذا الكون، ويعلم أن هناك دعاةً على أبواب جهنَّم سيخرجون، ويعلم كل هذا بقدره، فمن فضل الله على هذه الأمَّة أن بيَّنَ لها، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ﴾ [التوبة: 115]، فكيف نتَّقي هؤلاء؟
ذكر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- هذه الجملة العظيمة «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ»، فإذا كان المسلمون مجتمعين على إمام مُسلم فأنت تكون معهم، حتى لو كان هذا الإمام عنده نقصٌ ودخنٌ وضلالة، فلا توافقه على ضلالته، ولا توافقه على نقصه، ولكن لا تخرج عليه وتشق العصا، وتفرق جمع المسلمين وتشذَّ عنهم، وهذا معنى قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ».
ثم قال حذيفة سؤال آخر وهو من الأهميَّة بمكان أيضًا: (قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلا إِمَامٌ؟)، يعني: فوضَى عارمة، فليس هناك سلطان في البلد ولا جماعة مجتمعون، والناس يهرجون ويمرجون، لا يدرون أين يذهبون، وكلٌّ ينادي لنفسه، فماذا تفعل أيها المسلم؟
هُنا التوجيه النبوي واضحٌ وصريحٌ، إذا تمسَّكتَ به نجوت، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ على أَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ».
لَمَّا قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ»، أكَّدَ فقال: «كُلَّهَ»، يعني: لم يستثنِ أي فرقة من الفرق، فإذا لم يُوجَد إمام للمسلمين، وأحيانًا يوجَد هذا في بعض الأزمنة في بعض البلدان وليس كل البلدان؛ فقد يحصل هرجٌ ومرجٌ في ناحية من نواحي المسلمين، فيذهب السلطان عنهم، وتتفرق كلمتهم، فالمسلمون يعتزلون السيف، ويلزمون البيوت حتى تجتمع الكلمة.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَ»، حتى لو جاءك ناس وقالوا: نحن أهل سنَّة تعالَ قاتل معنا؛ فاتركهم واعتزل، وهذا هو توجيه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
ما نهاية هذا الاعتزال؟
أحد أمرين، وذكر الأمر التابع للسؤال، وهو إذا لم يكن جماعة ولا إمام، وهذا الأمر هو: «حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ»، فكنْ بعيدًا عن الفتن، والزمْ بيتك واعتزل الناس، ونسأل الله أن لا يُذيقنا هذه الحالة المريرة، وأن يُعيذنا منها، فلا يوجَد سلطان ولا ولي أمر في البلد، ولا يوجد جماعة، وكل الناس في هرج ومرج، وبعض الجماعات التي يسمونها جماعات إسلامية تستغل هذه الفرصة وتقول: تعالوا معنا والتحقوا بنا؛ لا، فاعتزل تلك الفرق كلها.
وهذه الجماعات البدعية التي تسمي نفسها إسلامية؛ فالآن في غالب البلدان الإسلامية يُوجَد إمام وحاكم، فنحن نقول: لا تدخل تحت هذه الجماعات، فإذا كان المسلمون مجتمعون على إمام وجماعة فالحمد لله، تشهد الجُمعة والجماعة، وتبيع وتشتري، وتدرس وتدرِّس، ولكن تبتعد عن معاصي الله وتبتعد عمَّا حرَّم الله، وتبتعد عن الفتن والبدع ولا تشارك في باطل، ولا تشارك في معصية، فما دام الخير موجود فاستفِدْ من هذا الخير.
فإذا عمَّ الشَّرُّ، وزالَ السُّلطانُ، ولا يُوجد حاكم، ولا توجد جماعة؛ فلا تطيعهم، الزمْ بيتك، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ».
فإذا اجتمع الناس على سلطانٍ في هذا البلد فالحمدُ لله، تسمع وتُطيع في غير معصية الله، وتلزم الجماعة والإمام.
وهذا التوجيه النبوي توجيه عظيمٌ جدًّا، خاصَّة فيما يتعلق بالقتال والفتن، إذا عمَّت الفوضَى في بعض البلدان الإسلاميَّة اليوم، يأتي بعض الناس يقول: التحقوا بالفصيل الفلاني، أو كذا...؛ وهنا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَ»، فأنا لا أطيعكم، وإنما أطيع الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
ثم يأتي هؤلاء يُحرفون الكلم عن مواضعه، فيقولون: مراد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- كذا...، وكذا...!
يا أخي! مراد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- واضح، اقرأ الحديث وتجرَّد عن الهوى.
قوله: (قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلا إِمَامٌ؟)، ما لهم جماعة ولا إمام، فماذا أفعل؟ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَ»، لم يستثنِ أحدًا إطلاقًا، ثم قال: «وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ على أَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ»، فهذا كلامٌ واضح، فتصبر حتى يفرج الله -عز وجل- ففي بعض البلدان عمَّت الفوضى واقتتلوا فيما بينهم، نسأل الله أن يصلح حالهم، وأن يجمع كلمتهم على الحق وعلى الدين وعلى السنة والتوحيد، ولكن أعظم ضلالة أن يلحق بأعداء الله، ويلحق بالمبتدعة، ويلحق بمن يسفك الدماء بغير حق، ويعتدي على الآمنين، ثم يظن أنه مهتدٍ! هذا خالف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وزاد مسلم: ثُمَّ مَاذَا؟، قَالَ: «ثُمَّ يَخْرُجُ الدَّجَّالُ مَعَهُ نَهْرٌ وَنَارٌ فَمَنْ وَقَعَ فِي نَارِهِ وَجَبَ أَجْرُهُ وَحُطَّ وِزْرُهُ وَمَنْ وَقَعَ فِي نَهْرِهِ وَجَبَ وِزْرُهُ وَحُطَّ أَجْرُهُ»، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟، قَالَ: «ثُمَّ هِيَ قِيَامُ السَّاعَةِ»).
هذا يدل على أنَّ هذه الأمور تكون في آخر الزَّمان، ولو وقعت قبلُ فقد تستمر في بعض النواحي وقد تنقطع ويجتمع الناس، ومن ناحية النَّظر للتاريخ الإسلامي تجد أنه في سنة 63 هـ بعد يزيد بن معاوية، حدثت فرقة، ثم على مر التاريخ الدول الإسلامية التي تولَّت في أوان زوالها يحدث مثل هذه الفرقة، ثم يجتمعون، والمسلم مأمورٌ باجتماع الكلمة، ولزوم الجماعة والإمام، والبُعد عن الفتن وحمل السيف، والجرأة على دماء المسلمين -نسأل الله العافية والسلامة.
فهذا يكون عند قرب خروج الدجال -نسأل الله العافية- فإذا خرج الدجال يبقى أربعينَ يومًا، ثم بعدَ ذلك يزل المسيح عيسى بن مريم من السَّماء، ويقتل المسيح الدجال، ويصلي خلف إمام المسلمين، وهذه هي علامات الساعة الكبرى، خروج الدجال، ونزول المسيح ابن مريم، وخروج يأجوج ومأجوج، إلى آخر علامات الساعة الكبرى المشهورة.
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «ثُمَّ يَخْرُجُ الدَّجَّالُ مَعَهُ نَهْرٌ وَنَارٌ»، هذا جاء في عدَّة أحاديث، يحذرنا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- من فتنة الدجال، فمعه نهرٌ يُغري الناس به، ويقول: انظروا فيه وادخلوا فيه، ومعه نار تتأجَّج، فأمرنا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أنَّ مَن إذا ابتُليَ ورأى الدجال ودعاه إلى هذه النهر فلا يَستجيب، فناره هي ماء عذب، ونهره هو النار -نسأل الله العافية والسلامة- ولهذا قال: «فَمَنْ وَقَعَ فِي نَارِهِ»، يعني: أطاع الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وعصى الدجال، ودخل في نار الدجال «وَجَبَ أَجْرُهُ وَحُطَّ وِزْرُهُ»، يعني حُطَّت ذنوبه. قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «وَمَنْ وَقَعَ فِي نَهْرِهِ»، يعني طمع في الدنيا التي مع الدجال، وطمع في المخاريق التي معه «وَجَبَ وِزْرُهُ وَحُطَّ أَجْرُهُ»، نسأل الله العافية والسلامة.
ثمَّ أوردَ أثرًا عن أبي العالية، قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقال أبو العالية: "تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تنحرفوا عن الصراط يمينًا ولا شمالًا، وعليكم بسُنة نبيكم -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وإياكم وهذه الأهواء". انتهى).
هذه النَّصيحة من أبي العالية الرياحي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، وهو من علماء التابعين، وهذه النصيحة ينصح بها مَن يجلس معه من العلماء وطلاب العلم وأهل القرآن، فغالب جلساء هؤلاء هم خيرة البشر وخيرة الناس وخيرة المجتمع، فهو يُوجِّه هذه النصيحة لخيرة المجتمع.
ولو تذكرنا من أول الباب إلى هذا الموضع؛ تجد أنَّ الشيخ محمد بن عبد الوهاب يستدل بنصيحة أبي العالية لمَن حوله من طلبة العلم والقُرَّاء والدَّارسينَ بأنهم يتعلمون الإسلام، فحتَّى وأنت متعلم للإسلام نقول لك: تعلم الإسلام، وهذا ليس عيبًا، فارجعْ وجدِّد معلوماتك، واعرف الأحاديث، والنصوص الشرعيَّة، وتعلَّم واثبُت عليه.
يقول أبو العالية: "تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه"، يعني: لا ترغبوا عنه يمينًا ولا شمالًا، لا بالزيادة ولا بالنقصان، ولا بالغلو ولا بالجفاء، ولا بالإفراط ولا بالتفريط، ولا تقل: هذا شيء سهل وبسيط يعرفه الأطفال والصغار، وأنا كبير وشيخ وكذا...؛ انتبه واحذر من هذا.
ثم قال: "وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تنحرفوا عن الصراط يمينًا ولا شمالًا، وعليكم بسُنة نبيكم -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وإياكم وهذه الأهواء".
إذن؛ بدأت الأهواء في زمن التابعين، ومن هذه الأهواء فتنة الخوارج والمرجئة والشيعة والقدريَّة، وربَّما بدايات التَّصوُّف والمعتزلة، فاتركوا هذه الأهواء كلها واجتنبوها.
ثم يأتي تعليق من الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكما تلاحظون في سائر الأبواب تعليقات الشيخ لا تكاد تجدها إلا يسيرًا، وهذا تعليق طويل ما، فلننظر في هذا التعليق، ولننظر في توجيهات الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
يقول: (تأمل كلام أبي العالية -رحمه الله تعالى - هذ)، يعني: الكلام السابق ذكره.
قال: (ما أجلَّه)، يعني كلام مُهم جدًّا له جلالة وقدر وله أهميَّة.
قال: (وأعرف زمانه الذي يحذر فيه من الأهواء)، يعني: تذكر أيها القارئ وأيها المستمع وأيها المنصت، الشيخ في القرن الثاني عشر، ونحن الآن في القرن الرابع عشر، وأبو العالية في القرن الأول -قرن التابعين- فهل الأهواء في زمانهم مثل الأهواء التي في زماننا؟!
الجواب: لا، أهل زماننا أكثر وأكثر، والضلالات أكثر وأكثر، والانحرافات أكثر وأكثر؛ ومع ذلك خاف أبو العالية على خيرة الناس، وعلى طلبة العلم، وعلى الصالحين، فحذَّرهم ونصحهم.
قال: (وأعرف زمانه الذي يحذر فيه من الأهواء التي من اتبعها فقد رغب عن الإسلام)، فمن كلام أبي العالية "لا ترغبوا عنه"، فإذا اتَّبعتم الأهواء رغبتم عن الإسلام.
قال: (وتفسير الإسلام بالسُنة)؛ لأنه قال: "فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تنحرفوا عن الصراط يمينًا ولا شمالًا، وعليكم بسُنة نبيكم"، ففسَّر الإسلام بالسُّنَّة.
وقيل: إن الإمام أحمد قال له رجل: عافاك الله يا إمام وثبَّتك على الإسلام. فقال أحمد: والسُّنَّة.
وهذا لأن الإسلام هو السنة، والسنَّة هي الإسلام، ولكن بعض الناس يأخذ الإسلام بالمفهوم العام، ويرى تطبيقات المسلمين فيجعلها الإسلام، فأراد تنبيهه على أن المطلوب من المسلم التزام سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
ثم قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وخوفه على أعلام التابعين وعلمائهم من الخروج عن السُنة والكتاب)، يعني خوف أبي العالية على هؤلاء.
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (يتبين لك معنى قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ﴾ [البقرة: 131]. وقوله: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾).
الشيخ هنا يرجع إلى النصوص التي أوردها في أول الباب، فهذه النصوص إذا جمعتَ بينها وقرأت أثر التابعي؛ عرفت أنَّ التابعي فهم النصوص، والآن زاد اهتمامك بمعرفة معاني هذه الآيات، وهي أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يهتمون بالثبات على الدين، يهتمون بالتَّمسُّك التَّام به، وعدم الانحراف عنه يمينًا ولا شمالًا.
قال: (وأشباه هذه الأصول الكبار)، يعني: كرِّر على قلبك وعقلك وفكرك هذه الأصول الكبار، بعض الناس يجعل الأصول الكبار ما قعَّده علماء الكلام المذموم، فيجعلون قواعد وأصول في الدين يسمونها "أصول الدين" ويريدون بها كلام المتكلمين من الجهميَّة والمعتزلة ومَن يُحرِّف الصفات، لا؛ بل أصل الأصول هو الذي في القرآن والسنَّة.
قال: (وأشباه هذه الأصول الكبار التي هي أصل الأصول والناس عنها في غفلة)، فحتَّى بعض المتفقِّهة وبعض الدَّارسين صار في غفلةٍ عن هذا الأصل الكبير، صار يشتغل بأشياء ويُهمل إخلاص العبادة لله، يرى مَن يعبد غير الله ويسكت! ويرى من يتبرَّك بالقبور ويسكت! ويرى مَن يقع من الشركيَّات ويسكت ويشتغل بالفقه!
فهذا أهمل أصل الأصول وهو التوحيد، وأساس الدين وهو العقيدة؛ فلابدَّ أن تجمع مع الفقه ضبط الأصول، وضبط الدين، وضبط العقيدة.
قال: (وبمعرفته يتبين معنى الأحاديث في هذا الباب وأمثاله)، ويقصد الأحاديث التي وردت في أول الباب «بدلوا..»، «أحدثوا...»، «إنما ارتدوا بعدك القهقرى»، وأمثالها.
قال: (وأما الإنسان الذي يقرأها وأشباهها وهو آمن مطمئن أنها لا تناله ويظنها في قوم كانوا فبادوا؛ ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف:99])، يعني بعض الناس يقرأ هذه الأحاديث وهذه الآيات وهو مقيم على الشركيَّات، ويرى البدعيَّات ولخرافات والوثنيَّات في جماعته وهم يدَّعونَ الإسلام، ثم يقرأ هذه النصوص وهو آمن ويقول: نحن على أحسن حال؛ بل إن بعضهم يقول: ما دام أن الإنسان يقول "لا إله إلا الله"؛ فلا يضره أن يقع في هذه الشركيَّات والتعلق بالأموات! نسأل الله العافية والسلامة.
فهذا تعليق من الشيخ، يريد منه ان لا تجعل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية أن المراد بها أناس كانوا فبادوا، وأت غير معني بها؛ لا، الكلام خطاب لك، فتأمَّل معانيه، وتدبَّر ما فيه، قفْ عند حدوده، حرِّك به قلبكَ، اُنظُر في هذه المعاني العظيمة التي اشتملت عليها الآيات، والله إنَّ معانيها تهز القلوب!
فنبي الله إبراهيم يوصي بنيه، ويعقوب يوصي بنيه، ونحن آمنون ما نوصي أبناءنا ولا نحرص على أبنائنا! فماذا استفدنا من قراءتنا هذه؟! فحتى أنا معني بهذا، أهتم بأبنائي، وأهتم ببناتي، وأهتم بطلابي، وهكذا كل معلم، وكل مُربٍّ، وكل موجِّه، وكل مسؤول، وكل ولي أمر؛ لا تجعل هذه الآيات لغيرك وأنت غير معني بها، فهذه تنفعك وتنفع مَن بعدك، أسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يهدينا إلى الصراط المستقيم، وأن يثبتنا عليه.
ثم ختم المصنف هذا الباب العظيم بحديث ابن مسعود، قال: (وعَنْ ابن مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- خَطًّا ثُمَّ قَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ»، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: «هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ»، ثُمَّ تَلا: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153]». رواه أحمد والنسائي).
هذا الحديث يؤكِّد ما تقدَّم، يدل على أن الإنسان على خطر، وأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يقول: هناك سبيل واحد للحق، وهناك سُبُل للباطل، وهذه السُّبل موجودة، فسبل الباطل عليها دعاة يدعونَ الناس إليها، قال: «عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ»، شيطان إنسي، وشيطان جني، وكما ترون الآن سبل الباطل كثيرة جدًّا لا تُحصى، أمَّا سبيل الحق فواحد، ولهذا قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾.
وهذا يؤكِّد لنا أنَّ معنى "السُّبُل" هنا: الشُّبهات والضَّلالات، وطرق الغواية، وطرق الهلاك، وطرق البدعة، مثل الفرق المبتدعة، ومثل الأحزاب الضَّالَّة، ومثل الأفكار الخبيثة الضالَّة التي تضل الناس عن صراط النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
وبهذا نعرف أهميَّة الثبات على الصراط المستقيم، ونعرف خطر الشبهات، ونعرف فائدة مهمَّة، وهي أن الإنسان يجب عليه أن يغلِّب جانب الخوف ما دام حيًّا، فالإنسان يجمع بين الخوف والرجاء، ولكن إذا ما كان فيه خوف فسيأمن على نفسه فيسقط في المحظور، ولكن إذا كان يجمع بين الخوف والرجاء، وإذا كثُرت الضالات يُغلب جانب الخوف ويُغلب جانب الحذر والوقاية والحماية لنفسه ولمن معه، أما أن يُفتَح الباب للجميع وتدخل كل سبل الضلال على أولادي باسم الثقافات والتَّعايُش مع الفنون، والتعايش مع الأفكار، والتعايش مع المجتمعات؛ فهذه هي السُّبل التي حذرنا منها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وما الفائدة من تحذيره إذا كنتَ تفتح على الناس هذه الضلالات! فهذا خطأ منهجي، ومخالفة لتوجيهات الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
فنتعلَّم لنحذر، ونهيئ جماعة من الناس لأن يعرفوا بعض الأمور التي نحتاجها في الدعوة إلى الإسلام، وما ينفع الأمَّة، أما أن نجعل كل مَن هبَّ ودبَّ يدخل على هذه الأشياء المفتوحة من سبل الضلالة من ثقافة اليهود وثقافة النصارى وثقافة الغربيين وثقافة الفلاسفة؛ فهذا لا شك ولا ريب أنه سيهلك، فكل هذه الضلالات معها شياطين تدعو إلى النار، يقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ». فالحذر الحذر!
أسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يثبتنا وإيَّاكم على الإسلام والسنَّة، وأن يحفظنا بالإسلام قائمين، وأن يحفظنا بالإسلام قاعدين، وأن يحفظنا بالإسلام راقدين، ولا يشمت بنا الأعداء والحاسدين، ونسأل الله أن يحفظنا ويحفظ بلادنا وولاة أمورنا، وجميع إخواننا المسلمين، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكانٍ، فإنه -سبحانه وتعالى- سميع مجيب الدعاء، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك