الدرس الحادي عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالعزيز بن محمد السدحان

إحصائية السلسلة

4618 11
الدرس الحادي عشر

آداب و أخلاق

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد العزيز بن محمد السدحان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
حيا الله من معنا ومَن يرى ومَن يسمع ومَن بلغ.
{ما زال حديثنا متواصلًا عن الآداب والأخلاق، وسيتحدث فضيلة الشَّيخ عن موضوعٍ هامٍ، وهو من فقه العلاقاتِ الاجتماعيَّة، فهل من توطئةٍ فضيلة الشيخ؟}.
الحمدُ لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.
من المعلوم قطعًا أنَّ الإسلام دينُ الشُّموليَّة والكمال، وما ترك أمرَ خيرٍ إلا دلَّ الأمَّة عليه، وما ترك أمرَ سوءٍ إلا حَذَّر منه إمَّا إجمالًا وإمَّا تفصيلًا.
وممَّا عُني به الإسلام ما يتعلَّق بالعلاقات الاجتماعيَّة، والتَّرابط الأسري، والجوار، وما شاكل ذلك، ففي ذلك بناء للبيت، وبناء للأسرة، وبناء للمجتمع، وفي قدر التَّفريط والخلل يكون هدم المجتمع -أو الأسرة أو البيت- متأثِّرًا بنوعِ الخللِ من حيث صغره وكبره.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ.
أول ما نتحدث عنه في العلاقات الاجتماعيَّة هم كبار السن، فلو تعطونا بعض النقاط في التعامل معهم}.
ينبغي أن نعرف أن لكبار السن منزلة خاصَّة، وأن الإسلام قد عاملهم مُعاملةً من الديانة أن يتعبَّد العبد ربَّه بهذه المعاملة، فلهم حق التوقير، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «ليس مِنَّا مَن لم يُوَقِّرْ كبيرَن»[121]، وكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يُجلُّ الكبير، جاءه رجلان فتكلما فقال لهما: «كَبِّرْ كَبِّرْ»[122]، وكان -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- إذا سقى قال: «ابْدَؤوا بِالْأَكَابِرِ»[123]، ولَمَّا جاءه أبو قحافة والد الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قال له: «هَلَّا تَرَكْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا آتِيهِ»[124]. فقال الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "هُوَ أَحَقُّ أَنْ يَمْشِيَ إِلَيْكَ".
وفي قضيَّة الصيام، إذا ضعف كبير السن خصوصًا -وغيره عمومًا- عن الصيام؛ فيُطعم عن كل يومٍ مسكينًا.
وذهب بعض الفقهاء إلى أن جلسة الاستراحة إذا رفع من السجدة الثانية؛ فيستريح قليلًا، ثم يقوم للركعة الثالثة، وخصَّ بعض العلماء هذه الجلسة بكبار السِّن، فتوقير كبار السن وتوقيرهم وتعظيمهم شأنه في الإسلام عظيم.
{أحسن الله إليكم شيخنا.
لو ذكرتم بعض المحاور والمواقف التي تحدث لكبار السن}.
فيه بعض النقاط قيَّدتها عندي، منها:
النقطة الأولى: بعض الأصحاب لهم علاقات من سنين، يذهبون سويًّا للعمل، أو للمدرسة، أو للكلية، ويسافرون سويًّا، ويلتقون في اليوم مرَّةً أو مرتين أو أكثر، فالعلاقة بينهم كأنهم أشقاء، ولكن العجب أن بعضهم لا يعرف والد بعضهم، ولم يره ولم يقابله، حتى أن بعضهم قد يرى والد صاحبه عرضًا في سوقٍ أو في مسجدٍ أو في مكانٍ، ولا يعرف أن هذا هو والد صاحبه الذي هو كظلِّه! وهذا من الخلل، ويُشكَر بعض الفضلاء إذا دعا أناسًا من أصحابه، وأحضر والده وعرفهم به، وأظهر قدر والده، وبدأ يُعرِّف أصحابه على أبيه؛ فهذا فيه إيجابيَّة كثيرة، منها:
* أن هذا فيه مرضات الله -عَزَّ وَجَلَّ.
* وأنه من توقير الكبار عمومًا، والأب خصوصًا.
* وأن هذا الوالد الكبير إذا رآه أصحاب ولده قدَّروه ووقَّروه، وخصُّوه بمزيد من العناية.
* أن يُحظَى هؤلاء الشباب بدعاء من المسن، فقد يدعو لهم بدعوات يكون فيها رفعة لهم في أمور دينهم ودنياهم.
ولهذا بعضهم في مجلسٍ يتحدَّث فيقول: كان هناك رجل أراه كلما أزور صاحبي، وفجأة قابلته عند باب بيته، فقال لي صاحبي: هذا والدي. يقول: فتندَّمت، من بضع سنين وبيننا صحبة وعلاقة، ولأول مرة أرى والده وهو ما رأى والدي!
فأنا أقول للشباب: ينبغي لمن بينهم صحبة إذا اجتمعوا في بيت لمناسبةٍ أن يُؤخذ أولًا الإذن من الوالد؛ متى يا والدي يناسبك أن يأتي أصحابي ويسلمون عليك؟ فإذا قال الوالد: يناسبني الوقت الفلاني. فأُخبر أصحابي أن والدي وافق، وله الفضل أن يتفضَّل بالجلوس معهم لسنِّه وتوقيره، فينبغي أن يُتفطَّن لهذا الأمر.
{أحسن الله إليكم شيخنا.
بعضهم يعتذر أن والده فيه قسوة، سواء يخشى أن يقسو عليه أمام زملائه، أو يقسو على زملائه، فما توجيهكم؟}.
هذا في الحقيقة موجود، ولكن يُقال: في الغالب إن الوالد إذا جلس مع أصحاب ولده أو أناس لأول مرة يُجالسهم؛ فإنه يتلطَّف معهم، والولد سيكبر في عين أصحابه أنه وعد والدهم حتى يسلموا عليه، فإن كان الوالد لا يرغب من شدَّة وجفاء؛ أعذرَ ولده له، وأحيانًا بعض الآباء تغلب عليه العصبية، ولكن في الغالب مثل هذه المجالس ما يتأثَّر، لأنه مع أناسٍ لأول مرَّة يُجالسهم، وهذا الشيء شاهدته أنا مع ناس كثُر جلسوا مع آبائهم، بل إن بعضهم أن يُرى من أبيه جفوة فيُنتَقَد، فحتى لو حصل هذا الشيء، فيشفع له شيبته وسنَّه وكبر عمره.
فإذا عرف الولد أنه سيكون من والده رفع صوت أو كذا، فيُقال له: صدرك أوسع لتحمُّله، وهذا من باب البر به.
وربما هؤلاء الشباب يقعون في قلب والده فيُحبهم ويتبسَّط معهم، ويسترح في الحديث معهم.
النقطة الثانية: إذا جالستَ -أيها الشاب- كبير السن؛ فينبغي أن تكون مُستمعًا لا متكلِّمًا؛ لأن بعض كبار السن يسترسلون في الكلام، وبخاصَّة إذا وفقه الله إلى جليس يعرف كيف يتحدَّث معه، فبعض الشباب الصغار إذا دخل مع كبار السن أخذ المجلس، واستأثر به مع أنه مكبورٌ، فليس هذا من الأدب، وليس من توقير الكبير، بل قد يكون من إهانة الكبير، فالأولى في الأدب أن يكون مستمعًا، اللهمَّ إلا إذا كان كبير السِّن لا يرغب في الكلام، أو أن الأصغر رأى داعي الكلام وموجب الكلام، فيستأذن من الكبير لإظهار قدره واحترامه.
النقطة الثالثة: من فقه التَّعامل مع كبار السن، أن بعض كبار السن يرغب ويُحب الكلام في أمر، في محنة، في حرفة، في تاريخ، وأعتقد أن هذا من السياسة الاجتماعيَّة في كسب قلوب كبار السن، أعرفُ أن هذا الرجل المسن كان صاحب زرع، فإذا تحدَّثت معه في الزرع تجده يتكلَّم؛ بل اسأله أنت، واجعله يأخذ راحته، وبخاصَّة أن مثل هذه المجالس لا فيها غيبة ولا نميمة ولا تعصب قَبَلي؛ مجرد أنه يذكر فقط أشياء يُحبها.
وأذكر موقفًا: كان أحد الإخوان يتكلم ويقول: كان لي صاحب، وكان في أبيه قسوة، فقلتُ لصاحبي هذا: سأزور والدك. فقال لي: لا تزُرْ والدي، فقد ترى تصرفات تُؤذيك. فقلت: لا، سأذهب.
يقول المتكلم: ذهبتُ إلى والده بعدَ أن عرفت أنه يُحب النَّخل، فلمَّا قابلت والده بالفعل في نظراته حدَّة كبيرة، فسلمتُ عليه، فردَّ عليَّ بردٍّ فيه جفاء، فقلتُ في نفسي: سألجُ في اليم، فقلت له: أريد أن أستشيرك في أمرٍ. فنظر إليَّ وقال: أي أمر؟
فقلت: عندي في البيت نخلة، بعضهم يقول: احفر لها مترين، وبعضهم يقول: احفر لها متر، وبعضهم يقول: سماد طبيعي وكذا، وبعضهم يقول: إن طول النخل يعتمد على كثرة الماء؛ فإذا بالرجل غير الرجل، وإذا بتقاسيم الوجه قد تغيَّرت، ثم أخذ يشرح ويسترسل حتَّى واعدته من الغد، فأتيته في بيته، وأصبحت العلاقة وطيدة إلى هذه اللحظة.
ويُقاس هذا على كل أحد، وأعرف رجلًا قريب لي، فكنتُ إذا أتيتُ أنا وأصحابي نسأله، فيتكلم عن ذلك التاريخ، وكيف كانوا...، ويستوحي الكلام.
النقطة الرابعة: بعض الأفاضل مُوفَّق في حديثه، فإذا رأى مُسنًّا في مجلسٍ أو في مسجدٍ، يقول: يا والدي...، يا عم...؛ هذه الكلمة تهدئ النفوس، فإذا بكبير السِّن يشعر بمكانته.
وانظر إلى الخليل -عليه السلام- مع أن أباه كان على غير دينه وكان مشركًا: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ...﴾ [مريم: 42]، ﴿يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ...﴾ [مريم: 43]، ﴿يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ...﴾ [مريم: 45]، فهذه أرق عبارات الأبوَّة من جهة البنوَّة.
فإذا قلت لكبير السن: يا والدي...، خمسة أحرف، ولكنها ستفعل فعلًا ليس بالشيء السهل، وإذا قلت لامرأة مسنَّة: يا خالتي...، يا عمتي...؛ فلها أثر كبير، فإذا جاءني شاب وقال لي: يا عم..، يا والدي...؛ فهذه الكلمة لها أثر كبير.
{هل يُناديه بالكنية؟}.
أيًّا كان، بعض الناس يستروح بالكنية، وبعضهم يستروح باسمه، ولكن في الغالب أن النداء بالأبوة أو العمومة مقبول في الغالب.
النقطة الخامسة: إذا دخلتَ في مجلسٍ وفيه كبير سن، فينبغي أن يُشعَر بقدره، فلو طلب صاحب المجلس منك كلمة تقول: قبل الكلمة نستأذن الوالد والجميع، أو تقول لصاحب الدار إذا طلب منك كلمة: قبل أن تطلب الكلمة أو بعدها استسمح من كبير السن، كأن تقول: نستأذن من العم الكريم الفلان...، نستأذن من والد الجميع...؛ فإذا أُخذ الإذن منه قد يُشارك في الحديث، وقد يُشجِّع على الاستمرار في الحديث، وقد يفتح مجالات أخرى.
النقطة السادسة، يدخل بعض الشباب في مجلس فيه كبير سن، فيتعامل في السلام مع المسن كما يتعامل مع مَن في عمره أو أصغر، وهذا ليس من توقير الكبير، تسلم على صاحبك بطريقة، ولكن المسن تشفع له شيبته، ويشفع له أنه كان يركع ويسجد قبل أن تُخلَق، فالأولى أن يُعامل بمعاملةٍ تليق به، كتقبيل رأسه والتَّحفِّي به، وتخصيصه بألفاظٍ فيها تبجيل وتكريم.
النقطة السابعة: إذا ألقى الإنسان كلمة أو تحدَّث في حديث ما فيه أحكام شرعية؛ فيقول: نسمع رأي الوالد فلان في هذا الحدث...، فقد يكون الْمُسن عاميًّا وليس له حظ من فهم القضيَّة، ولكن مجرد طرح السؤال عليه أو طرح العرض عليه فيه التوقير، وفيه نوع من الحفظ لمكانته وهيبته.
{أيضًا ما يكون بحكم سنَّه قد عركته التجارب}.
كبار السن مدارس في الحياة، وأتكلم عن نفسي: والله أني جالستُ كبار سنٍّ، فإذا بدأ يتحدَّث أو تستشيره؛ تجد أنه يعطيك عُصارةَ فكر ثمانين أو تسعين سنة، وتجد أنَّ عنده من الآراء ما يجعلك إذا تأمَّلت في الأمر وجدتَّ أنه نظر بعين البصيرة، لا بعين البصر المجرَّد.
وأحيانًا تقع أقدار مؤلمة في الحياة، فتأتي عند كبير السن، فإذا جلستَ معه وجدتَّ عنده من التثبيت، مع أن ما له حظ من العلم الشرعي، ولكنها الفطرة ونقاء السريرة، وكثير من المسنين ما درسوا العقيدة علميًّا، ولكن طبقوها عمليًّا، وكثير من المتعلمين درسوها علميًّا، ولكنهم يضعفون عن تطبيقها عمليًّا.
النقطة الثامنة: إذا تحدَّثت في مجلسٍ وفيه كبير سن فينبغي أن يُخص بالنظر أكثر من غيره، والأجمل إذا تكلَّم المتكلِّم ثم بدأ بسرد قصَّةٍ، وأثناء كلامه يقول: الوالد فلان قال لي كذا...، ويستمر في الحديث، فكونه يُخص بلقبه ففيه نوع من التوقير، فإذا تكلَّم مع صغار، ثم خصَّ كبير السن بمزيدٍ من التوقير؛ فالكبير يرتاح نفسيًّا.
النقطة التاسعة: قد يعترض كبير السن على المتحدِّث، وقد يخضع المتكلم بأن يكون اعتراضه إما أن يكون صوابًا أو يكون خطأ، والكلام فيما إذا كان الاعتراض خطأ، أما الصواب فسيقبله، فإذا كان كلامه خاطئًا فينبغي للمتكلم أن يتلطَّف في تصويب خطئه، فلا يعترض عليه ويقول: أنت ما فهمت القضية! فلا يُقال لكبير السن هذا، ومن باب أولى لو كان قريبًا، ومن باب أولى وأحرى وأجدر إذا كان والدًا أو جدًّا؛ فإذا أخطأ في انتقاده فترده بلطف، فتقول: ما ذكره الوالد الكريم هذا قول، وإذا رأينا الخبر هذا وجدنا الصحيح كذا...، ولعل الوالد -حفظه الله- يقصد كذا...؛ المهم ترده بطريقةٍ لطيفةٍ في الأسلوب والتعبير.
فإذا أصرَّ أنه صواب وأن الخطأ عليك، وأنت تعرف أنه ليس بحكم شرعي فلا تجاريه.
{طيب لو كان حكمًا شرعيًّا}.
تلطَّف في بيان الحكم الشرعي، ويستطيع المتكلم أن يقول: حفظكم الله، ذكر سماحة الشيخ ابن باز وأهل العلم كذا....، فهو الآن سيعلم أنه مكبور، فإذا قلت له هذا بتلطُّف فهذا يكون أبلغ، فذكر الإمام أو ذكر المشايخ المعاصرين يجعل كبير السن يسحب بساطه ويشد رحاله ويترك رأيه.
{هل نتوقف هنيهة ولا أناقشه حتى لا يتمادى في الإصرار على رأيه؟}
أحيانًا يكون الحكم شرعيًّا، ولو سكتَّ عنه ربما يحصل لبس عند الناس، ولكن إذا كان الخبر ليس بحكم شرعي، فتقول: هذا رأي الوالد الكريم...، والرأي الآخر كذا...، ونحترم رأي الوالد حفظه الله، والناس سيفهون بحسن السياق إذا سبقه وصاحبه ولحقه حسنُ أدبٍ.
النقطة العاشرة: أحيانًا كبير السن قد يُصاب بنوع من ما يُسمَّى بالخرف، أو ما يُسمَّى بالمصطلح الطبي "زهايمر"، وهذا يحصل في بعض الأمهات وبعض الآباء -ضاعف الله أجرهم- والشأن هنا في الأولاد من بنين وبنات، بعضهم يضجر إذا كرر والده السؤال، حتى يقول لإخوانه: اجلسوا مكاني...، أو ردُّوا عليه بكذا...، أو يزجر والده ويزجر أمَّه؛ وهذا حرام ولا يجوز، وقد يُقال إنه من العقوق، فكم صبروا علينا ونحن صغار، وكم تعبوا حتى نرتاح، وسهروا حتى ننام، وتألَّموا حتى نفرح؛ فالإنسان يتحمَّم ويصبر، وهذا من مواطن البر التي يُضاعف فيه الأجر للبار من بنين وبنات.
وأذكر قصَّة: رجل أمريكي كان في حديقة، وكان معه شاب في العشرينات، وكان الولد يقرأ في جريدة، فإذا بعصفور وقع، فقال له المسن: ما هذا؟ فقال الولد: عصفور. فقال المسن -مرة ثانية: ما هذا؟ فقال الولد: عصفور، ولما سأله في المرة الرابعة والخامسة فالولد إمَّا رمى الجريدة أو مزَّقها، ثم رفع صوته: عصفور عصفور...، سكت المسن، ويبدو أن كبير السن ما كان به زهايمر، ولكنه أراد اختبار ولده، فدخل الوالد البيت والشاب ما زال في الحديقة يقرأ، وأحضر الوالد دفترًا قديمًا، وفتحه وقال لولده: اقرأ. فإذا بالولد يقرأ: "كنت في هذا اليوم وكان عمر ولدي -الشاب- ثلاث سنوات، وكنا في الحديقة، ووقع أمامي عصفور، فكان يسألني: ما هذا؟ فسألني خمسين مرَّة، وكنتُ أتلذَّذ بإدخال السرور عليه، ويا ليت أنه زاد"، فالشاب لما قرأ هذا تأثَّر، وقام وعانق والده.
فقضية الضجر من الوالد أو الوالدة عندما تشيب رؤوسهم أو يُصابون بالخرف؛ هذا ليس من المروءة، وليس من الرجولة، وليس من العقل، وليس من الديانة قبل كل شيء.
النقطة الحادية عشرة: بعض الناس إذا أصاب كبير السن في رأيٍ أو أحسن في تصرف؛ فكأن شيئًا ما كان! لا يا أخي، إذا كان كبير السن قد أصاب في تصرف في المجلس، فينبغي توقيره، يُقال له: جزاه الله خيرًا والدنا الكريم، ونشكره على كذا...، وينبغي يا أفاضل أن نستفيد مما قاله، وأن نحذوا هذا النُّصح؛ فهذا يجعل المسن يحرص على هذه المجالس، والحاضرون يتأثَّرون من تعامل كبير السن، فيتعاملون هم مع آبائهم وأعمامهم والمسلمين عمومًا.
النقطة الثانية عشرة: أحيانًا نقرأ في المجلات أو نسمع في وسائل التواصل أنَّ فلانًا من بلد أوربي من غير بلاد المسلمين عمل خيرًا للمسلمين، أو دافع عن قضيَّةٍ، كأن يكون محام أو صحفي، أو رجل أنقذَ مُسلمًا أو مُسلمة، أو مسؤول هناك دافع عن حق من حقوق المسلمين؛ فهذا المسؤول أو ذلك الصحفي، أو ذاك المحامي؛ ينبغي أن يُشكر على فعله، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ»[125]، والمكافأة له لها آثار:
أولًا: تزيده حرصًا على هذا النهج وهو الدفاع عن قضايا المسلمين.
ثانيًا: قد تُؤثِّر على غيره من الكتاب والمحامين والمسؤولين، فيحذون حذوه.
ثالثًا: أنهم سيكونون -بإذن الله- أصواتًا ضد من تكلم في الإسلام وأحكامه وشعائره.
ولهذا اقترحتُ المكافأة بالمعروف، وأن تتولى هذا جهات رسميَّة كالرابطة أو وزارة البحوث الإسلامية أو دار الإفتاء؛ فإذا فعل مسؤول أوربي شيئًا للإسلام كأن يُدافع عن قضية إسلامية، أو رفع عنه تهمة؛ فيُشكر بخطاب أو بهدية أو يُدعَى في بلده من قبل المركز الإسلام في العيد ويُكرِّمونه؛ لأنه صنع لنا معروفًا، وهذا من باب المروءة، فالمروءة كان عند الجاهليين أن تُكافأ على مَن أحسن إليك، فيكف إذا تقرب الإنسان بذلك إلى رب العالمين.
{أحسن الله إليكم.
بعضهم يترفَّع عن التعامل مع أصحاب المهن الوضيعة، فما توجيهكم؟}.
نعم، صدقت!
بعض الناس لا تقبل نفسه أن يتعامل مع هؤلاء، ولكن لا يظهر لهم فعلًا أو قولًا أو مشاعر في انتقاصهم وازدرائهم، وأصحاب هذه المهن يسترزقون، وتغربوا حتى يسترزقوا.
وأذكر أني كنت مرَّة في زواج عائلي منذ قرابة ستة وثلاثين سنة، وكأنه الآن بين عيني، كنا في مجلس البيت وجدت ثلاثة جالسين على استحياء، فسألتهم من أنتم؟ فقال أحدهم: أنا أعمل في محل غسل للسيارات، وقال الآخر: أنا في محل تغيير الزيت...، وكانوا في وجوههم بشر، فقالوا: هذا الرجل المسن أنسانا الغربة، وهو والدنا، بكلامه الطيب، وبسلامه علينا، ولا تأتي مناسبة إلا ويأتي هو بنفسه ويُسلِّم علينا، ويُلح حتى أحيانًا يكاد يزجرنا ألا تأتوا، ونحن نفخر به أنه والدنا.
هذه أمور تخفى على الكثير، تخيل إذا أقام الإنسان وليمة عامَّة، فلاحظ إذا جلس الإخوة أنهم يشعرون بحبور وسرور، فينبغي في مثل هذه الأمور أن لا نغفلها، وأن لا ننسى أنه تغرَّبوا عن بلادهم وعن أوطانهم، يخرج الإنسان وامرأته حاملا، ثم يعود وولده في السنة الرابعة في الدراسة.
{في خاتمة هذه الحلقة، هل من وصايا ونصائح؟}.
الواحد يبدأ بنفسه، ويستفيد من غيره، وإن كان ثَمَّة نصيحة تتعلق بهذا المجلس؛ فيُقال: مَن كان مفرطًا في توقير كبار السن، وبخاصَّة قرابته، وعلى رأسهم الوالدان؛ فليعلم أن هذا من الإثم والخطيئة، وليستغفر الله، وليُنزل الناس في منازلهم، أيًّا كان ذلك المنزل.
وأُؤكِّد على نفسي وعلى غيري أن أولئك الذين في بعض المهن كعمَّال النظافة لهم حظ من المحبَّة والعطف والشفقة، ولا نحكم على العموم منهم بسبب شخص تصرَّف تصرفًا سقيمًا، ففي أحيائنا أناس يخطئون أخطاء فاحشة ولا يُعمَّم الحكم، فهؤلاء العمَّال لا يُلصقون بأنَّهم كذبة ونصابون محتالون! فلو كان شخصًا أو شخصين أو عشرة من آلاف الأشخاص كذلك؛ فلا تجعل الحكم عامًّا؛ لأن هذا من الظلم.
يقول لي أحدهم: إذا مررت على عامل النظافة وقلت له: "السلام عليكم"، فيتلفَّت المسكين ويظن أن هناك أحد سُلِّمَ عليه، لا يتوقع أنه يُسلِّم عليه أحد!
وأذكر واحدًا يقولون عنه أنه إذا أخذ من البقَّال لبنًا وما شاكله؛ ثم مرَّ على عامل نظافة أعطاه، فهذا نوع من التَّعبُّد لله، وهو إدخال السرور على المسلم.
{هل صحيح ما ورد عن ابن عمر أنه ما كان يأكل طعامًا إلا أن يُؤتَى له بضيف أو كذا؟}.
سعمتُ أن بعض الصحابة كان لا يأنس بالأكل إلا إذا كان معه أحد، حتى أني سمعت عن الشيخ ابن باز -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنه ما أكل غداءه وحده، ولا عشاءه وحده، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «خِيَارُكُم مَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَرَدَّ السَّلامَ»[126]، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلا بِضُعَفَائِكُمْ!»[127].
وحاتم الطائي في الجاهليَّة كان في الليلة الباردة الشَّاتية يقول لمولاه:

أَوقِد فَإِنَّ اللَيلَ لَيلٌ قَــــــــرُّ ... وَالريحَ يا موقِدُ ريحٌ صِرُّ
عَسى يَرى نارَكَ مَن يَمُرُّ ... إِن جَلَبَت ضَيفاً فَأَنتَ حُرُّ

فهذا من الكرم، وحتى الآن يقولون المثل: أكرم من حاتم.
وأيضًا بعض الفضلاء كان في بقالة، فجاء عامل وأخذ بعض الأشياء، فأدخل هذا الفاضل ما أخذه العامل فيما اشتراه، وقال للمحاسب: احسبها، ثم أعطى العامل نصيبه، فانظر إلى الفرح الذي دخل على قلبه، فهذا الفاضل تقرب إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ثم أدخل على العامل سرورًا، ثم وفَّر له مالًا.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
 ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
[121] أخرجه الترمذي (1919)، والحارث في ((المسند)) (798)، والعقيلي في ((الضعفاء الكبير)) (2/84) واللفظ له.
[122] صحيح البخاري (7192)، صحيح مسلم (1669).
[123] المعجم الأوسط للطبراني (4/129)، قال الألباني في السلسلة الضعيفة (5734): شاذ.
[124] أخرجه أحمد (26956)، وابن حبان (7208)، والطبراني (24/88) (236).
[125] رواه أبو داود (1672). وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
[126] حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/110).
[127] صحيح البخاري (2896).
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ