الدرس الثامن

فضيلة الشيخ د. عبدالعزيز بن محمد السدحان

إحصائية السلسلة

4618 11
الدرس الثامن

آداب و أخلاق

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد العزيز بن محمد السدحان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
حيَّا الله مَن حضر، ومَن يشاهد، ومن يسمع، ومن يبلغ.
{ما زال الحديث متواصلًا مع فضيلة الشيخ عن الآداب والأخلاق.
وسيتحدَّث فضيلة الشيخ في هذه الحلقة -بإذن الله- عن سلوكيَّاتٍ خفيَّة. فتفضَّلوا فضيلة الشيخ}.
الحمدُ لله الذي علَّمَ بالقلمِ، علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على مَن أُوتيَ جوامع الكلم، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعدُ؛ فالأخلاق في الإسلام لها منزلةٌ رفيعةٌ ومكانةٌ عظيمةٌ، وقد صنَّفَ أهل العلم مصنَّفات كثيرة ما بينَ منثورٍ ومنظومٍ فيما يتعلق بالأخلاق، وموردهم في ذلك ما جاء من النصوص القرآنية والنَّبويَّة، وأُثرَ عن الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- ومَن تبعهم بإحسانٍ.
والأخلاق -كما نعلم- نوع من التَّعبُّد لله تعالى، فكما أنَّ الصيام عبادة، والصلاة عبادة، وقراءة القرآن عبادة؛ فكذلك الأخلاق عبادة، بل قد يفضل صاحب الخلق على المتعبد بالصيام والقيام، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «إِنَّ المؤمِنَ ليُدْرِكُ بِحُسْنِ الخلُقِ درجَةَ القائِمِ الصائِمِ»[94]، ويزيد بتقواه إذا كان أكثر تقوى لله -عز وجل.
والكلام عن الأخلاق -والحمد لله- واضح ومنثور ومسموع ومقروء في كتب أهل العلم، لكن حتى لا أطيل فيما لا ينفع السامع والمشاهد؛ أذكرُ بعض سلوكيَّات خفيَّة، وهي من الأخلاق، فإنَّ الأخلاق شيء ظاهري في الجوارح، وقد يخفى مقصده ونيَّته، فقد يتصرَّف بجوارحه فيتكلَّم أو يفعل، ولكن قد يُبطن شيئًا ليس من الخلق القويم.
أذكر بعض السلوكيَّات الخفيَّة قد تقع من بعض طلاب العلم ومن غيرهم، ولكن الشَّأن في طلاب العلم:
المسلك الأول: يسمع فائدةً نفسيةً ممَّن يصغره سنًّا وعلمًا، فطالب العلم الصغير هذا سمعها أو قرأها أو سمع عنها أو تحصَّل عليها من خلال جهد فردي، فإذا سمعها الكبير من طلاب العلم أظهر للمفيد عدم اهتمامه بها، أو كأنَّها معلومة عنده، وهذا من الخيانة العلميَّة، فيقول هذا الصغير مثلًا: سمعت الشيخ ابن باز -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يقول: كذا...، أو قراتُ كذا...، أو قرأتُ في كتابٍ لفلانٍ كذا...؛ فهذا المستمع أُعجب بهذه الفائدة، ولكن ضعُفَت نفسه أن يشكر هذا، فقال: هذه الفائدة معروفة، سبق أن سمعتها وقرأتها! وهذا خلاف الخُلق القويم، ومن المسالك الخفيَّة القبيحة.
وانظر! كان الخليل بن أحمد الفراهيدي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- شيخ سيبويه، وكان يُلقي في كلامه الفائدة النفيسة ولا يُبالي، فإذا سمع الفائدة من أحد الحاضرين، وبالأخص من صغار السن؛ أظهر التَّشكُّرَ والدُّعاء له، مع أنه يعلمها قبل أن يُخلق هذا، ولكن من باب الحث على طلب العلم، والتَّواضع لطلاب العلم. هذا مسلك
المسلك الثاني: إذا ذكر فائدة نفسية فأُعجب الناس بها وتشكَّروا له، وهو قد سمعها في تسجيلٍ، أو قرأها، أو نقلها لها أحد في مجلس؛ يصعب عليه أن ينسبها إلى صاحبها، فيسمع ثناء الناس، نِعْم الفائدة...، فائدة نفيسة كيف حصلت عليها...؛ فهذا في الحقيقة من المسالك الخفية القبيحة.
يقول النووي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في كتاب له أظن اسمه: "بستان العارفين": "ومن بركة العلم إلى أهله عزو الفائدة النفيسة".
فهم يعلمون أنَّ هذه الفائدة لا يتحصَّل إلا غوَّاص، فيثقل على هذا المفيد أن يعزو الفائدة إلى مَن أفاده بها، بينما لو نُقلت عنه وما عُزيَت إليه لتضايق، فلماذا لا يتورَّع عن عزو فضل غيره لنفسه!
المسلك الثالث: أشار إليه ابن النَّحاس في "تنبيه الغافلين"، وهو: أن يطلب من أحد شفاعة في إحقاق معروفٍ وحقٍّ وإبطال منكرٍ، وهو يعلم من نفسه الضَّعف، وأنَّه لن يسعى فيه، ولكن من باب الإظهار للناس أنه سيسعى، وعلم من نفسه أنه لن يسعى، فإذا تحقق ذلك المعروف، أو زال ذلك المنكر؛ فأتى مَن كلَّمه له يشكرونه ويثنون عليه، مع أنَّه ما قدَّم مثقال ذرة في إزالة هذا المنكر أو في إحقاق هذا المعروف، فيُظهر نفسه أنَّ هذا من فضل الله عليه وأنه سعى، فهذا جمع بين الكذب، وأن يُحمَد بما لم يفعل؛ فهذه صفات قبحِ وذمٍّ، فهو يعلم من نفسه أنَّه لن يسعى لهذا الموضوع، فلما قضي الأمر وحصل المراد وجاءه الناس يشكرون له -فإن الناس لهم الظاهر- ومع شكرهم له يبدأ في التواضع، ويقول إن هذا من فضل الله!
ونعوذ بالله من قبح الخلق الذَّميم، والمسالك الخفيَّة القبيحة!
والأولى أن يقول: الفضل لمن سعى فيه، ويدعو له كائنًا مَن كان، فأنا لم أفعل شيء؛ حتى لا يدخل فيمن يُحب أن يُحمَد بما لم يفعل.
المسلك الرابع: إذا أُثني عليه من الآخرين على صفات يعرف من نفسه أنها ليست فيه، ومع ذلك يصمت ويستغفر ويسترجع، وأظهر التَّواضع؛ وهو يعلم أنَّ هذه الصفات ليست فيه، وأنَّ هذا العمل لم يعلمه.
فهنا يجب عليه -لا تفضل منه- أن يقول: أنا لم أسعَ فيه أبدًا، والفضل بعد الله للشيخ فلان، أو للعالم فلان، أو للموظف فلان؛ فيعزو الفضل إلى أهله حتَّى يناله نصيب من الدعاء.
ولكن أن يطأطئ رأسه ويسترجع؛ فهذا خلقٌ ذميم، تعلم من نفسك أن هذا الثوب ليس لك ولم تلبسه، فضلًا عن أن تسعى في جلبه.
المسلك الخامس: قرأتُ في بعض كتب الرقائق، وسمعته قديمًا من بعض الفضلاء كان يقرأ في كتب الرقائق، فقال: إنَّ ممَّا يستقبح وقد يكون من الرياء والسُّمعة أن يحرص المرء على مجالس يحضرها لأجل أن يُمدَح فيها فقط، لا أن يُفيد ولا أن يستفيد، مجرَّد حضوره حتَّى يُمدَح، ويفخر بمدحه على مَن حضر، وبخاصَّة أن يتشفَّى بمَن حضر، فهذا مسلك خفي سيء.
والأولى للإنسان أن يبتعد عن تزكية النفس، قال تعالى: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ [النجم/32]، واستثنى أهل العلم أن يكون هناك مصالح من التزكية ورد مفسدة.
{أحسن الله إليكم شيخنا.
بعض الناس يُمدح بمدائح، كأن يُقال: فلان صالح تقي؛ وهو قد يعلم من نفسه أنه ليس مناسبًا لهذه الأوصاف}.
يحضرني في هذا الأثر المشهور عن الصدِّيق وغيره، وذكره ابن المبارك في كتاب "الزهد والرقائق" واختصره، وهو: أنَّ الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا مُدح بصفات هو أهل لها قال: "اللهم أنت أعلم مني من نفسي، وأعلم بنفسي منهم، فاجعلني اللهم خيرًا مما يظنون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واغفر لي برحمتك ما لا يعلمون".
فهذا الأثر -كما قيل- يُكتب بماء الذهب، فإذا مُدِحَ الشخص فينبغي أن لا يوطِّن نفسه على ذلك؛ لأنَّ سماع المدح وتوطين النفس على سماع المدح وتزكية النفس يُمرض القلب والجوارح، فلو ما مُدح يشعر بالكسل والضَّعف والخور، والمدح قد يُكسِّله عن أعمال الخير؛ لأنَّه قد يكون مدعاة للكبر والعجب، وعدم قبول النقد والنُّصح، إلى آخره.
ومن لطيف ما سمعت: أنَّ الشيخ ابن باز -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في محاضرةٍ لَمَّا قدَّم أحدهم السؤال بمدح للشيخ، فقال المقدِّم: الشيخ لا يحب أن يُمدَح وهو حاضر. فقال الشيخ: حتى ولو كنتُ غائبًا.
وذكرتُ هذا المثال للشيخ ابن باز؛ لأنه شيخ للجميع، وهو شيخ معاصر، وإلَّا والحمد لله فالناس يكثر فيهم الخير، ولكن قضيَّة أنَّ الإنسان يسمع المدح ويعلم من نفسه عدم وجود هذه الصفات فيه فهذا قبيح، فإن كان يعلم فينبغي أن يسأل الله الزيادة من فضله، لكن لو جاء المدح على ظنٍّ وما له خيار فيه، فهنا يسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- الزيادة من فضله.
وورد عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه قال: "أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ العَمَلَ مِنَ الخَيْرِ، وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عليه؟". فهذا ليس باختياره، وهو لم يطلب منهم أن يمدحونه، وإنما مدحوه بما رأوا منه.
فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «تِلكَ عَاجِلُ بُشْرَى المُؤْمِنِ»[95]، فالعبد إذا مُدح بغير اختياره على أمر قام به؛ فيحمد الله، ويسأل الله أن يحفظه، وأن يكفيه شرَّ الشيطان، وشر العجب، وشر التَّفاخر، وإذا كان صادقًا سيرى من الله فضلًا، ثم من الناس محبَّةً وقبولًا.
المسلك السادس: يسمع غيبةً أو لمزًا في قرينه في مجلسٍ أو مكانٍ ما، فيتظاهر بعدم السَّماع، كأنه يُكلِّم أحدًا، أو يتصل بالجوال، أو ينشغل؛ وهو يريد منهم أن يستمرون في قدح هذا القرين، ليستمر القادح في كلامه فيتشفَّى، وليحرص على سماع سلبيات أخرى في قرينه؛ فهذا من السلوك السيء الخفي القبيح.
أولًا: هو أَثِمَ؛ لأنه يسمع غيبةً ولم يُنكرها.
ثانيًا: أنَّه تسبَّبَ في تأثيم الآخرين لعدم كفِّهم عن الغيبة.
ثالثًا: أنَّه قد يزيد إيغارًا في نفسه على قرينه.
وكان الأولى أن يُسارع في قطع باب الغيبة ابتغاء مرضات الله تعالى، فإذا علم الله صدق نيَّته وطيب طويَّته استفاد الحاضرون فكفُّوا، وربما يُلقي في قلب قرينة المحبَّة له إذا علم أنه دافع عنه.
فقضيَّة أن بعض الناس يتشاغل بالجوال حتى يتشفى بالقدح في قرينه هذا لا يليق بآحاد الناس فضلًا عن طلاب العلم.
ومن يقرأ في سيرة السلف يرى مواقفًا لولا الإسناد لكُذِّبَت! كيف أنَّ الرجل تأتيه الفرص ليتشفَّى في قرينه، ومع هذا يكف، بل ويُدافع.
فجاء في التاريخ أنه كان بين وكيع وسفيان -رحمة الله عليهما- شيءٌ من هذا، فوقع وكيع في أمر وتكالب عليه بعض الناس، ورفعوا أمره للقضاء، وتشفى مَن تشفَّى، وكان سفيان بينه وبين وكيع أمر مثلما يقع بين الأقران؛ فسارع سفيان إلى الشفاعة لوكيع والدفاع عنه وإظهار منزلته؛ فهذه أمور لا يُوفَّق إليها إلَّا مَن وفَّقه الله -عز وجل.
فقضية التَّشفي بسماع القدح في القرين هذا مرض.
المسلك السابع: يتثاقل سؤال مَن يسأله، إذا كان لا يرجو من السائل مصلحة، أو كان السائل ليس وجيهًا.
إذا أتى هذا السائل وهو شخص قد يكون فيه من الصفات ما يُثقل عليك، كأن يكون لسانه ثقيل، أو يرفع الصوت بطبعه، أو يحتاج إلى بسطٍ في الجواب؛ تجد بعض الناس يتضايق، فلا ينشط في ردِّه؛ بل قد يُجيبه جوابًا عامًّا حتى يقطع أمره. أما لو أتاه شخص له مصلحة منه أخذ بالتَّبسُّط والتَّفصيل والسُّؤال!
قال -جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾ [الضحى/10]، قال بعضهم: يدخل في هذا سائل العلم، بل نهر سائل العلم أبلغ من نهر سائل الحاجة، فسائل الحاجة إما أن تعطيه أنت أو يعطيه الثاني والثالث والرابع، لكن سائل العلم قد يتعبَّد على جهالة وأنت تكون السبب، وقد يكره العلم والعبادة والطاعة وتكون أنت السبب.
وأيضًا المعلم في الفصل ينتبه؛ قد يكون من ضمن الطلاب أبناء وجهاء، وآباؤهم معرفون، فإذا سأل أحدهم أجابه بإيضاحٍ، وإن سأل أحد أبناء الفقراء قال: نذكره في الدرس القادم، أو ألغى السؤال، أو أجاب جوابًا مختصرًا! فهذا من خيانة العلم، والواجب أن يُخلص في إجابة العلم طلبًا لمرضاة الله، ثم لرفع الجهل.
المسلك الثامن: يُصاحب أخاه ويُسافر معه، ويأنس به؛ فإذا وقع أو حصل من أخيه أمر وأخطأ أخوه عليه؛ أخذ يذم هذا التَّصرُّف، وأخذ يُكثر النَّقد، لا ترك هذا لله، ولم تشفع الصحبة للتَّغاضي، مجرَّد خطأ في لحظات أزاح صحبة مدَّتها سنوات، وهذا ما ينبغي، وبعضهم قد يغار من أخيه وينتظر فرصة يخطئ عليه أو يقصر في حقه، فإذا أخطأ أخذ يتشفَّى، كأنَّه ينتظر هذه الفرصة!
ولا شكَّ أن هذا مسلك خلقي سيء ولا يليق.
المسلك التاسع: وهو قريب من المسلك الثاني، وهو أن يُمازح صاحبه، فإذا أخطأ على أخيه واعتذر يُوظِّف، يُوظِّف هذا العذر ويتَّخذه مطيَّة ليرتقي عليها، أنت كذا...، وسبق أن أخطأت علي في كذا...، وسبق كذا...؛ وكان المفروض عليه لما اعتذر له أخوه أن يغفر هذا لأخيه، ويصفح ويفرح، ويُظهر المحبَّة الزَّائدة، لكن بعض الناس -مع الأسف الشديد- أحيانًا تُخطئ عليه وقد يكون عدم العذر أحسن في بعض الأحايين، لأنَّك تعرف من طبعه أنَّك إذا لم تعتذر سيسلك الأمر مسلكه بعد حينٍ وينساه، لو اعتذرت سيوظِّف هذا العذر في كل مجلس، فلان أخطأ واعتذر...، والعام أخطأ واعتذر علي...، وهذا كذا...، وكذا...!
ومثل هذا النوع في الغالب لا تطل المزاح معه، وأيضًا إذا كان من طبعه أنَّ عنده حساسيَّة زائدة فتقلَّل من المزاح معه، فالناس ليسوا كأسنان المشط سواء، وأصابع اليد نفسه تختلف.
المسلك العاشر: وهذا المسلك يقع فيه بعض الناس، وهو أنَّه يرى شخصًا فيَكره طلعته، ويكره نظراته، ويكره أسلوبه في الكلام، فيبدأ يحكم عليه، هذا فيه كذا...، وفيه كذا...، بمجرد عدم القبول النفسي، وهذا مسلك خلقي سيء، هذا الرجل قد يكون من طبيعته لعصبية، ولكن يحمل بين جنبيه قلبًا فيه من الطيب واللباقة ما لو قُسِّم على سبعين لكفاهم، ثم الحكم لا يكن من مجلس واحدٍ تبني عليه شخصيَّة الرجل، فهذا لا يجوز شرعًا ولا عقلًا ولا عرفًا، ولا حتى في علم الاجتماع، مجرد شخص تقول فيه كذا وكذا في لحظة واحدة، فهذا لا ينبغي، أنتَ لو رآكَ أحدٌ في حالة انفعاليَّة ثم حكم عليك تتضايق، وتقول: هذه ليست أخلاقي، وهذا ليس من طبائعي!
فبعض الناس تحكم ليس بمجرد موقف، وإنما شيء نفسي، وعدم ارتياح له، وعدم راحتك له ليست حكمًا صحيحًا، لو قال قائل عنك: يا فلان أنت لا أرتاح لك، وأكرهك وأنفرُ منك! ستقول: لماذا تنفر مني؟ هل حصل مني ما تكره؟ هل رأيت مني فعلًا تكرهه؟ مجرد أمر نفسي؟!
ولهذا في حديث ذكره الشيخ الألباني في صحيح الجامع للطبراني وغيره: "أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما عسى أن يكون حبيبك يومًا ما".
فأحيانًا تبغض الشخص بموقف، أو تبغضه نفسيًّا؛ فلا توغل في البغض والكراهية، فربما مع المخالطة والاجتماع تنقلب الموازين، فترى فيه من الخلق والسمعة ما يخفى عليك، أو ما لا تتوقع أنت.
فليس من العدل والإنصاف أن تكره الرجل لأمر وقع في نفسك، إلَّا إذا كان فيه قرائن قطعيَّة قويَّة؛ فهذا شيء آخر.
المسلك الحادي عشر: يتحدَّث عن قضيَّة بضمير الغائب، ثم في أثناء حديثه يتعمَّد إيراد ضمير المتكلم ليُشعر الناس أنه المقصود.
مثلًا: يقول لك: فيه شخص كان يتفقَّد حوائج الفقراء ويذهب إليهم -والناس يدعون له- حتى أنه في مرَّةٍ كان يُقسِّم كذا، فجاءت امرأة فقالت: أيها الكريم المحسن...، فقلت لها: هذا لكِ...
فيتعمَّد إيراد ضمير متكلم في كلامه مع قدرته على إخفائها، ولكن أحيانًا الإنسان يتكلَّم بغير مشاعره أو اختياره، كمن قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك -أخطأ- فأحيانًا مع سرد القصة يُورد الضمير المتكلم دون أن يشعر، ولكن فرق أن يتعمَّد حتى يقول للناس: إنه هو أنا، أو أنا أتحدث عن نفسي.
فمثل هذا مسلك خفي قبيح سيء ممقوت؛ بل قد يستقبحها بعض الحاضرين إذا عرف أنَّك تريد إظهار أنَّك المقصود؛ فاعمل لله -عز وجل- وإذا عملت لله فإن الله تعالى حكيم وعدل في جزائه لعبده.
المسلك الثاني عشر: يُظهر قبول النصح من الناصح، فيُنصت ويعلم أنه مخطئ في تصرفه، والناصح ينصحه، أو ناقد ينتقده؛ فيُظهر هذا القبول ويعرف أنه مخطئ، ويعرف أن كلام الناصح والناقد عين الصواب و-كما قيل- حق اليقين، لكن إذا انتهى تشكَّر من الناصح أو الناقد، ثم أخذ يبرر لنفسه وهو يعلم أنه مخطئ، وأن هذا التبرير مجرد ترقيع لعدم التنازل أو إظهار شخصيَّته، فهذا قبيح.
ما ضرَّه لو قال: أثابك الله تعالى خيرًا، وبارك الله فيك، والله يعينني على تجنُّب ما وقعتُ فيه؛ فيكبُر عند الله ويعظُم أجره.
ولكن بعض الناس يتثاقل النَّصيحة والنَّقد، وتكون أثقل من الجبل على رأسه، ولا يُمكن أن يقول: أخطأتُ أبدًا، وكما قيل:

مَا قَالَ "لاَ" قَطُّ إلاَّ فِي‌ تَشَهُّدِهِ... .................................

فنعوذ بالله من سوء الخلق.
المسلك الثالث عشر من المسلك الخفيَّة السَّيئة: في مسألة الناصح والمنصوح، يأتي أحد ليصححه أو ينتقده، وهو يعلم أن المنتقد محق في انتقاده، فذكرنا في الأمر السابق أنه يتعذَّر على نفسه، أما هنا لا يتعذَّر عن نفسه، بل يعترف أنه مخطئ، ولكن شأن اعترافه وشأن قبوله للنصح أنه جعل للنصح مقايضة، فيقول: وأنت أيضًا كذلك..، أنت فيك كذا...، وكذا...، وقبل أسبوعين فعلت كذا...!
فهذا ما كان قبوله للنصح ليستفيد، ولكن ليُقايض؛ فهذا أيضًا مسلك خفي قبيح، والأولى حتَّى لو كان في أخيه خطأ أن لا يُبادرَه بالخطأ مباشرة، ولكن يُرجئ المسألة حتى لا ينزغ الشيطان، فإذا انتهى أخوه تشكَّر له، وبعد حينٍ يقول لأخيه: هناك أمر ما داعني لتأخيره حتى لا ينزغ الشيطان..، وهو كذا...، وكذا...
فأنت الآن نبَّهتني على خطأ، وأنا أعرف أني مخطئ، فاعترفتُ وشكرتُكَ، وأعرفُ أنَّ عندكَ خطأ في قضيةٍ، ولكن لا أحب أن أواجهك بها في نفس اللحظة، لأنَّ الشيطان قد يكون له حظ، ولكن بعد حين تقول له: يا شيخ، أنا لاحظتُ كذا...، وكذا...؛ ففي الغالب يتقبَّل النصيحة، ويُلقي الله محبتَّك في قلبه.
{أحسن الله إليكم شيخنا.
قد يكون سؤالًا منفكًّا عمَّا ذكرتموه قبل قليل؛ فبعض الناس إذا ذُكر عنده أحد قال: فلان ادعو له بالهداية. فهل هذا يدخل في السلوك السيء}.
هذا السؤال ليس منفكًّا؛ بل مرتبطًا بما قبله، فهذا ما يُسمَّى بالغيبة في قالب الدُّعاء، وأذكر أنَّ الإمام النووي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أشار إليه، فيُذكرُ فلانٌ في المجلس، فيُقال: ستر الله عليه، دعونا منه!
فهو لَما قال: "ستر الله عليه"، فهذا الدعوة لا تُقال إلَّا إذا كان هناك أمر فيه شيء مُستقبحٌ منه لا يذكر، وكأن يقول: "عفا الله عنا وعنه؛ فهذا ليس بدعاء، فالدعاء له مقامات، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- كان يقول إذا عطس المسلم وحمد الله: «يَرْحَمُكَ اللَّهُ»[96]، وإذا عطس غير المسلم قال: «يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ»[97]، فهنا فرَّق، فأنت لا تقول لكبير السِّن: تعالَ أصلحكَ الله! فهو لا يقبل هذا؛ لأن العرف أن تقولها للصغير.
فإذا جاء شخص في مجلس وتكلَّمَ عن فلان، فقال أحد الحاضرين: "الله يعفو عنا وعنه، اتركوا سيرته"، فهذا دعاء، ولكن هذا الدعاء فتح أبوابًا للشيطان، فقد يكون فيه قدح في عقيدته أو مروءته أو أخلاقه، فالأولى عدم الاستعمال الصِّيَغ.
فالغيبة تكون بالقول، وتكون بالفعل كأن يُقلِّد حركات الشَّخص، وتكون بالكتابة، وتكون في قالب الدعاء -مثلما أشرتَ رعاكَ الله.
{أحسن الله إليكم.
بعضهم يُقلِّد حركات الشَّخص من باب المزاح. فما توجيهكم لذلك؟}.
إن كان مَن يَحكي عنه يَرضى فنعم، ولكن ورد في الحديث «مَا أُحِبُّ أنِّي حَكَيتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَ»[98]، فإذا كان فلانٌ يكره ذلك فيحرم تقليده؛ لأن هذه غيبة، بعضهم يُقلِّد حركات شخص، أو حركات عينه إن كان في خلقة عينه خلاف طبيعة الناس، أو في طلاقة لسانه أو في مشيته؛ فيُقلده لإضحاك الحاضرين، فهذا قبيح، وأقبح منه إذا قابله مدحه، وإذا غاب عنه أخذ يُضحك الناس عليه، ثم ضعْ نفسكَ مكان الشَّخص.
وفيه كلام للصنعاني في كتابه: "السُّبُل"، يقول: "لو أنَّ الغضبان رأى نفسه في المرآة لاستقبح نفسه".
ولو أنَّ الشخص الذي يُقلِّد شخصًا لإضحاك الناس، لو قيل له: إن فلانًا قلَّدكَ وأضحك الناس عليك؛ ما يرضى.
{بعض الناس يرى من شخص ما دعابة؛ فهل في هذا الموضع وهم قد استأمنوا بعضهم على أسرارهم يجب عليه كتمان أسرار صاحبه؟}.
إفشاء الأسرار قد يترتب عليه خسارة تجارية قد يتحملها، ولكن لو أفشى سرًّا قد استأمنه عليه أحد فهذه خيانة.
ومن أفشى على الناس سرهم؛ لم يستأمنوه على سرهم ما عاش، فهذه الأسرار أمانة، وإفشاء الأسرار خيانة للأمانة والوعد، فأخوك يكون بينك وبينه في السفر أمورًا لا يفعلها إلا أمامك، فمن القبح والمسلك الخفي أن تظهرها أمام الآخرين، بل قد تقع عداوات أحيانًا، وقد يكف عن مصاحبته حتى يموت.
وقد يتنزَّل الإنسان مع خاصَّة إخوانه، فلا تكون مؤاخذة في ذلك، فيقول: والله في سفري مع فلان فعل كذا وكذا...، فإذا بواحد يتجرأ عليه وينشر خبره، والمحكي عنه يكره أن يخرج هذا الخبر، فالأولى الكف وعدم إخراج ما يكون بين الاثنين أو الثلاثة أو الأصحاب الخُلَّص.
قال الإمام النووي: "باب في تبسُّط الإمام مع أصحابه دون خاصَّة الناس"، وَذُكِرَ عن أمِّنا عَائِشَةَ أنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِي، كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ، أَوْ سَاقَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَذِنَ لَهُ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ، فَأَذِنَ لَهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَوَّى ثِيَابَهُ، فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ ؟! قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «إِنَّ عُثْمَانَ رَجُلٌ حَيِيٌّ، وَإِنِّي خَشِيتُ، إِنْ أَذِنْتُ لَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، أَنْ لَا يَبْلُغَ إِلَيَّ فِي حَاجَتِهِ»[99].
والشعبي كان يُمازح أصحابه، فإذا دخل الغريب أمسك. فلما سألوه قال: "إذا دخل الغريب فنحن قدوة"؛ فلا تتبسَّط مع كل أحد، وخاصَّة طالب العلم إذا أكثر المزاح والدعابة تسقط مروءته ويتجرَّأ الناس عليه، ولكن مع خاصَّة أصحابه لا مانع من الدعابة والمزاح.
المسلك الرابع عشر: أحيانًا يُسأل بعض طلاب العلم سؤالًا، وهو يعرف من نفسه عدم الجواب، كأن يكون في مجلسٍ أو مسجد أو في محاضرة، أيًّا كان في مجمع من مجامع الناس؛ فيثقل على نفسه ويُثقِّل الشيطان عليه أن يُرى بعدم العلم، فيقول: ذكر بعض أهل العلم كذا...، وفي بعض الكتب كذا...، جواب عام!
وهذا لا ينبغي، لأن هذا غش لنفسه، وغش للسائل، وغش للسامعين.
أمَّا إن كان قد قرأه ونسيه فلا بأس، أما إذا كان يعرف من نفسه أنه لم يقرأها وليس له بها علم فلا يتكلم.
يقول السيوطي: "السكوت على من يجهل فرض"، والملائكة -عليهم السلام- قالوا: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَ﴾ [البقرة/32].
ثم قال السيوطي: "والكلام على من يعلم فرض" كقوله: ﴿قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ﴾ [البقرة/33]، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يقول: «مَا أَدْرِي أَتُبَّعٌ أَنَبِيّاً كانَ أَمْ لاَ، وَمَا أَدْرِي ذَا الْقَرْنَيْنِ أَنَبِيّاً كانَ أَمْ ل»[100]، وكتب أهل العلم تُكثر من الوصية في أن يُورِّث العالم طلابه قول: "لا أدري".
وأذكر في درسٍ لسماحة الشيخ ابن باز أنه سُئل عن الاتِّكاء، فقال: لا أدري، هل أحد من إخواني يعرف؟
والشيخ ابن جبرين -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- سُئل عن عقيدة أحد الشعراء، فقال: لا أعرفه، لعل فلانًا يعرف.
فهذه أخلاق أهل العلم الكبار، أن يقول المسؤول: لا أعرف لا أدري.
جاء رجل إلى مالك من الأندلس، وكان قد كتب سبعين مسألة، فقدم إلى مالك وسأله، فأجاب مالك عن ثلاثة أو أربعة، فقال الرجل: يا إمام، إذا رجعتُ إلى الأندلس فماذا أقول لهم؟ فقال الإمام قولة حقٍّ أصبحت مثلًا: قلْ لهم: إنَّ مالكًا لا يدري.
فهذه أخلاق الكبار، وهذه بحدِّ ذاتها ليست مدرسة أخلاق، إنما جبهة أخلاق، لأن "لا أدري" إذا تعبَّد الله بها يُؤجَر عليها، لكن قضية أن يقول: لعله كذا...، أو قرأتُ قديمًا...، أو أظن كذا...؛ فـلا.

وَإِن قُلتَ في شَيْءٍ: (نَعَـــم) فَأَتِمَّـهُ ... فَإِنَّ (نَعَم) دَينٌ عَلى الحُرِّ واجِبُ
وَإِلاَّ فَقُل: (ل) واستَرِح وَأَرِح بِها ... لِكَيلا يَقولُ الناسُ أَنَّكَ كاذــــــِبُ

فقل: "لا أدري" وأرحْ نفسكَ وأرحْ السَّائل، وأرحْ السَّامعين، لكن أظن كذا...، وقرأتُ قديمًا...، فهذه مخادعة لله.
المسلك الخامس عشر: وهو مسلك خفي وسيء -مع الأسف الشديد- بعض الحاضرين في المجلس يطلب من بعض الجالسين ذكر قصَّة، ويعرف هذا الطالب أنَّ هذا الشخص الذي سيسوق القصَّة سيذكر فيها ذمًّا لشخصٍ، ويظهر من معائبه، والمسؤول لا يدري، حتى ربما لا يدري الحكم الشرعي، لكن السائل لحاجة في نفسه أراد من هذا المسؤول أن يأتي بالقصَّة ليتشفَّى في نفسه من سماع القدح في المعني، وحتى يشاركه الحاضرون في ذمِّ هذا، فإذا بدأ هذا الشخص يقص القصَّة، وذكر فلانًا بكذا...، وكذا...؛ تجد السائل يتشفَّى، وهذا المسؤول الذي يقص القصَّة لا يدري، والحاضرون مستعجبون، فهذا الشخص يتحمل إثمهم بهذا المسلك الخفي القبيح.
وحتى يعرف قُبح مقصده؛ لو أنَّه كان له مواقف سلبية، ثم طلب أحد الحاضرين من أقرانه ذكر هذا الموقف من الحاضرين، ونفس الشَّامت هذا سمع الناس في مجلس آخر يشمتون فيه لحمل على السائل ضغينة في نفسه.
إذن؛ أحب للناس ما تحب لنفسك من الخير، واكره للناس ما تكره لنفسك من الشر.
المسلك السادس عشر: يتعلق بالذي قبله، يطلب من أحد الحاضرين سردَ قصَّةٍ، وهذا الحاضر مشارك فيها، وهذا السَّائل يعرف أن في سرد القصَّة مدح له وتشكُّر له، ويعرف أن هذه القصة سيُمدَح فيها؛ فيستأنس ويتروَّح وينبسط.
فنقول: هذا لا يليق، هذا مسلك خفي، لا تحرص على سماع المدح، واحمد الله أنه مكَّنك من ذلك، وآثارك دون غيرك، ولا تجعل كثرة ذكرها أو تتبسَّط في ذلك، فقد يكون في ذكرها باعث للرياء والعجب والكبر في نفسك، وبعض الناس إذا أراد أحد أن يذكر خبرًا فيه مدح له صرفه، إما تلميحًا أو تصريحًا.
{بعض الناس لا يطلب هذا، ولكن إذا ذُكرت قصَّة فيها مدح له انشرح صدره}.
الأمر يختلف، ونحن نتكلَّم على العموم، والأولى عدم سماع المدح إلَّا لمصلحةٍ، ولكن إذا قال لك: يا فلان، تذكر ما حصل مع فلان، لنزداد لله شكرًا، ونزداد لله حمدًا؛ وهو صادق في نفسه، فهذا بينه وبين رب العالمين.
وأنا أتكلَّم عن الأغلب، وهو أن بعض الناس يطلب من آخر أن يذكر كذا أو كذا، ويكرر هذا في كل مجلس، فهذا لا ينبغي.
المسلك السابع عشر: يتظاهر بسوء عمله ليمدحه الناس.
مثلًا: قام بشفاعةٍ، ففتح الله بها أبوابَ خيرٍ بفضله -جَلَّ وَعَلَا- على هذا الشخص، فتشكَّر له الناس، وتشكَّر له أصحاب القضية؛ فكل ما حضر في مجلسٍ لهم يقول: أنا مقصر معكم في القضية. فيقولوا: ما قصرت، أثابك الله، أنت كذا...، وكذا...، وإذا دخل مجلس آخر قال: هذا فلان أن مقصر معه في القضية كذا، فيقولون: بالعكس، والله ما قصَّرت، أنت فعلت كذا وكذا...، وكل ما حضر مجلس فيه أحد أصحابه يكرر هذا!
فهذا لا ينبغي، أنت فعلتها لله، فإذا ذكروها ابتداءً فنعم؛ بل بعض الفضلاء إذا ذكر قضية في مدحه يصرف المتكلم، لأنه يكره المدح، ويُحاول أن يُداخل المتكلم، أو يقول: يا فلان، هذا يضر بي، فمن حقي عليك عدم ذكره.
فهذه مقامات يختلف الناس فيها، ولكن بعضهم يُلقي كلمةً أو محاضرةً، ثم يقول: معذرة، لعلي أثقلتُ عليكم...، وهو ما أورد هذا الإيراد إلا ليسمع تكرار المدح.
ومن النقاط التي تتعلق بهذا: أن بعض الناس إذا حضر في مجلس وأراد أن يتكلم، يكون في الحاضرين مَن هو أولى منه بالكلام سنًّا وعلمًا؛ فالأولى إظهار قدره، أو الاستئذان منه على الأقل، وقد يكون مدرسًا له ومعلمًا له، فيظهر أنه أصبح قريًا له؛ فهذا ليس من الخُلق؛ بل يقول: فلان أستاذي هو أولى بالكلام مني، وهذا يُبعد نزغ الشيطان عن المعلم نفسه، لكن أن تتكلَّم بحضور أستاذك وكنتَ قبلَ فترةٍ تدرُس أمامه ويُخاطبك يا طالب، يا تلميذ؛ والآن تتعالى عليه ولا تذكر فضله عليك؟! فهذا من اللؤم حقيقة!
والله تعالى أعلم.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
 -------------------
[94] سنن أبي داود (4798)، صحيح ابن حبان (480)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
[95] صحيح مسلم (2642).
[96] صحيح البخاري (6224).
[97] سنن أبي داود (5038) والترمذي (2739)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، وفيه: عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: كَانَ الْيَهُودُ يَتَعَاطَسُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُونَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ، فَيَقُولُ: ( يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ ).
[98] أخرجه أبو داود (4875) واللفظ له، والترمذي (2502)، صححه الألباني.
[99] صحيح مسلم (2402).
[100] أخرجه أبو داود (4674) مختصراً، والبزار (8541)، والحاكم (2174) باختلاف يسير.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ