{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء
العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد العزيز بن محمد. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة
الشيخ}.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
حياك الله يا شيخ عبد الرحمن، وحيا الله مَن يرى، ومَن يسمع، ومن يحضر.
{ما زال الحديث متواصلًا في سلسلة الآداب والأخلاق، وسيتحدَّث فضيلة الشيخ -بإذن
الله- في هذه الحلقة عن الآداب عند حصول الوباء. تفضلوا فضيلة الشيخ}.
الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
يعرض للناس في حياتهم عواض تغير مجرى حياتهم، ومن هذه العوارض ما يحصل من البلايا
ومن الأوبئة، ويعظم أثره بحسب اتِّساع مساحته، ومن هذه الآيات ما يُصيب الناس من
الأمراض وما يصيبهم من البلايا، وهذا من آيات الله تعالى وحكمته، والله تعالى آياته
متنوعة كمًّا وكيفًا وزمانًا ومكانًا، وهذه الآيات لله تعالى فيها حكم بالغة، ومن
آياته هذه البلايا والأوبئة التي تحصل إمَّا في بلدٍ معيَّنٍ، أو في دولةٍ
معيَّنةٍ، أو في مساحةٍ واسعةٍ من الأرض.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، لو تعرَّضتم لبعض الآداب التي ينبغي التزامها عند
حصول الوباء}.
من أعظم الآداب؛ بل هو رأسها وأساسها: تفويض الأمر إلى الله والتوكل عليه -عَزَّ
وَجَلَّ.
وقبل ذلك؛ يعلم الإنسان أن ما يكون في هذا الكون من صغيرٍ أو كبيرٍ، من تقدُّم أو
تأخُّر؛ كله بأمر الله -عَزَّ وَجَلَّ- وهو المستحق للعبادة، وعلى العبد إذا حصل من
هذه الآيات والعوارض والأوبئة وما شاكلها؛ أن يُفوِّض الأمر إلى الله -عَزَّ
وَجَلَّ-، وبالجملة أن يحرص على اتِّخاذ الأسباب الشرعيَّة، والأسباب الشرعية
-والحمد لله- موضَّحة في الكتاب والسُّنة، وفي كلام علماء الأمَّة.
إذن؛ من أعظم الأسباب: التوكُّل على الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وكلما قوي توكل العبد
كلما تحصَّنَ، وما أصابه يُضاعف به الأجر.
ومن الأسباب: لزوم الدُّعاء والضَّراعة، فالدعاء عبادة، وأكثر الناس دُعاءً هم
الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وكانت ألسنتهم رطبة بذكر الله تعالى ودعائه،
والدعاء يزداد عند حصول البلاء والامتحانات.
ومن الأسباب: أن يفتقر العبد إلى ربه -عَزَّ وَجَلَّ- وأن يُراجع نفسه وأن
يُحاسبها، وأن يتخلص من ذنوبه، وأن تكون توبته لله توبةً نصوحًا، والتوبة النصوح
يرفع الله بها البلاء.
{ذكرتم شيخنا -أحسن الله إليكم- الأسباب، وهناك سؤال: ما أقسام الناس في اتِّخاذ
الأسباب؟}.
أقسام الناس في اتخاذ الأسباب ثلاثة:
القسم الأول: يُهمل الأسباب، عنده لامبالاة، وهذا لا شك تفريط، فالأسباب مشروعة،
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا
فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَ﴾ [الملك: 15]، ومريم -رَحِمَة اللهُ تَعَالَى
عليها- وهي حامل، وتعرف ما سيترتب على أمر الحمل والوضع من الأمور ما ستغير
التاريخ، ومع ذلك قال الله لها:
﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ﴾ [مريم:
25].
فإهمال الأسباب مخالف للنصوص الشرعية؛ بل وحتى الأمور العقليَّة.
القسم الثاني: يُبالغ في اتِّخاذ الأسباب حتى يصل الحد به إلى التَّنطُّع والوسوسة،
وإهمال ما سواها من الدعاء والضراعة، والأذكار والتَّوكُّل.
القسم الثالث: من يتوكل على الله -عَزَّ وَجَلَّ- ويتَّخذ الأسباب المشروعة مع
تفويض الأمر إلى الله، ولزوم الضراعة له.
ونظر الناس لهذا البلاء يجعل الإنسان يتكيَّف في التعامل معه، فبعض الناس ينظر لهذا
البلاء بنظر البصر المجرد، وهذا يفرق عن نظر البصيرة والاعتبار والاتِّعاظ، ولهذا
فإن القمر يراه الإنسان مكتملًا بدرًا، فالشاعر يتعزَّل بشعر، فتنقدح قريحته، وصاحب
البلاغة يسيل قلمه، وأصحاب السَّمر تطيب مجالسهم، لا مانع من هذا إن خلت المحاضير،
لكن نظرة البصيرة هي أن الإنسان إذا رأى القمر مكتملًا أن يتذكر حديث أن أهل الجنة
يرون ربَّهم كما يرون القمر ليلة التَّمام، وشتَّان بين المشاعر، بين مَن تذكر رؤية
الله -عَزَّ وَجَلَّ- وبين من غابت عنه هذه المعالم العقديَّة العظيمة.
وبعض الآيات تدعو إلى التفكر ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى
الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ [الغاشية: 17]، وخلق جوارح الإنسان، وبساط
الأرض، ونصب الجبال، وهناك آيات تُخيف، قال تعالى: ﴿وَمَا
نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفً﴾ [الإسراء: 59]، ومن ضمن هذه الآيات
الخسوف والكسوف، فنظر الفضول والغريزة هي أن يُرى أحد الكوكبين خاسفًا، لا مانع من
إشباع النظر من هذا المنظر الكوني الهائل، لكن النظر إليه من زاوية أخرى كما جاء في
الحديث: «إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لا يَكْسِفَانِ
لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُما مِن آيَاتِ اللهِ، يُخَوِّفُ
اللَّهُ بهِما عِبَادَهُ»[101]، فالنظرة هذه تختلف عمَّن نظروا إليه مجرد
نظر إشباع غريزة، وكيف أنَّ هذا الكوكب قد ذهب بعضه بالظِّل. إذن؛ قضية النظر بعين
البصيرة تختلف عن النظر بعين البصر المجرد.
ومما يتعلق بهذه المسألة: الحِكَم عند البلاء، فيكفي أن يعلم الإنسان عظمة الخالق
وقوَّة الخالق، ويُقابلها ضعف المخلوق وذُل المخلوق وفقر المخلوق.
وعند البلاء يعلم الإنسان بطلان مَن عبدَ غير الله، وأنها لم يتنفع أنفسها، فأين
الأصنام؟ وأين الأوثان؟ وأين مَن يُقدِّس الطبيعة وأنها تفعل وتفني وتوجد؟! كل هذه
باطلة، فهي مبروءة، والله بارئها، وهي مخلوقة والله خالقها.
وبعض الأوبئة والنوازل تُذكر بيوم القيامة، الفزع والهلع، وما يُصيب الناس من هذه
المخافات، قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ
مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى
النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى﴾ [الحج: 2]،
﴿وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ﴾ [التكوير: 4]؛ فعند نزول البلاء -في
الغالب- يحصل للناس غفلة عن أموالهم، وخاصَّة إذا كان البلاء متعلق بالصِّحة مثل
الأوبئة.
ولاحظ الآن! الإنسان يترك متجره، ويترك سوقه، ويتحصَّن بالأسباب التي تحفظ له -بإذن
الله- صحَّته، كذلك يوم القيامة إذا فزع الناس يتركون مصالحهم وأموالهم وأولادهم؛
كل مشغولٌ بنفسه.
{أحسن الله إليكم شيخنا.
ذكرتم الوباء وما يتعلق به؛ هل هناك مخالفات شرعيَّة تحصل عند وقوع الوباء؟}.
نعم، هناك مخالفات عند كل نازلة، وفي هذا الزمن انتشر وباء "كرونا" رفع الله هذا
البلاء عن المسلمين، وجعل عاقبته حميدة.
النوع الأول من المخالفات: أن بعض الناس يأخذ بعض الأخبار في البلاء بالتَّندُّر
والتَّفكُّه والإضحاك والسُّخرية، والواجب عليه أن يعتبر وأن يتَّعظ.
وهذا مثل قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ:
«زُورُوا الْقُبُورَ؛ فإِنَّها تُذَكِّرُكُمُ الآخِرَةَ»[102]، فإذا دخل
واحد وضحك وتمسخَر؛ فهذا يُنافي الآداب الشرعية التي أُريدَ للمسلم أن يتمثَّل بها.
وتجد -مع الأسف- في وسائل التواصل طرائف ونُكَت وسُخرية، هذا مريض يتصرَّف تصرُّفات
لا إرادية، وهذا يُحاكي طريقة مضحكة عند بعض الناس؛ فيجعلونها مضغة في ألسنتهم وفي
أقلامهم، وهذا لا يجوز شرعًا.
النوع الثاني من المخالفات: الإرجاف والإشاعات والتَّخويف، حتى في بعض الأحايين
تكون الإشاعات والتَّخويف أشد من البلاء نفسه؛ بل هي بلاء أعظم من البلاء الأصلي،
فتجد -مع الأسف- بعض الناس إذا حصل البلاء لا يروي ولا يكتب ولا يأتي بخبر إلا ما
يُلقي الرعب في قلوب الناس، والآداب الشرعية والعقليَّة والعرفيَّة أن الإنسان في
مثل هذه المواطن يُدخل التَّفاؤل، ليس بقصد إهمال الأمور الأخرى، ولكن يُغلب جانب
التَّفاؤل في زوال هذه الغمَّة وما شاكلها.
النوع الثالث من المخالفات: الخروج عن الحد الشرعي في اتخاذ الأسباب، حتى أن بعض
الناس في اتخاذ الأسباب يترك أمورًا شرعيَّةً واجبةً عليه في سبيل التحصُّن
والتَّحرُّز، ولا شكَّ ولا ريبَ أن الأسباب التي تُخالف الآداب الشريعة ليست
أسبابًا، بل هذه موبقات ومهلكات، والله تعالى إذا أمر باتخاذ الأسباب، ثم جاء الشخص
وغلَّبَ جانب السبب وعطَّل ما أمره الله تعالى به لغير مصلحة؛ فلا شكَّ أن هذا
جناية.
وبعض الناس الآن إذا كلَّمته لا يتكلَّم في التوكل ولا في الدعاء ولا في تعليق
الأمور بالله، ولا في حسن الظن بالله؛ فهذه كلها عنده لا اعتبار له، المهم أن يتكلم
في كيفية التَّحرُّز؛ وهذا لا شك أنه مخالف.
{ما هي الأسباب التي يُتَّقى بها هذا الوباء؟}.
أولًا: التَّوكل على الله.
ثانيًا: الأدعية.
ثالثًا: التوبة، فكل إنسان يتوب مما أذنب، وكما قال العباس بن عبد المطلب -رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ- لما استسقى به الصحابة: "اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولا ينكشف
إلا بتوبة".
رابعًا: الحفاظ على الأذكار الصباحيَّة والمسائيَّة والمناميَّة، فهذه حصن حصين
قوي، فإذا أصبح الإنسان يستفتح صباحه بالأذكار، وإذا أمسى ختم يومه بالأذكار، إذا
أراد النوم فارقَ عالم اليقظة بالأذكار، وهناك أذكار عامَّة يلزمها في كل وقت،
وتزداد في النوازل.
خامسًا: الاستغفار، فالأوبئة توهن الإنسان، وانظر ما جاء في القرآن الكريم من قوله
تعالى: ﴿وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا
إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى
قُوَّتِكُمْ﴾ [هود: 52]، فالقوة هنا تشمل القوة البدنيَّة والقوة
والإيمانيَّة؛ فهي عامَّة في كل قوَّة.
ونوح -عليه السلام- لما قال لقومه: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا *
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ
لَكُمْ أَنْهَارً﴾
[نوح: 10- 12]، وفي الحديث الصحيح قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ:
«طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ في صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرً»[103]، وفي لفظ
بصيغة المبني للمفعول: «طُوبَى لِمَنْ وُجِدَ في صَحِيفَتِهِ
اسْتِغْفَارٌ كَثِيرٌ»[104].
وكذلك أيضًا الأدعية التي تنص على رفع البلاء والهم والغم، قال -صَلَّى اللهُ
عَلَيْه وَسَلَّمَ: «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ
أَسْتَغيثُ»[105]، وقوله تعالى في سورة البقرة:
﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: 156]، وهلم جرَّا، وكتب الأذكار -والحمد
لله- مليئة بمثل هذا.
وينبغي للمسلم أن يعتبر، وقد جاء الآيات بالنَّظر، قال تعالى:
﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُو﴾ [آل عمران: 137]،
﴿أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأنعام:50]، فتوظيف كل ما يراه الإنسان فيما
يعود عليه بالنفع يزيد في إيمانه إيمانًا، ويزيد في تبصره تبصُّرًا.
ومن اعتبار الإنسان: إذا رأى هذ البلاء، ورأى أنه في مصيبة ونازلة كبرى؛ فعليه أن
يتذكر مَن هو أشد منه مَصابًا، حتى يقوَى إيمانه وتقوَى عزيمته.
وينبغي أن يعلم أنه ليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب ولا حسب، وأن حكمة الله
تعالى بالغة في الكمال أعلاها، وفي الحسن مُنتهاها.
وعند البلاء يعلم الإنسان أنه لا ينفعه إلا عمله الصالح، وتوبته إلى الله -عَزَّ
وَجَلَّ-؛ فإن أضاف إلى ذلك حسن الظن بالله -عَزَّ وَجَلَّ- فلن يرى من الله إلَّا
ما يُطمئنُ قلبه، ويشرح صدره، ويُقر عينه.
وقضية وباء "كرونا" قضية عالمية في جميع دول العالم إلا ما شاء الله، ونقرأ في بعض
الأخبار أنَّ فلانًا أوصى بالدعاء، وهذا المسؤول أوصى بالدعاء، وهم من غير
المسلمين، وبعض الناس يفهم فهمًا خاطئًا فيقول: لا ينفعهم الدعاء!
فنقول: ينفعهم، وربنا يقول في القرآن الكريم: ﴿فَإِذَا
رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾
[العنكبوت: 65]، ومع علم الله الأزلي أنهم سيؤولون إلى شركهم.
قال بعضهم: من ثمرة الإخلاص في الدعاء: أن يُكافئ الله عبده.
وقد يُقال: إنه استدراج، ولكن انظر للحديث الآخر: «دَعْوَةُ
الْمَظْلُومِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ»[106]، فالدعاء
ينفع كل أحدٍ، وكل إنسان بحسبِ دعوته ومقصده.
وهذه النوازل نزلت في القرون السابقة، وفي عصور الصحابة، فالصحابة تعاملوا مع طاعون
عمواس التعامل الشرعي، وهذا يرد قضية أن الإنسان لا يُغلب إلا جانب تفويض الأمر إلى
الله -عَزَّ وَجَلَّ- ويترك التوكل.
فالصحابة -وهم أتقى الناس لله بعد الأنبياء والرسل- وقع الطاعون في عهدهم، ومع هذا
مع قوَّة يقينهم وإيمانهم وعلمهم بالله -عَزَّ وَجَلَّ- كانوا من أعظم الناس لفعل
الأسباب الشرعيَّة، وكما نعرف أنه لَمَّا أراد عمر دخول الشام وأُخبر بالوباء الذي
انتشر وفشا وشاع، فتردَّدَ واستشار الأنصار والمهاجرين، ثم جاء ابن عوف وأكَّد ما
رآه عمر وهو عدم القدوم إلى بلد فيها طاعون، وهذا من فعل الأسباب واتِّقاء الداء؛
بل إنَّ بعض العلماء يستنبط من حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ:
«مَن تَصَبَّحَ كُلَّ يَومٍ سَبْعَ تَمَراتٍ عَجْوَةً، لَمْ يَضُرَّهُ في ذلكَ
اليَومِ سُمٌّ ولا سِحْرٌ»[107]، يقولون: هذا يُسمَّى الدفع قبل الرفع في
اتِّقاء الدَّاء، فهذا الحجر على شفا حفرة، فادفعوه عنها، وهذا أخف من أن ترفعه إذا
سقطَ، فالإنسان يفعل الأسباب الوقائيَّة قبل وقوع الداء عليه.
{أحسن الله إليكم.
ما تعليقكم على إغلاق المساجد نظرًا لانتشار هذا الوباء؟}.
إغلاق المساجد له أصل في الشرع، وإذا دعت المصلحة فهو تخفيف من ربنا ورحمة، والنبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- كما أنه في حديثه الذي نهى فيه عن أكل الثوم
والبصل مُراعاة لحال المصلين، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ:
«مَن أكَلَ مِن هذِه الشَّجَرَةِ، فلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَن»[108]؛ لأنَّ
هذا مما يتأذَّى منه بنو آدم، وفي رواية أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أخرج
بعض الناس قد فاحت رائحة الثوم والبصر من فمه، فهذه أذيَّة متعدِّية، وإخراجه أمر
قاصر على نفسه، وهذا من ناحية المحافظة على المسجد وعلى راحة المصلين ونفسية
المصلين.
وفي المقابل لَمَّا أمرَ المنادي "صلُّوا في رحالكم" أمرَ بعدم الصلاة في المسجد
مُراعاة لمصلحة الناس، والصحابة كذلك أمروا المؤذنين أن يقولوا في الأذان: "صلوا في
بيوتكم، صلوا في رحالكم"، والحرم النبوي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أغلق في
عهد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بسبب المطر، والمطر أخف ضررًا من
المرض، وخاصَّة هذا الوباء المنتشر.
فإغلاق المسجد من الحكم الشرعية، والشريعة مبنية في أحكامها على جلب المصالح ودرء
المفاسد، وتقديم المصلحة الكبرى على المصلحة الصغرى، ودرء المفسدة الكبرى في تحمل
المفسدة الصغرى، وهذه قواعد مقَرَّرة في كتب الأصول والقواعد الفقهيَّة.
إذن؛ يُقال: إن إغلاق المسجد تحفيف من ربنا ورحمة؛ لأنَّ الأجر المترتب على الصلاة
في المسجد إذا كان الذي منعنا من الصلاة حُكمٌ شرعي فيبقى الأجر كما هو، قال
-صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في حديث أبي موسى الأشعري:
«إذَا مَرِضَ العَبْدُ، أوْ سَافَرَ، كُتِبَ له مِثْلُ ما كانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا
صَحِيحً»[109]، فالمريض يعجز عن أعمال كان يعملها في صحته بسبب حابس المرض،
والمسافر ترك أمورًا كان يعملها في الحضر، لأن السنة أن تُترَك في السفر، فمانع
المرض يجري أجر المريض عليه بسبب مرضه، لأنه كان يعمل ذلك في الصحة والسلامة،
والمسافر يجري أجر عمله عليه الذي كان يعمله في الحضر، لأنه كان محافظًا عليه،
وكذلك يُقال: إن أجر الشخص إذا صلَّى في بيته بسبب إغلاق المساجد لسبب شرعي قد
يتضاعف، لأنه كان يؤدي الصلاة في المسجد ويحرص عليها، وهذا الشوق إلى المسجد قد
يكرمه الله به بمضاعفةٍ لأجره.
ويُقال أيضًا: الصلاة في البيوت فيها مصلحة، فهي تبين سماحة الشريعة، وانظر إلى
النصوص الكثيرة في الأمر بصلاة الجماعة، ولكن في النوازل يأتي الشرع بالمصلحة،
فالصلاة في البيوت وقت النوازل لها آثار، من آثارها:
أولًا: التَّمثُّل للنص الشرعي.
ثانيًا: تزيد الشوق إلى المسجد، فالإنسان إذا أحب شيئًا وألفه، ثم تركه لأمر شرعي؛
يزداد شوقًا له.
ثالثًا: نتذكر نوازل الصحابة التي جعلتهم يصلوا في بيوتهم.
رابعًا: الأثر التربوي للصغار، فيُحاكون صلاة والدهم أو صلاة أخيهم.
خامسًا: صلاة الوالد جماعة بأهل بيته ذكورًا وإناثًا لها أثر حسن، ولهذا سترى إذا
رفع الله هذا البلاء- إن شاء الله- وعاد الناس إلى مساجدهم سيزدادون -إن شاء الله-
حبًّا للمسجد، ويزداد الصغار محبَّةً للصلاة.
وهنا ملاحظة على مسألة إغلاق المساجد: فبعض الناس ينشرون أبياتًا حزينة من الأشعار؛
فيُقال: الحزن الجبلي لا مانع منه، فالإنسان يتأثَّر، ولكن يتأدَّب ويعلم أن
الانتقال إلى هذا حكم شرعي، أما رثاء المحاريب ورثاء الصفوف والمساجد أعتقد انه
خارج عن الحد الشرعي، لأننا انتقلنا من حكم شرعي إلى حكم شرعي، يُصلي في أول الوقت،
لكن إذا ضاق الأمر تُؤخَّر الصلاة، فكلها انتقال من حكم شرعي إلى حكم شرعي.
فالحزن الجبلي لا مانع منه، ولكن البكائيَّات والأشعار والتَّحرُّق لا داعي لها؛
فتأدَّب بالأحكام الشرعية، نحن نصلي في بيوتنا مرضاة لله، وابتاعًا لهدي النبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ونهج الصحابة، ونصلي في المساجد -وهو الأصل- ولكن
إذا حصل عارض كالوباء نصلي في البيت، والمطر أخف من الوباء، وقد صلَّى الصحابة في
بيوتهم بسبب المطر.
وهنا مسألة من باب القياس الأولوي: النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال:
«صَلُّوا في رِحَالِكُمْ»[110] مراعاة لحال الصحابة
في المطر، فلو اشتدَّ المطر في وقت فرضين فيصلون الفرضين في بيوتهم، ولو استمر
المطر على قومٍ يومًا كاملًا فيصلون في بيوتهم يومًا كاملًا، ولو استمرَّ أسبوعًا
أو شهرًا أو أشهرًا فيصلون في بيوتهم؛ فالعبرة برفع المشقة ورفع الحرج الشرعي، ورفع
ما يُكدر على الناس حياتهم.
فيُقال: بما أن الصحابة صلوا في بيوتهم اتقاء المطر، ونحن نصلي الآن في بيوتنا
اتقاء المرض؛ وهذا الفيروس الذي انتشر أشد من المطر أثرًا على النفوس، فنستصحب
الحال بجملة: "صلوا في رحالكم" يومًا ويومين وأسبوعين وشهرين وثلاثة حتى يرتفع
الحال.
{هل معنى هذا أن الجماعة تسقط لمن كان في بيته من الرجال؟}.
هذه المسألة يرى بعضهم اشتراط الجماعة في المسجد، وبعضهم يرى اشتراط الجماعة بدون
مسجد، فإذا صلوا جماعة يكون أحوط وأكمل وأبرأ للذِّمَّة، أمَّا لو كان وحده وما معه
إلا أطفال فيُصلي وحده، فيُوظِّف هذا الحديث إلى تحبيب وتعويد الصِّغار على فعل
الصلاة، فيجعلهم يصلون معه، ويُحاكون حركاته في سجوده وقيامه وركوعه، حتى يألفون
أمر الصلاة.
{بعض الإخوة وضع مُصلى في البيت من باب تعويد الأطفال على الصلاة؛ فهل هذا أمر
مشروع؟}.
وردَ في البخاري "باب المساجد في البيوت"، وذكر حديث عتبان بن مالك أنَّهُ كَانَ
يَؤُمُّ قَوْمَهُ وَهُوَ أَعْمَى، وَأَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهَا تَكُونُ الظُّلْمَةُ
وَالسَّيْلُ، وَأَنَا رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ، فَصَلِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي
بَيْتِي مَكَانًا أَتَّخِذُهُ مُصَلَّى"[111]، فقيل: إنه إن يعجز عن الذهاب، واتخاذ
مكانًا للمسجد في البيت يرى بعض أهل العلم أن هذا المكان يكون مصونًا، ولا يتعرَّض
للأذى أو التَّلف، فيبقى مكانًا مُهيَّأً للعبادة.
ويستحب بعض أهل العلم من المفسرين أن يُكثر الإنسان التَّنفُّل في البقاع المتنوعة،
أخذًا بقوله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ
أَخْبَارَهَ﴾ [الزلزلة: 4]، وجاء في بعض الآثار أن الأرض تشهد بما عُمل
عليها، فيُصلي تارة في هذه الغرفة، وتارة في هذه الغرفة، فيتَّخذ مصلًّى مرَّة هنا،
ومرة هنا؛ من باب شهادة البقاع له.
{أحسن الله إليكم.
في الختام؛ هل من نصائح عامَّة فيما يتعلق بهذا الفيروس؟}.
هذا الحدث من تعليق الرحلات الجويَّة والبريَّة والبحريَّة، وإغلاق حدود كثير من
الدول، بعد الاستقبال أو الخروج منها، وإغلاق المتاجر، وإغلاق الأسواق، وتعليق
الوظائف، وتعليق الدراسة؛ أعتقد أن هذا الحدث ما حصل بهذه الطريقة.
وإذا تذكر الإنسان قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْعِشَارُ
عُطِّلَتْ﴾ [التكوير: 4]، والعشار: هي الناقة العشراء التي على وشك الوضع،
والعرب تفخر وتحرص على ولادة الجمل الأصيل أو الخيل الأصيلة؛ فذهلوا عنها.
وقوله: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ
عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ
سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى﴾
[الحج: 2]، فهذه أحداث كان الإنسان في حياته العادية يشد يعض عليها بالنواجذ ويشد
عليها بأصابعه؛ تركوها وذهلوا عنها! فذهول الناس هذا يُقرِّب مشهد يوم القيامة.
وينبغي أيضًا أن يعتبر الإنسان، وأن يعلم أن هذا الكون تسيير أمره وتقدير شأنه كله
عائد إلى الله المستحق للعبادة -عَزَّ وَجَلَّ- فلا معبود بحقٍّ إلَّا الله، ويرى
بطلان مَن كان يعبد غير الله، أو يرجو غير الله، ويرى أن هذه الحياة في زخرفها
وزينتها بلغت أوج الزِّينة، ثم كدَّر أمرها هذا الوباء، فذهل التُّجار وذهل الكبار
والصغار والأغنياء والفقراء؛ كل مشغول بنفسه، فالله تعالى أسأل أن يرفع هذا الوباء.
ملحظ في تعامل الناس مع هذا الحدث: في نظري القاصر؛ أنَّ كبار السنِّ من المسنِّين
والعجائز اشتعلت رؤوسهم شيبًا، ووهنت عظامهم، وانحنت ظهورهم؛ إذا جلستَ معهم وسمعتَ
كلامهم تشعر بالرضا بقضاء الله، وعدم التَّسخُّط، وعدم التَّجزُّع، لا لفظ نابي ولا
تصرف نابي؛ فكثير من المسنين والمسنَّات ما درسوا العقيدة والتوحيد علميًّا، لكن
طبقوه عمليًّا، وبعض المتعلمين -بل الكثير منهم- درس العقيدة علميًّا وعمليًّا ولكن
يضعفون عن تطبيقها عمليًّا، فرحم الله مَن مات من أمهاتنا وآبائنا، وشفى الله مَن
كان مريضًا، وباركَ الله فيمن كان حيًّا، ووفق الله المسلمين لما فيه الخير
والصلاح.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين
حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن
أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته}.
-----------------
[101] صحيح مسلم (901).
[102] صحيح الجامع للألباني (3577).
[103] رواه ابن ماجه (٣٩٥٠)، وصحَّحه الألبانيُّ في
«صحيح الجامع» (٣٩٣٠).
[104] صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1618).
[105] أخرجه الترمذي (3524) واللفظ له، وابن السني في
((عمل اليوم والليلة))
(337)، صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (7/557).
[106] أخرجه أحمد (12571، 12572) باختلاف يسير، وأبو
يعلى كما في ((إتحاف الخيرة المهرة))
للبوصيري (6/468)، والطبراني في
((الدعاء)) (1321).
[107] صحيح البخاري (5445)، صحيح مسلم
(2047).
[108] صحيح البخاري (856)، صحيح مسلم
(563)، واللفظ له.
[109] صحيح البخاري (2996).
[110] صحيح مسلم (697).
[111] رواه البخاري (415)، ومسلم
(33).