{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد العزيز بن محمد السَّدحان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
حيَّا الله مَن يرى ومَن يسمع ومَن هو حاضرٌ معنا.
{ما زلنا في سلسلة حلقات "الآداب والأخلاق"، وفي هذه الحلقة -بإذن الله- يتحدث فضيلة الشيخ عن خوارم المروءة.
فضيلة الشيخ؛ لو تعطونا توطئة عن خوارم المروءة}.
يُقال: هذا ستارٌ مخرومٌ -يعني مُخرَّق- وهذا ممَّا يعيب الستار.
وعُرِّفت المروءة عند بعض أهل العلم بالشيء المقبول، الطَّعام المريئ، أي: الطعام المقبول.
وعرفها آخرون بأنها: أخلاق نفسانيَّة تبعث على فعل الجميل وترك ما يستقبح.
وخوارم المروءة مما يُكدِّر صفوها ما لا يُقبَل من الأقوال والأفعال.
{أحسن الله إليكم.
هل من دليل على المروءة؟}.
وقفتُ على أثرٍ عن سفيان بن عيينة -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنَّه سُئل: استنبطتَّ من القرآن أشياء؟ فقال: المروءة، من قوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199]، يدل على أخذ كل ما هو حسن، وترك ما هو مُستقبح، ومجانبة مَن لم يأخذ بالأحسن، أو مَن كان من طبعه القبائح وما شاكلها، وكل نصوص الشريعة التي تحث على الأخلاق وتنهى عن الرَّذائل هي من أدلة المروءة.
{ما هو ضابط المروءة؟}.
ذكر بعضهم أنَّ من ضوابط المروءة: ما يسلم صاحبه من نقد الناس في تصرفاته القوليَّة والفعليَّة ما لم تُخالف نصًّا شرعيًّا، فهناك أشياء ينتقد الناس مَن فعلها أو مَن قالها، وستأتي أمثلة لهذه الأشياء.
وهذه الأشياء لم يوجبها الشَّرع، ومَن فعلها أحسنَ، ومَن تركها أو خالفها قد يُنتَقَد، وهناك أشياء لو فعلها الإنسان لا يأثم، ولكنها عند الناس مُستهجنة، ومراعاة مشاعر الناس مطلَب شرعي ما لم تُخالف مشاعرهم نصًّا شرعيًّا.
{أحسن الله إليكم شيخنا.
لو تذكرون لنا بعض صور خوارم المروءة}.
من صور خوارم المروءة:
الصورة الأولى: التعرُّض لمواطن الرِّيبة.
مثلًا: مكان لا يُحمَد المُتَردِّد عليه، بل يُنتقَد ويُذم، وقد يُقدَح في عدالته، ولهذا قال بعض السلف -رحمة الله عليهم: "مَن عرَّض نفسه لمواقع التُّهم فاتَّهموه"، فينبغي للإنسان البُعد عن مثل هذه المواقع، وإزالة الشُّكوك عن نفسه، وعدم التَّعرُّض لمواطن الرِّيبة؛ بل إذا قُدِّرَ أنَّ أحدًا رآه فينبغي أن يُبادر بإخباره عن سبب مجيئه وحضوره حتَّى لا يُتَّهم؛ لأن بعض الناس قد يقع في نفسه شيء.
ويدل على هذا حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- عن صفية، مع أنه أبرأ الناس وأكمل الناس، فلما رأى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- الرجلان، قال: «عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ»، فتعجَّبا، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَبْلَغَ الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَ»[33].
وللشافعي كلام عجيب في هذا الحديث، حيث يقول -رحمه الله: إن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ما دعاهم ليبرئ نفسه، فهو بريء ببراءة الله له وعصمته له؛ وإنما دعاهم لطرد الشك عنهما.
وبكل حال؛ فإنَّ بعد الإنسان عن مواطن الرِّيَب مطلب شرعي، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أتقَى الناس وأعلم الناس، وأزكى الناس، ومع هذا جعل لنا منهجًا، وهو أنَّ الشيطان قد يقذف في نفوس بعض الناس إذا رآك أو سمعك.
{بعضهم يحتج ويقول: أحب أن أُجرب الجديد، وأحب أن أذهب لأماكن جديدة بما فيها من أماكن الريبة. فما توجيهكم؟}.
هل لذهابه مصلحة؟ هل هو مسؤول وظيفي أو مراقب تابع للدولة؟ وهل هذه الأماكن في مُلكِهِ؟
الأصل في الذهاب إلى مكان -هو يعرف أنه موطن ريبة- الكف، وبخاصَّة أن قُرب الأماكن قد يؤدِّي إلى انزلاق، ولهذا جاء في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ﴾ [الأنعام: 152]، ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَ﴾ [الإسراء: 32]؛ فالنَّهي عن القُربان يؤكد على عدم المخالطة والمداخلة.
{هل خوارم المروءة تؤدي إلى ارتكاب الحرام؟}.
نعم قد تؤدي إلى التساهل بالواجبات ثم ينزلق، فكلما تجرَّأ الإنسان على تخطِّي الحِمَى والتَّساهل بالأشياء؛ فإن ذلك يؤدي إلى نتائج ومآلات لا يُحمد عقباها.
الصورة الثانية من خوارم المروءة: التَّمسخُر والتَّوسُّع في المزاح مع الغرباء بخاصَّة، فيأتي المجلس لأول مرَّة أناس لا يعرفونه، أو يحضر مجلس لأناس لا يعرفهم؛ يعني: أقام أحد وليمة فحضر أناس يعرفهم صاحب الدعوة، وقد يكون لهم هيئات، فبعض الناس يتمسخر بالمزاح، ويتجرَّأ في التعليق على فلان أو فلان، وأحيانًا قد يُصدَم بردٍّ عنيفٍ من أحد الحاضرين، وهو في الحقيقة يستحق هذا الرد، يا أخي احترم مشاعر الناس، فليس كل الناس تقبل المزاح والمداعبة والمضاحكة، وتجد بعض الناس تأبى نفسه أن يمزح أمام الناس حفظًا لمقامه وهيبته، وبعض الناس صفيق، يتجرَّأ في تعليقاته ومزاحه ويخرج عن الآداب الشرعية؛ بل أحيانًا يتلوث بالمحرمات.
روى مسلم عن عَائِشَةَ، قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِي، كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ، أَوْ سَاقَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَذِنَ لَهُ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ، فَأَذِنَ لَهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَسَوَّى ثِيَابَهُ، فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ ؟! فَقَالَ: «أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ»[34].
قال النووي في شرحه: "وفيه جواز تدلل العالم مع خاصَّة أصحابه دون مَن يستحيى". وهذا من فقه الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وعظيم أدبه وتأديبه.
وأذكر أن الإمام الشعبي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- كان جالسًا يُمازح أصحابه -أو خواص تلاميذه- فإذا بأحد الطلاب يقول: رجل يسأل -يعني: يستأذن في الدخول- فقام الشعبي وعدَّل عمامته وهيئته، ثم جلس وقال: أدخلوه. فدخل السائل وسأله، فلما خرج الرجل استغرب الحاضرون، كيف تمازحنا وتضاحكنا، ثم لما دخل الغريب تغيرت!
فقال: "إذا دخل الغريب فنحن قُدوة يُقتدى بنا"، فلو رآنا في المزاح والدعابة ربما يأخذ فعلك هذا قاعدة وقدوة، وهذا من فقه الشعبي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
على هذا يُقال: إنَّ من خوارم المروءة: أن يأتي الرجل يمزح ويتمسخر، وفي الغالب لا يسلم من نقد العقلاء؛ بل أحيانًا قد يرد عليه أحد الحاضرين ردًّا عنيفًا.
وقرأتُ في بعض التواريخ أن أحد الشعراء استأذنَ على الخليفة، فقال الحاجب: إن فلانًا يستأذن. فقال الخليفة: ائذنوا له.
فقال بعض الحاضرين للخليفة: أتأذن أن أٌخزيه. فقال له الخليفة: هو دونَ نفسه -كأنه يقول: إذا ردَّ عليك فلستُ لك ناصر.
فقال: هو أقل شأنًا من ذلك.
فدخل هذا الرجل الشاعر، فقال الرجل: يا فلان، متى كان آخر عهد أبيك بالفاحشة؟
فقال الشاعر: منذ أن ماتت أمُّك العجوز.
اُنظر إلى الرَّد الشَّنيع القبيح! فمقابلة هذا الرجل بهذا الكلام قبيح.
يقول الشافعي:
فقد يذكر الشاعر بيتًا أو قصيدة تُخلَّد في سيرته
فبعض المزاح قد يُورث العداوة، حتى من في المجلس ينتقدون هذا الذي يمزح واستخف عقله.
الصورة الثالثة من خوارم المروءة والتي نهى الشرع عنها: يأتي بعض الناس في المجالس برائحة غير زكيَّة، كأن يأتي إلى وليمة أو مجلس، أو دعوة خاصَّة أو عامَّة؛ فيحضر بثياب لها رائحة، وبعض الحاضرين يتقزَّز؛ بل إنَّ بعضهم قد يعاتبه، وكما بلغني أنَّ واحدًا عاتبه وقال له: يا أخي إن كنتَ فقيرًا أعطيناك! يا أخي تزيَّن أمام الناس، الرائحة غير مَقبولة، والثياب نتنة.
وهذا ناهيك عن نقد العقلاء، فبعض الناس قد لا يتجرَّأ على المجاهرة بنقده، ولكن في نفوسهم نقد هذا التَّصرُّف وذمِّه، وبخاصَّة أنَّه قادر وعنده من الخير ما يكسو الكثير، ولكن بعضهم لا يُبالي، فيأتي بثياب وروائح في بدنه وثيابه يستقبحها العقلاء، وهذا لا شكَّ أنه يكون مُضغة في ألسنة الناس للنقد والذَّم؛ بل إن بعض الناس إذا دخل المجلس لا يصافح فلانًا؛ لأن يده فيها أذى! وأحيانًا يتصرف تصرفات مُقزِّزة، فيُلوث يده بأشياء كأن يحكَّ رأسه أمام الناس بشكل مقزز ثم يأتي يُصافح، أو يُنظف أنفه ثم يأتي يُصافح!
وهذا مُستقبَحٌ ولا يليق، والإسلام لا يرضى بهذا الشيء؛ بل يدل أصحابه على الأخلاق والنظافة الحسية والمعنوية.
الصورة الرابعة: فضول النَّظر والكلام.
بعض الناس إذا دخل مجلسًا ينظر، وأقبح من ذلك أن يفتح الأدراج، أو يركب سيارة أحد فيفتح الدرج، أو يكون له فضول نظر، فإذا قيل له: اجلس إلى هنا؛ أصرَّ إلَّا أن يجلس في مكانٍ ثانٍ، أو يُدعَى إلى وليمة خاصَّة فيُحضر معه واحد أو اثنين.
قال بعضهم: أحق الناس بصفعةٍ من قيل له: اجلس هاهنا فأبى وأحقهم بصفعتين مَن دعي وقيل له تعالَ وحدك، فدعا بآخر.
دخل أحدهم على الإمام مالك -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وكان عند مالك بطيخ، فغطَّاه ببساط، فلما دخل الرجل قال له مالك: اجلس ها هنا.
فأصر الرجل أن يجلس على البساط، فقال مالك: قد آذيتنا!
ومن اللطائف التي ذكرها ابن الجوزي: أن أبا عبيد القاسم بن سلَّام زار الإمام أحمد؛ قال له أحمد: اجلس ها هنا -في صدر بيته.
فقال أبو عبيد: يا إمام، الرجل أحق بصدر مجلسه.
فأجابه أحمد: نعم، يجلس فيه إن شاء ويُجلس فيه مَن شاء.
أحيانًا يدخل بعض الناس إلى مجلس لزيارة صديق، فيقول صاحب الدار: تفضل هنا -لأنه هو أدرى بداره- فتجد بعض الضيوف يجلس في المكان المقابل، فعليه أن يستجيب لكلام صاحب الدار؛ لأنه لو جلس في غير هذا المكان لربما قابل بابًا مفتوحًا أو ممرّ النساء، فصاحب الدار اختار هذا المكان لأمرين:
- إما لإكرام الضيف.
- أو أن هذا المكان يحجب عنه ما خلف الباب.
فينبغي أن نعود أنفسنا ونعود أولادنا على أن نجلس حيثُ أُمرنا بالجلوس، إذا كان مشاع الجلوس فلا بأس.
{من عادة الناس عندنا أن يتمنَّع الضيف برهة من الزَّمن}.
قد يكون تواضع من نفسه أنه لا يستحق هذا المكان، فإذا أمره صاحب الدار فالامتثال خير من الأدب، فالأدب أن أجلس في هذا المجلس، لكن الامتثال لصاحب الدار أولى، صاحب الدار ألحَّ عليك فاجلس ولا تخالف كلامه، فأحيانًا يرى صاحب الدار تواضع الضيف، ولكن إذا ألحَّ وأصرَّ فهو أدرى بداره.
الصورة الخامسة: السؤال عن خصوصيَّات النَّاس، أمورهم الخاصَّة ودواخل أسرارهم، ويزداد هذا قبحًا ولؤمًا إذا كان أمام الناس، ويزداد إذا كان أمام الغرباء.
مثلًا: في وليمة كبيرة، فيقوم أحدهم ويقول: فلان كم عمرك الآن؟
أنت غير مكلف أن تسأل عن عمره، قد يكذب حتى لا يكبَّر أمام الناس، وقد يصدق فتُحرجه أمام الناس.
ولَمَّا قال أحدهم للإمام مالك -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: يا إمام كم عمرك. قال مالك: أقبل على شأنك، ودعْ عنكَ ما لا ينفعكَ.
وجاء رجل أمام أحد العلماء وذكَّره بأيَّام الصِّغر وقال: تذكر لما كنتُ أنا وإيَّاكَ كذا وكذا...، أمام الناس! قال العالم: حفظتَ ما لا ينفعك الله به.
ومما يُستقبح: أن يأتي شخصٌ من أصحاب الوالد أمام أولاد صاحبه، يعني زار زيدٌ عمرًا، فعرو أحضر أولاده من البيت حتى يعرفهم بصديقه زيد، فزيد هذا من سوء أدبه ووقاحته وقلَّة مروءة يقول: كان أبوكم لما كنا صغار يفعل كذا وكذا -أمورٌ مستقبحة- أمام الأولاد!
وكان الأولى بكَ أن تذكر مناقب للرجل أمام أولاده ليقتدوا به، ولكن تُحرج الوالد أمام ولده، وتذكر أشياء يستحي الوالد من ذكرها لأولاده، ولو كان لي سلطة لكنت أعزِّر النوعية هذه، هذا الذي يجعل الأب في موقف محرج، ويُجرِّئ الأولاد على والدهم.
ومن فضول الكلام: أن يقول بعض الناس، فلان لِمَ لم تتزوَّج؟
قد يكون فيه أمر خَلقي أو أمر نفسي، قد يكون عنده عجز في المال؛ فهذا السؤال أمام الناس مُحرج، وأنا أجزم -بل أُقسم- أن العقلاء الحاضرين لا يرضون بذلك؛ بل قد يُثرِّب عليه بعضهم ويُعاتبه.
نعم، إذا كنت معه في مجلس وحدكما، أو تثق أنه يرتاح لك؛ فتفاتحه بهذا الكلام فلا بأس.
وأعجبني أحد الفضلاء حينما قال: كان لنا صاحب كبير في السن ما تزوَّج، وكلمه بعض من معي فتضايق ونهره، فتعجبت أن بعضهم قال لي كلِّمه. فقلت: هو نهركم وزجركم ويتضايق، تريدني أن أزيده ألمًا؟ ما ينبغي، فهو أدري بنفسه!
إلَّا إذا كان يطمئن لك، فتعطيه توطئةً قبل أن تتكلم وتقول: يا فلان عندي سؤال، إذا كان فيه إحراج فامنعني، وهذا السؤال يتعلق بالزَّواج.
إذا قال لك: يا فلان كف؛ فاطوِ الصفحة وانسخها لفظًا وحكمًا ولا تتكلم فيها.
أما لو قال لك: قلْ، فأنا أرتاح لك يا شيخ؛ فأنت وشأنك فيما يقول لك، وأنت أدرى بتوجيهه.
ومن فضول الكلام: الأسئلة الخاصة: فلان يسأل كم راتبك يا فلان أمام الناس! حتى لو كنتما وحدكما فلستَ مكلَّف أن تسأل.
الصورة السادسة: أنت دعوتَ أناسًا إلى وليمة في بيت، وأنا عرفتُ أنَّك دعوتهم؛ فإذا قابلت لا ينبغي أنا أعاتبك وأقول: لِمَ دعوتَ فلانًا وفلانًا ولمْ تدعوني!
فقط يكون فيه موضوع خاص بينكم، فأنا بهذا الكلام أُحرجكَ، وقد تعتذر أنت عذرًا بأن نسيتَ، وقد تؤلمني وتقول: لم أدعوكَ عمدًا، فهذا موضوع خاص.
فالأولى أن أكفَّ لساني، ولا أُعرِّض نفسي للنقد والعتَب.
{أحسن الله إليكم.
ما هو الموضع المناسب لطرح الأسئلة الخاصة؟}.
يختلف باختلاف السائل والمسؤول، فأحيانًا يكون المسؤول عنده درجة من الحساسيَّة، يتأثَّر بأدنى شيء، فمثل هذا دقيق كميزان الذهب، وفي تعاملك معه كأنك تمشي على زجاج، فينبغي الحذر، ولكن بعض الناس لها نفوس يقبلها ويرتاح لها، بل هو قد يُصارحهم بخصوصياته قبل سؤالهم، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يقول: «الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ»[35]، وبعضهم قد يفقد صحبة سنوات في لحظات بسؤال محرج، فيحذر منك ويقول: اقطع ما بيني وبينك! لأنك تدخَّلتَ في خصوصياته.
فأنا وجدت أن من أحسن الأساليب هو التوطئة العامة، تقول: يا فلان، فيه موضوع أحب أن أتحدث فيه معك، إما أن تقول لي: "استعن بالله وابدأ" أو تقول: "استعن بالله ولا تتكلم"، وهذا الموضوع يتعلق بالتأخر في الزواج.
هو سيفهم أنه تأخر في الزواج، وسيقول لك: يا فلان، أثابك الله، وأنا أتقبل كلامك.
أو يقول لك: يا فلان، هذا أمر خاص بي، إخوَّتنا مستمرة -إن شاء الله- وأرجو عدم فتح هذا الموضوع معي الآن ومستقبلًا.
{ما توجيهكم لهذا الضابط: إن كنت ترى أنك تفيده فاسأله}.
هو مؤدَّى الكلام السابق، ولكن أحيانًا يتوهَّم الشخص أنه سيفيد، وهو لا يعرف نفسيته؛ لأن النفوس حساسة.
أعطيك مثالًا: بعض الناس يتعبك في صحبته، حساس لدرجة أنك تحتاج أن تتعذَّر من كل شيء، تجده يجلس معك ويكون معك الحق، ثم فجأة يقول لك: لماذا هذه الكلمة؟ هذه لمز لبلدنا...، أو...، فأنت تتعذَّر منه كثيرًا. فهذا متعب صراحةً، وأحسن معه أن تكون مستمعًا لا متكلمًا.
أما القضية التي ذكرتها؛ فكل إنسان له قدرة على الأسلوب، ويعرف نفسية من بجانبه، ولكن إذا كنتُ أعرف أن فلانًا من الناس له صاحب خاص ولكن ما يقبلني أنا، فأنا آتي لصاحبه هذا الذي يُحبه وأقول له: يا فلان، فيه موضوع أنت أولى من يُكلمه.
أنت تقدر الأمور بقدرها، فإذا رأيت أنك تحسن التعاون معه، ورأيت المصلحة في الكلام فنعم، وإلا فالإحجام.
الصورة السابعة: أن بعض الناس يُحاكي الصغار في لهوهم، يلاعب الصغار ولكن بتصرفات تزيد عن العادة، يعني يسابقهم في الشوارع ويلاعبهم، لو جاءت عرضًا كنوع ود وتأثير، ولكن دائمًا مع الصغار أو السفهاء في لعبهم وضحكهم.
قرأت أثرًا في طبقات الحنابلة: "كان فلان من أهل العلم، وكان يقف دائمًا على القرَّاضين والحوَّائين والمشعبذين؛ فسقطت هيبته وذهبت مروءته".
القرَّاضين: أصحاب القروض.
الحوَّائين: أصحاب الحيَّات.
وليس معنى هذا أن الإنسان يُشدد، فالمزاح مع الصغار ومداعبتهم مطلب، ولكن أن يكونَ عادةً مُستديمة في كل مكان وكل زمان؛ فهذا لا يليق، ويُسقط هيبة الشخص الذي يفعل هذا الفعل.
{هل فِعْل الحسن لَمَّا ركب على ظهر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وهو يصلي؛ مما جاء عرضًا}.
لا شك؛ حتى الآن يفرح الإنسان بالمحاكاة النبوية لهذا الفعل، ولكن الهيبة النبوية والوقار شيء آخر.
الصورة الثامنة: الاستئثار بأغراض الآخرين.
يُشاركهم في الرحلة، ولكن لا يأتي بسيارته، ولا يدفع من ماله، ولا يأخذ شيئًا من متاع بيته، ولا يخدم!
هذه دناءة أخلاق! يذهب معهم يأكل ويشرب على حسابهم، وقد يكون أغنى من كثيرٍ منهم، ومع ذلك لا يُشاركهم، فهذا قبل أن يكون من خوارم المروة فهو من دناءة الأخلاق ولؤم طباع.
الصورة التاسعة: عدم مراعاة كبير السن عند الحديث معه.
تجد في مجلس كبير سنٍّ في السبعين من عمره وهذا في العشرينان، فيقول له: يا فلان، يا إبراهيم، يا سليمان..، يا أخي وقِّر المخاطب الذي أمامك!
فإبراهيم -عليه السالم- كان يقول: ﴿يَاأَبَتِ﴾ [مريم: 42]، نوح -عليه السلام- يقول: ﴿يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَ﴾ [هود: 42]، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يقول: «يَا عَمِّ، قُلْ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ»[36]، وقال: يَا عَبَّاس، يَا عَبَّاسُ، يَا عَمّ رَسُولِ اللهِ»[37]، حتى ذكر البخاري في الأدب المفرد "باب قول الرجل للكبير: يا عم..."، فبعضهم يخاطب الشخص الكبير باسمه مجردًا، ولو كان هذا الشخص طالب علم أو كان كبير السن وقال له صغير: يا صالح..، يا خالد...؛ يتضايق!
وأذكر واحدًا جاء من بلدٍ إلى المملكة، فقال له أحد أبناء الحي: يا عم؛ فتأثَّر الرجل جدًّا.
ومن باب ما يُذكر فيُشكر أن قال لي أحد مؤذني المساجد: إن أحد الناس -أعرفه شخصيًّا أنا ولي به قرابة وثيقة- أن أحد أولاده أخطأ على أحد العمال، فقال لولده: قبِّل رأسه؛ فصار لهذا الفعل أثر في نفس العامل.
يقول المؤذن الذي حدَّثني: والله هذا المنظر لا أنساه إطلاقًا، كيف أنَّ العامل شعر بنوع من ردِّ الاعتبار.
فبعض الناس -مع الأسف الشديد- لا يُحسن حتى الخطاب مع كبار السن، قل له: يا عم، يا والدي، قبِّل رأسه.
وأوصيكم بوصية: إذا جالستم كبير السن فكونوا مُستمعين لا مُتكلمين، إلا أن يأنس بك، فممَّا يَسر كبار السن أن تسأله، فتسأله في الزرع إن كان من أهل الزراعة، أو كان مُدرسًا، أو كان طيَّارًا؛ فحـاول أنَّك تكلِّم هذا الكبير في مِهنته، فيستروح ويستلذ الحديث فيها.
{ما يتعلق بالمخاطبة؛ لو كان يُمازح والده أو والدته أو كبير السن، فيناده باسمه من باب الممازحة، وهو -أو هي- يتقبل هذا، فما الصواب؟}.
أي شيء فيه إدخال السرور على الوالدين أو على الناس ولا يتأثَّرون يفعله، بعضهم يُخاطب أحد مشايخ العلم في الخلوات، فيقول: يا تلميذي سأتواضع وأسألك سؤالًا؛ فهذه مداعبة، ولكن التوقير أمام الناس مطلب.
أحدهم يُخاطب والده ويقول: تعالَ وأنا أبوك واجلس عندي! فأبوه يسر ويفرح.
يُخاطب والدته مثلًا ويقول: يا عروسة، يا شابَّة؛ أمه تضحك وتُسر.
أي شيء يدخل عليهم السرور وليس فيه محظور شرعي فهذا من القُرب والطاعة.
{هل يكون ذلك أمام الناس؟}.
لا؛ إلا أمام خاصَّة الوالد يطمئن لهم، أو محارم الأم، فلا مانع.
المهم أنَّ الضابط: عدم الوقوع في المحظور الشرعي، وعدم جرح مشاعر الناس.
الصورة العاشرة: أن يحضر شخص مجلسًا من مجالس الناس، ثم يستأثر بالكلام، ولا يعطي فرصة للآخرين مع أنه في المجلس من هو أسن منه وأعلم منه ومن هو أولى منه بالكلام؛ فهذا يتحدَّث من ألف المجلي إلى يائه!
وهذا لا شك مما لا يليق؛ بل يستقبَح من العقلاء، وقد يُضطر بعض الحاضرين إلى زجره ونهره، فيقول له: اسكت، كفانا كلامك!
الصورة الحادية عشرة: الاشتغال بالجوال أو بحركات لا تليق بالعقلاء عند سماع المتحدث.
شخص يتحدث في مجلس والحضور مستمعون، بينما هذا يشتغل بالجوال، وكل الناس منصتون لهذا الشخص، المتأذِّي الأول هو المتكلم، فهذا ليس من المروءة وليس من الاحترام، فكل دقائق أنصت. أو تجد بعضهم يمسك السبحة! يا أخي أمسك وتأدَّب. أو تجده يفعل في الجلسة ما لا يليق إطلاقًا بالعقلاء.
قيل: إيَّاكَ وما يعتذر منه.
وعن علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أثر: "إيَّاكَ وما يسبق إلى القلوب إنكاره، وإن كان عندك اعتذاره".
يعني: لا تفعل فعلًا يحوجكَ إلى الاعتذار، حاول تحفظ نفسك من النقد ومن ذم الناس لك؛ فينبغي الإنصات للمتكلم وعدم العبث وعدم اللغو بقول أو فعل.
الصورة الثانية عشرة: عدم مراعاة أعراف الناس.
عندنا في الأقاليم لهم عادات، في الجنوب لهم عادات، وفي الشمال لهم عادات، وفي الشرق لهم عادات؛ وفيه بلاد خارج المملكة لهم عادات؛ فينبغي التقيُّد بعادات الناس التي لا تخالف الشرع، ولا تجرُّ فعل المحرَّم أو ترك واجب.
مثلًا: عند بعض الناس عادة على الطعام أنهم إذا جاءهم الضيوف لا يُمكن أن يجلسوا معهم، ولو كنتَ واحدًا ويدعوك رجل إلى بيته وأولاده ثمانية، وتجلس أنت وحدك إلى الطعام؛ فلا تُلح عليهم في الجلوس معك.
وأذكر أن الشيخ ابن باز -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- سُئل عن هذه العادة فقال: "في البخاري أن خيَّاطًا دعا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وأعطاه الطعام، وأقبل على خياطته"؛ فبعض العادات لابد أن تراعى.
وعند بعض الناس إذا أكلوا لا يتعجَّلون القيام قبل الضيف؛ لأنه إذا قام سيقوم الناس، فينبغي مراعاة هذا.
أو إذا قال لك صاحب الوليمة: هذا مكانك، أو يضعون مثلًا صدر الذبيحة أو رأس الذبيحة في مكان الضيف، وأنت لا تحب هذا الشيء؛ فينبغي أن تُراعي مشاعر الناس حتى لا تُكدِّر عليهم آدابهم وأخلاقهم.
{أحسن الله إليكم.
نختم بهذا السؤال: مَن أدركَ أن عنده بعض خوارم المروءة وقد اعتادها، كيف يُعدِّل هذه الخوارم ويتحصل على الأخلاق الفاضلة؟}.
في نظرية للفيلسوف الهولندي اسبينوزا، يقول: إن الشخص يُخلق كالحمل الوديع أو كالسبع المفترس.
كأنه يقول: إن الأخلاق جبلة ما تتغير، وهذه النظرية باطلة بالشرع والعقل والفطرة والتجارب الحسيَّة، فهو يُعود نفسه على الأخلاق الفاضلة، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «إنَّما العِلْمُ بالتَّعلُّمِ وإنَّما الحِلْمُ بالتَّحلُّمِ مَن يتحَرَّ الخيرَ يُعْطَهُ ومَن يتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ»[38]، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَن يَتصبَّرْ يُصبِّرْه اللهُ، ومَن يَستَغْنِ يُغْنِه اللهُ، ومَن يَستَعفِفْ يُعِفَّه اللهُ»[39]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69] .
ومما يُبطل النظرية السابقة أنَّ الآيات الكريمة جعلت للأعمال الصالحة اجرًا وثوابًا، وللسيئة وزرًا وعقابًا.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
---------------------
[33] صحيح البخاري (5865).
[34] مسلم (2401)
[35] رواه البخاري رحمه الله في صحيحه معلقا مجزوما به عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (3336).
[36] صحيح البخاري (1360).
[37] مسند أحمد (1783)، سنن الترمذي (3514)، صححه الألباني في صحيح الترمذي.
[38] المعجم الأوسط للطبراني (3/118)، حسنه الألباني في صحيح الجامع (2328).
[39] أخرجه أحمد (11091) واللفظ له، وابن حبان (3399)، والطبراني في ((المعجم الأوسط))(9046).