الدرس الخامس

فضيلة الشيخ د. عبدالعزيز بن محمد السدحان

إحصائية السلسلة

4618 11
الدرس الخامس

آداب و أخلاق

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد العزيز بن محمد السدحان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
حيَّا الله مَن حضر، ومن يسمع، ومن يرى.
{ما زلنا في سلسلة متواصلة عن الآداب والأخلاق، وسيتحدث فضيلة الشيخ في هذه الحلقة -بإذن الله- عن الخدم والعمَّال. فتفضلوا فضيلة الشيخ بتوطئةٍ عن هذا الموضوع}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
خلق الله الإنسان وجعل له المدارك ليُميز بها ما ينفعه وما يضره، وكان من حكمة الله -جَلَّ وَعَلَا- أن فاوتَ بينَ الناس، فسخر بعضهم لبعض، قال تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّ﴾ [الزخرف: 32]، وهذا من حكمة الله تعالى، ومن أسباب تكامل الحياة، فلو كان الناس كلهم أغنياء تتعطل سنَّة الحياة، ولو كانوا كلهم فقراء أيضًا كذلك، فمن حكمة الله تعالى أن جعل هذه الحياة متكاملة حسيًّا ومعنويًّا، فهذا طبيب يُعالج مريضًا، فالمرض أصبح مصدر رزق للطبيب، وهذا الفقير يعمل عند هذا الغني فأصبح هذا الغني مصدر رزق لهذا الفقير، وجاء في الشريعة أمور أخرى مثل الصدقات والزكوات وغيرها.
وجاء في المنظمات العامَّة للعمال وهي لوائح لحقوق العمال، وكل دولة لها نظم ولوائح؛ لكن ما جاء به الإسلام في حقوق العمل والعمال وحفظ ليس فقط حق العمال وإنما كرامته، وحفظ مروءة العامل، وحفظ مشاعر العامل أن تُمس أو تُجرَح؛ فهذه في الإسلام قد بلغت في الكمال غايتها، ولهذا جاءت الأحاديث بالوعيد الشديد لمن ظلمَ، وبخاصَّة ظلم الفقراء من العمالة وغيرهم.
ومن المعلوم أن حب التَّملك في طبع الإنسان، فالفقير يحب أن يتملَّك ماله حتى يسد حاجته وفاقته، والغني يُحب أن يتملَّك ويزداد، المهم أنَّ كل هذه الأمور من حكمة الله تعالى في تكامل الحياة.
وكما قلتُ لك سابقًا: مهما بلغت المنظمات العالمية والدوليَّة في تقنين لوائحها فلن تبلغ ما جاء به الإسلام من حفظ حقوق العمال الحسيَّة والمعنوية في حياتهم وبعد مماتهم إن كان لهم حقوق عند مَن عملوا عندهم.
{هلَّا ذكرتم لنا بعض قواعد التعامل مع الخدم والعمال؟}.
مما ينبغي أن يُعلَم أن هؤلاء بعضهم قد تركَ بلده، وترك زوجته، وترك أولاده، وترك والديه، ما تركهم حبًّا أن يأتي إلى بلاد غير بلاده، ولكنها الحاجة، جاؤوا من أماكن بعيدة، فقد يأتي بعضهم وامراته حاملًا ويرجع وقد بلغ ولده أحيانًا العاشرة أو أقل أو أكثر، وبعضهم يأتي هنا فيغيب عن أبويه السنوات، فيموت أبواه وهو في الغربة، وبعضهم يأتي هنا يجمع ما يكفي لعلاج أولاده والنفقة عليهم ويكدح ليل نهار في سبيل تحصيل لقمة العيش.
مثل هذه الظروف التي أَلَمَّت بهم وأحاطت بهم ينبغي لمن أفاء الله عليه بالرزق أن يُكثر من حمد الله تعالى وشكره، ويتذكر أن الذي ابتلاهم قادر أن يجعلنا في مكانهم ويصيرهم في مكاننا، ولله الحكمة البالغة، وإذا تذكر مَن عمل عنده خدم أنهم فارقوا بلادهم، بل إنَّ هذا المخدوم نفسه إذا سافر يحن إلى بلده وإلى أولاده وإلى ممتلكاته، فيُقال له: أنت ذهبت أيَّامًا وحننتَ، فهؤلاء تركوا بلادهم سنوات، فمن باب أولى وأحرى وأجدر أن يعرف الإنسان ما له من الحقوق، وأن يتقي الله تعالى في حقوقهم، وأن يتذكر نعمة الله تعالى عليهم، وأن يعلم أن هؤلاء قد يكونون مصدر شقاء له أو مصدر سعادة.
والإسلام دين الحقوق، أعطى كل ذي حقٍّ حقَّه ومستحقه، ومن عظمة الإسلام أنه حفظ الحقوق حتى للحيوان، بل حتى للجماد.
وبالمثال يتضح المقال: الحيوان له حقوق في الإسلام، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «فَإِذَا قَتَلْتُمْ فأحْسِنُوا القِتْلَةَ، وإذَا ذَبَحْتُمْ فأحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ»[48].
ومن حقوق الحيوان: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- رأى رجلين في السوق يتكلمان وهما على حمارين، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «ارْكَبُوا هَذِهِ الدَّوَابَّ سَالِمَةً وَابْتَدِعُوهَا سَالِمَةً وَلَا تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِيَّ»[49]، فأنت واقف تكلم صاحبك على الدابة! أرح الدابة وأنزل من فوق ظهرها.
حتى الجماد أعطاه حقَّه، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «فأعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ». قالوا: وما حق الطريق؟ قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «غَضُّ البَصَرِ، وكَفُّ الأذَى، ورَدُّ السَّلامِ، والأمْرُ بالمَعروفِ، والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ»[50] فمن باب أولى أنه حفظ حق الآدمي، وبخاصَّة حق هؤلاء العمَّال، فإهدار حقهم من الظلم، كما قلت: إنهم مصدر رزق أو شقاء، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ»[51]، فهذا الشخص ما أتاك إلا لحاجة ماسَّة، وآباؤنا وأجدادنا كانوا يُخبروننا أنهم كانوا يُسافرون لطلب المعيشة ولطلب الكد، والآن بفضل الله أصبح يُرحل إلى بلادنا بعد أن كانوا يَرحلون منها.
فمما يحرُم ظلمُ هؤلاء العمالة، والمعاملة القاسية لهم، فإذا كان الحيوان البهيم لا يجوز أن يُضرب بغير حقٍّ، أو أن يُحمَّل فوق طاقته، هو بهيمة وإدراكها محدود، فكيف بهذا الرجل الآدمي أو المرأة التي فارقت بلادها وأهلها لطلب الرزق والعيش! فينبغي الحذر كل الحذر من أن يُظلمون أو أن يُعاملون بمعاملة قاسية.
ومن أخطاء بعض الكفلاء أو بعض من يستقبل أولئك: يستقبله لعمل معيَّن، فيأتي العامل وهو يعرف طبيعة عمله -سائق أو حارس أو أي عمل مخصوص- ثم إذا أتى يُفاجأ أن عليه غسل السيارات، وعليه أن يكنس البيت، وعليه أن يذهب بأبناء الجيران إلى كذا، عليه إذا تأخر حارس المسجد أن يجلس مكانه، عليه إذا غاب صاحب المتجر أن يذهب محلَّه؛ فهذا لا يجوز إلا في حالين:
الحال الأولى: أن يرضى العامل عن ذلك بطيب نفس.
الحال الثانية: أن يعطيه عوض ما عمل به، جاء في الحديث: «وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ، فإنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فأعِينُوهُمْ»[52]، فهذا من الظلم وعدم الوفاء بالعهد والعقود، فهو أتى كسائق، وهذه الأعمال التي كلفته بها كالحراسة أو فتح المسجد؛ فليس لك الحق أن تلزمه بها، إلا إن تطوَّع هو.
{من المظاهر التي تحصل: أن يأتي بعضهم بخمسة أو ستة من العمالة ويقول له: ائتني بملغ شهري كذا، والباقي لك أيًّا ما تعمل}.
هذا فيه خلاف للنظام العام، وفيه افتئاتٌ على النظام ولا يجوز.
وبعضهم أيضًا -مع الأسف الشديد- لا يهمه طبيعة العمل، وقد يكون العمل غير جائز شرعًا، أو فيه ظلم للآخرين، وإذا تركهم هملًا ولم يراقبهم ولم يُراعي ما يعملون ولا طبيعة العمل ولا طبيعة اللوائح؛ فهذا افتئات ولا يجوز.
ولو قُدِّرَ أنَّ النظام يسمح بهذا فيُقال له: اذهب واشتغل حسب النظام العام، وأعطني كل شهر ألف ريال، وجاء عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها: "أنَّه كَانَ لأبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يُخْرِجُ له الخَرَاجَ، وكانَ أبو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِن خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بشيءٍ فأكَلَ منه أبو بَكْرٍ، فَقالَ له الغُلَامُ: أتَدْرِي ما هذا؟ فَقالَ أبو بَكْرٍ: وما هُوَ؟ قالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ في الجَاهِلِيَّةِ، وما أُحْسِنُ الكِهَانَةَ، إلَّا أنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فأعْطَانِي بذلكَ، فَهذا الذي أكَلْتَ منه، فأدْخَلَ أبو بَكْرٍ يَدَهُ، فَقَاءَ كُلَّ شيءٍ في بَطْنِهِ"[53]
الشاهد: إذا كان النظام يسمح وكان فيه كفالة رسميَّة، فإذا كان يُجيد أكثر من عمل، فيعمل في الليل في السباكة ويعمل في النهار في النجارة، يعمل يوم في الكهرباء ويوم في كذا، وعنده قدرة يتكسَّب، ويقول أنا أعرف من نفسي القدرة على أن أكسب أضعاف ما وعدته به؛ فهذا شأنه.
ومما يقع فيه بعض الكفلاء في ظلم العمالة: تأخير رواتبهم والمماطلة فيها، ورأيتُ مرَّة من المرات أربعة أو خمسة من العمالة كانوا جالسين، فأتى شخص منهم وأخبرهم بخبرٍ، فقاموا بسرعة جنونية. فقلت لهم: ماذا حدث؟ فقالوا: رواتب أربعة أشهر ما أخذوها.
فانظر ماذا فعلوا من فرحهم، ويُمكن أن يكون مجموع مرتباتهم في الأربعة أشهر لا يعادل مرتب الكفيل في شهر واحد!
فلا يجوز تأخير أجورهم، قال الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ»[54]، وهذا من باب المبادرة والاستعجال في أجرته، إلا أن يثق العامل في الكفيل فيقول له: يبقى مرتبي عندك خمسة شهور أو ستة وتعطينها مرة واحدة، وهذا بحسب الاتفاق والرضا.
ومع الأسف الشديد يشتكي بعض أفراد العمالة -إما آحادًا أو جماعات- من تأخير مرتابتهم، وهذا لا يجوز شرعًا ولا عقلًا، وهو مستقبح عرفًا.
{بعضهم يقول: إنَّ هؤلاء العمالة أنا أعطيهم الأكل والشرب والمؤنة اليومية، وهذا المرتب سأعطيهم إياه بحسب ما يحصل لي من أرباح المؤسسة مثلا. فما الحكم؟}.
هو بحسب الاتفاق، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]، العمال جاء بناء على ماذا؟ بناء على أن الإعاشة تُخصم من المرتب؟
فهذا المسكين على بساط واضح، أنَّ لك كذا وعليك كذا، الإشكال والظلم والإجرام أن يُبخَس بعض حقه إما قصرًا أو احتيالًا، لهذا ترى بعض العمال يريق ماء وجهه ويبكي من غبنٍ، يأتي إمام المسجد أو يُكلم أحد المسنين أو يكلم قريب كفيله أو يتذلل! فهذا لا يجوز شرعًا حتى لو كان كافرًا، لو كان ما كان، إذا كان ظلم الحيوان لا يجوز، فكيف بظلم الآدمي، وكيف بظلم المسلم؟ كيف تأخذ حقه؟!
والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- تعوذ من قهر الرجال، بعض العمالة يُصاب بقهر الرجال، ورأيتُهم غير مرَّةٍ تسابق عبراتهم عباراتهم من الغبن والقهر، وكم مرتب المسكين! لا يزيد عن خمسمائة ريال أو ستمائة ريال! أشياء بخسة بالنسبة لما أعطى الله كفيله، ومع ذلك يُماطل، فهذا لا يجوز.
وهناك نقطة أخرى تتعلق بمرتبات العمالة: وهي أن بعض الكفلاء يعطيهم المرتبات من زكاته، يعني هذا العامل له مرتب ألف ريال، وهذا الكفيل عنده عشرة عمال وزكاته عشرة آلاف ريال كل سنة، فيعطيهم زكاته كمرتبات، فهذا لا يجوز، فالزكاة يستحقها الفقير تملكًا دونَ معاوضة، والزكاة تكون للفقراء والمساكين، أعطِ العمال من حر مالك، أما الزكاة فهي زيادة على مكافآتهم.
بعض الناس يُخرج زكاته كجوائز لمسابقات يقيمها في الحي، أو مسابقات بين طلاب المدرسة، وقد يأخذ الجائزة شخص أبوه أغنى من صاحب الزكاة هذه، وهذا لا يجوز، فالزكاة لها أصناف معيَّنون محدَّدون بضوابط معروفة، فإعطاء العمال من الزكاة بقصد أنها رواتب شهرية فهذا أخطأ ف حق زكاته، ولم تُبرأ ذمَّته، فهذا الفقير يستحق الزكاة تملُّكًا دونَ معاوضة.
ومما يتعلق بهؤلاء العمال والخدم: أن بعض الكفلاء يُعاقب جميع العمالة بخطأ واحد، كأن يتلف عمالٌ جهازًا، أو سبب خسارة بتأخره عن عمله؛ فيؤخر الكفيل رواتب الجميع ويقسو على الجميع! فليس له الحق في ذلك، قال تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: 164]، وفي الحديث «إنَّ نبيًّا مِنَ الأنبياءِ قَرصتهُ نملةٌ، فأمرَ بقريةِ النَّملِ، فأُحْرِقَت، فأوحى اللَّهُ عزَّ وجلَّ إليهِ: في أن قرصَتكَ نملةٌ، أَهْلَكْتَ أمَّةً منَ الأُمَمِ»[55]، فبعض الناس يعاقب الجميع بفعل واحد، وهذا لا يجوز، فالأب إذا أخطأ أولاده ما يُعاقب الجميع، وإنما يُعاقب الذي أخطأ، وهذا الكفيل ربما يكون موظَّفًا، ولو أنَّ شخصًا من زملائه في الوظيفة أخطأ، فعاقبهم المدير أو الأمير أو الوزير بمنع العلاوة لتشكَّى الباقون وتظلَّموا ودعوا على مديرهم.
إذن؛ أحب للناس ما تحب لنفسك، واكره للناس ما تكره لنفسك.
إهمال دعوة مَن كان من غير المسلمين، وإهمال إصلاح عقيدة مَن كان في عقيدته لوثٌ وقوادح؛ فهؤلاء مساكين، وقد تكون البيئة عندهم بيئة جهلٍ، وليس هناك تنوُّر علمي عقدي خصوصًا، فيأتي إلى كفيله ويرى كفيله فيه من الحروز الشِّركيَّة عن حسن نية وطيب طويَّة، حتى أن بعض العمال يعلق خرقًا على سيارة كفيله، حتى أني سألت أحدهم له سيارة معلق خلفها خرق سوداء وزرقاء، فقال لي: السواء للجن، والزرقاء للعين، وهذه عن السحر!
فينبغي لمن كان عنده سائق أن يتنبه إلى ذلك، فبعضهم عن حسن نية يضع في مرآة السائق ميدالية عبارة عن عين أو كف، وفي الغالب أنها تكون من الاعتقادات، أو يربط خرقة في صدام السيارة الخلفي أو الأمامي، هو يفعل هذا عن حسن نية، فيُعلَّم الصواب، وينبغي لرب البيت أن يعلم مَن عنده من الخدم العقيدة الصحيحة.
والآن -والحمد لله- مكاتب الدعوة يفتح القائمون عليها صدورهم قبل مكاتبهم، فيها كتب مترجمة، وأشرطة مترجمة، ويعقدون ندوات بلغات القوم، ورأيت قبل أيام موقعًا فيه تطبيق يضع أعلام الدول، لو ضغطت على علم الدولة يخرج لك كتاب بلغة الدولة فيه أحكام الإسلام بأسلوب واضح.
على كل حال؛ فإصلاح عقائد الخدم ممن كان منهم متلوثًا في عقيدته أو كان غير مسلم بالكلية أمر مهم، وكان سلفنا يقطعون البحار في دعوة الناس للإسلام، والإسلام انتشر هناك بالتَّجار، والآن أتى إلينا في بلدنا أناس غير مسلمين، بعضهم عقائدهم متلوثة بعقائد شركية، فينبغي لرب البيت أن يستعين بالله ثم بوسائل التواصل من البرامج العلمية التي توضح العقيدة السليمة السمحة بأسلوبٍ بسيط وبلغة ذلك الخادم.
{بعض الكفلاء يتعمد الإتيان بمكفول كافر، ومن ثم يتجنب دعوته للإسلام، بحجة أنه يعمل ساعات أطول فلا يُصلي، أو لا يصوم. فما توجيهكم؟}.
يُقال: احرص على الإتيان بالمسلمين؛ لأن فيه تقوية لهذه الأسر المسلمة الفقيرة، وفيه زيادة في محبة أولئك المسلمين للإسلام، وتبصرهم للعقيدة السليمة، ومحبتهم لأهل البلد، وقد يكون هذا المسلم لديه أسرة كبيرة، بل إن بعض الخدم الذين عندنا هنا -كما سمعت- أنهم بنوا مساجد، فهناك بناء المساجد ليس كما عندنا من الضخامة، فهؤلاء بنوا مساجد بما أفاء الله عليهم، وأجرها يعود على من استقدمهم بنية إصلاح أحوالهم.
بعض الكفلاء النَّشاز سواء من أرباب البيوت أو ربَّات البيوت؛ يستحقرون العمال استحقارًا حتَّى يحتقر جنسيتهم ويتهكَّم عليها، أو يناديهم بأسماء الحيوانات ويزدريهم وينتقصهم؛ فهذا حرام حتى ولو كان غير مسلم، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ﴾ [الحجرات: 11]، والنداء هنا للمؤمنين، ولكن لا يجوز للمؤمن أن يسخر من هذا العامل المسكين الكافر؛ لأن هذا يكرهه في الإسلام، ويكرهه في القراءة عن الإسلام، فإذا كان مسلمًا فهذا أعظم شناعة، فاحتقار جنسياتهم واحتقار ألوانهم واحتقار ألسنتهم دليل على نقص إيمان الكفيل، ونقص في عقله ومروءته وأخلاقه، فينبغي أن يُعلم أن هذا لا يجوز.
وأبو ذر الصحابي الجليل قال: كانَ بَيْنِي وبيْنَ رَجُلٍ مِن إخْوَانِي كَلَامٌ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً، فَعَيَّرْتُهُ بأُمِّهِ، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ». فقال: يا رسول الله، علَى حَالِ سَاعَتي مِنَ الكِبَرِ؟ قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «نَعَمْ»[56]، فوصفه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بالجاهلية، وهذا ليس بالشأن الهيِّن، فينبغي مراعاة مشاعر هؤلاء العمالة المساكين.
قد يقول قائل: إذا راعينا مشاعرهم تكاسلوا!
نقول: هذا ليس بصحيح، احترم أشخاصهم وسيقومون بعملهم أتم القيام، وإذا أخلوا وتكاسلوا فهناك شروط عند المكاتب وهناك لوائح تنصفك ممن قصر.
{كثير من الكفلاء يحترم المكفول، ولكن الإشكالات تكون وقت المشاكل حينما يُخطئ المكفول. فكيف يتعامل الكفيل مع المكفول في ضوء المشكلة التي حصلت؟}.
الخطأ وارد من الكفيل ومن المكفول، ولكن كما تفضلت إذا كان الخطأ من المكفول فهذا الخطأ إما أن يكون عن عمدٍ أو عن حسن نيَّةٍ، فيُعرف هذا بالقرائن، فهذا الكفيل يعرف هل تعمد هذا العامل الخطأ، يعني سبق أن أخطأ فيه ونُبِّه، أو أنه شخص يُعرف منه الجد والاجتهاد والحرص والعناية ولكن زلَّت قدمه وارتكب خطأ، فلا يُعامل هذا الشخص كالأول، ولكن على افتراض الأمرين فالذي تكرر منه الخطأ فالكفيل له حق اتخاذ قرار ليعاقبه على حسب ما قصر إذا عرف أنه متعمد، أما الثاني الذي لم يتعمَّد فينبغي أن يراعي مشاعره ولا ينسى حرصه السابق، فهذا المسكين اجتهد ثم زلَّ وأخطأ.
وأنا أعتقد أن في لوائح المكاتب وبنود ما يتبع ذلك من الشروط أنَّ كل شيء موضَّح، ولكن بعضهم إذا أخطا العامل أساء، فقد يضربه وقد بصق عليه، وقد يسبه ويشتمه ويعيره ببلده أو بجنسيته أو بكذا؛ فهذا كله من خصال أهل الجاهلية.
تقدَّم أن بعض الكفلاء إذا أعطى العامل راتبه الشهري ألف ريال -مثلا- من ماله الحر، ثم أعطاه ألفًا أخرى أصلها زكاة، ثم يقول له: أنا أعطيتك راتب ثانٍ لإنجاز العمل؛ فهذا ليس حق في ذلك؛ لأن الزكاة يستحقها الفقير بلا معاوضة، وهذا أن يستغل هذا الضعيف، وهذا العامل لا يعرف أنَّ الألف الثانية من الزكاة، إنما هذا الكفيل ظلم هذا المسكين، بل ظلم نفسه وجنى على نفسه بهذه الخطيئة، وجنى على هذا المسكين بأن كلفه بعمل ليس ملزمًا به، بل يستحق المال المُعطَى دون عمل وهو الزكاة، وهذا -مع الأسف- يحصل من بعض الناس.
{بعضهم يقول: أنا لا أقول إن هذا راتب ثاني، ولكني أذكره إذا قصَّر وأقول له أعطيتك زيادة. فما توجيهكم؟}.
لا منَّة له عليه، فهذا شيء فرضه الله عليه ليعطيه لأصحابه، وفي الغالب إذا عرف العامل أن هذا الكفيل يعطيه المرتب ويعطيه الزكاة اجتهدَ، ولكن الإشكالية أنه يعطيه الزكاة عوضًا عن المرتب، يعني يأخذ رواتب عماله من زكاته، أو أن يعطيهم زكاةً ثم يطالبهم بمزيدٍ عمل من أجل ما أخذوا من هذا المال الذي هو في الأصل زكاة.
فائدة:
بعضهم يعطي الفقير زكاة ويقول: أكثروا الدعاء لوالدتي فهي الآن في المستشفى أو في البيت وتشتكي المرض، أو ادعوا الله لي.
وهنا لفتة علمية لطيفة من شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فيقول: "من أعطى الفقير صدقةً أو زكاة ثم طلب منه الدعاء خرج من قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورً﴾ [الإنسان: 9]"، أعطوا الفقير الصدقة، فإن دعا فلك وله، وإن لم يدعُ فأنت على خير.
فبعض الكفلاء يعطي العمال، ثم يقول: ادعوا الله لي، أو خصُّوا آخر ساعة في الجمعة للدعاء لي! فهذا فيه منَّة وفيه معاوضة عن الصدقة وعن الزكاة.
{هل ورد أن الصدقة سبب لشفاء المريض؟}.
صحيح، إذا تصدق بنية أنها لله -جَلَّ وَعَلَا- وأما العوض الذي يحصل فهذا عند رب العالمين، لكن الشأن أن تقول: خذْ وادعُ، يعني معاوضة، فهذا هو الإشكال، أما ما جاء في الحديث: «مَا نَقَصَ مَالُ عَبدٍ مِن صَدَقَةٍ»[57]، وكذلك «دَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ»[58]، فهذه نصوص عامَّة وخاصَّة، ولكن الإشكال أن تشترط على من تعطيه الصدقة أن يدعو سواء لك أو من أمرته بالدعاء له.
وأؤكِّد أنَّ بعضهم يكون نكالًا على العامل المسكين، لا يفرق بين صيف وشتاء، لا يفرق بين وقت صيام وإفطار، هذا عامل مسلم يصوم، فيأمره بعمل في حر الهاجرة، مع أنَّه لو أخَّر هذا العمل في الليل ما ضره شيء ولا ترتب عليه مفسدة.
يقول لهذا العامل المسكين: قم وغسل السيارات. أو يقول لهذه الخادمة: قومي اكنسي ساحة البيت في الشمس!
فيُقال لربة البيت: لو أخَّرتي هذا الشيء إلى بعد العصر إذا بردت حرارة الشمس، أو أخَّرتينه إلى الليل أو الفجر؛ فأنتِ مأجورة أجر عظيم، وهذه المسكينة العاملة ترتاح في عملها، وهذا الأمر سيُنفَّذ سواء في حر الظهيرة أو في برد الشتاء، فينبغي أن يُعرف أن هذا العامل المسكين أمانة في عنقه، وأن يرعاه حق رعايته.
وأُكرِّر مرَّة أخرى أنَّ الزيادة على أعمالهم دون عوض فهذا لا يجوز، فقد يأتي العامل على أن يعمل حارسًا، ثم يوظفه الكفيل في أعمال الأخرى، فلا يُمكن أن يغفل إلا وقت نوم أو دورة مياه، لكن أن يقول له الكفيل: اذهب بالأولاد إلى المدرسة، ثم اذهب الظهر وهات أولاد الجيران، ثم اذهب في الليل بأولاد الجيران إلى حفل زواج وانتظر حتى يرجعون! فهذا لا يجوز شرعًا إلا إذا رضي منك العامل، أو أعطيته عوضًا عن ذلك.
{هل من نصيحة عامَّة للكفلاء؟}.
يُقال لهم:
أولا: تذكروا أن هؤلاء الذين احتاجوا إليكم أن الله قادر على أن يحوجكم لهم
ثانيًا: تذكروا أن أجدادكم كانوا يرحلون ويهاجرون إلى بلاد في سبيل تحصيل لقمة العيش، وإذا قصَّ الأجداد على الأحفاد ذلك تعجَّب الأحفاد والأسباط عن هؤلاء المساكين، تركوا بلادهم سنوات، أتوا لطلب لقمة العيش.
ثالثًا: هذا المال الذي آتاك الله إياه أدِّ حقَّ الله فيه من النفقات الواجبة والزكوات، وأيضًا حق أولئك العمالة بلا منَّة من العامل؛ بل هو إجبار عليه بلا منَّة حتى يُبرِّئ ذمَّته.
رابعًا: أحسنوا إليهم إن الله يحب المحسنين، ترفَّقوا بهم، وخاصَّة إذا لم تروا تقصيرًا في العمل، وكما رأينا وسمعنا أن بعض الكفلاء بعدما يرحل العامل إلى بلده، فيذهب الكفيل ويزور أهل العامل في بلده، وتكون لقطات مؤثرة، فهذا رجل ثري أتى مع أمه إلى قرية في إحدى بلاد المسلمين الفقيرة لير خادمةً كانت عند أمه تخدمها ولما كان صغيرًا تراعيه، فرأت هذا الشاب أصبح الآن رجلًا، أو هذا السائق الذي أتى وهذا الشاب صغيرًا، فأتى إليه الشاب وأصبح متزوجا وله أولاد، فيأتي إلى القرية ويقابل سائقه، فهذه مواقف مؤثرة، ولا شك أن هذا فيه ترابط بين المسلمين، ومحبة وإزالة الشحناء والتعصبات القبلية وما شاكلها.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-----------------------
[48] صحيح مسلم (1955).
[49] أخرجه أحمد (15677) واللفظ له، والدارمي (2668)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (21).
[50] صحيح البخاري (2465)، صحيح مسلم (2121).
[51] صحيح البخاري (2739).
[52] أخرجه البخاري (30)، ومسلم (1661).
[53] صحيح البخاري (3842).
[54] سنن ابن ماجه (2443)، سنن البيهقي (11988)، صححه الألباني في صحيح ابن ماجه.
[55] سنن ابن ماجه (2628)، صححه الألباني.
[56] أخرجه البخاري (30)، ومسلم (1661).
[57] أخرجه الترمذي (2325)، وأحمد (18060)، صححه الألباني.
[58] حسنه الألباني في صحيح الجامع (3358).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ