الدرس السادس

فضيلة الشيخ د. عبدالعزيز بن محمد السدحان

إحصائية السلسلة

4618 11
الدرس السادس

آداب و أخلاق

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد العزيز بن محمد السدحان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
حيا الله من حضر، ومَن يرى، ومن يسمع، ومن بلغ.
{مازلنا في سلسلة متواصلةٍ مع الآداب والأخلاق، وسيتحدَّث فضيلة الشيخ عن أشياء يراها المسلم في حياته ويسمع عنها. هلَّا تفضلتم فضيلة الشيخ}.
الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد؛ نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ [الغاشية: 17]، وقوله: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُو﴾ [الأنعام: 11]، وقوله: ﴿أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: 50].
وفي حياتنا التي نعيشها نرى أشياءً في أنفسنا وفي بيوتنا وفي أسواقنا وفي مساجدنا؛ هذه الأشياء إمَّا نراها في كل يوم، أو في كل شهرٍ، أو نوازل تحصل بحسب ما يُقدِّر الله، ونسمع أشياء، ونسمع أصواتًا، ومع ذلك تمر هذه الأمور علينا دون أن نعتبر، ودون أن نتأثَّر، ودون أن نتأثَّر!
والذي يقرأ في سيرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وفي تربيته لأصحابه يجد كثيرًا من الأحداث والوقائع أنَّ كثيرًا ممَّا يسمعه الناس في حياتهم تُوظَّف فيما يعود عليهم بالنفع.
فمثل هذه الأمور أحيانًا تزيد الإنسان إيمانًا، وتكون رادعًا له عن تقصيرٍ في طاعة، أو حاثَّةً له في الإقدام على طاعة، وهلمَّ جرَّا.
وأذكر لكم بعض الأمور:
بما أنَّ الأمر يتعلق بما يُرى ويُسمع، فأقدِّم ما يُرى لأنه أبلغ مما يُسمع، وقد جاء في الحديث: «لَيْسَ الْخَبَرُ كالْمُعَايَنَةِ»[59]، وإن كان المسموع هنا يختلف، ولكن يجتمع في أن ما يُرى قد يُؤثر في النفس أبلغ مما يُسمَع، فهذا مما يتعلق بالأخبار.
ممَّا نراه في حياتنا مثلًا:
الأمر الأوَّل: منظر شهري يمرُّ علينا في كل شهر مرَّة، وهذا المنظر هو اكتمال رؤية القمر بدرًا، فإذا اكتمل القمر بدرًا فإن الناس ينظرون له بنظراتٍ مختلفة:
- الشعراء تنقدح قرائحهم في الوصف والتَّغزُّل وما شاكل ذلك.
- والبلاغيون تنفد محابرهم وتسيل أقلامهم في الوصف والتشبيه وما شاكل ذلك.
- وأهل السَّمر تطيب مجالسهم في الليالي المقمرة في الصحراء.
وكل هذا لا إشكال فيه إذا خلِيَ من المحاذير الشَّرعيَّة، ولكنها نظرة بعين البصر المجرَّد، أنَّ النَّظر إلى هذا المنظر البهي بعين البصيرة قبل البصر فهو نظر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- عندما رأى القمر مكتملًا قال: «هلْ تُضارُّونَ»[60]، أي: يصيبكم ضرر. أو «هلْ تُضَامُونَ» يصيبكم زحام «في القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ ليسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟». قالوا: لا. قال: «فإنَّكُمْ تَرَوْنَهُ يَومَ القِيَامَةِ كَذلكَ»[61]، وكما جاء في القرآن الكريم: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22، 23]، وقوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26]، قيل: الزيادة هي رؤية وجه الله تعالى.
إذن؛ كلما رأى الإنسان القمر مكتملًا ليلة البدر فربطَ هذا الاكتمال بالأمر العقدي، وهو أنَّ أعظم نعيم لأهل الجنة هو رؤية وجه الله تعالى، وهذه الرؤية ثابتة بالتَّواتر، وهناك كتب لأئمة أهل العلم مصنَّفة في الأخبار المتواترة في الرؤية.
الأمر الثاني: أيضًا يتعلق بالقمر، إذا رأينا خُسوفًا للقمر أو كُسوفًا للشمس، والغريزة تحب الاستطلاع، فتدفع الإنسان ليرى في المرصد أو بالعين المجردة، ولا مانع من ذلك لأن الإنسان يُحب الشيء المستغرب، وهذا أمر مألوفٌ للنفوس، لكن تغيب النظرة بعين البصيرة؛ لأنَّ النظر بعين البصر المجرد يشترك فيه جميع طبقات الناس حتى الحيوانات والطيور، أمَّا النظر بعين البصيرة فهي خاصَّة بأهل العلم والإيمان.
وكانوا في الجاهلية إذا حدث خسوف للقمر أو كسوفٌ للشَّمس قالوا: مات عظيم أو وُلد عظيم، لكن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- صحَّح هذا المسار وبيَّن الرؤية بعين البصيرة، والرؤية العقدية بقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ آيَتانِ مِن آياتِ اللَّهِ، لا يَخْسِفانِ لِمَوْتِ أحَدٍ ولا لِحَياتِهِ»[62]، وفيه إبطال اعتقاد الجاهليَّة، وأيضًا أنَّ القمر والشمس آيتان مخلوقتان مربوبتان والله ربهما، والله بارئهما، مخلوقتان والله خالقهما؛ لا ينخسفان لموت أحدٍ ولا لحياته.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «يُخَوِّفُ اللَّهُ بهِما عِبادَهُ، وإنَّهُما لا يَنْكَسِفانِ لِمَوْتِ أحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فإذا رَأَيْتُمْ مِنْها شيئًا فَصَلُّوا، وادْعُوا اللَّهَ حتَّى يُكْشَفَ ما بكُمْ»[63].
إذن؛ إذا رأينا كسوف الشمس أو خسوف القمر فينبغي أن نتذكر أن هذه الآية، تخويف من الله لعباده، ويسارع الإنسان إلى صلاة الكسوف والخسوف، مع ما جاء في السنة من أعمال الصدقات والعتق والتكبير والاستغفار، إلى آخر ذلك.
{هل صحيح أن الخسوف والكسوف يقعان بسبب ذنوب العباد؟}.
الأصل أنهما آيتان يخوف الله بهما مَن شاء من عباده، وبالتَّخويف يزداد الناس أوبةً وتوبةً وكفًّا عن المعاصي، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لَمَّا بلغه الخبر خرج يجر رداءه فزعًا، حتى قيل: كأنَّ الساعة قد قامت؛ وهذا يحصل خوفًا من العقوبة، فهذه الآية لتذكير الناس وتخويفهم حتى يرجعوا ويكفوا عمَّا وقعوا فيه من المعاصي، وكما قال بعض الشراح: إنها لتقريب علامات يوم القيامة.
{بعض الناس يقول: الكسوف والخسوف يكون معروف عند أهل الفلك والحساب. فكيف تكون لتخويف الناس إذا وقعوا في المعاصي؟}.
لا يمتنع أنّ الله أجرى سننًا كونيَّة كحصول الكسوف والخسوف ويُعلم ذلك عند أهل الفلك من درجات الشمس ومنازل القمر، ولكن يبقى النَّص هو الأصل الشرعي، مثل حصول الرعد، فقد جاء في الحديث عند الترمذي وغيره أنه يسوقه ملَكَ، ويقول أهل الفلك: إذا قابلت شحنة موجبة مع شحنة سالبة في السحاب حصل الرعد؛ فهذا لا مانع منه، ولكن الأصل هو النَّص الشَّرعي، والجمع وارد في مثل هذا.
الأمر الثالث: أمر نراه في بيوتنا، يرى الإنسان الأم تحمله وهو صغير وتخاف عليه؛ بل حتى ترى ذلك في بعض الحيوانات كالقطط تحنو على صغارها وتدافع عنهم، فالرحمة من طبيعة البشر ومن طبيعة الحيوانات، فإذا رأينا الأم تحنو على صغيرها، أو رأينا القطة تدافع عن صغيرها، وكذلك بقيَّة الحيوانات تدافع عن صغيرها فهذا منظر مألوف، لكن ماذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- عندما رأى امرأة تضمُّ رضيعًا لها إلى صدرها؟
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «أتُرَوْنَ هذِه طَارِحَةً ولَدَهَا في النَّارِ؟». قالوا: معاذ الله يا رسول الله، وهي تقدر على أن تفعل.
فلو رأى الإنسان ابن عدوٍّ له، وهو يصطلي في الشمس، فجبلته ورحمته تأبى على هذا الرجل أن يجعل هذا الطفل يبكي، حتى لو كان والد هذا الطفل عدوًا له، فكيف إذا كان صديقًا له؟ وكيف إذا كان قريبًا؟ وكيف إذا كان هذا الولد ولده؟
الشاهد هو قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «أتُرَوْنَ هذِه طَارِحَةً ولَدَهَا في النَّارِ؟». قالوا: لَا، وهي تَقْدِرُ علَى أنْ لا تَطْرَحَهُ. قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «للَّهُ أرْحَمُ بعِبَادِهِ مِن هذِه بوَلَدِهَ»[64].
فكلما رأى الإنسان هذا المنظر وتذكر رحمة الله زاد حبًّا لله، وزاد حسنَ ظنٍّ بالله، وزاد لله طاعة، وعن معصيته اجتنابًا.
{صحَّ عن بعض السلف أنه قال: "لو قيل لي أيكون الحساب عند الله أو عند أبويك لاخترت الله"}.
نعم، هذا جاء عن بعض السلف[65]، وهذا واضح من الدليل «للَّهُ أرْحَمُ بعِبَادِهِ»، فمهما بلغت رحمة الأمهات والآباء بأبنائهم وأطفالهم فلن تبلغ رحمة الله تعالى، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[66]، فبهذه الرحمة الواحدة يتراحم الخلق ويتعاطفون حتى ترفع الفرس حافرها عن صغيرها خشية أن تصيبه.
الأمر الرابع: أحيانًا يحصل أن الإنسان يُقابل شخصًا لا تألفه نفسه، فينفر منه وينقبض منه، وهذا يقع لأن كل إنسان له مشاعر وأحاسيس، ولكن الإشكال والمحظور أن يحكم على هذا الشَّخص، كأن يطعن في عدالته، يطعن في مُروءته ودينه، يطعن في عقيدته، فهذا النفور لا يشفع للنافر أن يطعن فيه.
ومن لطائف بعض أهل العلم -أظنه ابن قدامة- أن قال: "إذا رأيت من لم تقبله نفسك، أو وقع في نفسك بغض له، أو ما شاكله؛ فإنَّ هذا من الشيطان في الغالب، فبادر بالدعاء له، فإن أتاك فله حق الإسلام العام"، من رد السلام وتشميت العطاس، وبعض الناس يأتيك يقول: فلان أكرهه. تقول له: ماذا به؟ يقول لك: لا تقبله نفسي.
سبحان الله! وهل أنت مجهر دقيق لا يخطئ البتَّة؟! أو كلامك هذا مُنزَّل منزلة الحقيقة القطعيَّة؟! قد يكون هذا الرَّجل أتقى لله منك، وقد يكون بين جنبيه قلب فيه من الخير والتُّقى لو وُزِّعَ على سبعين من أمثالك لكفاهم.
فيُقال: إذا رأيتَ مَن لم تقبله نفسك فليس من حقكَ أن تطعن فيه أو تقدح فيه، أو تشوه سمعته، أو تطعن فيه بأي أسلوب من أساليب الطعن الحسيَّة أو المعنوية، قد يفرَّس الشَّخص ويكون عنده دُربَة وخبرة بالناس، وهذا له ضوابط مُعيَّنة.
{بعض الناس يقول: أنا لا أطعن فيه ولا أُشوِّه سمعته، لكن لا أتعامل معه بناء على انقباض نفسي. فما توجيهكم؟}.
ورد في كتاب "الروح" لابن القيم "أنَّ عُمَرَ بْنُ الْخَطَّابِ قال لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: يَا أَبَا حَسَنٍ، رُبَّمَا شَهِدْتَ وَغِبْنَا، وَرُبَّمَا شَهِدْنَا وَغِبْتَ، ثَلَاثٌ أَسْأَلُكُ عَنْهُنَّ، هَلْ عِنْدِكَ مِنْهُنَّ عِلْمٌ؟ قَالَ عَلِيٌّ: وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الرَّجُلُ يُحِبُّ الرَّجُلَ وَلَمْ يَرَ مِنْهُ خَيْرًا، وَالرَّجُلُ يُبْغِضُ الرَّجُلَ وَلَمْ يَرَ مِنْهُ شَرًّا. قَالَ: نَعَمْ[67]. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْأرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَما تَعَارَفَ منها ائْتَلَفَ، وَما تَنَاكَرَ منها اخْتَلَفَ»[68].
أحيانًا الإنسان ينقبض ولا يحب أن يتعامل مع شخص معين، ولكن لا يطعن فيه ولا في سمعته أو مروءته، قد لا يرتاح له نفسيًّا، لكن لا يقل عنه أنه لا خير فيه أو أنه فيه من اللؤم.
أما قضية الانقباض النفسي فقد يكون مثل الطعام أو الشراب، قد ترغب في هذا الطعام، والآخر يأنف منه حتى لو كان جائعًا.
الأمر الخامس مما نراه: بعض الناس إذا رأى مُبتلى قد انقلبت سيارته، يقول: هذا السائق طائش، هذا السائق مجنون، هذا متهور، وهذا...، وهذا...، وقد يشتمه ويسبُّه، إلى أخره...، وهذه ليست هي النَّظرة الشرعية، قال -عليه الصلاة والسلام: «مَنْ رَأَى صَاحِبَ بَلَاءٍ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا إِلَّا عُوفِيَ مِنْ ذَلِكَ»[69]، فبعض الناس يستعمل كل القواميس المتعلقة بالحوادث، لكنه يغفل عن الأدب الشرعي في أن يحمد الإنسان ربه أن عافاه مما ابتلى به الآخرين.
وانظر إلى أدب الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لَمَّا وقعت العقوبات على أقوامهم ما شمتوا، فقال نبي الله صالح: ﴿وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾ [الأعراف:79]، وقال شعيب: ﴿وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ [الأعراف:93]، فالإنسان يحمد ربه على العافية، ولا يشمت في مُبتلى، ويتأدَّب بالآداب الشرعية في كل شؤون حياته.
الأمر السادس مما نراه: عند زيادة المريض، فنحن نرى في حياتنا زيارة المرضى، فتجد بعض زوَّار المرضى لا يُحسن التَّعامل مع المريض، وورد في بعض كتب المالكية -عليهم رَحِمَة اللهُ- أن أحدهم زار مريضًا من أئمَّة المالكيَّة فأخذ يذكر عنده أن فلانًا مات بسبب ذلك المرض، فلان تعاظم مرضه فمات، فهذا الإمام كأي إنسان له مشاعر، فقال له: "يا فلان إذا عدتَّ مريضًا فآنسه وتفاءل عنده، ولا تذكر عنده ما يُكدره، وإذا خرجتَ فلا تعُد إلينا".
لأنَّ هذا زيارته نكدٌ وكدرٌ، ولهذا فإنَّ بعض الناس إذا زارَ مريضًا؛ تجد المريض يشعر بتحسُّن وراحة، وقد لا يكون له رغبة في الأكل فيأكل، أو لا يرغب في الشرب فيشرب؛ لأنَّ بعض الناس يُحسن التعامل مع المريض، بتفاؤل الخير، وإدخال السرور والحبور عليه.
وكان أحدهم مريضًا، فقال: أنا أخاف من الموت، وهذا المرض أمره محتوم، ولكن ما بعدَ الموت أخافه.
الإمام سحنون من أئمة المالكيَّة عاد ابن القصار، وكان ابن القصار -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في أثناء زيارة سحنون له في قلق وفزع، كأنَّه عرف أجله قد قرُبَ، فقال له سحنونه -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "مَا هَذَا الْقَلَقُ؟ قَالَ لَهُ: الْمَوْتُ وَالْقُدُومُ عَلَى اللَّهِ. قَالَ لَهُ سَحْنُونٌ: أَلَسْتَ مُصَدِّقًا بِالرُّسُلِ وَالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَأَنَّ أَفْضَلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، وَالْقُرَآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَأَنَّ اللَّهَ يُرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، وَلَا تَخْرُجُ عَلَى الْأَئِمَّةِ بِالسَّيْفِ، وَإِنْ جَارُوا. قَالَ: إِي وَاللَّهِ، فَقَالَ: مُتْ إِذَا شِئْتَ، مُتْ إِذَا شِئْتَ"[70].
فانظر إلى تثبيت العالم، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَن أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ، أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ»[71]، ومن مات على التوحيد والسنة فهو على خيرٍ، جعلنا الله وإياكم ممَّن طال عمره وحسن عمله، وقبضه الله على توحيدٍ وسنَّةٍ وهو راضٍ عنه.
تجد بعض المرضى إذا علم أن فلانًا سيزوره تعذَّر منه، هو يُحب الزيارة، ولكن لأنَّ هذا الزَّائر العائد يُثقِّل عليه بكلامه.
فينبغي لمن عاد المريض، ورأى المرضى سواء يعرفهم أو لم يعرفهم أن يتفاعل معهم بإدخال السرور والحبور عليهم.
الأمر السابع: أحيانًا في حياتنا نرى أشياء نتعاظمها، يعني طائرات ضخمة، إذا رأينا المحيط، أو رأينا الجبال الهائلة، أي شيء عظيم يُعجَب الإنسان بضخامته وبعظمته، فمثلًا وأنت في الطائرة تمر في خلال سبع ساعات على المحيط الأطلسي حتى تصل أمريكا، انظر إلى عمق الماء، وإلى ما في هذا الماء من الكائنات، وهذه الجبال الضخمة وارتفاعها وما فيها من الحيوانات، وكما قال الجولوجيين: إن جذر الجبل داخل الأرض مثل طوله، فهذه الجبال ضخمة جدًّا.
فإذا نظرت إلى هذا تذكر عظمة الله تعالى، وهذا الكوكب الذي نعيش فيه واحد من كواكب لا يعلم عددها إلا الله -جَلَّ وَعَلَا- حتى قرأت في بعض المجلات الفلكيَّة أنَّ كوكب الأرض عند الشمس مثل بيضة عند سلَّة بيض، وأن كوكب زحل عند المشتري كبيضة إلى سلة بيض، إلى أن وصل إلى مجرة درب التبانة وقال: إنها كذرَّة واحدة في صحراء واحدة كلها رمال، قال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ﴾ [الزمر: 67]، فالإنسان يتعاظم هذه الأشياء.
أعطيك مثالًا: هذه العمارات الضخمة ناطحات السحاب، إذا كنت في الطائرة تراها كأعواد الثقاب -صغيرة جدًّا.
وأذكر أن أحد رواد الفضاء يقول: لَمَّا خرجنا من الغلاف الجوي، كلما تباعدنا تتضح صورة الكوكب الضخم، حتى رأيناه من بعيد كالكرة الضخمة، فعجبتُ أن هذا الكوكب الذي فيه الحروب والدماء وفيه كذا وكذا؛ وهو يعتبر يسير في هذا الملكوت الهائل. ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ ، فإذا تعاظمت شيئًا فتذكر عظمة الله تعالى.
الأمر الثامن: أحيانًا نرى في حياتنا فيما يتعلق بالآداب تصرفًا خاطئًا، من الابن مع أبيه، أو من أخ مع أخيه، أيًّا كان هذا التصرف، فأحيانًا بعض الناس يُسيء التعامل مع المتصرف فيزجره، فيكون هذا الزَّجر مُرسِّخًا في نفسه، وهذا الشخص يُعيد الخطأ من باب العزَّة بالإثم؛ لأن الناصح له والمقوِّم له أخطأ في تصرُّفه.
فيُقال: إذا رأيت تصرُّفًا خاطئًا فتلطَّف في تعديل الخطأ، طبعًا هناك أشياء يكون فيها شدَّة، فلابدَّ أن تتصرف بحكمة، فالشدة تكون في مواضع الشدَّة، واللين في موضع اللين، لكن أن تضع الشدة في موضع اللين والعكس فلا.
يقول الشاعر:

........................................ ... مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ في مَوْضِعِ النَّدَى

فبعض الناس لا يحسن التصرف، أخطاء قد يكون علاجها بكلمة أو بنظرة، تجده يُقيم الدنيا ولا يُقعدها بالكلام والعتب والتوبيخ، وأحيانًا يصل إلى السَّب، فهذا لا يُصلح وإنما يُفسد، ويهدم ولا يبني، ويُفرق ولا يجمع، فأحسن التصرف.
والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لما جاءه الغلام قال: يا رسول الله، يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا. فهذا غلام طلب أمرًا شنيعًا، ولكن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- استخدم معه أسلوب القلب -كما يُقال في علم الجدل والمناظرات- وهو أن يجعل السائل مسؤولًا، وهذا من أبلغ أساليب الإقناع، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ما قال له: حرام؛ وقلكن قال: «أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟»، فأصبح السائل الآن مسؤولًا. فقال: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ. قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟». قال: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ».
وفي حديث جابر أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- عدَّد فقال: لأمك، لابنتك، لزوجتك، لعمتك، لخالتك...، وكل هذا والشاب يقول: معاذ الله، فلما انقطعت حجَّة الشاب قال: يا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ادعُ الله لي، فوضع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يده على صدره وقال: «اللَّهُمَّ كَفِّرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ»[72]، يقول الصحابة: "فلم يَكُن بعدُ ذلِكَ الفتَى يَلتَفِتُ إلى شيءٍ".
القصد هو الإصلاح بالأسلوب الحكيم، تجد بعض الناس يقول: باللين دائمًا، أو بالشدَّة دائمًا؛ فهـذا غير صحيح، وإنما الصحيح هو الأسلوب الحكيم، وهو وضع الشي في موضعه.
وبعض الأولاد في المدرسة لو تتكلم معه بشدَّة ازداد غيُّه وعناده، وبعضهم تنظر إليه نظرة فقط فيها عتاب المشفق المحب يرتدع، وبعض الناس لو تقول له أمام الناس: أنت أخطأتَ وأنت كذا وكذا؛ قد يعاند ويُصر! فالأسلوب الحكيم من لطيف التربية.
إذا أتاك الابن وأعطاك القلم باليسار، فأحيانًا تقول له: هات باليمين، سيعطيك باليمين، ولكن إذا زجرته صحيح أنه قد يتأثَّر، لكنه قد يكرهك أو يعارضك في غيبتك، ولكن إذا أعطاك باليسار فقلت له: أنتَ الآن يا ولدي سوَّيتَ خطأً، ولا تخبره عن الخطأ، وتقول له: تذكَّر وحاول أن تكون ذكيًّا أن تعرف الخطأ. فإذا أصاب وقال: نعم، الصواب أن أعطيك باليمين؛ فتشجعه وتدعو له، فتلك الساعة يُحب هذا الأسلوب الذي رآه منك، ويتعوَّد على الصواب، حتى لو أعطاه أحدًا باليسار فسيطبِّق ما سمع منك ورآه.
الأمر التاسع: وهو أخٌ من الرَّضاعة لِمَا سبق. إذا رأيتَ تصرُّفًا طيبًا من الصغير، فينبغي أن تشجِّع الصِّغار، سواء كانوا من أبنائنا أو من قرابتنا، أو أيًّا كان من الجيران، حتى لو لم تعرف.
أعطيك مثالًا: رجل دخل في صالة انتظار في مطار أو ما شاكله، فدخل مسنٌّ فقام أحد الصغار وأجلس هذا المسن مكانه؛ فينبغي لمَن رأى هذا المنظر أن يدعو للصغير وأن يُثني عليه؛ لأن هذا عمل طيب، وما يتركه يذهب هكذا، فهو لا شكَّ أنه أصاب، وينبغي لمن رآه أن يستغل أن يوظِّف هذا الأمر.
وأعجبني هذا الشاب لَمَّا كنَّا في وليمة قام وأحضر حذاء والده وقدَّمه عند قدميه، فقال أحد الحاضرين: بارك الله فيك وترى برَّ أبنائك لك، وهذا عمل طيب؛ فهذه كلمات تؤثِّر فيمن حضر وسمع.
أحيانًا شخص يدخل في محل تجاري كبقالة، وهو رجل مُسنٌّ معه بضاعة، وأمامه شاب مع بضاعة، فالشاب هذا لَما رأى المسن قام وقدَّمه عليه، فهذا يستحق الشُّكر على فعله، وكل مَن حضر وسمع يتأثر.
وفي حياتنا تمر علينا أمور كثيرة، ومع الأسف نتجاهل الثناء عليها، مع أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- كان إذا رأى خصالًا حميدة مدح صاحبها، كقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- للأشجِّ بن عبد قيس: «إنَّ فيكَ خَصْلتَيْنِ يُحِبُّهما اللهُ الحِلمُ والأناةُ»[73]، فينبغي للإنسان أن يحمد ويُثني بقدر، فلا يُبالغ فيخرج عن الحد الشرعي، وأيضًا لا يجفو ولا يبخل، فكلمة الثناء قد تغيِّر تاريخ حياة الشخص.
الأمر العاشر: يرى الإنسان وسائل التَّقنية الهائلة هذه، ويرى مواقع بالملايين، فيتعجَّب من الشبكة هذه، ففيها علم الشريعة، وعلم الفلك، علم الجولوجيا، علم الفيزياء، وعلم الكيمياء، علم النفس، علم الاجتماع، علم الرياضيات؛ بجميع اللغات وبالصُّور والصوت، شيءٌ هائل، لو عُمِّرَ الإنسان عمرَ نوحٍ -عليه السلام- لم يستطيع أن يرى ويسمع ويقرأ كل ما في هذه الشبكة، لأنه شيء هائل يتعجَّب منه الإنسان، بضغطة زر ترى آلاف المعلومات، فإذا رأى الإنسان هذا الكم الهائل يهول أمره في نفسه إذا تذكر قوله تعالى: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 76]، ثم تذكر أن هذه التقنية والآلات من صنع البشر، وتذكر أن صانعها من صنع الله ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النمل: 88]، وتذكر أن هذه المخلوقات كلها مردها إلى الله.
فإذا كانت كل هذه المعلومات بكل هذه اللغات؛ فإن الله تعالى يقول: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلً﴾ [الإسراء: 85]، وكما قال الخضر -عليه السلام- لموسى -عليه السلام- لما جاء طائر ونقر البحر: "يا موسى ما علمي وعلمك عند علم الله إلا كما أخذ الطائر من البحر"، قال تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي﴾ [الكهف: 109]، وقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [لقمان: 27].
الشاهد: أنَّ التفكر في هذه الشَّبكة ينبغي أن يزيد العبد إيمانًا بربه، وتعظيمًا لشأن الله، فوسائل التواصل هذه سواء كانت المقروءة أو المسموعة أو المرئية؛ كل هذه الأمور من صنع الله الذي أتقن كل شيء.
فكل هذه المخلوقات من خَلْق الله تعالى، وكل هذه المعلومات يسيرة عند علم الله تعالى، فينبغي إذا رأينا مثل هذه الأمور أن نربط هذا الأمر بأمر الاعتقاد، أن كل هذه الأمور يسيرة عند الله تعالى، وأن كل هذه العلوم العظيمة هي يسيرة، وما أوتينا من العلم إلا القليل، القليل، القليل.
الأمر الحادي عشر: إذا رأى الإنسان في منامه أشياء يأنس بها، أو أشياء مفزعة فهناك آداب، فأحيانًا يرى الإنسان رؤيا فيخشى أو يخاف منها؛ لأنها مفزعة ومخيفة، وقد يبكي ويصرخ منها.
فيُقال: الآداب الشرعية إذا رأيت ما يُفزعك ويُخيفك:
- أن تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.
- أن يتعوَّذ من شر تلكا لرؤية.
- أن يتفل عن يساره ثلاثة.
- أن يقوم ويتوضأ ويصلي ركعتين.
- إذا عاد إلى فراشه يُغيِّر الجنب الذي كان عليه.
- لا يُحدِّث بها أحدًا ويُحسن الظَّن بالله ويتفقَّد نفسه.
- إذا رأى ما يُحب يُحدِّث بها مَن يُحب، فبعض الناس يحسد ويتغيَّظ إذا رأى أن أخاه رأى رؤية طيبة، ولهذا كان من فقه يعقوب -عليه السلام- أن قال ليوسف: ﴿قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدً﴾ [يوسف: 5].
ثم إيَّاك والعجب إذا رأيت ما تحب في المنام، فإذا رأى الإنسان نفسه في صورة بهيَّة فلا يأخذه العجب، قال الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- لما أُخبر أنه رُئِيَ في المنام له كذا وكذا...، فقال: "الرؤيا تسرُّ المؤمن ولا تضرُّه".
ولما قيل لسفيان: رُئيَ فيك كذا وكذا، قال: "نحن أعلم بأنفسنا من أهل الرؤى"، وهذا تواضع من العلماء.
فإذا رأى الإنسان ما يحب في منامه فيُحدِّث به مَن يُحب، وليطلب تفسيرها عند عالم أو ناصح، ولا تقص رؤياك إلا على عام أو ناصح، وليس كل مَن تصدَّى لتعبير الرؤى يُسأل، فقد يتصدر الجاهل ومَن لا يُعرَف بعلم، ولا شكَّ أنَّ هناك من يحذق التعبير، فالإنسان لا يسأل إلا مَن كان متوثِّقًا أنه عالمٌ أو ناصح.
{هل يُشرع السعي لطلب تعبير الرؤيا؟}.
لا، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- كان يقول: «هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا؟»[74]، يعرض هذا على من يحضره، ولا مانع أن يسأل الإنسان عن رؤياه إن كان فيها نوعُ إيهام فيستوضح، وبعض المعبِّرين -ما شاء الله تبارك الله- عنده فراسة وبُعد نظر وتوفيق من الله -جَلَّ وَعَلَا.
{بعض المعبرين يعطي تعبيرًا خاطئًا أو تعبيرًا فيه إشكال أو فيه اتِّهام. فما توجيهكم؟}.
نعم، بعض الناس -نعوذ بالله- يوظِّف عصبيَّته وهواه إلى تعبير الرؤى، فإذا أتى أحد ورأى رؤيا يتكلَّف ويتعسَّف في ليِّ عنقها حتى توافق ما يهوى أو ما اشرأبَّت به نفسه، ولو كان يعرف أنها تخالف ولكن من باب التَّكلُّف.
قال الشافعي: "لا يستدل برؤيا في الأحكام إلا ضعيف المنَّة"، فليس كل ما يراه الإنسان حقًّا، وحتى لو كان حقًّا ما ينبغي أن يُجعل كقطع النص الشرعي، ولكن يستأنس بها.
والآن بعض الناس أصبح كل ما رأى في المنام شيئًا قال عنها رؤيا وطلب تعبيرها، وابن الصلاح له كلام لطيف في فتاواه لما سئل عن الفرق بين الرؤيا وحديث النفس وأضغاث الأحلام، فذكر أن حديث النفس أن يرى الإنسان ما نام عليه، يعني شخص مصاب بالفالج -البرد الشديد- فيرى في المنام ثلجًا وأنهارًا وماءً، أو يكون مصابًا بالحرارة الغريزية فيرى جمرًا وشمسًا ونارًا؛ ففي الغالب أن هذا حديث نفس.
أما أضغاث الأحلام فهو أن يرى الشخص أشياء متناقضة، جاء رجلٌ إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فقال: يا رسول الله، إني رأيت رأسي قد قُطعت وتتدحرج وأنا أتبعه. فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «إِذَا لَعِبَ الشَّيْطَانُ بِأَحَدِكُمْ فِي مَنَامِهِ فَلَا يُحَدِّثْ بِهِ النَّاسَ»[75].
أما الرؤيا المنامية الصادقة تخلو من هذا وهذا، والعلم عند الله تعالى.
{ننتقل الآن إلى القسم الآخر، وهو ما يُسمَع}.
أنا سأذكره باختصار؛ نحن نسمع في حياتنا أصواتًا مختلفة، وجاء الشرع بكل ما يُصلح الناس وفيه خير لهم، ومن ذلك ما يتعلق بالأصوات، فمثلًا:
الأمر الأول: إذا سمعت صوت القارئ فأنصت، قال تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: 204].
وهناك فرق بين السامع والمستمع:
يُقال في الأحكام الفقهية: إذا مرَّ القارئ بسجود التلاوة؛ فالأفضل أن يسجد مَن كان مستمعًا، أما من كان سامعًا عرضًا فله الخيار.
فأحيانًا يقرأ القارئ، وهذا يُكلم هذا، وهذا يكلم هذا، وهذا منافٍ للأدب الشرعي، أما لو شخص تكلَّمَ وهناك أشخاص يتهامسون؛ فهذا لا يليق بالأدب، فكيف إذا كان يقرأ كلام الله -عز وجل؟!
فمن باب أولى وأحرى وأجدر أن يُنصت.
الأمر الثاني: إذا سمعنا صوت الأذان، فينبغي لنا المتابعة؛ لأن فيه أجر عظيم، فمن أجور متابعة المؤذن حصول الشفاعة، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «إذا سَمِعْتُمُ المُؤَذِّنَ، فَقُولوا مِثْلَ ما يقولُ»[76]، فالمؤذن ما يستغرق إلا دقيقة أو دقيقتين.
وذكر ابن حجر في الفتح عن ابن جرير قال: كانوا في الزمن الأول يُنصتون للأذان كإنصاتهم للقارئ"، حرصًا منهم على متابعة المؤذن.
وللشيخ ابن باز -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- كلمة جميلة، يقول: "لا يَترُك متابعة الأذان إلا محروم"، فأنت الآن تسمع الأذان ولا يكلفك إلا أن تردد فقط، فلا تحرم نفسك من الخير.
ومن الأساليب في تربية الصغار إذا كان الإنسان في مجلسٍ يتكلم ثم أذَّن المؤذِّن أن يذكِّر من حضر بالأذان، إذا كان مع أولاده أو مع الصغار، فيقول: نصمت الآن من أجل أن نتابع المؤذن، ويكون هذا من أسباب الترسُّخ في أذهانهم.
الأمر الثالث: إذا سمعنا صوت الرياح، فجاء في الحديث: «اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هذِهِ الرِّيحِ، وخَيْرِ مَا فِيهَا، وخَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ الرِّيحِ، وَشَرِّ مَا فِيهَا، وشرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ»[77].
الأمر الرابع: إذا سمعنا صوت المطر أو رأيناه، فجاء في الحديث: «اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعً»[78]، وفي حديث آخر عند أبي داود: «مطرنا بفض الله ورحمته»، وإذا كثر المطر وخشي الضرر قال: «للَّهُمَّ حَوَالَيْنَا ولَا عَلَيْنَ»[79].
الأمر الخامس: صوت الرعد، فورد عن الزبير -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أنه كان إذا سمع صوت الرعد قال: "سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته"، وليس هذا ملزمًا، لأنَّه من كلام الصحابي، ولعلَّ المناسبة ظاهرة بين التسبيح وصوت الرَّعد بنص الآية.
الأمر السادس: إذا سمعنا صوت الديكة عند الصياح، فينبغي أن تسأل الله من فضله فإنه رأت ملكًا، قال -صلى الله عليه وسلم: «إذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ؛ فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكً»[80]، وهذا خاصَّة عند أصحاب المزارع، أما مَن سمع صوت الدِّيك في التسجيل أو في المذياع فلا ينطبق عليه ما قلنا.
الأمر السابع: إذا سمعنا صوت نباح الكلاب، فقد جاء في الحديث: «وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحِمَارِ فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهُ رَأَى شَيْطَانً»[81]، وجاء في بعض الألفاظ «إِذَا سَمِعْتُمْ نُبَاحَ الْكِلَابِ وَنَهِيقَ الْحُمُرِ بِاللَّيْلِ فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ»[82]، فالنص جاء بالعموم وبالخصوص، فيكون في الليل آكـد.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- عند قوله تعالى: ﴿وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾ [الفلق: 3]: "الغاسق: هو الليل إذا أظلم، وإنما خُصَّ التَّعوذ من الشيطان في الليل لأن سلطان الشيطان في الليل أقوى من سلطانه في النهار"، وقد جاء في الحديث: «لَا تُرْسِلُوا فَوَاشِيَكُمْ وَصِبْيَانَكُمْ إِذَا غَابَتْ الشَّمْسُ حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْبَعِثُ إِذَا غَابَتْ الشَّمْسُ حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ»[83].
الأمر الثامن: إذا سمعنا نهيق الحمار، فقد جاء في الحديث: «وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحِمَارِ فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهُ رَأَى شَيْطَانً»[84].
الأمر التاسع: إذا سمعنا مَن يغتاب، فبعض الناس يُخطئ، فيتركه حتى ينتهي من غيبته ثم يقول: هذه غيبة؛ لا، تلطف في صرف الحديث عن مجراه، إما أن تقول له: يا فلان لو ذكرتَ لنا خبر كذا أو كذا...، قد يفهم مرادك فيصرف الحديث عن وجهه، وقد لا يفهم، فبيِّن له أن هذه غيبة حتى لا يستمر فيأثم المتكلِّم والسَّامع.
الأمر العاشر: إذا سمعتَ فائدةً علميَّة فبادر بنقلها إلى الآخرين حتى تتسع دائرة النفع، ويُؤجر من حدَّثك بها، وتُؤجر أنت ومَن حدَّث بها مِن خلفك، لا ينقص من أجورهم شيئًا، فكم نسمع من الفوائد سواء في مجالسنا أو من المذياع، أو مما نرى؛ فزكاة العلم العمل به وتبليغه إلى الآخرين، والله تعالى أعلم بالصواب.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-------------------------
[59] أخرجه ابن حبان في ((المجروحين)) (1/183)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (6943)، وابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (1/200)، صححه الألباني في صحيح الجامع (5374).
[60] أخرجه البخاري (6573)، ومسلم (183).
[61] أخرجه البخاري (6573)، ومسلم (2968).
[62] أخرجه البخاري (1044) واللفظ له، ومسلم (901).
[63] صحيح مسلم (911).
[64] صحيح البخاري (5999).
[65] جاء عن حماد بن سلمة " والله لو خيرت بين محاسبة الله لي وبين محاسبة أبوي ، لأخترت محاسبة الله وذلك لأن الله أرحم بي من أبوي" سير أعلام النبلاء ( ٤٤٩/٧).
[66] صحيح مسلم (2752).
[67] المعجم الأوسط للطبراني (5378).
[68] أخرجه البخاري (3336)، مسلم (2638).
[69] سنن الترمذي (3431) واللفظ له، سنن ابن ماجه (3892)، حسَّنه الألباني في صحيح الترمذي وصحيح ابن ماجه.
[70] سير أعلام النبلاء (4/ 64)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 345).
[71] أخرجه البخاري (6508)، ومسلم (2686).
[72] المعجم الكبير للطبراني (7679)، صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/712).
[73] صحيح مسلم (17).
[74] صحيح البخاري (1386).
[75] صحيح مسلم (2268).
[76] صحيح مسلم (384).
[77] أخرجه الترمذي (2252) واللفظ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (10769)، وأحمد (21176)، صححه الألباني.
[78] صحيح البخاري (1032).
[79] أخرجه البخاري (1014)، ومسلم (897).
[80] رواه البخاري (3303) ومسلم (2729).
[81] رواه البخاري (3303) ومسلم (2729).
[82] رواه أبو داود (5103)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
[83] صحيح مسلم (2013).
[84] رواه البخاري (3303) ومسلم (2729).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ