الدرس الحادي عشر

فضيلة الشيخ د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

2100 12
الدرس الحادي عشر

القواعد الحسان المتعلقة بتفسير القرآن

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ فهد سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاك الله يا شيخ عبد الرحمن، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، نسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا إخلاص النية في القول والعمل، وأن يجعلنا مباركين أينما كنَّا.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الستون: أنواع التعليم القصصي في القرآن)}.
الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وأجزل له المثوبة يقول: (من قواعد التعليم التي أرشد الله إليها في كتابه، أن القصص المبسوطة يجملها في كلمات يسيرة ثم يبسطها، وأن الأمور المهمة ينتقل في تقريرها نفيًا وإثباتًا من درجة إلى أعلى أو أنزل منه)، وهذا بحسب المقام.
وثَمَّ سؤالٌ يُطرح هنا: ما الفائدة من الأسلوب القرآني؟
بيَّن الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنَّ هذا الأسلوب مُفيد مِن وجهين:
الوجه الأول: تشويق القارئ لمعرفة تفاصيل القصَّة، فإنَّ القارئ لكلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- والسامع لكلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- إذا أُجمِلَت القصَّة فإنه يتشوَّق لمعرفة التفصيل.
الوجه الثاني: حصول الإيضاح والبيان بعد تهيُّؤ النفس لهذا القبول.
وذكر الشيخ أنَّ القُرآن مليء بهذا الأسلوب، والله -عَزَّ وَجَلَّ- قال في مطلع سورة يوسف: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ [يوسف: 3]، ثم قال: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ﴾ [يوسف: 7]، ثم ساق أحداث القصَّة العظيمة، وهي قصة يوسف مع إخوته، ثم ختمها الله -عَزَّ وَجَلَّ- بظهور يوسف، وبتحقق هذه الرؤيا التي رآها يوسف -عليه السلام- في صغره وقصَّها على أبيه.
ولهذا كانت القصة القرآنية عظيمة النفع والانتفاع لمن سمعها ولمن تلا كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- بتدبُّرٍ وتعقُّلٍ.
وكذا في قصة أصحاب الكهف، فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أجملها ثم فصَّلها، وكذلك في قصَّة موسى، وذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- قصة موسى في مواضع يُجمل ويبسط، وفي كل موضع من مواضع كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- تجد في سياق القصة أحداث يضمنها الله -عَزَّ وَجَلَّ- في القصة ليستفيد الناس، ويتعلموا من هذه القصَّة العظيمة.
كذلك في قصَّة آدم -عليه السلام- أبي البشر، فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- ذكرها في سورة البقرة، وفي سورة الأعراف، وفي مواضع من كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- يجملها ويفصلها لهذه المعاني.
وهذا موجود في القصص القرآني، ولهذا فإن من أعظم وسائل التربية للأبناء وللمجتمع أن يُعلَّمون هذا القصص القرآني؛ لأن هذا القصص وحيٌ من عند الله -عَزَّ وَجَلَّ- وفيه من العبر والعظات والفوائد والدروس ما لا يُحصَى؛ لأنه وحيٌ من عند الله -عَزَّ وَجَلَّ.
وأمَّا التنقُّل في تقرير الأشياء من أمرٍ إلى أمرٍ هو أولى منه، هذا في الحجاج وفي رد الشبهة، وفي رد الباطل الذي يعتقده أهل الأرض والبشر من ادَّعاءات باطلة، ومن عقائد فاسدة، من ذلك أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- ذكر ما ادَّعاه النصارى في عيسى، وما ادَّعاه بعض اليهود في عُزير، وهو ادَّعاء الولد لله -سبحانه وتعالى- تنزَّه وتعالى وتعاظمَ عن أن يكون له ولد -سبحانه وتعالى- وهو الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، تعالى في عظمته وفي جبروته -سبحانه وتعالى.
قال -عَزَّ وَجَلَّ- في نفي هذه العقيدة الباطلة، وبيان أنها متهافتة في تصورها: ﴿مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ﴾، [الكهف: 5]، يعني: ادِّعاء الولد، فليس لهم علم، وليس لهم بقيَّة من العلم.
ثم قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾، [الكهف: 5]، ثم قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبً﴾، فلم يبدأ بوصف ما يقولونه بأنه كذبًا؛ بل تدرج في تقرير الإنكار عليهم؛ لأنهم ليس عندهم علم، وهذا العلم ليس موروثًا من الآباء ولا الأجداد، وهو ليس بعلم، وإنما هو شبهة شيطانيَّة ألقاها الشيطان عليهم، ثم بعد ذلك بين الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنَّ هذا كذب، وفي مواضع كثيرة يُبين الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن ادِّعاء الولد له -سبحانه- يُنافي الربوبية، ويُنافي أن يكون هو الرب -سبحانه وتعالى.
ولهذا فإن هذه العقيدة المتهافتة -عقيدة النصارى- تحمل في مضامينها التناقض، وتحمل في مضامينها ما يبطلها، ولكن كونهم ألفوا هذا الباطل وتوارثوه واعتقدوه؛ جعلهم يتصورون أن هذه عقيدة صحيحة، وإلَّا فهي عقيدة تأباها الفطر السليمة، والعقول الصحيحة، وهذا ما ذكره الله -عَزَّ وَجَلَّ- في مواضع من كتابه -سبحانه وتعالى.
كذلك منكرو البعث الذين يُنكرون أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يبعث الناس إلى يوم الدين وإلى يوم الحساب، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ﴾، [النمل: 66]، يعني: علمهم ضعيف لا يُمكن أن يصل إلى العلم بما أخبر الله -عَزَّ وَجَلَّ- وبما سيكون عند خراب العالم وقيام الساعة.
ثم قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ﴾، والشَّاكُّ ليس عنده علم، بل هو متردد، والشَّاكُّ لا يُنسَبُ له علم؛ لأنه متوقفٌ ومتردِّدٌ.
ثم قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ﴾، [النمل: 66]، والعماية والعمى آخذات بالحيرة والضلال، فكيف يُؤخَذ من هؤلاء اعتقاد، أو يُقبل اعتقادهم في إنكار البعث، وأنهم يُنكرون أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يبعث الناس بعد موتهم.
وكذلك في حق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- حينما تُكُلِّمَ فيه، وقيل فيه ما قيل من الباطل من ادِّعاء أنه ساحر وكاهن، إلى غير ذلك من الدعاوى التي يُراد بها دفع ما جاء به من الحق -عليه الصلاة والسلام.
قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ [النجم: 2]، فنفى عنه الضلال والهوى، فهو ليس بضالٍّ وليس بصاحبِ هوى، وأنتم تعرفون ذلك مما ألفتموه من سيرة هذا النبي الكريم الذي هو من أنفسكم، يعني: خرج منكم ومن أنفس قبائل العرب، وتعرفون صدقه وأمانته وبُعْدَه عن الرِّيَب والشَّك، وبعده عن الخنا والفساد، فهو مكث فيكم أربعين سنة، وأنتم لم تلاحظوا عليه شيء مما يُعاب.
ثم قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 4]، ثم بيَّن أن هذا الوحي ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ [النجم: 5]، وهو جبريل، فهو تلقى الوحي بواسطة جبريل، من الله -سبحانه وتعالى- وهذا الوحي هو كلام رب العالمين في القرآن الذي لم يزد النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ولم يُنقص منه حرفًا؛ بل بَلَّغ البلاغ المبين، وأدَّى الأمانة كما أمره الله -عَزَّ وَجَلَّ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الحادية والستون: معرفة الأوقات وضبطها حث الله عليه، حيث يترتب عليه حكم عام أو حكم خاص)}.
هذه الأوقات جعل الله -عَزَّ وَجَلَّ- الشعائر -وهي العبادات- مُوقَّتة، إمَّا الشعائر الحوليَّة، أو الشعائر اليوميَّة، وأعني بالشعائر الحوليَّة التي لا تتكرر في العام إلا مرة واحدة، مثل الصيام والحج والزكاة، والشعائر اليومية والتي رأسها وعمدتها الصلاة، التي جعل الله -عَزَّ وَجَلَّ- لها أحكامًا تخصها، ومواقيت معلومة، يُراعيها الإنسان في أي زمانٍ وفي أي مكانٍ، ولهذا فإن الأحكام العامة والخاصَّة مترتبة على مُددٍ وأزمنة تتوقف الأعمال عليها، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [البقرة: 189]، فأمَّة محمد أمَّة تعتقد بالأشهر القمريَّة، فالأشهر القمرية هي المعتبرة في المواقيت، وهذه الأهلَّة يُعرَف بها وقت شهر رمضان، ووقت شهر ذي الحجة.
ومن رحمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن الله ربط هذه الشعائر بهذه الأشهر القمرية؛ لأن هذه الأشهر يراها الناس جميعًا، ويستوي فيها العالم والأمي؛ لأنه يرى القمر، فيرى بدو القمر وظهوره، وهذا لا يحتاج إلى تعلم، وهذا من رحمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالأمَّة وبالبشر، ومن صلاحية هذا الدين لكل زمان ومكان، ولهذا رتَّب الله عليه المواقيت.
ومن ذلك عدَّة المطلقة، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: 228]، ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ﴾ [الطلاق: 1]، فالمرأة تحصي العدَّة وتعرفها بهذه الأشهر القمريَّة.
وقال -عَزَّ وَجَلَّ- في الصلاة: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتً﴾ [النساء: 103].
فما من إنسان من أدنى درجات العلم إلا ويعلم المواقيت، فإنه يعلم دخول وقت الفجر، ويعلم متى يخرج وقت الفجر وهذا بطلوع الفجر، ويعلم وقت الظهر بزوال الشمس، ويعلم وقت العصر ببلوغ الظل مثليه، ووقت المغرب بغروب الشمس، ووقت العشاء بغيبوبة الشفق الأحمر؛ فهذه المواقيت مرتَّبة، وضبطها سهل على كل أحد، وهذا من يسر هذا الدين.
إذن؛ الله -عَزَّ وَجَلَّ- أمر بمعرفة هذه المعني والمواقيت، وأن يتعلمها المؤمن، وهي من فروض الأعيان، يعني من العلم الذي يُفترَض بكل مسلم أن يعرف؛ لأنه ميسور وسهل ويتصوره كل أحد، قارئ أو غير قارئ، ولهذا فإنَّ ضبط الحساب وإحصاء العدد جاء في القرآن، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- في مقام الامتنان أنه -عَزَّ وَجَلَّ- ربطنا بالليل والنهار، قال: ﴿وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ [الإسراء: 12]، فالإنسان يُدرك بذلك عدد السنين والحساب والمواقيت، وهذا من يسر هذا الدين، ومن سماحة هذا الدين، ولو أحلنا الناس على غير هذا الحساب -غير الأشهر القمريَّة- لربما تعذَّر عليهم معرفة الأشهر وتعدادها، فهذا يحتاج تعلم وتذكر، ولكن الأشهر القمرية ميسورة جدًّا، فيعرف الإنسان أول الهلال، ثم ينتصف، ثم يكون آخر الشهر، فهو يعرفه بالقمر، وهكذا سائر مواقيت الشريعة، فهذه الشعائر عظيمة جدًّا، ولابدَّ لأمَّة الإسلام أن تحافظ عليها؛ لأن هذا رسمها، وهذا شعارها الذي تتميَّز به عن غيرها من الأمم، وهي أمَّة الحساب بهذه الأشهر، التي جعلها الله -عَزَّ وَجَلَّ- مواقيتًا للناس.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الثانية والستون: الصبر أكبر عون على جميع الأمور، والإحاطة بالشيء علما وخبرا هو الذي يعين على الصبر)}.
هذه قاعدة عظيمة جدًّا، وهي تحمل في مضامينها جانبًا تربويًّا عظيمًا يحتاج الإنسان أن يتعلَّمه، وأن يتدبَّره، وأن يُعطيه حقَّه من النظر ومن التَّأمُّل، ولهذا فإن الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بيَّن أن هذه القاعدة عظيمة النفع؛ لأن لها آثار، قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ﴾، [البقرة: 45]، فلاحظ أن الله أمر بالاستعانة بالصبر والصلاة، وما ذاك إلا لأن الصبر والصلاة فيهما خير عونٍ للمؤمن في طريقه إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ.
والصبر يسهل على العبد القيام بالطاعات وأداء الحقوق، ودونَ صبر لا يُمكن أن تؤدِّي الفرائض، ولا يُمكن أن تؤدِّي الحق الذي أوجبه الله عليك.
وبالصبر يسهل ترك هوى النفس؛ لأنَّ هوى النفس مخالفة الصبر، فإن الإنسان يصبر على هوى النفس، ويقمع هذه النفس، ويجعلها تذعن بالصبر.
بالصبر يقوى على تحمل المصائب؛ لأن الإنسان في طريقه إلى الدار الآخرة لابدَّ أن يكون عليه مَصائب وفوات، قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 155- 157].
فهذه قضية مُهمَّة جدًّا، وهي أنَّ الإنسان بحاجة إلى الصبر والصلاة، ولهذا قرنَ الله بينهما، وكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- إذا حزبه أمرٌ فزع غلى الصلاة، فلاحظ وتأمَّل يا عبد الله أن المزع إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- وإلى الصلاة، ولا يُمكن للإنسان أن يصبر على هذا الطريق الذي هو سائرٌ فيه إلَّا بمثل هذه الأمور التي ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- وأمر بالاستعانة بها.
كيف يصل الإنسان إلى الصبر؟
هذا مطلب لكل إنسان، فهل ثَمَّ وسائل نعرف فيها قيمة الصبر ومنزلة الصبر، وآثاره النافعة؟
يقول الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وهي معرفة الشيء المصبور عليه، ومعرفة ما فيه من الفضائل وما يترتب عليه من الثمرات)، فإذا علم ذلك هانَ عليه الصبر وقوي عليه، كالدَّواء كريه الطعم والرائحة، فإن الإنسان يتجرعه وهو كاره له ولا يلتذ به، ولكن يستسيغه ويتحمل مشقَّة هذا الطعم المر والرائحة الكريهة لأنه يعتقد أن شربه لهذا الدواء له عاقبة حميدة، فهكذا الصبر فيه مرارة، ولكن عاقبته حميدة، فإذا عَلم العاقبة هانَ عليه الصبر وسهل عليه.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وبهذا فضل العلم، وأنه أصل الفضائل كلها ولهذا يذكر الله تعالى كثيرًا في كتابه أن المنحرفين في الأبواب الثلاثة ما انحرفوا إلا لقصور علمهم)، يعني: العلم يفيدك بعاقبة الصبر، فإذا علمت الصلوات الخمس والمحافظة عليها، وعلمت ما فيها من الفضل، وما فيها من الخير، وما فيها من الأجر؛ فبهذا العلم تقوى على الصبر.
وإذا علمت أخطار المعاصي، وأنها جراحات، وأن لذئذها وقتيَّة، وأمَّا مرارتها فباقية معك إلى آخر الزَّمان؛ فهذا يتبيَّن لك بالعلم، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾، [فاطر: 28]، وقال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ﴾، [النساء: 17]، فما من أحد يقع في معصيةٍ من المعاصي إلا بسبب جهله بعاقبة هذا الأمر، وإلَّا لو علم عاقبة هذه المعصية وما فيها من النكال والعقاب العاجل والآجل لنتهى ولم يقع فيها.
وفي قصة الخضر لما قال لموسى: ﴿قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرً﴾، [الكهف: 67-68]، قال الشيخ: (فعدم إحاطته به خبرا يمتنع معه الصبر، ولو تجلد ما تجلد فلابد أن يُعال صبره)، وهذا وقع مع موسى في المرة الأولى والثانية، وفي الثالثة لم يستطع أن يصبر، فقال له الخضر: ﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ [الكهف: 78]، وهذا يفيدك أن العلم بالعواقب يسهل عليك الصبر، وقال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾، [يونس: 39]، يعني: كذبوا لعدم إحاطتهم بما هو عليه القرآن والإسلام من الحق والنور والهدى، ولو أدركوا ذلك على وجهه الحقيقي لأذعنوا وصدقوا.
وعمدة أهل الباطل ضد دين الإسلام أنه يصدُّونَ عنه بالدِّعايات المضللة والأكاذيب والترهات التي تعرض للناس في هذا الطريق، وإلا لو أبصروا الإسلام على حقيقته لعلموا أن فيه خيري الدنيا والآخرة، مصالح الناس في دنياهم وأخراهم متعلقة بهذا الدين القويم الذي ارتضاه الله -عَزَّ وَجَلَّ- للناس، الموافق للفطرة في أحكامه وفي تشريعاته، ولهذا فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- من حكمته أن جعل الصراع بين الحق والباطل، فأهل الحق يحتاج منهم أن يدافعوا عن هذا الحق، وأن يصوروه على حقيقته، قال تعالى: ﴿لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19]، فالإنذار الكامل والبلاغ الكامل واجب على الأمَّة، وأن تبيِّن هذا الدين وما فيه من السماحة والخير؛ لأنَّ سبب عدم إذعان المشركين له أنهم كذبوا بما لم يحيطوا به علما، ولمَّا يأتهم تأويله، لأن وقوع هذا التأويل إنما يكون في الآخرة، لأنَّ الآخرة يتميَّز بها أهل الجنة من أهل النار، فالإنسان قد يغتر بطوال أمد الباطل وبظهوره في أوقات وفي أزمنة، وقيامه وعدم انكساره؛ فلا يفتر عن طريق الحق، بل يصبر ويصابر، لأن مهمَّة المؤمن أن يسير في الطريق حتى يحل الأجل، وثباته حتى يحل الأجل، ويسأل ربه الثبات والاستقامة حتى تخرج هذه الروح من الجسد وهو مقيم على منهاج النبوة، منهاج محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- صابرًا على هذا الطريق، وما فيه من الشدائد ومن المعادة، ومن الخصومات التي ستجري عليه حتمًا، ولكنه ثابت يسأل الله العون والسداد والتوفيق، حتى يصل إلى المراد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الثالثة والستون: العبرة بصدق الإيمان وصلاح الأعمال)}.
يقول الشيخ: (يرشد القرآن إلى أن العبرة بحسن حال الإنسان وإيمانه الصحيح وعمله الصالح، وأن الاستدلال على ذلك بالدعاوى المجردة أو بإعطاء الله للعبد من الدنيا بالرياسات والأمور الدنيوية والتقاليد الموروثة: كل ذلك من طرق المنحرفين).
بعبارة أخرى: عطاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- للعبد في الدنيا ليس ميزانًا لقربه منه، ولهذا فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- ذكر هذا في مواضع كثيرة جدًّا، قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى﴾، [سبأ: 37]، فكثرة المال والولد ليست دليلًا على أن له منزلة عند الله، ولهذا قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ﴾ [الشعراء: 88]، لأن أعظم وسائل التكاثر هي المال البنون، قال: ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 89]؛ فلن يسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- عن مالك ولا عن أبنائك كم هم! فإن عطاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- متعلق بالربوبية، يعطي المؤمن والكافر والبر والفاجر وفق حكمته التي يُريدها -سبحانه وتعالى- ليس لها تعلقٌ بالمنزلة الأخروية أبدًا.
وقال الله -عَزَّ وَجَلَّ- مبيِّنًا أن هؤلاء ظنوا أن إعطاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- لهم في الدنيا ما يعطيهم أنهم مكرمون عنده، ﴿وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ [سبأ: 35]، ظنوا أن كثرة المال والولد دليل على أن لهم منزلة عند الله -عَزَّ وَجَلَّ- وغرَّهم هذا الغنى والتَّرؤُّس والرياسات فقالوا: ﴿أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّ﴾ [مريم: 73]. قالوا: أهل الإيمان الذين يجري عليهم النقص في المال والولد والفقر؛ نحن أحسن ناديًا وأثاثًا ورِئْيًا وأموالًا! فمن تسويل الشيطان لهم أن جعلوا ذلك هو المنزلة.
والله -عَزَّ وَجَلَّ- أعطى فرعون ملكًا عظيمًا، فقال: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ﴾ [الزخرف: 52]، يقصد موسى -عليه السالم- وهو عند الله وجيهًا، فهذا الذي يحتقره فرعون الخبيث اللعين المطرود من رحمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- وجيهًا عند الله، فهو ظنَّ بقوله: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الزخرف: 51]، يعني: كيف تغفلون عن هذا وتتبعون هذا الذي هو مهينٌة وذليل! والحق أن فرعون هو الذليل، أما موسى فهو عند الله في المقام العظيم -عليه الصلاة والسلام- ولكن غرَّ فرعون النَّظر إلى الأمور الدنيوية.
وفي قصَّة صاحب الجنة لَمَّا دخل الجنة ورأى ما فيها، قال: ﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبً﴾ [الكهف: 35-36]، فظنَّ أن إعطاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- له في الدنيا كرامة، وأنه في الآخرة مُكرَم! وهذا لا يُمكن؛ لأنه من الجهل ومن الانحراف الذِّهني والعقلي، ومن الغرور.
ولَمَّا أنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- رسالته على محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- اعترضوا، فقال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124]، فالله تعالى أعلم بالمحال التي هي محل لقبول هذه الرسالة، ولهذا اصطفى محمدًا -صلوات ربي وسلامه عليه.
وانظر ماذا قال المعاندون والجاهلون لربهم: ﴿وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾، [الزخرف: 31]، يقصدون الوليد بن المغيرة والوليد بن عقبة؛ يشترطون على الله -عَزَّ وَجَلَّ!
يظنون أن هؤلاء معظَّمون ولهم كثرة من المال والولد، فهم يستحقون أن تكون لهم رياسات، والله -عَزَّ وَجَلَّ- نفى هذا، وبيَّنَ أنَّ الميزان بالعمل الصالح.
ولما ضحك أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- على عبد الله بن مسعود لَما أراد أن ينتزع عود أراكٍ للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ثم سقط فرأوا دقَّة ساقيه؛ قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لما ضحكوا على دقَّة ساقي عبد الله بن مسعود: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ» ، الله أكبر!
إذن؛ الموازين في الآخرة غير الموازين في الدنيا، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «إنَّه لَيَأْتي الرَّجُلُ العَظِيمُ السَّمِينُ يَومَ القِيامَةِ، لا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَناحَ بَعُوضَةٍ» ، فالعمدة في العمل الصالح، ولهذا لا تحتقر الناس أو تزدريهم بناءً على عطاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- لهم، وفي الحديث: «رُبَّ أشَعَثَ أغبرَ ذي طِمرَينَ مدفوعٍ بالأبوابِ لَو أقسمَ علَى اللَّهِ لأبرَّهُ» .
طمرين: ثوبين رثيثين.
مدفوع بالأبواب: يعني لا قيمة له في ميزان الناس، لأن تقدير الناس في الغالب إنما يكون بهذه الأمور الماديَّة، وهذا لإغراقهم في الماديَّات، وأهل البصائر لا ينظرون بهذا، وأهل الماديات لا ينظرون إلا بهذه الموازين.
قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهً﴾ [الأحزاب: 69]، الواجهة هنا ليست وجاهة الدنيا، ولكن الوجاهة في الآخرة، والمنزلة الحقيقية هي منزلتك عند الله -عَزَّ وَجَلَّ- وهذا لا تناله بشرف النسب والحسب، ولا بكثرة المال والولد؛ وإنما تناله بصدقِ ما في قلبك من القبول للحق والوحي والهدى، والله أعلم بهذه القلوب -سبحانه وتعالى- نسأل الله أن يرزقنا القلوب السليمة المخبتة المنيبة لله -سبحانه وتعالى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الرابعة والستون: الأمور العارضة التي لا قرار لها بسبب المزعجات أو الشبهات قد تَردُ على الحق وعلى الأمور اليقينية ولكن سرعان ما تضمحل وتزول)}.
قال الشيخ: (وهذه قاعدة شريفة جليلة)، وهي كذلك من القواعد التربوية التي اشتمل عليها هذا الكتاب الماتع النافع، أجزل الله لمؤلفه المثوبة، وغفر الله له، وجمعنا به في جنته.
قوله -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الأمور العارضة التي لا قرار له)، هذا العارض له أمدٌ وانقضاء.
قوله: (بسبب المزعجات أو الشبهات قد تَردُ على الحق وعلى الأمور اليقينية ولكن سرعان ما تضمحل وتزول)، وكأني بالشيخ يقول: السالك في طريقه إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- لابدَّ أن يعرفه أنه لابد أن تعرض له أمورٌ تُزعجه في طريقه وفي سيره إلى ربه -سبحانه وتعالى-، ولكن هذه لا بقاء لها، مثل سحابة الصيف التي تأتي سريعًا، ثم تزول سريعًا.
ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أمثلة لذلك، منها: أنَّ الرسل هم أكمل الخلق إيمانًا ويقينًا وتصديقًا بوعده -سبحانه وتعالى- لأن الله اصطفاهم واختارهم، قال تعالى: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124]، ولكن الله ذكر أنه قد يعرض لهم ما يستبطؤوا معه نصره تعالى، مع إيقانهم أن نصر الله آتٍ ولا محالة، ولهذا يقول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ [البقرة: 214]، ليس إخلافًا لوعده، فهم يوقنون بوعد الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولكن يستبطؤون النصر بسبب ما يعرض لهم من عظيم الابتلاء، ولهذا أمر الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالصبر على هذه المزعجات والعوارض، وللباطل صولة ولكنها لا تدوم، وللباطل شرَّةٌ ولكنها تضمحل عمَّا قريب.
قال الشيخ: (ومن هذا الباب بل من صريحه قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى﴾) التَّمني هنا بمعنى القراءة. ﴿أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ [الحج: من الآية52]، قال الشيخ: ( أيْ يلقي من الشبه ما يعارض اليقين)، ثم قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض﴾ [الحج: 53]، فهكذا الشيطان يُلقي في قراءة الأنبياء من الباطل الذي يُريد به الصد عن الحق، ولهذا فإن الإنسان لابد أن يكون على معرفةٍ من هذا.
ولمَّا شكا أصحاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ما يجدونه ويتعاظمون أن يتكلموا به، فقال: "إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ"، وهذا في صحيح مسلم ، وفي بعض الروايات: "لأنَّ أَخِرَّ من السماءِ أحبُّ إليَّ من أن أتكلَّمَ بهِ" ، فهذا مما يعرض على القلوب من الوساوس، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لهم: «وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟»، يعني: أوجدتم هذا الإنكار، وأنكم أنكرتم هذه الوساوس والخطرات الشيطانيَّة التي ترد على قلوبكم؟ ولأجل هذا تتعاظموا أن تتكلوا به، ويتمنَّى أحدكم أن يموت ولا أن يأتيه هذا الخاطر الشيطاني؟! فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ» ، يعني: ردَّ كيد الشيطان إلى الوسوسة، وفي بعض الروايات: «ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ» ، فصريح الإيمان ليس خطرات الشيطان، وإنما هو إنكار تلك الخطرات.
وهذا يُفيدك أنك في سيرك إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- لابدَّ أن تصبر، وأن تعرف أنه سيعرض لك المزعجات، إما في الابتلاءات الحسية التي تعرض إليك، من الظلم والتعدِّي والأكاذيب والأقاويل والأراجيف والأذى الذي سيصيبك وأنت في طريقك إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- وفي ثباتك على الحق الذي أنت تؤمن به، وإما ما يعرضه لك الشيطان الذي تملك إلا أن تستعيذ بالله من شره ومن وساوسه، ولكن المطلوب في كلا الحالين هو الثبات على هذا الطريق المستقيم.
والله -عَزَّ وَجَلَّ- ما نفى أن تعرض للنفوس الوساوس، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 201]، فأخبر الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن هذا الطائف من الشيطان، ولا يزال الإنسان في معركةٍ قائمةٍ بينه وبين الشيطان إلى آخر لحظةٍ من حياته، لأن الشيطان لا يزال يعرض لابن آدم المقيم على الإيمان وعلى العقيدة السليمة وعلى الحق حتى تخرج الروح من الحلقوم، فعند ذلك يُعلن الشيطان نهاية المعركة وخسارته في تلك الجولة.
ولما قيل لعبد الله بن عباس: اليهود تزعم أنها لا توسوس في صلاتها! فقال عبد الله بن عباس: "وما يفعل الشيطان ببيت خرب"، لأن العقيدة فاسدة، فما يحتاجون لأن يُوسوسوا، ولكن أهل التوحيد وأهل الإيمان لابد أن يعرض لهم الشيطان، ويُحاول أن يوقع العداوة بينهم، يُحاول أن يؤثر على هذه القلوب بالتشكيكات، لأنه ما يزال يريد بالإنسان حتى يصرفه عن الصراط المستقيم، والمؤمن في كل ركعة من ركعات الصلاة يقول: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: 6]، فيسأل ربه الهداية والمزيد من الهداية، والثبات، ويسأل الله حسن التام، والخروج من هذه الدنيا على أحسن وجهٍ وأحسن منزلةٍ.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- بمنَّه وفضله أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يوفق الجميع، وأن يرزقنا القبول في القول والعمل.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك