{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله يا شيخ عبد الرحمن، وحيا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة السابعة والأربعون: السياق الخاص يراد به العام إذا كان سياق الآيات في أمور خاصة وأراد الله أن يحكم عليها وذلك الحكم لا يختص بها، بل يشملها ويشمل غيرها، جاء الله بالحكم العام)}.
بسم الله، والحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
وبعد؛ فهذه القاعدة من القواعد التي ذكرها الشيخ عبد الرحمن السعدي -أجزل الله له المثوبة- وتفصيل هذه القاعدة وبيانها كالآتي:
الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بعد ما قعَّد لهذه القاعدة قال: (وهذه القاعدة من أسرار القرآن وبدائعه، وأكبر دليل على إحكامه وانتظامه العجيب).
ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أمثلة لهذه القاعدة، منها: أن الله -عز وجل- ذكر عن أهل النفاق ما وعدهم به من العذاب والنكال، فقال: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرً﴾ [النساء: 145]، ثم قال -سبحانه وتعالى- في سياق الآيات: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: 146].
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فلما أراد الله أن يحكم لهم بالأجر لم يقل: وسوف يؤتيهم أجرًا عظيمًا، بل قال: ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمً﴾، ليشملهم وغيرهم من كل مؤمن، ولئلا يظن اختصاص الحكم بهم)، أي: لا يُظن أنَّ هذا الحكم مختصٌّ بتلك الفئة التي تابت، ولهذا فإنَّ أحكام التوبة عامَّة للجميع، وفضلها يعم مَن نزلت الآيات في حقه وفي غيره، ولهذا جاء الله -عز وجل- بلفظ العموم.
ولهذا ينبغي لمن يقرأ كلام الله -عز وجل- أن ينتبه لهذه الملاحظة العظيمة والمهمَّة، والتي هي من أسرار القرآن -كما قال الشيخ- ومن بلاغة القرآن، فإن القرآن بليغ، وأحكامه عظيمة، وألفاظه بليغة، ومعانيه واسعة، قال تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرً﴾ [النساء: 82].
ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مثالًا آخر حتى تتضح الصورة، قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ [النساء:150]، إلى قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينً﴾ [النساء:151]، فهنا جاء بلفظٍ عام، وهو أن كل مَن يكفر بالله وبرسله فإن النَّكال والعذاب ينتظره، وهذا يعم كل من يكفر بالله -عز وجل.
ثم ذكر الله -عز وجل- في مقام الامتنان على أهل الشرك الذين يكفرون أو لا يخلصون لله -عز وجل- في حال الرخاء ويُخلصون له العبادة في الشدة كما هو معلوم من حال كفار قريش وكفار العرب، فإنهم إذا نزلت بهم الشدائد يدعون الله -عز وجل-، وإذا كانوا في حال رخاءٍ فإنهم يشركون مع الله -عز وجل- آلهةً أخرى، فقال الله -عز وجل- في مقام الامتنان عليهم: ﴿قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ﴾ [الأنعام:64]، يعني في حال ركوبكم البحر ومن كل كرب، وهذا يعم النَّجاة، وأن الله -عز وجل- هو إله الشدَّة وهو إله الرخاء -سبحانه وتعالى.
وفي هذا حديث حصين بن عبد الرحمن لما جاء إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فقال له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «يَا حُصَينُ كَمْ تَعبُدُ اليَومَ إلهًا؟» قال: سبعةً؛ سِتًّا في الأرضِ وواحدًا في السَّماءِ، قال: «فأيُّهُم تعُدُّ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ؟» قال: الَّذي في السَّماءِ.
ولهذا قال الله -عز وجل: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ [النمل: 62]، وهذا معلومٌ وقد ذكره الإمام المجدد -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في القواعد الأربع، وذكر أحوال المشركين، وأنَّ حالهم خيرٌ من حال بعض المشركين في هذا الزمان، فإنهم يخلصون لله -عز وجل- في حال الشدَّة، وأمَّا مَن ينتسب إلى الإسلام ويُشرك مع الله -عز وجل- فإنه يُشرك مع الله -عز وجل- في الرخاء والشِّدَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الثامنة والأربعون: متى علق الله علمه بالأمور بعد وجودها، كان المراد بذلك العلم الذي يترتب عليه الجزاء)}.
هذه القاعدة أراد الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أن يُبيِّن منها أنَّ علم الله -عز وجل- في مواضع من كتابه يُراد به معنى، وهو العلم المتعلق بالجزاء وليس العلم الذي هو من صفاته -سبحانه وتعالى.
ومن المتقرر أن يُعلم أن من عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمان بالقضاء والقدر، وبمراتبه الأربع، وهي: العلم والكتابة والمشيئة والخلق والإيجاد؛ فهذه المراتب يُؤمن بها أهل السنة والجماعة، وجاءت النصوص بها.
ومُراد الشيخ من صفة العلم ليس العلم الذي هو من مراتب القدر، وإنما المراد العلم الذي يتعلق به الجزاء، فمراتب الإيمان بالقضاء والقدر أن تعلم أن الله -عز وجل- عَلِمَ، وكَتَبَ في لوحه المحفوظ، وشَاءَ، وخلَقَ وأوجدَ.
ومرتبة العلم أنكرها القدريَّة الأوائل، ولهذا كفَّرهم السلف -رحمهم الله- لأنهم أنكروا علم الله -عز وجل- وقالوا: إن الله -عز وجل- لا يعلم بالشَّيء حتى يقع، ولهذا كان الإمام الشافعي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يقول: "ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروه فقد كفروا".
والمراد هنا من قول الشيخ: (متى علق الله علمه بالأمور بعد وجوده)، المراد به: العلم الذي يترتب عليه الجزاء، فإن الله -عز وجل- بعلمه هو عالم بكل شيء، ولكن الله -عز وجل- لا يرتب الجزاء -سواء كان ثواب أو عقاب- إلا إذا وقع العمل.
ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أمثلة، منها: قول الله -عز وجل- في جزاء الصيد: ﴿لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْب﴾ [المائدة: من الآية94]، والله -عز وجل- عالم بكل شيء، ولكن المراد بالعلم هنا: العلم الذي يتعلق به الجزاء والعقاب والثواب.
وقال الله -عز وجل: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ [البقرة: من الآية143]، فتحويل القبلة كان موضعَ امتحان واختبار، ولهذا جعله الله -عز وجل- حكمًا يتعلق به الجزاء، فالله -عز وجل- نسخ هذه القبلة التي كانوا يستقبلونها من بيت المقدس إلى الكعبة حتى يتعلق الأمر بالامتثال ﴿مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾.
ولهذا قال الله -عز وجل: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة: 143]، يعني: صلاتكم إلى بيت المقدس، فإنها وقعت في محلها، ووقع ثوابها عند الله -عز وجل.
ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مثالًا آخر، وهو قول الله -عز وجل: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ﴾ [الحديد: من الآية25]، فهذا هو العلم المتعلق بالجزاء.
خلاصة القاعدة:
أن علم الله -عز وجل- المراد به علمه -سبحانه وتعالى- الذي هو كائنٌ بكل شيء هذا من صفاته، أمَّا العلم الذي يُراد به ترتُّب الجزاء فإنَّ هذا علمٌ آخر، والله -عز وجل- يعلم كل شيء -سبحانه وتعالى- فيعلم الشيء قبل أن يقع كيف يقع، ولكن من رحمته -سبحانه وتعالى- وحكمته أنه لا يُرتِّب الأمور إلَّا على أسبابها.
فالمراد بهذه الآيات: العلم الذي يتعلق به الجزاء، لا أن الله -عز وجل- لا يعلم بالشيء حتى يقع من الإنسان، وإنكار علم الله -عز وجل- كفر مُستقل، وذكرتُ لك ما قالته القدريَّة الأوائل من إنكار علم الله -عز وجل- وتكفير السلف لهم، وهذا واضح مما هو معلوم من الدين بالضرورة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة التاسعة والأربعون: إذا منع الله عباده المؤمنين شيئًا تتعلق به إرادتهم، فتح لهم بابًا أنفع لهم منه وأسهل وأولى)}.
هذه قاعدة قعَّدها الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- باستقرائه للنصوص، يقول: (إذا منع الله عباده المؤمنين شيئًا تتعلق به إرادتهم)، يعني: أن الله -عز وجل- قد يُرتب أمورًا معيَّنةٍ لحكمةٍ يعلمها -سبحانه وتعالى، فما جاء من أمر الله -عز وجل- يكون على غير مراد الناس، ومن رحمته -سبحانه وتعالى- ومن إحسانه أنه يفتح لهم بابًا أنفع وأسهل وأولى، ولهذا قال الله -عز وجل- في سورة النساء وذكر الشيخ هذا المثال: ﴿وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ﴾ [النساء: من الآية32]، فتمنِّي النساء بعض منازل الرجال خلاف المطلوب الشرعي، وجاء النهي عنه، ولهذا قال الله -عز وجل- في عقب ذلك: ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾، إذن؛ المطلوب من النساء والرجال ومَن يفوته مراده في شيء أن يسأل الله -عز وجل- من فضله، وهذا من الدعاء العام الذي ينبغي للإنسان أن يحرص عليه، وجاءت أذكار عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في هذا، فقال: «اللهم إني أسألك من فضلك ورحمتك التي لا يملكها إلا أنت»، ودعاء الخروج من المسجد يقول: «اللهم إني أسألك من فضلك العظيم»، فهذا مطلوب من أهل الإيمان.
ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مثالًا آخرَ على هذه القاعدة فقال: (ولما سأل موسى عليه السلام ربَّه الرؤية حين سمع كلامه، ومنعه منه)، فمنعه الله -عز وجل- من ذلك وقال: ﴿قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾ [الأعراف: 143]
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وبلسان المقال سلّاه بما أعطاه من الخير العظيم، فقال: ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [لأعراف: 144])، فلمَّا منعه الله -عز وجل- سلَّاه بهذه المنقبة العظيمة التي كان لنبي الله موسى -عليه الصلاة والسلام- فإنه كليم الرحمن.
وكذلك لما ذكر الله -عز وجل- في القرآن الفرقة بين الزوجين قال: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَ﴾ [النساء:130]، مع أن الفُرقة أمر مكروه للمرأة والرجل على أي نوع كانت الفرقة، سواء بالطلاق البائن أو بالخلع، فلا شكَّ أنه مكروه للرجل وللمرأة، فقال الله عقب ذلك: ﴿يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾، وهذا ملحظ مُهم جدًّا لابدَّ للإنسان أن ينتبه له، فقد يكون الأمر على غير مُراد الإنسان، ولكن بظنِّه الحسن بربِّه -سبحانه وتعالى- يتذكر هذه النصوص، فيظن بربِّه خيرًا، وقد جاء في الحديث القدسي أنَّ الله -عز وجل- يقول: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ» .
فمن مطالب أهل الإيمان أن يُحسنوا ظنهم بربهم -سبحانه وتعالى- وإذا وقع الأمر على غير مرادهم أن يُحسنوا الظنَّ بالله -عز وجل- لأن الله كريم واسع الفضل -سبحانه وتعالى- وهذه النصوص تدل على هذه المآخذ العظيمة واللفتات البليغة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الخمسون: آيات الرسول: هي التي يبديها الباري ويبتديه)}.
الآيات -بعبارات السلف وكما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية- هي: المعجزات.
قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (آيات الرسول: هي التي يبديها الباري ويبتديه)، أي: الله -عز وجل- هو الذي يُبديها ويُظهرها ويبتدئها.
ثم قال الشيخ: (وأما ما أبداه المكذبون له واقترحوه، فليست آيات. وإنما هي تعنتات وتعجيزات)، إذن؛ الأصل في الآيات أن الله -عز وجل- يُظهرها ابتداءً، ولا يُظهرها على رغبات المكذبين للرسل والمتعنِّتين في قبول دعوة الرسل، فهذه الآيات -التي هي المعجزات- يؤتيها الله -عز وجل- للرسل، وهي من البراهين على صدقهم، وعلى أنهم جاءتهم الرسالة من عند الله -عز وجل-، والآية -أو المعجزة- تكون خارقة للعادة، فيعرفون ويعلمون أنها لا يُمكن أن تكون من أيدي البشر ومن صنعهم.
ثم قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأما ما آتى الله محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- من الآيات فهي لا تحد ولا تعد)، وقد ظهرت المعجزات على يد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ورأى الناس ذلك وعاينوا صدقه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بآيات واضحة وبخرقٍ للعادة في أمور كثيرة، من نبع الماء بين أصبعيه، وتكثير الطعام، إلى غير ذلك من الآيات التي ظهرت للناس عيانًا في زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
ثم قال الشيخ: (فعلم بذلك أن اقتراح المكذبين لآيات يعينونها ليست من هذا القبيل)، فإن مقصودهم التعجيز، فليس من مطالبهم أن تكون الآيات لأجل الإيمان، وإنما يريدون تعجيز الرسل، فهي تعنَّتات وتعجيزات، وهذا ملحوظٌ حينما يتتبع الإنسان القصص القرآني وقصص الأنبياء مع أقوامهم.
قال الشيخ: (فهذه طريقة لا يرتضيها أدنى منصف)، فهذه الطريقة لا يقبلها كل من له عقل، حينما يكون الطلب لأجل التَّعنُّت، ففرق بين مَن يطلب الأمر لأجل أن يرى الآية ويزداد إيمانًا، وبين مَن يطلبها لأجل التَّعجيز، ولهذا في سؤال إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- ربَّه كان من باب اليقين والإيمان لما سأل ربَّه أن يُحيي له الطير، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: 260]، فهذه الآية ليست من هذا السياق، وإنما طلبات الكفار كانت تعجيزيَّة.
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فهذا من جهلهم في الحال والمآل).
أما الحال: فمقصودهم عدم الإيمان، يعني هم لن يؤمنوا حينما يقترحون على الرسل هذه الآيات، فمن جهلهم أنهم يطلبونها، لأنهم لو طلبوها وأراد الله -عز وجل- بحكمته أن يُنفذ ذلك فإنهم يُعاجلون بالعقوبة، وهذا من الأشياء التي جعلها الله -عز وجل- قاعدة مطَّردة في عباده، ولهذا قال الله -عز وجل- في سورة الإسراء: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفً﴾ [الإسراء: 59].
والله -عز وجل- من رحمته بهم أنه لا يعطيهم هذا المطلوب، ولهذا كان من جهلهم أنهم يطلبونها.
وذكر الله -عز وجل- هذا في موضع آخر فقال تعالى لأتباع عيسى لما سألوه أن ينزل عليهم مائدة من السماء: ﴿قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [المائدة: 115]، فمن قام عليه هذا الأمر وظهر لا شكَّ أن جرمه عظيم بعد التكذيب.
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأما المآل: فإنهم جزموا جزمًا لا تردد فيه أنها إذا جاءت آمنوا وصدقو)، وهذا إخبارٌ بما لا يعلمون وما لا يملكون، يعني هم يُخبرون عن شيءٍ مستقبل وهم لا يعرفون ذلك.
ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أمثلةً لطلباتهم وتعنُّتاتهم، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعً﴾ [الإسراء: 90]، فهذه طلبات المشركين في زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، ولهذا قال الله -عز وجل: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾ [الأنعام: من الآية111]، ما كانوا ليؤمنوا، لأن إيمانهم بمشيئة الله -عز وجل.
ثم قرر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أن هذه الاقتراحات والطلبات لو تحققت لهم ثم وقع منهم إيمان؛ فهو إيمان شهادةٍ وليس بإيمان الغيب الذي يتفاضل به أهل الإيمان عن غيرهم.
وهذا ملحظ مهم جدًّا، وهو أن مبنى الإيمان على الغيبيات، ولهذا لَمَّا ذكر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- عذاب القبر قال: «لو سمع الخلائق هذا العذاب لصعقو»، فمن حكمة الله -عز وجل- أنه غيَّبَ هذه الأمور عن الناس، ولهذا يتفاضل أهل الإيمان على الكفار بالإيمان بالغيب، ولهذا قال الله -عز وجل- في مقام الثناء: ﴿الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة:1- 3]، فالإيمان بالغيب من مطالب أهل الإيمان، وبه يتفاضلون، وكلما ازداد الإنسان إيمانه بالغيبيات ازداد إيمانه، فهذا ملحظ مهم جدًّا، وهو أن يُعرف أن الله -عز وجل- غيَّب عنَّا أشياء كثيرة إنما ليعلم الله -عز وجل- المؤمن ممن يُكذب بهذه الآيات ولا يؤمن بها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الحادية والخمسون: كلّما ورد في القرآن من الأمر بالدعاء، والنهي عن دعاء غير الله، والثناء على الداعين: يتناول دعاء المسألة، ودعاء العبادة)}.
الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قال عن هذه القاعدة: (وهذه قاعدة نافعة، فإن أكثر الناس إنما يتبادر لهم من لفظ الدعاء والدعوة: دعاء المسألة فقط، ولا يظنون دخول جميع العبادات في الدعاء، ويدل على عموم ذلك: قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: من الآية60]، أي أستجب طلبكم، وأتقبل عملكم ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾، [غافر: من الآية60])، لاحظ أنَّه جاء لفظ "الدعاء" في مُقدَّم الآية، ثمَّ قال ﴿عِبَادَتِي﴾.
قال الشيخ: (لأن الداعي دعاء المسألة يطلب مسئوله بلسان المقال، والعابد يطلب من ربه القبول والثواب، ومغفرة ذنوبه بلسان الحال)، ويدلُّ على ذلك أن النية شرطٌ لصحَّة العمل، ولهذا قال الله -عز وجل: ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين﴾ [غافر: من الآية14]، أي: الإخلاص في المسألة والإخلاص في العمل، فالمطلوب من أهل الإيمان أن يُخلصوا لله -عز وجل- في حال دعائهم وفي حال عملهم، وهذه الآية يُستدل بها على الإخلاص في الدعاء وفي العبادة.
ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أمثلة لذلك، ومنها: قوله -عز وجل: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبً﴾، [الأنبياء:90].
فإذا تقرر عندك أن المراد بالدُّعاء هو دعاء المسألة ودعاء العبادة؛ فتعلم من ذلك قاعدة في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّه﴾ [المؤمنون:117]، وقوله -عز وجل: ﴿فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدً﴾ [الجن:18]، وقوله -عز وجل: ﴿وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ [القصص:88]، وقوله -عز وجل: ﴿وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [يونس: 106]؛ يعم دعاء المسألة ودعاء العبادة، فأنت مطلوب منك أن تُخلص لله -عز وجل- الدعاء في مسألتكَ وفي عبادتكَ، وبهذا تعلم أن مَن يعبد غير الله -عز وجل- لم يعبد الله -عز وجل- مخلصًا له الدين كما أمر الله تعالى نبيَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: ﴿بل الله فاعبد وكن من الشاكرين﴾ [الزمر: 66].
فالمطلوب من المسلمين جميعًا أن يُخلصوا لله -عز وجل- في مسألته وفي دعائه، ويُعلَم أن مَن دعا غير الله -عز وجل- واستغاث بغير الله -عز وجل- فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى كما يفعل أرباب القبور الذين يعظِّمونها ويستغيثون بها من دون الله -عز وجل-؛ أنهم يُخالفون ما جاءت به النصوص، والله -عز وجل- حكم عليهم بهذه الأحكام الواضحة البيِّنة، فظهرت الحجَّة وبانت أنَّ مَن دعا غير الله -عز وجل- فقد كفر بالله -عز وجل- ودعا غيره.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الثانية والخمسون: إذا وضح الحق وبان، لم يبق للمعارضة العلمية، ولا العملية محل)}.
هذه قاعدة قال عنها الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وهذه قاعدة شرعية عقلية فطرية).
شرعيَّة: يعني جاءت بها الشَّريعة.
عقليَّة: يعني يدل عليها العقل.
فطريَّة: يعني الناس فُطِرُوا على الإقرار بمثل هذه المسلَّمات.
فإذا وضح الحق وبانَ لم يبقَ للمعارضة محل، لا المعارضة العلميَّة ولا العمليَّة، فإذا كابرَ مَن يُكابر في الدليل الواضح البيِّن كمن يطلب الدليل على وضوح وظهور الشَّمس؛ فهذا لا يُقبل عقلًا.
ثم يقول الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (أنه من المعلوم أن محل المعارضات وموضع الاستشكالات وموضع التوقفات ووقت المشاورات إذا كان الشيء فيه اشتباه أو احتمالات فترد عليه هذه الأمور)، لأن هذا يُحتَمل.
ثم قال: (فأما إذا كان الشيء لا يحتمل إلا معنى واحدًا واضحً)، أو لا يحتمل إلَّا معنى واحدًا (فالمجادلة والمعارضة من باب العبث، والمعارضُ هنا لا يُلتفت إلى اعتراضاته، لأنه يشبه المكابر المنكر للمحسوسات).
ثم ذكر الشيخ الأمثلة، قال الله -عز وجل: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة:256]، فأيُّ داعٍ للإكراه والحق واضح؟! وإنما قد يُتصوَّر الإكراه فيما فيه مصلحةٌ خفيَّة، أما إذا كان الأمر ظاهرًا فإنه لا إكراه في الدين، فإذا وضُحَ الدينُ وبانَ فلا إكراه فيه.
قال الشيخ: (ونظير هذا قوله تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف:29]).
قال أهل التفسير: هذا تخيير معناه التهديد لوضوح الحق وظهوره، يعني ليس المراد أن الناس بالخيار في الإيمان كما يتصوره البعض؛ إنما هو تخييرٌ معناه التَّهديد لوضوح الحق وظهوره، فإذا وضُحَ والحق وظهر جاءت السياقات القرآنية بهذه اللفاظ التي لا يظن منها التخيير، وإنما يُفهَمُ منها التَّهديد، ولهذا قال الله عقب هذه الآية: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَ﴾ [الكهف: 29].
ولهذا قال الله -عز وجل- لنبيه محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: ﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ﴾ [الأنفال: 6]، وهذا على وجه الذَّم لهم، ثم قال -عز وجل: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾ [يونس: 32].
وهنا ملحظ تربوي مهم جدًّا! وهو أن ثبات أهل الإيمان على الإيمان يُضعف الباطل.
وأذكر قصَّةً لأحد الأشخاص الذين هداهم الله -عز وجل- للإسلام، وكان مشتغلًا بدعوةِ الناس إلى الإلحاد -نسأل الله السلامة والعافية- وكان في أحد رحلاته قد ذهب إلى أحد البلدان الإسلاميَّة، فجلس مع أحد الأشخاص وحاوره حوارًا، يظن هذا الملحد أنه يستطيع أن يشكك هذا المؤمن في إيمانه بوجود الله -عز وجل-، وهذا المؤمن من إندونيسيا قال: إن الحوار والجدال إنما يكون فيما يُحتَمل، أو فيما يكون فيه شك عند الطَّرف الآخر، أما إذا كان اليقينُ عامرًا في قلبي فلا يُمكن أن أدخل معك في حوار ولا نقاش، لأنَّك مثلك مثل مَن يُناظر في وجود الشَّمس في وضح النهار، فلو دعاك شخصٌ إلى أن يُناظرك أن الشمس موجودة أو غير موجودة، فهل يُمكن أن تُمضي وقتك معه؟!
فقال: إيماني مثل هذا، فأنا لا أجدُ في نفسي -بحمد الله- من الشَّكِّ ما أحتاج فيه إلى أن تحاورني.
ويقول هذا المُلحد: علمتُ أنَّ هذا الكلام الذي صدرَ منه إنما هو عن يقينٍ، وهذا اليقين الذي رأيته فيه هزَّني في أعماق نفسي، فسألته ما دينك؟ فقال: الإسلام. فبدأتُ أبحث عن الإسلام.
ثم هداه الله -عز وجل- إلى هذا الدين القويم، وكان مسلمًا.
فلاحظ! هذه قضيَّة مُهمَّة جدًّا، فثبات أهل الإيمان على الحق لا شكَّ أن يكسر حدَّة الباطل ويُضعفه، ولهذا قعَّد الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- هذه القاعدة اللطيفة العظيمة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الثالثة والخمسون: من قواعد القرآن: أنه يبين أن الأجر والثواب على قدر المشقة في طريق العبادة، ويبين مع ذلك أن تسهيله لطريق العبادة من منته وإحسانه، وأنها لا تنقص من الأجر شيئً)}.
هذا من فضل الله -عز وجل- ورحمته بأهل الإيمان، الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قال: (من قواعد القرآن: أنه يبين أن الأجر والثواب على قدر المشقة في طريق العبادةً)، وهذا ظاهرٌ في النصوص، وظاهرٌ في السنَّة النبوية، لما قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لعائشة «إنَّ لَكِ منَ الأجرِ علَى قدرِ نَصَبِكِ» ، فلا شك أنَّ الأجر يترتب على النصب، فكلما عظمت المشقة عظُمَ الأجر، وهذه قاعدة ذكرها الله -عز وجل- في القرآن.
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ويبين مع ذلك أن تسهيله لطريق العبادة من منته وإحسانه)، وهذا التسهيل لا يُنقص من الأجر شيئًا، وهذا يظهر من خلال الأمثلة، قال تعالى في عبادة الجهاد: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216]، فهذه العبادة مع مشقَّتها لكنها تفضي إلى كل خيرٍ وكرامةٍ، وتوصل إلى أعلى منازل الجنَّة، وهذا من التسهيل، فالله -عز وجل- ييسر لك بهذا العمل الذي هو شاق منازل عظيمة في الجنة. وهكذا في مقام الابتلاء، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيْرًا يُصِبْ منه» ، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلَاءِ» .
ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- آية أخرى، وهي قول الله -عز وجل: ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ﴾ [النساء:104]، ولا شكَّ أنَّ أهل الكفر مع أهل الإيمان في القتال، والقدر المشترك بينهم هو الألم، فتفوت الأنفس وتصيبهم الجراحات، ولكن يتفاضل أهل الإيمان عنهم بأنهم يرجون من الله ما لا يرجون، فأهل الإيمان يرجون الجنة، وهؤلاء يرجون حظ الدنيا وعاقبتهم النار.
قال الله -عز وجل: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * ورحمة﴾، [البقرة: 155: 156]، ثم قال -عز وجل- في عظيم الأجر على الصبر: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر:10].
والملحظ العظيم في هذا قوله -عز وجل: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، فكون أن الأجر بغير حساب دلَّ على أنه عظيم جدًّا، لا يقدر قدره إلا الله -عز وجل- الذي هو يُثيب -سبحانه وتعالى.
قال -عز وجل- في تسهيل عبادة الجهاد: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَام﴾ [لأنفال: 11]، فلما فرض الله -عز وجل- عليهم قتال الكفار في يوم بدرٍ وكأن هذا الأمر فيه مشقَّة؛ كان هذا التسهيل من الله -عز وجل- لهم في عبادة الجهاد، النُّعاس الذي تغشَّاهم، والماء الذي نزل عليهم في يوم بدرٍ، وربط القلوب، فربط الله -عز وجل- على قلوبهم وثبَّتَ أقدامهم، ونصرهم الله -عز وجل.
قال -عز وجل: ﴿إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (32) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ [يونس: 62-64]، فهذا من تسهيل الأمر عليهم، وتسهيل الإيمان عليهم أنهم يرون البشرى، سواءٌ قلنا إنها الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرَى له، أو قيل بغير ذلك، لكن هاك بشائر، ولهذا قال الله -عز وجل- في تسهيل الأمر ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾ [الليل: 5-7]، فالله -عز وجل- ييسر عليه الأمر.
وقال الله -عز وجل- في تسهيل العبادة وتسهيل الإيمان: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾، [النحل:97]، فهذه هي عاجل بشرى المؤمن، وهي أن يحس باليقين والإيمان وبالراحة، ولهذا كان بعض السلف وبعض العباد، وذُكر هذا عن ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يقول: "في الدنيا جنَّة من لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة"، وهي جنة اليقين والإيمان، وهذا لا يكون في يومٍ وليلةٍ، ولكن بالمجاهدة والمصابرة، والله -عز وجل- يقول: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَ﴾ [العنكبوت: 69]، فالله -عز وجل- يريد منك الجهاد والمثابرة حتَّى يكون لك هذا الثواب العظيم، وهذه البشائر التي هي عاجل بشرى أهل الإيمان.
أسأل الله أن يثبتنا وغياك على الإيمان، والإخوة المشاهدين والمشاهدات، وأن يتوفانا مسلمين غير خزايا ولا مفتونين، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.