الدرس الثالث

فضيلة الشيخ د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

2098 12
الدرس الثالث

القواعد الحسان المتعلقة بتفسير القرآن

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حياكم الله يا شيخ عبد الرحمن، وحيا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من كتاب "القواعد الحسان في تفسير آي القرآن" للشيخ السعدي.
ونقرأ القاعدة العاشرة -بإذن الله- قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة العاشرة: في طرق القرآن إلى دعوة الكفار على اختلاف مللهم)}.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الحمدُ لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلِّم على المبعوث رحمةً للعالمين، أسأل الله -سبحانه وتعالى- لي وللإخوة المشاهدين والمشاهدات وطلاب الأكاديمية العلم النَّافع والعمل الصالح.
هذه القاعدة ذكرها الشيخ عبد الرحمن بن السعدي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في أسلوب القرآن في دعوة الكفار لدين الإسلام، وذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنَّ أسلوب القرآن الذي هو كلام الله -عَزَّ وَجلَّ- الذي ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 42]؛ فذكر أربعة أساليب -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- نختصرها ونبيِّنها للإخوة:
الطريق الأول: بذكر محاسن الدين والشريعة المحمَّديَّة، وما فيها من الشرائع السَّمحة، فالله -عَزَّ وَجلَّ- في القرآن يُبيِّن ما في هذا الدين من السَّماحة والوسطيَّة، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطً﴾ [البقرة: 143]، وكما جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أنه قال: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» ، وجاء بما جاءت به الأنبياء، ورفع عن هذه الأمَّة الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، ولهذا فإنَّ الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يقول: إنَّ هذا الطريق هو أعظم طريقٍ يُدعَى به جميع المخالفين.
وفي هذا تنبيهٌ للدُّعاة إلى الله -عَزَّ وَجلَّ- أن يُبينوا محاسن الإسلام، حتى يظهر فضل هذا الدين، والله -عَزَّ وَجلَّ- أرسل محمدًا رحمةً للعالمين، وهذا الدين لا جنسَ له، وليس لفئة خاصَّة؛ بل هو للناس جميعًا، فأنزل الله -عَزَّ وَجلَّ- رحمة للعالمين، وجاء محمدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وهو نبيُّ الرَّحمة بهذه الشريعة التي فيها الرحمة للناس جميعًا.
ولهذا يحسُن بالدعاة وبطلاب العلم أن يُبرزوا محاسن الإسلام، ولهذا صنَّف أهل العلم مصنَّفات في محاسن الدين الإسلامي، والدَّاعي إلى الله -عَزَّ وَجلَّ- ومَن يدعو غير المسلمين عليه أن ينتبه إلى هذه القضية.
وممَّا يُعزِّز اليقين في قلوب أهل الإيمان أن تُبرَز لهم محاسن هذا الدين، وذلك بذكر ما فيه من اليُسر وما رفع الله من الآصار والأغلال، وكونه صالح لكل زمان ومكان، وهذا ظاهرٌ في أحكام العقوبات، وفي أحكام السفر، إلى غير ذلك من الشرائع والفرائض التي فرضها الله -عَزَّ وَجلَّ- ويظهر فيها رفع المشقة عن عباد الله -عَزَّ وَجلَّ.
الطريق الثاني: أنَّ دعوة هؤلاء يكون بالتَّخويف من عذابه، وأنَّ طاعته أولى من متابعة الرؤساء والزَّعماء في الباطل، وذلك لأن متابعة الزعماء والرؤساء والمؤثرين في المجتمعات هي من أسباب الرَّد والصَّد عن الحق، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجلَّ- عن أهل النار: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ﴾ [الأحزاب: 67]، وقال الله -عَزَّ وَجلَّ- في القرآن: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ [البقرة: 167]؛ فهذا يدل على أنَّ هؤلاء يتبرَّأ بعضهم من بعض، وتبرُّؤ الرؤساء من الأتباع يوم القيامة، فذكَّرهم الله -عَزَّ وَجلَّ- بهذا، وهذا من الطرق التي يُدعَى بها من خالف الإيمان للإيمان بالله -عَزَّ وَجلَّ.
الطريق الثالث: هو استقراء ما في القرآن مما يجب عليهم تجاه نعمة الله عليهم من الشكر له، ولا يكون ذلك إلا باتباع الدين الذي رضيه، ولهذا فإنَّ الله -عَزَّ وَجلَّ- عدَّدَ النعمة فقال: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ [الجاثية: 13]، وذكر الله تعالى أنَّ نِعمه لا تحصى، ومرَّ معنا أنَّ النَّكرة في سياق النفي تدل على العموم، قال الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَ﴾ [إبراهيم: 34]، فنعم الله -عَزَّ وَجلَّ- كثيرة، التي يُسبغها على الإنسان خاصَّة، وعلى الناس جميعًا ممَّا أقامه الله -عَزَّ وَجلَّ- لهذه الدنيا من السنن الكونية، وتسخير الليل والنهار، ورحمة الله -عَزَّ وَجلَّ- بالعباد في هذه الدنيا، وجعل هذه الأرض صالحة للسَّكن، إلى غير ذلك من النعم التي يعرفها المؤمن والكافر، فشكر هذه النِّعم لا يكون إلا باتِّباع الإسلام الذي جعله الله -عَزَّ وَجلَّ- خاتم الأديان.
ولهذا قال الله -عَزَّ وَجلَّ- مُبينًا أنه لا يرتضي غير هذا الدين: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينً﴾ [المائدة: 3]، فدل على أنه لا يرضى إلا الإسلام، وقال -عَزَّ وَجلَّ: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: 85]، وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» ، إلى غير ذلك من النصوص.
إذن؛ شكر النِّعمة يكون باتِّباع هذا الدين القويم الذي جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، وهذا من أساليب القرآن في دعوة الكفار للإيمان بما جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
الطريق الرابع: وهو طريق مُهم جدًّا، وهو بما عليه أديانهم من الباطل، سواء الأديان المحرَّفة، أو الأديان الوضعيَّة؛ كل هذه الأديان دخلها التَّحريف؛ فالدِّيانة اليهوديَّة دخلها التَّحريف، قال -عَزَّ وَجلَّ- في تحريف التوراة: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 146]، وفي الآية الأخرى: ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 78]. وكذلك النَّصارى فإنهم أدخلوا التَّحريف على الإنجيل.
فهذه الكتب -التوراة والإنجيل- دخلها التحريف والتغيير، ولا يُعرَف كتاب أُنزل من عند الله -عَزَّ وَجلَّ- لم يدخله التَّحريف إلَّا كتابٌ واحدٌ وهو القرآن العظيم، الذي تكفَّل الله -عَزَّ وَجلَّ- بحفظه؛ لأنه هو الدين الخاتم، قال الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9].
ولأنَّ هذه الكتب قد دخلها التحريف والتغيير فإنَّها اشتملَت على كثيرٍ من الباطل، وعلى شيءٍ قليلٍ من الحق، والحق الذي عندهم لا يستطيع الإنسان أن يميزه عن الباطل، ولهذا فتركها وعدم النظر فيها هو الأصل؛ لأنها اشتملت في هذا التحريف على أشياء باطلة من الأحكام ومن العقائد، ولهذا فإنَّ من قرأ في التوراة والإنجيل وجدَ في هذه الكتب ما يُصادم الفطرة، وما يُصادم العقل، وما يُصادم سماحة الدين، وما يُصادم العقائد التي تتعلق بالربِّ -سبحانه وتعالى- في أسمائه وصفاته، إلى غير ذلك مما فيها من التَّحريف.
ولهذا فإنَّ الله -عَزَّ وَجلَّ- بيَّنَ ما هم عليه من التحريف والتغيير، وذكر قصص بني إسرائيل وبيَّنها؛ وهذا يدل على أنَّ هذه الأديان باطلة، فبيان ما فيها من الباطل وما فيها من التحريف وما فيها من مخالفة ما يجب لله -عَزَّ وَجلَّ- دلَّ على أنها ليست من عند الله، وأنَّ الواجب هو الرجوع إلى الحق.
وذكر الله عن اليهود: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة: 64]، وهذا موجودٌ في كتبهم، وهذا من التحريف، وذكر الله عنهم قولهم: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ [آل عمران: 181]، فوصفوه بالأوصاف التي لا تليق بالرب -سبحانه وتعالى.
فهذا طريقٌ مُهمٌّ جدًّا في دعوة الكفار، ولهذا فإن المؤمن وطالب العلم والداعية إلى الله -عَزَّ وَجلَّ- لابدَّ أن يترسَّمَ نهج القرآن في دعوة الكفار؛ فهذه أساليب ينبغي للداعية أن يُراعيها في دعوة مَن لم يؤمن بهذا الدين، وهي -كما ذكرها الشيخ- أربعة طرق، فعلى الداعية إلى الله -عَزَّ وَجلَّ- أن يهتمَّ بها.
ثم قال الشيخ: (كل هذه الطرق يسلكها بالطريق الأقوم، وهي الدعوة بالحسنى)، فهذا هو أصل وشعار أهل الإسلام، ولهذا فإنَّ الله -عَزَّ وَجلَّ- لَمَّا أرسل موسى وهارون إلى أعظم الطغاة قال الله -عَزَّ وَجلَّ- لهما: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: 44]، مع علم الله -عَزَّ وَجلَّ- أنه لا يؤمن، ولكن لأن الدعوة بالتي هي أحسن هي شعار أهل الإيمان.
وهذا استخدمه القرآن في دعوة هؤلاء؛ فدعاهم الله -عَزَّ وَجلَّ- بقول: ﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ [النساء: 171]، فخاطبهم بأحسن الألفاظ، وحثَّهم على الإيمان بما جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ويذكر أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- مذكورٌ في كتبهم، قال تعالى: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ [الصف: 6]، وبيَّنَ أنَّه مفصَّل الوصف عند أهل الكتاب فقال -عَزَّ وَجلَّ: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 146].
والقرآن سلك معهم كل هذه المسالك؛ وبانَ أنَّهم أهل جحودٍ وعنادٍ ومكابرة، وهذا حدث في زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، وهذا ظهر من ثلاث طوائف: من كفار قريش، ومن اليهود، ومن المنافقين؛ ولهذا فإن الله -عَزَّ وَجلَّ- خاطبَ كل طائفة بهذه الأساليب وهذه الطرق، فإذا عُلم منهم الجحود والعناد؛ فإن الله -عَزَّ وَجلَّ- يذكر في القرآن ويُبيِّن أنهم موعودون بالعقوبات والنكال في الدنيا والآخرة، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجلَّ- عن المنافقين: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ [المنافقون: 4]، وأخبر الله -عَزَّ وَجلَّ- عن جحود أهل الكفر فقال: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّ﴾ [النمل: 14]، وإن كانت هذه الآية في الإخبار عن فرعون؛ إلا أنها تصدق على كل من جحد الإيمان، وبيَّن الله -عَزَّ وَجلَّ- أن الموانع لهذا الإيمان كلها موانع موهومة، إما طاعة السادة، وإما تقليد الآباء والأجداد دون نظرٍ أو تفكُّرٍ، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجلَّ- عنهم: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف: 23]، فبين في القرآن كل هذه الأمور وأقام الحُجج، ولهذا فإن القرآن هو الحجة الرساليَّة على الخلق جميعًا، ومن بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجَّة، والقرآن من عند الله -عَزَّ وَجلَّ- وفيه من الآيات والبيِّنات ما فيه موعظة وذكرى لكل مَن أراد الله -عَزَّ وَجلَّ- الحياة.
جبير بن مطعم لما سمع قول الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور: 35]، قال: "كاد أن ينفطر قلبي لها"، فالقرآن يُخاطب أعماق الشعور، ويُخاطب مَن كان له عقل، ويُخاطب الفطرة، ويذكر أساليب متنوعة في ذلك، إلى غير ذلك من الأساليب التي ذكرها الله في القرآن، والتي نسأل الله تعالى أن ينفعنا بها جميعًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الحادية عشرة: مراعاة دلالة التضمن والمطابقة والالتزام.
كما أن المفسر للقرآن يراعي ما دلت عليه ألفاظه مطابقة، وما دخل في ضمنها، فعليه أن يراعي لوازم تلك المعاني، وما تستدعيه من المعاني التي لم يصرح اللفظ بذكره)
}.
هذه القاعدة نبَّه الشيخ عليها، ونختصرها بقولنا: على المفسر للقرآن، وعلى المتدبر لكلام الله -عَزَّ وَجلَّ- وعلى القارئ لكلام الله -عَزَّ وَجلَّ- أن يُراعي دلالة الألفاظ مطابقةً وتضمُّنًا والتزامًا.
وهذه قاعدة معروفة عند علماء الأصول، وهي أن اللفظ له دلالة المطابقة، وله دلالة التَّضمُّن، وله دلالة الالتزام.
وعلماء الأصول يضعون حدًّا معلومًا لدلالة المطابقة، فيقولون: هي دلالة اللفظ على تمام المعنى الذي وُضِعَ له.
فالتصوُّر الأولي لدلالة اللفظ تُسمَّى دلالة المطابقة، وهي أقوى الدلالات، مثلًا: يعبر علماء الأصول عن "الإنسان" بأنه حيوانٌ ناطق، فهو ممَّن يحيا ويختلف عن العجماوات بأنه ينطق ويفصح بما عنده، فلما نقول "إنسان" يتبادر إلى الذهن بدلالة المطابقة أنَّه هو الإنسان الذي يُعقل منه أنه يتكلم.
لما أقول لك: "زيدٌ" وأنت تعرف في العهد الذهني أنَّه زيد بن فلان، فلما أقول لك: "زيد" فيدلك على جميع أجزاء "زيد" جسمًا وروحًا، ويتبادر إلى ذهنك "زيد" بصورته التي تعرفها؛ فهذه الدلالة تسمى دلالة المطابقة، ونحن نمثلها من جهة تعريفه الأصولي حتى تُتصوَّر، ثم بعد ذلك نأتي إلى ما ذكره الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- من التَّطبيقات عليها فيما يتعلق بأسماء الله -عَزَّ وَجلَّ- وصفاته.
دلالة التّضمُّن: هي دلالة اللفظ على جزء المعنى الذي وُضع له.
لما أقول لك: "جاء زيدٌ" فدلالة أن رأس "زيد" جاء معه ويداه ورجلاه؛ فهذا يدل على أنَّ رأسه جاء غير منفصل عنه، وهذا بدلالة التَّضمُّن، فلا يُمكن أن تتصور أنه جاء دونَ رأسٍ، أو دونَ رجلين، أو دونَ روحٍ، أو دونَ ما تعهده عنه؛ فدلَّ على أنَّ رأسه موجود ويديه، فدلالته على الرأس وعلى الرجلين بالتَّضمُّن.
دلالة الالتزام: وهي أقل من دلالة التَّضمُّن، كلها دالَّة، وهي دلالة اللفظ على شيءٍ خارجٍ عن حقيقة المعنى، ولازمة في الذهن لا تنفك عنه. فهي ليست مرتبطة بذاته، ولكنها ملتزمة للذات.
لما أقول لك: "طلعت الشمس"، فالتصور الذهني لك لطلوع الشمس تفهم منه أن الضوء وأن النهار ظهر، فدلالة عموم ضوئها وأن النهار قد حلَّ تسمَّى دلالة الالتزام، فالضوء ليس من ذات الشمس ولا يتعلق بالذات، وإنما هو خارجٌ عن الذات، لكن الذهن لا ينفك عن هذا التصوُّر الذي يقوم عليه. كل هذه الدلالات تدل من جهة اللفظ.
وهذه الدلالات مُهمَّة جدًّا، وعلى المفسر أن يُراعي تلك الدلالات، ولهذا وصف الشيخ هذه القاعدة فقال: (هذه من أجل قواعد التفسير)، وذكر أنه مُجمَع عليها وما فيها خلاف.
كيف نُعمل هذه القاعدة؟
الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ذكر ثلاثة عوامل لفهم دلالات القرآن من خلال هذه الدلالات الثلاث:
العامل الأول: فهم المعنى من اللفظ، فلابد أن تفهم المعنى من، وهذا يُعرف بالنظر إلى اللغة العربية؛ لأن القرآن نزل بلسان العرب، فلابدَّ أن تفهم المعنى، واشتقاقات اللفظ واستعمالاته.
العامل الثاني: التفكُّر في دلالة التَّضمُّن للفظِ وما يلزم منه، أن تتفكر ماذا يتضمَّن هذا المعنى، فأنت عرفت اللفظ، وقد يتضمَّن معانٍ كثيرة جدًّا تدخلها في المعنى الذي جاء فيه.
العامل الثالث: تحتاج منك إلى مران وقدرة في التدبر للمعنى، تعرف اللفظ، وتعرف ما يدل عليه، ودلالاته.
وهذا يستدعيني أن أقول لك: إن ما ذُكر عن السلف -رحمهم الله- من اختلاف في التفسير هو من اختلاف التَّنوُّع لا من اختلاف التَّضاد.
على سبيل المثال: قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: 6]، ستجد بعض السلف -رحمهم الله- يفسرون "الصراط المستقيم" بجزءٍ من معناه، وبعضهم يفسره بدلالة المطابقة، ولا تعارض بين هذه التفاسير، والله -عَزَّ وَجلَّ- دعاكَ إلى التفكُّر والتَّدبُّر حتى تستخرج هذه المعاني، فإذا كان عندك معرفة ورجعت إلى كتب التفسير ودلالات الألفاظ؛ فإنَّ أثر ذلك -كما قال الشيخ رحمه الله- أنَّ الله -عَزَّ وَجلَّ- يُعطيك من التوفيق والنور ما يفتح لك به العلوم النافعة والمعارف الجليَّة.
والشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- برزَ هذا العلم عنده في كتابه اللطيف "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنَّان"، وهو من أنفع التَّفاسير وأيسرها سهولة وعذوبة في الألفاظ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وأسأل الله أن يُجزله المثوبة.
وهذا ما تقدَّمناه كله تنظير لهذه القاعدة، ولهذا فإنَّ الشيخ قال: (من أجل آثار القاعدة أنَّك تعرف دلالة أسماء الله -عَزَّ وَجلَّ- من خلال هذه الدلالات بهذه القواعد).
وأذكر للإخوة المشاهدين والمشاهدات هذا المثال: من أسماء الله "الرحمن الرحيم"، نطبق الآن القاعدة:
دلالة المطابقة من: "الرحمن الرحيم" تفيد أنه رحمن رحيم، وسعت رحمة الله -عَزَّ وَجلَّ- لجميع خلقه، وأنه -سبحانه وتعالى- في هذه الرحمة لا يُماثل خلقه؛ لأنه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، فهو: "الرحمن الرحيم".
وفسَّر بعض السلف "الرحمن" بعموم الرحمة للخلق، وتراحم الناس فيما بينهم، حتى تراحم الدواب فيما بينهم يدخل في اسم الرحمة.
وقالوا: إن اسم "الرحيم" هذا مزيد الرحمة لأهل الإيمان، مثل قول الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56].
فمن خلال دلالة المطابقة علمنا أن رحمة الله -عَزَّ وَجلَّ- وسعت كل شيء، قال -عَزَّ وَجلَّ: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 156]، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المرحومين.
إذن دلالة المطابقة لأسماء الله "الرحمن الرحيم" أن من صفاته أنه رحيم ورحمن، وأن رحمته وسعت كل شيء؛ فهذا من دلالة المطابقة، وهي دلالة اللفظ على تمام المعنى.
دلالة التَّضمُّن: أن تتضمَّن هذه اللفظة معنًى آخر.
فرحمة الله -عَزَّ وَجلَّ- كما أنها دلَّت على صفة الرحمة فإنها تتضمَّن صفات أخرى، فكونه رحيم دلَّ على كمال حياته -سبحانه وتعالى- وعلى أنه قادر، وأن قدرته كاملة، وهذا لا يكون إلا ممَّن هو عليم، فالحياة والقدرة لا تكون إلا ممَّن هو عليم، فدل اسم الله "الرحمن الرحيم" بدلالة التَّضمُّن على صفة الحياة وصفة القدرة وصفة العلم.
فمن هذا اللفظ عرفنا صفات أخرى تضمُّنًا لمعنى "الرحمن الرحيم"، ومع كون هذه الصفات دلَّت بدلالة المطابقة في آيات أخرى عليها، فدلَّ هذا اللفظ من خلال دلالة المطابقة ودلالة التَّضمُّن.
دلالة الالتزام: كونه "رحمن رحيم" دلَّ على أن كون رحمة الله -عَزَّ وَجلَّ- شاملة، فهي في شرعه لعباده، ودل على أنه -سبحانه وتعالى- رحيمٌ بعباده في شرعه، ولهذا أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، قال الله -عَزَّ وَجلَّ- في دلالة ذلك: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، فدلَّ بالالتزام على أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- رحمة، وكونه رحمة فشريعته جاءت بالرحمة للخلق، ومن رحمته -سبحانه وتعالى- أن الله أقام عليهم الحُجج والبراهين ودلَّهم على الصراط المستقيم، وأقام لهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- الخاتم الذي أقام هذه الأمة على المحجَّة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك، والمحجَّة البيضاء: هي الطريق الواضح البيِّن.
ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مثالًا آخر في أداء الأمانات، قال الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَ﴾ [النساء: 58]، فوجوب أداء الأمانة من دلالة المطابقة، وأنه يجب أن تؤدي الأمانة، وبهذا جاءت الشريعة بأداء الأمانة، هذا الأداء ثابتٌ بدلالة المطابقة، وكذلك مع الأداء يجب أن تحفظ هذه الأمانة من التلف، ولو تلفت في يدكَ لكان عليكَ الضَّمان؛ لأنَّ هذا مخالفٌ لأداء الأمانة، فدلَّ على وجوب حفظ الأمانة من أي تلف، وضمان هذه الأمانة إن تلفت بدلالة التَّضمُّن، وهذا يُفيدك أحكام شرعيَّة تترتَّب على هذه الدلالات.
ودلالة الالتزام في الآية: أنَّ أداء الأمانة لا يكون إلا بحفظها، وحُرمة التَّعدِّي عليها على أيِّ وجهٍ كان، وعلى هذا قامت الشريعة فيما يتعلق بالأحكام الشرعية في أداء الأمانات، وفي باب الرهن، وفي فروع كثيرة من فروع الشريعة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الثانية عشرة: الآيات القرآنية التي يفهم منها قصَّار النظر التعارض: يجب حمل كل نوع منها على ما يليق ويناسب المقام كل بحسبه، وهذا في مواضع متعددة من القرآن)}.
قوله -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الآيات القرآنية التي يفهم منها قصَّار النظر التعارض)؛ لأنَّه لا يُمكن أن يكون بين آيات القرآن تضاد، وهذه قاعدة عند أهل الإيمان، ويعقد المؤمن عليها قلبه، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرً﴾ [النساء: 82]، فالقرآن يُصدِّق بعضه بعضًا ولا يُمكن أن يتعارض، وإنما التعارض والإشكال إنما هو في ذهن المكلَّف القارئ، ولهذا فلابد للإنسان أن يعقد قلبه أنه ليس ثَمَّ تعارض بين القرآن، فهذه عقيدة لأنه كلام الله -عَزَّ وَجلَّ- ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 42]، وصُنِّفَت مصنَّفات في هذا الباب لدفع ما قد يُشكِل من القرآن، وأذكر في هذا كتاب ماتع جدًّا أنصح الإخوة والأخوات بأن يقرؤوه وأن يستفيدوا منه، وهو كتاب الشيخ محمد الأمين الشنقيطي "دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب"، وهو مطبوع في ذيل "أضواء البيان"، وهو كتاب نافع، وفيه آيات كثيرة جدًّا والجواب عليها.
والشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قعَّدَ لهذه القاعدة اللطيفة، فقال: (والآيات القرآنية التي ظاهرها التَّضاد يعني في ذهن المكلف- يجب حمل كل نوع منها على حالٍ بحسب ما يليق ويُناسب المقام)، يعني القرآن لا يُمكن أن يتضادّ، ولكن هذه السياقات لها سياق من جهة سبب النزول، ومنه القاعدة "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، والقاعدة "دلالة المطابقة والتضمن والالتزام"؛ فهناك قضية مهمَّة، وهي أنَّ القرآن نزلَ منجَّمًا على الوقائع، وكذلك نزل القرآن المدني والقرآن المكي، فدلَّ على أن القرآن نزل على حسب الوقائع، ففي أحكام الشريعة في المحرَّمات والمنهيات تجد أنَّ ثَمَّ أحكامٌ شرعيَّة نزلَت على التَّدريج في التَّحريم، مثل الخمر، وغيرها من الأحكام، وهكذا الأحكام الشرعيَّة.
إذن؛ لابدَّ لمَن يُطالع كلام الله -عَزَّ وَجلَّ- أن ينظر إلى هذا بعين الاعتبار، ويكون على ذكرٍ من هذه القواعد حتى يفهم القرآن على وجهه.
وهذه مُقدَّمات مُهمَّة جدًّا لمن يقرأ كلام الله -عَزَّ وَجلَّ- ويتدبَّر هذا القرآن الذي أسأل الله -عَزَّ وَجلَّ- أن يجعلنا من المنتفعين به.
والشيخ ذكر أمثلة، فقال: إخبار القرآن أنَّ الكفار لا ينطقون، قال الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات35-36]، فدلَّ على أن الكفَّار يوم القيامة لا ينطقون، وفي بعضها أنهم ينطقون، وهذا في قوله: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 23]، وقال تعالى: ﴿قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئً﴾ [غافر: 47]، وذكر الله -عَزَّ وَجلَّ- أنهم يتكلَّمون في مواضع.
فهذا قد يُشكِل عند القارئ والتَّالي لكلام الله -عَزَّ وَجلَّ-، فنقول: القرآن يُصدق بعضه بعضًا ويُفسِّر بعضه بعضًا.
قال الشيخ: فحمل كلامهم أنهم يتكلمون في أول أمرهم، يعني: حينما يكون الحساب، ثم يأتون في مرحلةٍ من المراحل يُختَم على جوارحهم فلا يتكلَّمون، وهذا نطق القرآن به، قال -عَزَّ وَجلَّ: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يس: 65]؛ فدلَّ على أنَّه ثَمَّ ختمٌ، ثم بعدَ ذلك لا يتكلَّمون، وهذا يدلُّك على أنَّ القرآن أحسن ما يُفسَّر به أن يُفسَّر القرآن بالقرآن، ثم يُفسَّر القرآن بسنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
وعند المؤمن قاعدة أنَّ القُرآن يُصدِّق بعضه بعَضًا، ويُفسِّر بعضه بعضًا، وهو كلام الله -عَزَّ وَجلَّ-، وكما قال الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرً﴾ [النساء: 82]، ومهما بلغ الإنسان من العلم فإنه قاصر، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلً﴾ [الإسراء: 85]، فالإنسان يسأل ويتعلَّم، ويجمع الآيات ويُراجع كلام المفسرين.
ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أمثلة متعدِّدَة على هذه القاعدة؛ لأنها مهمَّة جدًّا، ولابدَّ أن نُبيِّنها، فمثلًا: ذكر أمثلة متعدِّدة في باب الموالاة والمعادة، وهي يحسُن أن يُتنبَّه لها؛ لأن بعض أهل الإسلام وبعض الناس ممَّن يُحب الدين قد يفهم هذه الآيات على غير وجهها فيقع في الشَّطط والغلو، وبعضهم ممَّن يُعادي هذا الدين يأتي لهذه الآيات ويُعملها على غير وجهها، وكلٌّ يُحاول أن يأخذ من القرآن بحسب ما يُوافق ما عليه من الهوى والاعتقاد -نسأل الله السلامة والعافية- وهؤلاء لا يُوفَّقون لتدبُّر القرآن.
فعلى سبيل المثال: ذكر الشي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مسألة الموالاة والمعادة، وهي من عقيدة المؤمن، أنه يوالي أهل الإيمان ويُعادي أهل الكفر، وذكرها الله -عَزَّ وَجلَّ- في مواضع كثيرة من كتابه، فنهى عن مودَّة الكفار وأمر بمعاداتهم، قال الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: 144]، فهذا نص وقاعدة، فالولاء لأهل الإيمان، والبراء من أهل الكفر.
وأمر -عَزَّ وَجلَّ- بالإحسان إلى من له حق على المؤمن، قال -عَزَّ وَجلَّ: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ [الممتحنة: 8].
إذن؛ هذه الآية في سياق، وتلك في سياق:
- تلك في سياق المحاربين والمعادين.
- وهذه في سياق غير الحربي وغير المعادي ممَّن له حق، الوالدين إذا كانا على غير الإسلام.
وهذا يدلُّك على أن الإسلام دين الرَّحمة ودين الفطرة، فهو رحيم حتى بالوالدين وإن كانا على غير الإسلام، وهكذا في أشياء كثيرة جدًّا، والحمد لله القرآن يُصدِّق بعضه بعضًا، فلا تُعمل نصوص وتُترك النصوص الأخرى؛ بل القرآن يُصدِّق بعضه بعضًا.
ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مسألة مهمَّة جدًّا -جزاه الله خيرا- وهي مسألة أحكام الجهاد، قال: إن الله تعالى أمرَ بالجهاد في مواضع من كتابه، وفي بعض الآيات أمرَ بالكفِّ. فماذا يُقال؟
القرآن يُصدِّق بعضه بعضًا ويُفسِّر بعضه بعضًا، قال الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ [التوبة: 123]، فأمر بقتال الكفار، ثم قال -عَزَّ وَجلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [النساء: 77].
- بعض المفسرين قالوا: إنَّ الآيات التي أمرت بالكفِّ عن الكفار إنما نُسِخَت بآية السيف.
- والأرجح والموافق لقاعدة الشيخ والموافق لكلام أهل العلم والمحققين: إن هذه الآيات ليس فيها نسخ، وإنما تُحمَل الآيات في الجهاد على حال، والآيات التي فيها الأمر بالكفِّ على حالٍ، وهذا بحسب حال الأمَّة من القوة والضَّعف.
والله -عَزَّ وَجلَّ- أمرَ الأمَّة في حال القوَّة بالجهاد وبمقاتلة الكفار، وأمرها حال الضعف أنها تترك هذا الواجب، ويتعيَّن عليها ذلك لحماية بيضة الإسلام.
وهذا يدلُّك على ما ذكره الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنه يجب حمل كل نوع منها على حال بحسب ما يليق ويُناسب المقام، فالقرآن يُصدِّق بعضه بعضًا، وبهذا -بحمد الله- تُعمَل النُّصوص كلها، ولا يُترَك منها شيء إلَّا وقد بانَ لأهل الإيمان.
هذه المَلَكة كيف يعرفها الإنسان؟
بمطالعة كتب التفسير، وبمراجعة كلام المحققين من أهل العلم في بيان هذه المسائل، لأنه حصل الغلو والشَّطط والتَّعدِّي على هذا الدين القويم من طائفتين:
- طائفة من أهل الغلو الذين أرادوا أن يُعملوا النصوص فأعملوها على غير وجهها ولم يفهموها على الوجه الصحيح.
- وطائفة أخرى هم أهل التفريط، الذين فرَّطوا في أحكام الدين، وأعملوا ما جاء من النصوص في جانب الرحمة وجانب المهادنة، وجعلوها هي الأصل، وهذا غير صحيح!
والصحيح أن تُفهم هذه النصوص على وجهها الذي جاء في كلام الله -عَزَّ وَجلَّ- فيُفرَّق بين حال القوة وحال الضَّعف وحال التَّمكُّن، وبحسب الحال والزَّمان، وأحكام الشَّريعة صالحة لكل زمان ومكان، ولهذا فقد يجب على طائفة وجوبًا معيَّنًا، وقد لا يجب.
وهذا يدلُّكَ على أن هذا الدين القويم صالحٌ لكل زمان ومكان، ومناسب للواقع الذي يعيشه المسلم، ومناسب للأمَّة حال قوَّتها، وبحمد الله فإن من أسباب بقاء هذا الدين ما جاء في القرآن من هذه التَّوجيهات العظيمة، وتراث أهل العلم وكتب المفسرين شاهدة بهذه الوسطيَّة.
والمطلوب من طالب العلم ومن العالم أن يرجع إلى دواوين الإسلام، وإلى كتب الحديث -صحيح البخاري وصحيح مسلم- وكتب التفاسير -تفسير ابن جرير وتفسير ابن كثير وتفسير البغوي- ويُراجع دواوين أهل العلم؛ فسيجد الشفاء لكثيرٍ ممَّا قد يُشكِلُ عليه، وإنَّ هذا العلم دين فانظروا عمَّن تأخذون دينكم.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- لنا ولكم التوفيق، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصَّالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك