الدرس العاشر

فضيلة الشيخ د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

2099 12
الدرس العاشر

القواعد الحسان المتعلقة بتفسير القرآن

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله يا شيخ عبد الرحمن، وحيا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: (القاعدة الرابعة والخمسون: كثيراً ما ينفي الله الشيء لعدم فائدته وثمرته المقصودة منه، وإن كانت صورته موجودة)}.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعدُ؛ فهذه القاعدة ذكرها الشيخ باستقرائه للآيات، وهذا معلومٌ وظاهرٌ في آيات متعدِّدَة، فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- قال عن الكفار في مواضع أنَّ لهم حواس كغيرهم، وهذه الحواس على الحقيقة إذا فُقِدَ الانتفاع بها فإنه لا فائدة من وجودها، فإن الأمر ليس في صورته الظاهرة، وإنما في الانتفاع به، فإذا كانت هذه الأعيُن لا تُبصر الحق، وإذا كانت هذه القلوب لا تعي الحق؛ فما الفائدة منها! فليس المراد بها الصور والأجرام والأجسام.
وذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- في القرآن مواضع تدل على ذلك، كما أن الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ذكر هذه الآيات، قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 171]، فهم لا يسمعون الحق، ولا ينطقون بالحق، وعُميٌ عن الحق، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [المائدة: 103]، فالعقل السليم يُرشدُ إلى الإيمان بالرسل، والإيمان بالله -عَزَّ وَجَلَّ-، والفِطَر السَّليمة قد فُطِرَت على الإيمان بما جاء عن الله، وما جاء عن رسوله، وبما جاءت به الرسل.
قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَ﴾ [الأعراف: 179]، لأنهم لا ينتفعون بها.
قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- مبيِّنًا أنَّ الأمر عظيمٌ جدًّا في أنَّ العمل ليس عمل الأبصار؛ وإنما عمل القلوب -أسأل الله أن لا يزيغَ قلوبنا وأن لا يعميها عن الحق- قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: 46]، وهذا يُشاهده الإنسان حتى في أموره الحسيَّة الخاصَّة، فإنَّ القلب إذا لم يعقل فإنه لا يرى ما أمامه -نسأل الله السلامة والعافية- وهكذا مَن تعامى عن الحق.
وأخبر الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن من أسباب زيغ هذه القلوب الرَّان، قال تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: 14]، قال الحسن البصري: "الرَّان: هو الذنب على الذنب حتى يكون الرَّان".
والرَّانُ يغلِّف القلب عن معرفة الحق نسأل الله العافية-، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- عن الكفار: ﴿إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾ [النمل: 81]، فإنَّك لن تُسمِعُ الأصم إذا أدبر، ولو فعلتَ ما فعلتَ؛ لأنَّه فقدَ حاسَّة السَّمع، فكذلك هؤلاء، فإنهم لا يسمعون، ويتعامَوْنَ عن الحق.
وأخبر الله -عَزَّ وَجَلَّ- بهذا عن الكفار وعن المنافقين، فقال عن المنافقين: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفً﴾ [محمد: 16]؛ لأنهم لا يعقلون، ولا يسمعون هذا الحق، وإذا سمعوه؛ سمعوه على وجه المعارضة وعلى وجه التَّكذيب، فلابدَّ للإنسان أن يعنَى بقلبه، وأن يحذر من هذه القلوب المريضة، وهذه القلوب التي غلَّفها الرَّان -نسأل الله السلامة والعافية.
إذن؛ إصلاح القلوب من مطالب أهل الإيمان، فيُصلح الإنسان قلبه، ويسأل ربَّه القلب السليم، وكما أنَّ الأجساد تتغذَّى فإن القلوب لها غذاء، وغذاؤها بالحجج البينات، وبما جاء عن الله وجاء عن رسوله من الوحي، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 57]، فالتَّشافي بالقرآن تشافي الأبدان وتشافي القلوب، فما أحوج أهل الإيمان إلى الإقبال بكليَّتهم، فالإنسان يُقبل بكليَّته على كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- ليتشافى به ويتداوى به من علل القلوب، فإذا رأيتَ هؤلاء -نسأل الله السلامة والعافية- أن لهم قلوب ولهم أسماع ولهم أبصار، ولكنهم لا ينتفعون بها؛ فما الفائدة منها!
والإنسان قد يعتد بعقله ويرى عقله أنه يقوده ويلتجئ إلى هذا العقل ويُكبره فيقع في الضلال -نسأل الله السلامة والعافية- كما وقع بعض أهل الفلسفة من المنتسبين للإسلام في الضلال في باب الإيمان، وفي مسائل الدِّين، وفيما يتعلق بأسماء الله وصفاته.
قال ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "أوتوا ذكاء ولكنَّهم لم يُؤتوا زكاة"، فما ثَمَّ إلا توفيق الله -عَزَّ وَجَلَّ.
وينبغي للإنسان في مثل هذه الأمور أن يبرأ من حوله وقوَّته، ويلتجئ إلى حول الله وقوَّته، ويحذر من هذه العلل والأمراض، ويعتبر في هؤلاء الذي سيكبُّهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- في النار -أعاذنا الله وإياكم من النار- مع أنهم أوتوا ما به يتبيَّن الحق من الباطل، ولكنهم لم يُريدوا هذا الحق؛ فالله -عَزَّ وَجَلَّ- ما أراد لهم الهداية، ولهذا قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: 5]، نسأل الله السلامة والعافية من زيغ القلوب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الخامسة والخمسون: يُكتب للعبد عمله الذي باشره، ويكمل له ما شرع فيه وعجز عن تكميله قهراً عنه، ويكتب له ما نشأ عن عمله)}.
هذه القاعدة ممكن أن نقول عنها: إنها من محاسن الدين الإسلامي، واستقراء النصوص القرآنية واستقراء النصوص النبوية يدل على هذه القاعدة، وأنها من محاسن الدين، ومن إحسان الله -عَزَّ وَجَلَّ- لعباده.
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فهذه الأمور الثلاثة وردت في القرآن.
أما الأعمال التي باشرها العبد فأكثر من أن تحصى النصوص الدالة عليها، كقوله: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، [المائدة: 105]، وقال: ﴿لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ﴾، [يونس: 41])
، فنسب العمل للإنسان الذي يعمله ويباشره.
قال: (أما الأعمال التي شرع العبد فيها وعجز العبد عن تكميلها: فكقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾، [النساء: 100])، وهذه الآية يستدل بها على أن الإنسان في كل عمل يشرع فيه أنه قد يُقهر عنه لأمر، فليرجو من الله -عَزَّ وَجَلَّ- وقوع الأجر.
قال الشيخ: (فكل من شرع في عمل من أعمال الخير، ثم عجز عن إتمامه)، أي عجز عن إتمامه لأي ظرفٍ كان؛ فقد وقع أجره على الله.
وهذا جاء في النص النبوي: «إذَا مَرِضَ العَبْدُ، أوْ سَافَرَ، كُتِبَ له مِثْلُ ما كانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحً» ، ويشبه هذا قول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَ﴾، [العنكبوت: 69].
قال الشيخ: (فكل من اجتهد في الخير هداه الله الطريق الموصلة إليه، سواء كمل ذلك العمل أو حصل له عائق عنه).
فالمطلوب من أهل الإيمان أن يعمل الإنسان، وينوي النية الطيبة؛ لأنَّها مُقدَّم العمل، وهذا ورد في الأثر وفي الحديث «نِيَّةُ المؤمِنِ أَبْلَغُ مِن عَمَلِهِ» ، فينوي النية الطيبة ويحتسب الأجر، فإنه لو أُعيقَ عنه فإن الأجر قد وقع.
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ويكتب له ما نشأ عن عمله)؛ لأن هذا من محاسن الدين.
قال: (وأما آثار أعمال العبد)، فمن بركة العمل الصالح أنك تثاب عليه، وأنك لو أُعقتَ عنه يُكتب لك، ومن بركته أن آثار العمل مكتوبة، ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له» ، فمطلوب من أهل الإيمان العمل، واستغلال الأوقات في العمل الصالح، وسؤال الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يوفقنا لهذه الأعمال الصالحات الزَّاكيات التي يرضاها عنا -سبحانه وتعالى.
قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُو﴾ [يّس: 12]، ولو قرأت في كتب التفسير عن معنى "الآثار"، لو جدت المعنى: نكتبُ آثار الصلوات، الخطوات للصلوات، وأشياء كثيرة.
والمقصود بها: آثار الأعمال، أو الآثار المترتبة على العمل الصالح، وهذا متقرر، ويشهد له قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَن عَمِلَ بهَا بَعْدَهُ، مِن غيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِن أُجُورِهِمْ شيءٌ، وَمَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كانَ عليه وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَن عَمِلَ بهَا مِن بَعْدِهِ، مِن غيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِن أَوْزَارِهِمْ شيءٌ» ، فالمقصود أن للإنسان أثر العمل، والإنسان قد يعمل عملًا يتصاغره، ولكن آثار العمل عند الله -عَزَّ وَجَلَّ- عظيمة، فيُكتب له أجر عظيم جدًّا.
وينبغي الحذر من الأعمال السيئة؛ لأن لها آثار كما أن للإعمال الصالحة آثار، وهذا ملحظ ربما ذكر الشيخ الجزء الأول منه ولم يذكر الجزء الثاني، فنبَّه أن الآثار المكتوبة هي آثار الأعمال الحسنة، ولكن أيضًا آثار الأعمال السيئة تُكتب، فكما أن الإنسان يرجو الله -عَزَّ وَجَلَّ- بأثر العمل الصالح؛ فكذلك يحذر من أثر الأعمال السيئة، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [النحل: 25]، نسأل الله السلامة والعافية.
فالإنسان يكون على غاية الحذر في مثل هذه الأمور، وأن لا يكون أول من فتح بابَ شرٍّ، ولهذا في الحديث: «لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا، إلَّا كانَ علَى ابْنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِن دَمِه» ، لأنه أول من قتل -نسأل الله السلامة والعافية- فالآثار تحتمل المعنيين.
ثم قال الشيخ في تفصيل الأثر وتوضيح آثار الأعمال: (والأعمال التي هي من آثار عمل العبد نوعان:
أحدهما: أن تقع بغير قصد من الإنسان)
، وهذا موضع مُهم جدًّا، فالإنسان قد يكون عمله الذي عمله آثر غير محسوس أو منظور له.
قال: (كأن يعمل أعمالاً صالحة خيرية، فيقتدي به غيره في هذا الخير)، ولهذا دائمًا الإنسان يرجو فضل الله -عَزَّ وَجَلَّ- فإنَّك تحتسب في الأجر عندما تعمل، فربما بعملك هذا الذي عملته يراك أحد فيقتدي بك وأنت لا تعلم، فيكون هذا الأجر لك وأنت لا تعلم، وهذا من بركة العمل الصالح.
قال: (والثاني: وهو أشرف النوعين: أن يقع ذلك بقصده، كمن علم غيره علماً نافع)، وكمن يُقرئ الناس القرآن، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «خَيْرُكُمْ مَن تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ» .
قال الشيخ: (وكذلك من يزرع زرعاً أو يغرس غرساً أو يباشر صناعة مما ينتفع بها الناس في أمر دينهم ودنياهم).
ثم ذكر حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «إنَّ اللهَ يُدخِلُ بالسَّهْمِ الواحِدِ ثَلاثةَ نَفَرٍ الجَنَّةَ: صاحِبَه الذي يَحتَسِبُ في صَنعَتِهِ الخَيرَ، والذي يُجهِّزُ به في سَبيلِ اللهِ، والذي يَرْمي به في سَبيلِ اللهِ» ، وهذا يدل على أن فضل الله واسع، فلا تُحجِّر يا عبد الله الواسع من فضل الله -عَزَّ وَجَلَّ- فإن العمل الصالح يشترك فيه ربما جماعات من الناس، فقد تشترك مع الناس بمحبَّة هذا العمل الصالح، وبالدعاء بإتمامه؛ فتكون أنت شريك في هذا العمل الصالح.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ» ، فيُكتب لك الأجر على الدلالة على الخير، وهذا من محاسن هذا الدين، ففضل الله واسع، ونعمة الله واسعة، وخير الله عظيم، ولا يُمكن أن يُحجِّره أحد، لكن نحن -أهل الإيمان- نرجو فضل الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولهذا قد تدل الناس على الخير، وترغب الناس في الخير، كالدلالة على بناء مدرسة للأيتام، أو الدلالة على وقف، فبمجرد كلامك والدلالة على الخير تكن شريكًا في هذا الأجر، وأنت ترجو فضل الله -عَزَّ وَجَلَّ- والعمر إنما هو لحظات وثوان، والعمر لا يُقاس بمدته، و إنما ببركته، نسأل الله أن يبارك لنا في الأقوال والأعمال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة السادسة والخمسون: تحال المصالح على قدر الوسع والطاقة)}.
يقول الشيخ: (يرشد القرآن الكريم المسلمين إلى إقامة جميع مصالحهم، وأنه إذا لم يكن حصولها من الجميع فليشتغل بكل مصلحة من مصالحهم من يقدر على القيام بها، وليوفر وقته عليها لتقوم مصالحهم، وتكون وجهتهم جميعاً واحدة.
وهذه من القواعد الجليلة ومن السياسة الشرعية الحكيمة، فإن كثيراً من المصالح العامة الكلية لا يمكن اشتغال الناس كلهم بها، ولا يمكن تفويتها، فالطريق إلى حصولها ما أرشد الله عباده إليه)
.
ثغور الإسلام كثيرة، وأبواب الخير التي يجب على أهل الإسلام أن يشتغلوا بها كثيرة، ولهذا فإن أهل العلم يسمون هذه المسائل بـ "فروض الكفايات"، وهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيه: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾ [التوبة: 122]، فواجب القيام بالجهاد من طائفة، ومن أخرى القيام بطلب العلم، ثم قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- في التَّكامل بين الطائفتين: ﴿وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ... يحذرون﴾، يعني المتفقهون في العلم يرجعون إلى القائمين على ثغور الإسلام بالتفقيه والتعليم.
إذن؛ هذا التكامل في دور المجتمع مهم جدًّا، ولهذا وصف الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- هذه القاعدة بانها من السياسة الشرعية.
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فلو وفق المسلمون لسلوك هذه الطريق لاستقامت أحوالهم، وصلحت أمورهم)؛ لأنه يكون كلٌّ على بابٍ وثغر من ثغور الإسلام لحمايته، ولكن لا يشتغل بغيره، بل يقوم بأداء الأمانة التي أنيطت به، فهؤلاء الذين يُدافعون عن بلاد التوحيد والإسلام وهم على الثغور الآن -نسأل الله أن ينصرهم وأن يسددهم وأن يوفقهم- هم قائمون بوظيفة عظيمة في الدفاع عن الإسلام، والدفاع عن بيت الله الحرام، وعن مسجد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، فهذه معانٍ عظيمة جدًّا لابدَّ للإنسان أن ينتبه إليها، وكذلك القائمين بواجب العلم وواجب الدعوة؛ فكل هذه وظائف، وكلنا نعمل في خدمة هذا الدين، وفي خدمة هذا الإسلام، وبلدان المسلمين لو تعاونوا على هذا المعنى لكان بذلك الخير العظيم، أسأل الله أن يجمع قلوب المسلمين على التقوى وعلى التوحيد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة السابعة والخمسون: في كيفية الاستدلال بخلق السماوات والأرض وما فيهما على التوحيد والمطالب العالية)}.
هذه من القواعد التربوية، قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (في كيفية الاستدلال بخلق السماوات والأرض وما فيهما على التوحيد)، يعني: أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- واحد.
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في التفكر والاستدلال بخلق السماوات والأرض على وجود الله -عَزَّ وَجَلَّ- وعلى أنه المستحق للعبادة: (قد دعا الله عباده إلى التفكير)، وذلك في آيات كثيرة، قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ [الروم: 8]، وقال: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُو﴾ [سبأ: 46]، فالله -عَزَّ وَجَلَّ- دعا الناس إلى التَّفكر، وهو إعمال العقل فيما جاءت به الرسل من الحق، وإعمال العقل في هذه الآيات التي يرونها كل صباحٍ ومساء.
ثم قال الشيخ: (وأثنى على المتفكرين فيه)، يعني: المتفكرين في خلق السماوات، قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: 191]، فأثنى الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليهم.
ثم أخبر أنَّ ثَمَّ آيات وعبر في التفكر، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21]، يعني: علامات على صدق ما جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وعلى صدق هذا القرآن العظيم، وعلى أنه من عند الله -عَزَّ وَجَلَّ.
قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاس﴾ [غافر: 57]، فعندما يتفكر الناس في خلق أنفسهم وأنهم كيف وُجدوا، وكيف كانت هذه الدنيا؛ فليتفكروا في خلق السماوات والأرض، وهذه الأجرام العظام، وهذه النواميس الكونية التي يسير بها هذا الكون العظيم، لا يُمكن أن تكون غلا من عند الله -عَزَّ وَجَلَّ- الخالق المدبر -سبحانه وتعالى.
ثم التفكر في خلق الإنسان، فأبواب التفكر كثيرة جدًّا، وهي من العبادات العظيمة، والله -عَزَّ وَجَلَّ- دعانا إلى التفكر في أنفسنا، فقال: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: 21]، أفلا تبصر أن الله خلقك وأحكمَ خلقك؟! والله -عَزَّ وَجَلَّ- جعل هذا الخلق مصيره إلى الفناء والموت!
فلا شكَّ أنَّك وُلدتَّ لأمرٍ عظيم، قال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: 115].
وقال الشاعر:
قدْ هيَّؤوكَ لأمرٍ لوْ فطنتَ لَه ** فَارْبَأ بِنفسِكَ أن تَرعَى مَع الهَمَلِ
فلا ترعى مع الهمل، واعرف الغاية التي خلقك الله -عَزَّ وَجَلَّ- لها، واستثمر الأوقات فيما يرضي ربك، ولهذا قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ [يس: 78].
قال الحسن البصري -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في عبادة التفكر: "مازالَ أهل العلم يعودون بالتَّذكُّرِ على التَّفكُّر، وبالتَّفكُّرِ على التَّذكُّرِ"، يعني ارتباط مسألة التَّفكُّر بالتَّذكُّر، لأنَّ التَّفكُّر يورثك التَّذكُّر، والتَّذكُّر هو أن تتذكر وجود الله -عَزَّ وَجَلَّ- وخلقه وما أعده الله -عَزَّ وَجَلَّ- لأهل الإيمان، وما أعدَّه الله لأهل الطغيان والكفر في الترابط بين عبادة التَّفكُّر والتَّذكُّر، فهي ذكرى وموعظة.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "مازالَ أهل العلم يعودون بالتَّذكُّرِ على التَّفكُّر، وبالتَّفكُّرِ على التَّذكُّرِ، ويُناطقونَ القلوبَ حتَّى نطقَت، فإذا لها أسماعٌ وأبصارٌ"، يعني: كأنها تسمع وتبصر؛ لأن القلوب حيَّة، ومن أعظم ما تُحيا به القلوب عبادة التَّفكُّر، ولهذا فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أمرنا بالتَّدبُّر الذي هو من مراتب التَّفكُّر والذي يُورثُ التَّذكُّر، فقال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَ﴾ [محمد: 24].
فهذه القواعد كلها التي ذكرها الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- من هذا الباب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الثامنة والخمسون: الكمال إنما يظهر إذا قُرن بضده)}.
يُقعِّد الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فيقول: (إذا أراد الله إظهار شرف أنبيائه وأصفيائه بالصفات الكاملة أراهم نقصها في غيرهم من المستعدين للكمال.
لما أراد الله إظهار شرف آدم على الملائكة بالعلم، وعلمه أسماء كل شيء ثم امتحن الملائكة فعجزوا عن معرفتها، فحينئذ نبأهم آدم بها، فخضعوا لعلمه، وعرفوا فضله وشرفه)
.
ولو تتبَّع السياق القرآني في سورة البقرة: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: 30- 33]، ولهذا أمر الله -عَزَّ وَجَلَّ- الملائكة بالسجود لآدم، وامتنع إبليس لما أراد الله -عَزَّ وَجَلَّ- له الغواية والشقاوة.
قال الشيخ: (ولما أراد الله إظهار شرف يوسف في سعة العلم والتعبير رأى المَلِكَ تلك الرؤي)، فظهر شرف يوسف بعلمه بتأويل الأحاديث وتعبير الرؤى، قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ﴾ [يوسف: 45، 46]، فظهر فضل يوسف -عليه السلام.
ولهذا قال الملك له: ﴿إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾ [يوسف: 54]، مكَّنه واستأمنه، وذلك لما قال له يوسف: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 55]، فالملك ولَّى يوسف، واختار يوسف نوع الولاية، فهو لم يطلب الولاية، وهذا من اللفتات العلمية المهمة في سياق الآيات.
وكذلك مع موسى وفرعون، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾، [لأعراف: 116]، فكانت النتيجة: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ [الأعراف: 117] ؛ فظهر فضل موسى.
ولما ظهرت هذه الآية وظهر فضل موسى كانت النتيجة: ﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ﴾ [الأعراف: 120]، لأنهم سحرة ويعرفون هذا الشيء.
وهكذا مع نبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في الغار، وفي يوم حنين، وفي يوم بدر، وفي مواقف عظيمة جدًّا أظهر الله -عَزَّ وَجَلَّ- فضل نبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة التاسعة والخمسون: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾).
هذه القاعدة آيةٌ من آيات الله -عَزَّ وَجَلَّ- وهي عظيمة، وتعنى بمسألة الاهتداء بالقرآن، فالقرآن من أعظم أسباب الاهتداء، والشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- عنونَ بآية ليُبيِّن أنه ليس ثَمَّ أبلغ من كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- في البيان، فهذا هو شعار أهل الإيمان، وهو أنَّ القرآن يهدي للتي هي أقوم في كل شيء، في العقائد، والأعمال، والسياسات، والصناعات.
ومعنى "أقوم": أكمل وأصلح وأعظم قيامًا وإصلاحًا للناس، وعاقبة عاجلًا وآجلًا، في الحال والمآل.
أما العقائد: فهي العقائد النافعة في القرآن، وغذاء القلوب فيها ولا شكَّ في ذلك، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ﴾ [يونس: 57]، وقال: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء: 82]، فلا شكَّ في ذلك.
العقائد النافعة فيما يتعلق بربوبية الله -عَزَّ وَجَلَّ- وبألوهيَّته، وبأسمائه وصفاته، وبما يستحقه -سبحانه وتعالى- وبأركان الإيمان؛ كلها موجودة في القرآن، فهذا أمر واضح.
وأمَّا الأخلاق: فإن القرآن أرشد إلى كل خلق جميلٍ، وذلك في مواضع كثيرة جدًّا في القرآن، قال تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الإسراء: 53]، ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنً﴾ [البقرة: 83]، وقال الله -عَزَّ وَجَلَّ- لنبيه موسى: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنً﴾ [طه: 44]، وقال تعالى في وصية لقمان: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحً﴾ [لقمان: 18]، آيات كثيرة جدًّا في الأخلاق والآداب والتعامل والمناظرات، قال تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [العنكبوت: 46]، فالله -عَزَّ وَجَلَّ- يهدي للتي هي أقوم في كل الأخلاق الفاضلة.
قال تعالى: قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4] ولهذا عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- لما سُئلت عن خلق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قالت: "كان خلقه القرآن".
وكان عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقَّافًا على حدود الله، فلمَّا دخل ذلك الرجل واشططَّ في الكلام على عمر، فذكَّره من كان في المجلس بقول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 134].
فهذه معانٍ عظيمة، وأخلاق فاضلة.
وأما الأعمال: فإنَّ القرآن يهدي إلى أداء الحقوق، حق الله، حق العباد، حقوق الأيتام، العدل مع القريب والبعيد والعدو، قال تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُو﴾ [المائدة: 8].
وفي السياسات: تحصيل المصالح ودفع المفاسد، وهذا باب عظيم، السياسة الشرعية، والسياسة الدوليَّة، والعلاقات الدوليَّة، وعلاقات الحرب والسلم؛ فهذه السياسات موجودة في القرآن.
أضرب لك مثلًا: ما يتعلق بالجماعة المسلمة وحماية هذه الجماعة، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59]، فهنا طاعة مَن ولَّاه الله أمر المسلمين، فهذه الطاعة مقيَّدة -كما في الآية- بالمعروف، وهذه من أبواب السياسة العظيمة.
كذلك في مسائل الحرب والسلم قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83].
من أبواب السياسة في التعامل مع الدول، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ﴾ [آل عمران: 118].
وفي التعامل مع الأعداء المنافقين، قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ [المنافقون: 4].
إذن؛ أرشد الله -عَزَّ وَجَلَّ- في القرآن إلى أبواب الخير كلها، وهدى إلى أبواب الخير.
والمطلوب من أهل الإيمان أن يُقبلوا على كتاب ربهم، وأن ينهلوا من علومه، وينتفعونَ به، وهذا لا يكون إلا بتوفيق الله -عَزَّ وَجَلَّ.
وحتى سياسة المسلم مع أولاده وخادمه وأصحابه موجودة في القرآن، ولهذا فإنه يُطلب منك أن تتعلم هذا القرآن، قراءةً وحفظًا وعملًا وتدبُّرًا.
ونقول لأهل الإيمان ولأهل الإسلام في هذا الزَّمان: أقبلوا على القرآن، فإن القرآن ميسَّرٌ، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 17]، فهو ميسَّرٌ في حفظه وفي الانتفاع به، وفي التعلُّم منه، فعلوم الأولين والآخرين موجودة في القرآن، وكذلك ما يتعلق بأحوال الشخصيَّة، وما يتعلق بحياة الإنسان وعلاقته في أسرته ومجتمعه، فينبغي للإنسان أن ينهل من هذا المورد العظيم، ومهما طرق الإنسان هذا الباب وأقبل عليه فإنه سيجد أنه مقصِّرٌ في حق كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- وكلنا أهل تقصير في قراءة القرآن، وفي التَّعلُّم منه، وفي التَّدبُّر، وفي معرفة غريب القرآن، فتجد أهل الإسلام الآن يقرؤون القرآن، ولكن ما يعرفون غريب القرآن ولا يتعلَّمونه، يعني ألفاظه التي لا يُتصوَّر معناها الصحيح، فيحتاج الإنسان أن يعرف غريب القرآن، ويعرف ما فيه من الآيات ويتدبَّر، ويقف عند الآيات ويُحرِّك بها قلبه.
والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قام في قيام الليل بآية واحدة، وهي قوله: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة: 118]، وأخبر الله -عَزَّ وَجَلَّ- ما سيكون بعد ذلك في العرض والجزاء والحساب، فهذه الغيبيات مذكورة في القرآن، وسيكون إليه المآل.
فمطلوب من أهل الإيمان أن يهتدوا بالقرآن، وهذا لا يكون إلا بأن يسأل الإنسانُ ربَّه أن يوفقه للانتفاع بالقرآن العظيم غاية الانتفاع، قراءةً وعلمًا وحفظًا وتدبُّرًا.
وهذا كما أنه واجبٌ على الأفراد فهو واجبٌ على الدُّول وعلى الأمم، وعلى مَن يريد لهذه الأمَّة أن تنتصر، وأن تظهر على مَن عاداها؛ فعليهم أن يعتصموا بكلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- وهذا الاعتصام ليس اعتصامًا حسِّيًا فقط؛ بل حسيًّا علميًّا واقعيًّا حقيقيًّا، يراه الناس مشاهدًا حتى يكون لهم هذا الظهور والعلو.
أسأل الله أن يجعلنا من المنتفعين بالقرآن، ونقول دائمًا: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9]، فمَن أراد الهداية في خاصَّة نفيه وفي مجتمعه فعليه أن يُقبل على القرآن، والدعاء إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، طلاب العلم ومَن يشتغل بتربية الناس وتقويم السلوك عليه أن يتعامل وينهل من هذا القرآن العظيم، لأن فيه كل شيء، لأنه من عند الله -عَزَّ وَجَلَّ.
وكذلك في الحكم والتَّحاكم، قال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50]، فالله -عَزَّ وَجَلَّ- هو خالق الخلق، وهو أعلم بمصالحهم، ولا شكَّ أن حكم الله فيه الخير للناس في دينهم ودنياهم، وبحمد الله كما أن القرآن أرشدَ إلى أن الإنسان يشتغل بالآخرة؛ فغنه لم يُنسِ الإنسان حظَّه من الدنيا، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَ﴾ [القصص: 77]، فالإنسان يأخذ المباح يتمتَّع به ويستعين به على طاعة الله -عَزَّ وَجَلَّ.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يرزقنا الانتفاع بالقرآن العظيم، ومن الانتفاع بالقرآن العظيم هذه القواعد التي قعَّدَ لها الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وأجزلَ الله المثوبة، وغفر له، وأسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك