{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ/ الدكتور فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حياكم الله يا شيخ عبد الرحمن، وحيا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، وطلاب الأكاديمية، وأسأل الله -سبحانه وتعالى- للجميع العلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا الانتفاع بهذا القرآن العظيم. اللهم آمين.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من القاعدة الثالثة عشرة كتاب "القواعد الحسان في تفسير آي القرآن" للشيخ ابن السعدي.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الثالثة عشرة: طريقة القرآن في الحجاج والمجادلة مع أهل الأديان الباطلة)}.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
كما مرَّ معنا من خلال هذه القواعد أنَّ القرآن هو كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- وعلى المؤمن أن ينتفع به، ومن الانتفاع بالقرآن: أن ينتفع بالمنهج القرآني في الجدال والمخاصمة، أو في الجدال والمحاجَّة؛ لأنَّ المؤمن بعقيدته التي هداه الله -عَزَّ وَجَلَّ- لها لابدَّ أن يجد مَن يُعارض ذلك، إمَّا في أصل الإسلام، وإمَّا في فروعه؛ ستجد من يُعارض هذا الاعتقاد، أو يُعارض هذه الشريعة أو يُشكِّك فيها.
فمن الجهاد العظيم أن تُجادل هؤلاء في الدفاع عن هذا الدين، جعلنا الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن نحظى بهذا الشرف العظيم، وهو الدفاع عن ما جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- من الدين القويم.
ولهذا فإنَّ القرآن من أوله إلى آخرة في مجالدة لأهل الأديان الباطلة، ومن حكمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- ومن إرادته الكونية القدريَّة أنَّه -عَزَّ وَجَلَّ- جعل الصراع بين الحق والباطل، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- في بيان هذه السنة الكونية: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُم﴾ [هود: 118، 119]، ومن حكمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنه جعل الدين الحق، وجعل الأديان الباطلة المحرَّفة، وجعل الصراع بين الحق والباطل إلى قيام الساعة، ولهذا سلكَ القرآن طرقًا متنوِّعة نبَّه الشيخ عبد الرحمن السعدي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وأجزل الله له المثوبة؛ إلى طُرق القرآن في الحِجاج والمجادلة.
وعلى طالب العلم والداعي إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- وعلى المنافح عن دين محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أن يترسَّم هذا النَّهج القويم.
أول طريق -وهو الأسلوب الذي ينبغي أن تكون عليه المجادلة: قوله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [العنكبوت: 46]، فهذه قاعدة تعم كل لفظٍ وليس كل جدال، فكل لفظ يخرج منك ينبغي أن يكون على التي أحسن، قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنً﴾ [البقرة: 83]، وقال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الإسراء: 53]؛ فهذا في القول.
إذن؛ الجدال لا يكون إلَّا بالتي هي أحسن.
ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- عند المجادلة: ﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ﴾، وهذا وصف يصدق على أتباع الديانة اليهودية والنصرانية -أتباع موسى وأتباع عيسى- فهؤلاء لا تجادلهم إلا بالتي هي أحسن؛ لأنَّ عندهم بقيَّة من الحق، وعندهم فطرة فُطِرُوا عليها، فالدَّاعي إلى الإسلام يُحرِّك داعي الفطرة، ويُحرِّك ما عندهم من العلم للإيمان بما جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فلا يُجادلهم إلا بالتي هي أحسن، فهذا طريق مُهم جدًّا، ولهذا يجب على كل داعٍ إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يترسَّمه وأن يتذكَّره، وإن حصلَ منه غلط أو انحراف عن هذا الطريق؛ فعليه أن يُعاود وأن يرجع؛ لأنَّه لا يُمكن أن تكون نتائج طيبة والمثوبة من الله -عَزَّ وَجَلَّ- قائمة إلَّا بهذا التَّوجيه القرآني العظيم.
الطريق الثاني: قال: إنَّ الرسل تُذكِّر بالربوبية في أنَّ التَّوحيد ثلاثة أنواع -كما مرَّ معنا: توحيد ربوبية، وتوحيد ألولهية، وتوحيد أسماء وصفات.
فتوحيد الربوبية: هو توحيد الله -عَزَّ وَجَلَّ- بأفعاله، وأنه هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر، وهذه خمس من أفعال الربوبية، يندرج تحتها باقي الأفعال.
فكونه خالق ورازق ومحي ومميتة ومدبر؛ فهذا هو توحيد الربوبية، وهذا يجتمع عليه الخلائق، وفُطِرَ الناس عليه، وهذا لا يُخالف فيه اليهود ولا النصارى، ولا حتى مُشركي العرب، فكانوا يُقرون بهذا النوع من التوحيد.
توحيد الألوهية: وهو توحيد الله -عَزَّ وَجَلَّ- بأفعال العباد، كالدعاء والاستغاثة، وأن يُعبَد الله وحده بأفعال العباد، فكما أنه لا يُسجَد إلا لله فكذلك لا يُدعَى ولا يُستغاث إلا بالله -عَزَّ وَجَلَّ.
توحيد الأسماء والصفات: وهو أن يُعتَقَد أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- في أسمائه وصفاته لا مثيل له، ولا ندَّ ولا نظير -سبحانه وتعالى- له الأسماء الحسنى والصفات العُلا.
فالرسل تُذكر بربوبيته تعالى، وبهذا التوحيد، وأن هذا التوحيد هو مغروس في الفِطر، ويدلك على ذلك آيات القرآن، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [الأعراف: 172، 173]، وقال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 30]، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ» ؛ فدل على أنه مفطور على هذا التوحيد الذي هو مغروس في الفِطَر، وهو الإقرار بالعبودية له -سبحانه وتعالى.
وكونه مغروس في الفِطَر وأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- هو الرب الخالق الرازق المحيي المميت؛ فهذا يستلزم أن يعبَد وحده، ولهذا فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- في محاجَّة مُشركي العرب الذي يُقرِّون بتوحيد الربوبية قال: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [الزخرف: 87]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [العنكبوت: 61]، وفي آيات كثيرة جدًّا يحثهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- على توحيده بالعبادة؛ لأن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية وأن يُعبَد الله وحده، فذكر هذا الطريق في الحِجاج والمجادلة.
فالدَّاعي إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- يحتاج إلى أن يُذكر بالربوبية، وأن يُبيِّن أنَّ الربوبية تستدعي من الإنسان أن يعبد الله وحده، وكل من خالف وانحرَفَ في توحيد العبادة عليه أن يُذكَّر بهذه القضية في الحجاج والمجادلة، فكونه ربك وخلقك ورزقك؛ فكيف تصرف الدعاء لغيره! كيف تصرف الاستغاثة لغيره! كيف تطوف بغير بيت الله -عَزَّ وَجَلَّ! كيف تستغيث بغير الله -عَزَّ وَجَلَّ!
كل هذا يدلك على أنَّ هذا تناقض عظيم جدًّا، ولكنه الهوى والشيطان والتقليد الأعمى.
الطريق الثالث: ذكر الشيخ أنَّ مِن طرق القرآن في الحِجاج مع أهل الأديان الباطلة ذكر عيب آلهتهم، وما عليها من النقص، وفي هذا ذَكَرَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- آيات كثيرة، فذكر قصَّة إبراهيم، قال تعالى: ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنبياء: 63، 64]، وقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾ [الإسراء: 57]، آيات كثيرة جدًّا تدل على أن هذه الآله لا تضر ولا تنفع، قال تعالى: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ [النجم: 23]، وذكر أهل الشرك بأن هذه المعبودات لا تنفع ولا تضر.
وأمَّا أهل الكتاب فذكَّرهم بما كانوا عليه من السوابق من مُعاداة رسل الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولهذا ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- قصص عظيمة لأهل الكتاب، وأهل الكتاب يدخل فيهم اليهود والنصارى؛ لأن عيسى هو رسول لبني إسرائيل، ولكن اتبعه النَّصارى، فانفصلوا عن اليهود، فذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- قصصهم، وكذلك قصة موسى مع فرعون، وقصة البقرة، وقصة موسى مع اليهود في قوله: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُو﴾ [الأحزاب: 69]، وقوله: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 138، 139]، فذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- كثير من الآيات، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة 20 - 24]، المقام يطول جدًّا في قصص بني إسرائيل مع أنبيائهم، وما لهم من السوابق، وما أنعم الله عليهم من النعم، وما جاء في كتبهم من البشارة بمحمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ [الصف: 6]، ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 146]، وقال تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 75]، آيات كثيرة جدًّا حتى قال بعض السلف: "كادَ القرآن أن يكونَ في بني إسرائيل". وهذا من قيام الحجَّة عليهم.
وهذا من أساليب القرآن، فذكر عيب الآلهة طويل جدًّا، وهذا يَستفيد منه الدَّاعي إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- في أن يتنبَّه لهذا القضايا في دعوته الناس إلى الحق.
الطريق الرابع: التَّحدِّي لهم بأن يأتوا بكتاب وشريعة أهدى وأحسن من هذه الشريعة.
وهذا التَّحدِّي في زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وإلى يومنا هذا، لن يستطيع أحد أن يأتي بمثل هذا الكتاب، ولن يستطيع أحد أن يأتي بشريعة ونظام خير من الشريعة المحمدية، وهذا التَّحدِّي قائم، ولهذا فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- تحدَّاهم أن يأتوا بمثل القرآن، ثم تحدَّاهم أن يأتوا بعشر سور، ثم تحدَّاهم بسورة واحدة؛ وهذا مع تداعي همم الفصحاء والبلغاء على أن يعارضوا القرآن، ومع ذلك ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
ولهذا نقول: القُرآن مُعجزٌ في لفظه ومعناه، ونُبيِّن أن هذا الكتاب إعجازه كذا وكذا، وهذا من الطُّرق التي يُجادَل بها أهل الأديان المختلفة لدعوتهم إلى دين الله -عَزَّ وَجَلَّ.
ثم قال الشيخ: (وفي الجملة لا تجد طريقًا نافعًا فيه إحقاق الحق وإبطال الباطل إلا وقد رسمه القرآن على أكمل الوجوه).
فهذه دعوة لطلاب العلم وللناس جميعًا ولنا أولًا أن ننهل من هذا القرآن العظيم، أسأل الله أن يرزقنا الانتفاع به، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرً﴾ [الإسراء: 9]، فالقُرآن العظيم لابدَّ أن ننهل منه، وأن نقرأه، وأن نتعلم ما فيه من العلوم، وأن نتعرف على غريب القرآن ومعانيه، وهذا لا يكون إلا بتوفيق من الله -عَزَّ وَجَلَّ- أسأل الله أن يوفقنا ويوفق المشاهدين والمشاهدات وطلاب العلم للانتفاع بهذا القرآن علمًا وعملًا، لأن القرآن يُراد العلم به للعمل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الرابعة عشرة: حذف المتعلق المعمول فيه: يفيد تعميم المعنى المناسب له)}.
قوله: (حذف المتعلق).
يعني: حذف معمول الفعل، ومعمول الفعل هو المفعول به، وحذفه يُفيد تعميم المعنى، أو كما يعبر بعض الأصوليين بقول: "يُؤذِنُ بالعموم"، أي: يُشعِرُ بالعموم.
وذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مثالًا على ذلك، قال: قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1]، فقوله: ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ مفعوله محذوف، فهنا حذف المفعول به -المعمول- وهذا يدل على أنه خالق كل شيء، وهذا من دلالة الآية من غيرها من الآيات، وهذا يعم كل الخلائق، فدلَّ على عموم خلق الله -عَزَّ وَجَلَّ- وأن خلق الله -عَزَّ وَجَلَّ- يتناول كل شيء، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: 96]، والله خلق كل صانعٍ وصنعته، فعموم الخلق هو من عند الله -سبحانه وتعالى.
قال تعالى: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ [العلق: 2]، هنا ذكر المعمول، فهذا لا يُؤذِن بالعموم؛ لأنه خصَّ خلق الإنسان بأنه من علق، فدلَّ التخصيص على أن الإنسان هو الذي خُلق من علق، ولم يُؤذن بالعموم؛ لأنه هنا ذكر المعمول -المفعول به- فتعرف من هذا أنه إذا حُذف المعمول والمفعول به فإنه يُؤذِن بالعموم.
قال الشيخ: (يفيد تعميم المعنى المناسب له)، وهذا بحسب السياق، ويدخل في ذلك ما كان من السياق منه وهو فردٌ من أفراد هذا المعنى، ومثَّل الشيخ بأمثلة كثيرة جدًّا، نذكر بعضها:
قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]، فالسياق يدل على أنَّ الصيام يعم كل ما قيل في حكمة الصيام من التقوى، فالصيام يحصل به عموم التقوى؛ لأنه لم يُخصَّص ولم يُذكر المعمول.
كذلك إذا جاء لفظ الإيمان فإنه يعم إذا أُطلق ولم يذكر المعمول؛ فيعم كل شعب الإيمان، ولفظ الإحسان يعم كل أنواع الإحسان.
ثم ذكر الشيخ مثالًا لحذف المعمول وأنه يُفيد العموم، وهو قوله: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾ [التكاثر: 1]، فحذف المعمول به المتكاثر به، فما قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: "ألهكم التكاثر في الأموال، ولا في الأولاد" في هذه الآية؛ قال الشيخ: فحذف المتكاثر به يعم كل ما قُصد به التَّكاثر، وهو التفاخر على الآخرين، والتَّزيُّد والتَّشبُّع بمثل هذه الأمور، وإظهار العلو على الناس، وهذا على سبيل الذَّم، ولهذا ذكر التي بعدها: ﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ [التكاثر: 2]، قال بعض المفسرين: أي: الموت؛ لأن نهاية التكاثر موت، فيُشعركم أنَّ التكاثر لا قيمة له؛ لأنه من الأمور الدنيوية التي مبناها على الفناء والزوال، فينتهي بالموت.
وقال بعض المفسرين: إنَّكم قد بلغتم من التكاثر والتفاخر أنكم زرتم المقابر لتتكاثروا بآبائكم وأجدادكم وهم في قبورهم.
وعلى كلا المعنيين؛ فله معنًى يخصه، ويذم التكاثر بأي وجهٍ كان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الخامسة عشرة: جعل الله الأسباب للمطالب العالية مبشرات لتطمين القلوب وزيادة الإيمان)}.
ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- في القرآن ربط الأمور بالأسباب، وذكر أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أقام هذا الكون على نواميس -يعني: قوانين- وهذه القوانين لا تتحقق إلا بتحقق شروطها وانتفاء موانعها، وهذا يشمل الأمور الشرعية، والأحكام التي تُطلق في باب الأحكام، وفي حياتنا الدنيا، فالله -عَزَّ وَجَلَّ- ربط الأمور بأسباب.
وأُمثِّل لكم بمثال: الشَّبع لا يكون إلا بالأكل والطعام، فلا يُمكن للإنسان أن يشبع إلا إذا أكل، فربط الأكل بالشبع الذي هو علَّةٌ أو شيء وجودي يحس به الإنسان وينتفع به، ويورثه الطاقة والقدرة، وكذلك الرَّي لا يحصل إلا بالارتواء بالماء.
إذن؛ الأمور مربوطة بأسباب، فلابد من تحقق الشروط وانتفاء الموانع في مثل هذه الأسباب -الأسباب الحسيَّة والأسباب الشرعية.
ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مثال النصر؛ فالنصر مطلب من مطالب أهل الإيمان، والنصر على الأعداء لا يكون إلا بتحقق الشروط وانتفاء الموانع، فشروط النصر ذكرها الله -عَزَّ وَجَلَّ- في القرآن، وذكر أسباب النصر المعنوية والحسيَّة، فعلى أهل الإيمان أن يتعرَّفوا وأن يتحققوا من هذه الأسباب، وعليهم أن يحرصوا على انتفاء الموانع، فمن موانع النصر كما قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46]، وفي آيات كثيرة جدًّا ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- ذم الالتفات إلى الأسباب مع تحقُّقها، وهذا يدل على أنَّ النَّصر من عند الله -عَزَّ وَجَلَّ-، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ﴾ [التوبة: 25]؛ فمع هذه الأسباب إلا أنه لا يُلتفَتُ إليها، وإنما تُعمَل الأسباب، ويُعلَم أنَّ الإنسان يسعى بتحصيلها ولا يلتفتُ إليها.
قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- عن النَّصر في بيان أنه جعله الله -عَزَّ وَجَلَّ- للبشرى ولطمأنينة قلوب أهل الإيمان في زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 126].
ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مثالًا آخر وهو الرِّيـاح، فذكر أنها سبب المطر، وأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- جعلها من المبشرات، فقال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ [الروم: 46]، فهذه الأسباب من رحمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن جعلها مبشرات.
ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- الرؤيا الصالحة والثناء الحسَن، والتوفيق في الدنيا، وأنها مبشرة لأهل الإيمان بدوام ذلك في الآخرة وبالنجاة من النار، وبدخول الجنان، أسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يدخلنا الجنة ويُعيذنا من النار جميعًا، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [يونس: 62، 63]، فهنا الأسباب: الإيمان والتقوى. فشرط الولاية: الإيمان والتقوى، فالإيمان بما جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وتقوى الله -عَزَّ وَجَلَّ.
قال تعالى: ﴿لهم البشرى.... وفي الآخرة﴾، فأما البشرى في الحياة الدنيا ففسرت بأنها الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرَى له، وفُسِّرَت بالثناء الحسن، فالإنسان إذا عمل عملًا وأخلص فيه لله -عَزَّ وَجَلَّ- ثم سمع الثناء؛ فإنه يُسرُّ به، لا لأنه يطلب ثناء الناس، وإنما لأنه يرى أن ذلك من البشرى له بقبول هذا العمل، فهذا يبعثه على المزيد من الإخلاص ومزيد من العمل الصالح، فجعل الله -عَزَّ وَجَلَّ- له مبشرات، ولهذا قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ [فصلت: 30، 31].
ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أن الشدائد مُبشرة بالفرج، والعسر مُؤذن باليسر، قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرً﴾ [الشرح: 5]، قال بعض أهل العلم: لن يغلب عسرٌ يسرين.
وقال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرً﴾ [الطلاق: 7]، وذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- مواقف الأنبياء وأهل الإيمان: ﴿وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214]، فقد يُؤخر الله النصر والفرج لحكمٍ يعلمها الله -عَزَّ وَجَلَّ- لخيرٍ للعبد في دينه ودنياه، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾ [الرعد: 41].
فالمطلوب من أهل الإيمان: أن يعملوا بأسباب الفرج، وأن ينتظروا الفرج، فإن انتظار الفرج من العبادة، ولهذا فإنَّ من أُصيبَ بكربٍ أو أصابته مُصيبة فعليه أن ينتظر هذا الفرج، ويسأل ربَّه -سبحانه وتعالى- زوال هذا العُسر، ويعلم أنَّ انتظار الفرج من العبادة، ويتذكر قول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرً﴾، فما بعدَ الشدَّة إلا الفرج من الله -عَزَّ وَجَلَّ- ورحمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- قريب من المحسنين، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة السادسة عشرة: حذف جواب الشرط يدل على تعظيم الأمر وشدته في مقامات الوعيد)}.
أفعال الشرط -أو أدوات الشرط- منها ما هو جازم، ومنها ما هو غير جازم.
أدوات الشرط الجازمة "إن، مَن، ما، مهما، متى، أين، أينما".
وغير الجازمة: "إذا، لو، لولا، أمَّا، لمَّا، كلَّما".
ولابدَّ أن يُعرَف أن أداة الشرط لها فعلٌ ولها جواب، فحذف جواب الشرط يدل على معنى؛ فإذا حذف جواب الشرط دلَّ على معنًى، فعليكَ أن تعرف فعل الشرط وأداة الشرط وجواب الشرط.
ذكر الشيخ مثالًا، قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [السجدة: 12].
أداة الشرط هنا: "لو" وهي غير جازمة. وجواب الشرط محذوف
وقال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ﴾ [سبأ: 51]، وجواب الشرط محذوف.
فحذف جواب الشرط في الآية الأولى والآية الثانية يدلُّ على معنًى، وهو: عِظَم هذا المقام؛ لأنه مقام شديد وعظيم، ولهذا لم يجعل له جواب.
والشرط هو: تلازمٌ بينَ جملتين وارتباطهما بواسطة أداة تسمى أداة الشرط.
فلم يذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- جواب الشرط في قوله ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ﴾، لعظم المقام، وشدة الوعيد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة السابعة عشرة: بعض الأسماء الواردة في القرآن إذا أفرد دل على المعنى المناسب له، وإذا قرن مع غيره دل على بعض المعنى، ودل ما قرن معه على باقيه)}.
هذه القاعدة التي ذكرها الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- هي أنَّ بعض الأسماء الواردة في القرآن إذا أُفرِدَ دلَّ على المعنى العام المناسب له، وإذا قُرن مع غيره دَلَّ على بعض المعنى، ودَلَّ ما قَرن معه على باقيه؛ يعني أنَّ هذا التَّصوُّر الأولي قد لا يُفهَم إلَّا بالإتيان بهذه الألفاظ أو الأسماء التي وردت في القرآن.
والشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مثَّل بالإيمان، فالإيمان وردَ مفردًا، ووردَ مقرونًا بالعمل الصالح، فإذا نظرتَ في القرآن لوجدتَّ أن "الإيمان" يأتي مفردًا كما في قوله: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو﴾، ويأتي مقرونًا بالعمل الصالح ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾.
- فما أُفرِدَ دخل فيه جميع عقائد الدين، وجميع الشريعة بظاهرها وباطنها، والأحكام الشرعية الكاملة، الأعمال القلبية وأعمال الجوارح؛ فكلها تشمل معنى الإيمان.
- والآيات التي قُرنَ فيها الإيمان بالعمل الصالح كقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 277]؛ فيُفسَّر الإيمان بما في القلوب، ويُفسَّر العمل الصالح بجميع الأعمال القولية والفعلية، فالإيمان هو الأعمال القلبية، والأعمال الصالح هو الأعمال الظاهرة، والأعمال الظاهرة تشمل القول والفعل مما يقوله الإنسان ومما يفعله.
ومن عقيدة أهل السنة أن الإيمان قولٌ وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ولهذا فإذا أُفرِدَ أفادَ معنًى، وإذا قُرِنَ بالعمل الصالح أفاد معنًى آخر.
ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- المثال الثاني، وهو البر والتقوى.
- فإذا أفرِدَ البر دخل فيه امتثال الأوامر واجتناب النواهي، يعني: ما أمر الله -عَزَّ وَجَلَّ- به وما نهى عنه كقوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ [البقرة: 177]
- وإذا قُرِنَ البرُّ بالتقوى؛ كان "البر" اسمًا جامعًا لكل ما يحبه الله ويرضاه، و"التقوى" اسمًا جامعًا يتناول ترك المحرمات.
فيكون "البر" هو فعل الطاعة، و"التقوى" ترك المعصية؛ وهذا يفيدك أن "البر" إذا قُرِنَ فإنه يُفهَم منه معنًى، وإذا أُفرِدَ فُهِمَ منه معنًى آخر.
ويُمثل علماء اللغة وعلماء الأصول بلفظ "الفقير" و"المسكين"؛ والشيخ ذكر هذا المثال ولكننا لا نريد أن نطيل:
فإذا قُرنا "الفقير والمسكين"، فيكون لهما معنى، فـ"الفقير" له حد و"المسكين" له حد؛ وأما إذا أفرد "الفقير" فيدخل في معنى "المسكين".
إذن؛ هذه القاعدة -كما ذكرها الشيخ رحمه الله تعالى- أنَّ الاسم إذا أُفرِدَ على المعنى المناسب له، وإذا قُرِنَ دلَّ على معنًى آخر يراعيه الإنسان في قراءته لكلام الله -عَزَّ وَجَلَّ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الثامنة عشرة: إطلاق الهداية والإضلال وتقييده)}.
لابدَّ أن نُقدِّمَ بمقدَّمة:
في كثيرٍ من الآيات يُخبر -عَزَّ وَجَلَّ- أنه يهدي مَن يشاء ويُضل مَن يشاء، وفي خطبة الحاجة «مَن يَهْدِهِ اللَّهُ فلا مُضِلَّ له، وَمَن يُضْلِلْ فلا هَادِيَ له» ، فهذا قد يُشكل على بعض مَن لا يعرف هذه الدلالات، وهذا نطق به القرآن، ففي كثير من الآيات يُخبر أنه يهدي مَن يشاء ويضل مَن يشاء على وجه العموم، ويعلقها على محض المشيئة، وفي بعض الآيات يذكر الأسباب المتعلقة بالعبد الموجبة للهداية والموجبة للإضلال، ومرَّ معنا أن القرآن يصدق بعضه بعضًا، ويفسر بعضه ببعض، وهذا أحسن ما يكون من التفسير.
ففي بعض الآيات يذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- الأسباب المتعلق بالعبد الموجبة للهداية، والموجبة للإضلال؛ فدلَّ على أن ثَمَّ أسباب للهداية، وثَمَّ أسباب للضلالة، مع تعلقها بالمشيئة النافذة، قال تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الإنسان: 30].
وكذلك حصول المغفرة وضدها، وبسط الرزق وتقديره -أي تضييقه- قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ﴾ [العنكبوت: 62]؛ فيطلقها ويجعلها متعلقة بالمشيئة ثم يقيدها بأسباب؛ وهذا من وجهين:
الوجه الأول: لأجل كمال التوحيد، فالمؤمن بحاجة إلى العقيدة الصحيحة، وأن يعرف أن الأمور طلها بيد الله -سبحانه وتعالى- قال تعالى ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾، فمشيئته نافذة في كل شيء، ومشيئة العبد داخلة تحت مشيئة الله -عَزَّ وَجَلَّ- فالأمر بيد الله -سبحانه وتعالى- وأنه هو المعطي والمانع، وأن أسباب الهداية لا تعدو أن تكون أسباب، وأسباب الضلال لا تعدوا أن تكون أسباب، يتعاطها المؤمن ويفعلها، لأن الله أمره بفعلها، ومع ذلك لا يتعلق بهذه الأسباب، وإنما يتعلق بمسبب الأسباب، فهو الذي يهدي من يشاء ويضل مَن يشاء، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء»، وكان -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»، وفي كل ركعة من الركعات يسأل المسلم ربه الصراط المستقيم ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ [الفاتحة: 6].
فاعلم أن من كمال التوحيد أن تعلم أنه هو المعطي والمانع، فلا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى -سبحانه وتعالى- قال: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَ﴾ [فاطر: 2]، وقال: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ﴾ [الأنعام: 17]، ﴿وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ﴾ [يونس: 107]، إلى غير ذلك من الآيات.
الوجه الثاني: يذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- في آيات أسباب الهداية وأسباب الضلال لنفع العباد، حتى يسلك النافع من هذه الأسباب ويجتنب الضلال، قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل: 5 - 10]، وهذه الآية تلاها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في بيان القدر السابق لما قال لهم: « مَا مِن نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ، إلَّا وَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ مَكَانَهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، وإلَّا وَقَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً، أَوْ سَعِيدَةً»، قالَ فَقالَ رَجَلٌ: يا رَسُولَ اللهِ، أَفلا نَمْكُثُ علَى كِتَابِنَا، وَنَدَعُ العَمَلَ؟ فَقالَ: مَن كانَ مِن أَهْلِ السَّعَادَةِ، فَسَيَصِيرُ إلى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمَن كانَ مِن أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، فَسَيَصِيرُ إلى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَقالَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بالحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل: 5- 10]»
إذن؛ كلام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- والقدر يفسره كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- وهذا يدل على أن الإنسان مطلوب منه أن يتعاطى أسباب الهداية وأن يجتنب أسباب الضلال حتى يسلم، وهذا مشاهَد في نواميس الكون، فلا يُمكن للإنسان أن تكون له الذريَّة إلا بالنِّكاح، ولا يكون له الشَّبع إلا بالرِّيِّ، ولا يكون له الشبع إلَّا بأكل الطعام، فهذه أمور ربطها الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فكذلك الأسباب الشرعية، ولهذا بين الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنَّه لا يظلم أحد، فلابد للإنسان أن يعرف أن القدر السابق لا يعني الظلم، لأن الله لا يظلم أحدًا، وإنما يُحاسب الإنسان على ما فعله، ولهذا قال في الآية السابقة ﴿بَخِلَ وَاسْتَغْنَى﴾، فهذا فعله، وكانت النتيجة ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾.
وقاله -عَزَّ وَجَلَّ- عن أعمال الكفار: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: 5]، وقال عن المنافقين الذين لم يخرجوا مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في غزوة تبوك: ﴿وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ [التوبة: 46]، مع ما سبق منهم من عدم إرادة الخير وعدم الاستعداد له، ولهذا قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾ [الأعراف: 156، 157]، وقال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56]، فحقيقة رحمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- تكون بالدخول في الجنة والنجاة من النار، وتكون للمحسنين، نسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يرزقنا الإحسان، فإن الله يحب المحسنين، وأمر -عَزَّ وَجَلَّ- بالإحسان، وهذا فعلُ العبدِ، وهو من أسباب الاهتداء، فعلى الإنسان أن يفهم هذه النصوص وفقَ ما جاء في كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- ووفق ما جاء في كلامه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- والقرآن يصدِّقُ بعضه بعضًا، والقرآن يُفسَّر بسنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وليس في شرع الله -عَزَّ وَجَلَّ- ما يُظهِرُ للإنسان تناقدًا أو إشكالًا، وإنما الإشكال في ذهن المكلَّف، ونذكر بقول الله -عَزَّ وَجَلَّ- ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرً﴾ [النساء: 82].
أسأل الله -سبحانه وتعالى- لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.