الدرس الخامس

فضيلة الشيخ د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

2099 12
الدرس الخامس

القواعد الحسان المتعلقة بتفسير القرآن

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور: فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله أخي عبد الرحمن، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، أسأل الله -سبحانه وتعالى- للجميع العلم النافع والعمل الصالح.
{اللهم آميـن.
نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الشيخ عبد الرحمن بن السعدي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة التاسعة عشرة: الأسماء الحسنى في ختم الآيات.
يختم الله الآيات بأسماء الله الحسنى ليدل على أن الحكم المذكور له تعلق بذلك الاسم الكريم)
}.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
هذه القاعدة التي ذكرها الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قال عنها: (وهذه القاعدة لطيفة نافعة، عليك بتتبعها في جميع الآيات المختومة به)، فإن الله -سبحانه وتعالى- ختم الآيات بأسمائه الحسنى، وهذا يدل على أنَّ الحكم المذكور له تعلقٌ بالاسم الكريم الذي خُتمت به الآية، وهذا ظاهر في أنَّ آيات الرحمة مختومة بأسماء الرحمة، وآيات العقوبة مختومة بأسماء العزة والقدرة والحكمة والعلم والقهر، ولهذا ذكر الشيخ أمثلة، وللطالب النَّبيه أن يتتبع آيات القرآن ليجد أنَّ هذه القاعدة مُطَّردة.
والشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ذكر بعض الأمثلة: قال الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 29]، وقال سبحانه: ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك:14]، وقال تعالى في آية أخرى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة:37].
فتلاحظ -أخي المشاهد- أنَّ الله -سبحانه وتعالى- ختم هذه الآيات بما يناسبها من أسمائه تعالى ومن أوصافه تعالى وجلَّ، ولهذا قال عن عقوبة السرقة لَمَّا أمرَ بقطع يد السارق والسارقة: ﴿نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [المائدة: 38]، فناسبَ هنا العزَّة والحكمة، وهذا بحسب السياق المناسب.
وإن الله -عَزَّ وَجلَّ- يذكر الأحكام الشرعية وما يناسبها من الأسماء الحسنى، وهذا ظاهرٌ مطَّرد، إلَّا في مواضع معدودة نبَّه عليها أهل العلم، وهي بحسبها -كما يقولون.
ومما ذكره الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في أواخر سورة المائدة قال الله -عَزَّ وَجلَّ- بعدما ذكر محاجَّة عيسى لربه قال -عَزَّ وَجلَّ- على لسان عيسى يوم القيامة: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة: 118]، مع أنَّ المقام مقام مغفرة، ولكنه ذكر اسم "العزيز الحكيم" المتضمن لصفتي العزة والحكمة؛ لأن المقام مقام حساب وغضب، فلهذا ناسبَ أن تذكر هذه الصفة، ولهذا خاطب عيسى ربه بهذه الأسماء الحسنى المتضمنة لتلك الصفات العلا.
هذه القاعدة تُفيد طالب العلم وتفيد المؤمن والمؤمنة أنَّه في حال الدعاء أن يدعو الإنسان ربه -عَزَّ وَجلَّ- بما يُناسب المقام أدبًا مع الله -عَزَّ وَجلَّ- وطلبًا لأثر تلك الصفة، فمثلًا إذا طلب المغفر قال: يا غفور اغفر لي، يا رحيم ارحمني، يا توَّاب تُبْ عليَّ، وهكذا؛ فينتقي من أسماء الله -عَزَّ وَجلَّ- ما يناسبها، وهذا من آداب الدعاء، والتي اطَّردَ حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في أدعيته الشريفة على ذكره، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه أهل الإيمان عند دعاء ربهم -سبحانه وتعالى.
إذن؛ هذه القاعدة التي ذكرها الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- لها فائدة عظيمة وجليلة النفع كما قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة العشرون: القرآن كله محكم باعتبار، وكله متشابه باعتبار، وبعضه محكم وبعضه متشابه باعتبار ثالث)}.
هذه القاعدة جليلةُ النفع، وعظيمة الفائدة؛ بل إني أقول: إن ضبط هذه القاعدة يفسر كثيرًا من الإشكال، بل إن الجريان مع هذه القاعدة وفهمها على وجهها الصحيح -بإذن الله- عصمةٌ للإنسان من الوقوع في الفتن، فلابدَّ لطالب العلم أن يفهم هذه القاعدة، ولهذا ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- هذه القاعدة فقال: (القرآن كله محكم باعتبار)، يعني: وجه.
قال: (وكله متشابه باعتبار، وبعضه محكم وبعضه متشابه باعتبار ثالث). كيف نفسر هذا؟
الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- استدلَّ على ذلك بآيات، فالقرآن وُصف بأنه محكم، ومتشابه، ومحكم ومتشابه.
أما كونه محكم: فإن الله -عَزَّ وَجلَّ- قال: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود: 1]، فالمراد بالإحكام هنا: أنه في غاية الإحكام والانتظام، إذن هو مُحكَمٌ كله، فأخباره حقٌّ وصدقٌ، ولا تناقضَ فيها ولا اختلاف، قال الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرً﴾ [النساء: 82].
ووصفه بأنه متشابه باعتبار آخر: فإن الله -عَزَّ وَجلَّ- قال: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهً﴾ [الزمر: 23]، يعني أنَّ القرآن متشابه من وجه.
ما المراد بالتشابه هنا؟
قال أهل التفسير: مُتشابه في الحُسنِ والصدق والبركةِ والنَّفع، إلى غير ذلك من صفات القرآن العظيم الذي هو كلام الله -عَزَّ وَجلَّ- ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 42].
قوله: (وبعضه محكم وبعضه متشابه باعتبار ثالث)، فمنه آيات محكمات كما قال الله -عَزَّ وَجلَّ- في أوائل سورة آل عمران: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ [آل عمران: 7]، إذن؛ منه مُحكَم ومنه ما هو متشابه، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجلَّ- مبينًا سلوك مَن يسلك اتِّباع المتشابه، ومَن يسلك الالتزام بالمُحكَم، فقال -عَزَّ وَجلَّ: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَ﴾ [آل عمران: 7]، يعني آمنوا بالمحكم والمتشابه. فهذا الوصف هو معنى المُحَكم في هذه الآيات.
فالمُحكَم: ما بانت به الشرائع والأصول والقواعد والثوابت.
قال أهل العلم: المُحكَم هو الواضح البيِّن، الذي بانت به الشرائع والقواعد والثوابت في الشريعة، كأركان الصلاة، أركان الصيام، قواعد وأصول المحرمات، والمنهيات، أصول الواجبات؛ فهذه بانت بالمُحكمَات.
والمتشابه هنا: هو المُجمَل ومحتمل المعنى، فهو يحتمل معنًى غير المعنى الظاهر، ويحتمل أوجه، ولهذا أمر الله -عَزَّ وَجلَّ- بالالتزام بالمحكَم، وبردِّ المتشابه مع الإيمان به إلى المحكم، وألا تكن -يا عبد الله ويا أمة الله- ممن في قلبه زيغ، لأن الزيغ مرض وانحراف فتتبع المتشابه وتُعرض عن المُحكَم، وهذا سمة أهل البدع الذين خالفوا منهج الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ومنهج الصحابة.
إذن؛ منهج الصحابة والتابعين لهم بإحسان: الالتزام بالمُحكم، ورد المتشابه إلى المحكم.
ويُمكن أن يُمثَّل لهذا بقول الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [النحل: 93]، فما تشابه من المعنى يُرد إلى المحكم من النصوص، وهذه الآية قد يُفهم منها أن الله -عَزَّ وَجلَّ- يُسيِّرُ الهداية والضلال دونَ اعتبار، فهذا المعنى متشابه، والصواب أن يُرد المعنى إلى المحكم، والمُحكم في هذا قول الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدً﴾ [الكهف: 49]، فهدايته لمن اهتدى وفق الحكمة والعدل، وإضلاله لمن ضل وفق الحكمة والعدل، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجلَّ- في بيان هذا المجمل: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل: 5 - 8]، فبانَ بهذه المحكمات مان تشابه من الآيات، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجلَّ- مبيِّنًا أنَّ من أسباب الإضلال هو عمل الإنسان، قال الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: 5].
إذن؛ هذه قاعدة مُهمَّة مطَّردَةٌ، ينبغي لطالب العلم أن يفهمها فهمًا جيٍّدًا، وينبغي لكل مؤمنٍ ومؤمنة أن يفهم القرآن على وجهه وفق فهم الصحابة والتابعين، وأن يحذروا ممن سماهم الله -عَزَّ وَجلَّ- ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: 7] وقال عنهم عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم"، وهؤلاء هم الذين يشبهون على الناس بالنُّصوص، فإنهم لا ينطلقون في هدم الثوابت وقواعد الشريعة إلَّا باتِّباع المتشابه، وما ضلَّ مَن ضلَّ إلَّا باتِّباع المتشابه، وما هُديَ من هُديَ وثبت على السنة إلا بالتزام المحكم وردّ المتشابه إلى المحكم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الحادية والعشرون: القرآن يجري في إرشاداته مع الزمان والأحوال في أحكامه الراجعة للعرف والعوائد)}.
هذه قاعدة مهمَّة، والشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وأجزل له المثوبة- ذكرها وبيَّن أن القرآن يجري في إرشاداته، يعني في توجيهات الرب -سبحانه وتعالى- في كلامه لعباده؛ مع الزمان والأحوال، يعني الزمن له أحكام، والأحوال لها أحكام.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (في أحكامه الراجعة للعرف والعوائد)، فالعرف مطلوبٌ مراعاته، والعادة محكَّمة.
ونقول: من الأحكام ما لا يتغير باختلاف الزمان والمكان والحال؛ لأن الإسلام صالحٌ لكل زمانٍ ومكانٍ، وصالح للزمان والمكان في كل زمان ومكان، فالشرائع المفروضة كالصلاة والزكاة والحج والصيام وغيرها؛ هذه الأحكام لا تتغير بتغير الأحوال والأوقات وتغير الزمان، وهذا وقع عليه إجماع أهل العلم.
وكذلك المنهيات، كنهي الله -عَزَّ وَجلَّ- عن الشرك والزنا وقتل النفس بغير حق، إلى غير ذلك مما نهى الله -عَزَّ وَجلَّ- عنه؛ فإنه لا يتغير بتغير الزمان والمكان.
إذن؛ ما الذي يُجرى فيه على العرف والعادة؟
قال أهل العلم: ثَمَّ أوامر تختلف في حدها -وليس في أصلها- ونوعها بحسب الحال والزمان، فمردها إلى العرف.
وهذا الكلام من الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- كلامٌ سديد أصولي لا يصدر إلا من فقيه، ومثَّل الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بالمعاشرة بين الزوجين -يعني العشرة بين الزوجين- قال الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: 19]، هذه المعاشرة أطلقها الله -عَزَّ وَجلَّ- ولم يحدّها بحدٍّ؛ لأن المعاشرة تكون بالمعروف -يعني: بالعرف- والعادة والمعروف تختلف في كل زمان ومكان، فتختلف المعاشرة بالمعروف في زمن عن زمن آخر، والمعاشرة بالمعروف في زمان واحد تختلف من مكان عن مكان آخر، والمعاشرة بالمعروف بحسب حال الشخص تختلف من حاله إذا كان فقيرًا وإذا كان غنيًّا، فلا يمكن أن تكون العشرة بالمعروف من الغني كالعشرة بالمعروف من الفقير؛ لأن الله -عَزَّ وَجلَّ- قال: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَ﴾ [الطلاق: 7] ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَ﴾ [البقرة: 286].
إذن؛ هذا مَرَدَّه إلى العرف بحسب الحال والزمان والمكان والشخص، فهذا متقرر عند أهل العلم، وعليه اتفاق أهل العلم، وهذا يدلك على أن الإسلام كامل في تشريعاته وأحكامه، فأطلقَ ما يحتاج إلى إطلاق، وحدَّ ما يحتاج إلى حدٍّ.
ومما يذكره الفقهاء في مثل هذا: أن الله -عَزَّ وَجلَّ- قال: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلً﴾ [آل عمران: 97]، وأجمع أهل العلم أن الحج إنما يجب على المستطيع، وذكر الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- أن الاستطاعة أن يجد زادًا وراحلة صالحين لمثله، وضع خطين في قوله: "صالحين لمثله"، يعني بما يناسبه، فإذا كان غنيًّا فلابدَّ أن يجد زادًا يناسبه، وراحلة تناسبه، فلو وجدَ أقل من ذلك فلا يُعتبر عند الفقهاء أنه مُستطيع، لابدَّ أن يجد زاد وراحلة صالحين لمثله، وهكذا الفقير يجد راحلة وزاد صالحين لمثله حتى يجب عليه الحج.
فانظر يا عبد الله إلى أحكام الشريعة كيف أنها جاءت بالحنيفية السمحة، ليس فيها آصار ولا أغلال ولا مشقة، بل المشقة في شريعة الإسلام تجلب التيسير، فالحمد لله الذي أنعم علينا بهذا الدين القويم، وجعلنا الله -عَزَّ وَجلَّ- من أتباعه ومن أنصاره، ومن المتمسكين به حتى نلقاه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الثانية والعشرون: في مقاصد أمثلة القرآن)}.
الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قال: إنَّ الله أكثر من الأمثلة في القرآن، وهذه الأمثلة في غاية النفع، ومطلوب ممن يقرأ كلام الله -عَزَّ وَجلَّ- أن يتدبر هذا القرآن، وأن يقف مع هذه الأمثال، وأن يعتبر ما فيها من العلوم النافعة، فإن الأمثال التي ذكرها الله -عَزَّ وَجلَّ- في كتابه في غاية النفع، ومثَّل الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بأمثلة.
وقبل ذلك لابدَّ أن نقرر قواعد، ولابدَّ لكل مسلم أن يفهمها وأن يعيها جيدًا، وهي أن القرآن احتوى على أعلى وأكمل العلوم؛ لأن الله يقول: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9]، ويقول: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 57].
والقرآن احتوى في أساليبه على أحسن طرق التعليم، ولهذا فإنَّ القرآن استخدم أسلوب المثل لتقريب المعنى في آياتٍ كثيرة.
من أمثلة ذلك:
- الله -عَزَّ وَجلَّ- مثل الوحي بالماء النازل من السماء وهو المطر.
- ومثل كلمة التوحيد بالشجرة الطيبة.
- ومثل المشرك بالعبد الذي له أكثر من سيد، قال الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 29]، الموحد يعبد إلهًا واحدًا، والمشرك يعبد آلهة متعددة.
- ومثَّل بضعف الآلهة التي تُعبَد من دون الله -عَزَّ وَجلَّ- على اختلاف تنوعها وأجناسها بأنها لا تنفع ولا تضر، ولا تستطيع عون أي إنسان، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ [الحج: 73] الله أكبر! بلاغة القرآن وعظيم هذه الأمثلة.
- مثل أعمال الكفار بسراب قيعة، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً﴾ [النور: 39].
- ومثل للمنفقين بقوله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾ [المنافقون: 4]، فوصفهم بأنهم خشب مسندة.
- ووصف اليهود الذين لا يعملون بما في التوراة بقوله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارً﴾ [الجمعة: 5].
- ومثل ما يفعله الكفار تجاه دعوة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بقوله: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً﴾ [البقرة: 171].
والقرآن فيه أمثلة كثيرة جدًّا، ونهيب بقارئ القرآن أن يعتبر بهذه الأمثال، وأن يتدبرها ويتأملها، وثم كتب في أمثال القرآن، يقف الإنسان أمام هذه الأمثال ويعتبر؛ لأن المثل أريد به المعنى، ولهذا فله مقاصد عظيمة، ولكما تدبر الإنسان في هذه الأمثال وجدَ أنها عظيمة النفع، واستفاد منها علومًا كثيرة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الثالثة والعشرون: إرشادات القرآن على نوعين)}.
الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في هذه القاعدة ذكر أن إرشادات القرآن وتوجيهات الرب -سبحانه وتعالى- في كتابه العظيم على وجهين:
الوجه الأول: أن يُرشد إلى أمرٍ ونهيٍ وخبر معروف شرعًا أو عرفًا، وقد تقدَّم الكلام على هذا.
الوجه الثاني: أن يُرشد إلى استخراج الأشياء النافعة من أصول معروفة، ويُعمل الفكر فيها، فإنه يستفيد منها المنافع العظيمة، ولهذا قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وهذه قاعدة شريفةٌ جليلةُ القدرِ).
أما النوع الأول: فهو أكثر الأمور الخبرية والحكميَّة، فإما أخبار وإما أحكام وشرائع.
النوع الثاني -وهو المقصود من القاعدة: مثَّل المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- له بالتفكر في خلق الله -عَزَّ وَجلَّ-، فإن الله -عَزَّ وَجلَّ- أمر بالتفكر لمعانٍ عظيمة، فإن التفكر يفيد علومًا نافعة، منها:
العلم الأول: التفكُّر، فيتفكر الإنسان لأي شيءٍ خُلق، ولأي فائدة خُلق، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: 115]، وقال: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورً﴾ [الإنسان 1- 3]، فهذا التفكر يبعثك على الانتفاع بالإيمان.
والتفكر يبعثك على التَّذكُّر، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [يونس: 101]، فأمر الله -عَزَّ وَجلَّ- بالنَّظر والتَّفكر، ولهذا ذكر الله -عَزَّ وَجلَّ- خلق السماوات والأرض، وخلق الإنسان من نطفة، وذكر أمورًا كثيرة، وردَّ على مَن يُشكك في قضية البعث، قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [يس: 78، 79]، فهذا يبعثك على أن تتذكر، وإذا تذكرت فهذا يفيدك الإيمان بالله واليقين الذي يُعمر به قلبك، وهذا هو المراد من القرآن، أن يتدبر الإنسان هذه الآيات، وأن يتفكر فيها، وأن يتمعَّن في معانيها العظيمة، وأن يستفيد في إصلاح نفيه وإصلاح مجتمعه.
العلم الثاني الذي أرشد الله -عَزَّ وَجلَّ- لاستخراج الأشياء النافعة من القرآن ومن توجيهات الرب -سبحانه وتعالى: الانتفاع بهذه التوجيهات واستخراج المنافع منها في خيري الدنيا والآخرة، ولهذا ذكر الله -عَزَّ وَجلَّ- أصول الحياة، وأمر -عَزَّ وَجلَّ- بالإعداد لمقاتلة الكفار، فقال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ﴾ [الأنفال: 60]، فجاء الإعداد بصيغة النكرة في قوله ﴿قُوَّةٍ﴾، وهذه النكرة تعم كل قوَّة، ولهذا فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فسَّر هذه القوة فقال: «ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي»، فصلَّى الله وسلم عليه.
إذن؛ أرشدكَ الله -عَزَّ وَجلَّ- إلى إعداد الأمَّة إعدادًا معنويًّا وإعدادًا حسيًّا، فإن الله ربط الأمور بأسباب، فإذا أخذ أهل الإسلام بأسباب القوة كان لهم التَّمكين، وأسباب القوة معنوية وحسيَّة، والله -عَزَّ وَجلَّ- في القرآن أرشد إلى اتِّخاذ الأسباب الحسيَّة والمعنويَّة، ولهذا قعَّد العلماء قاعدة فقالوا: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
والله -عَزَّ وَجلَّ- أرشدَ إلى ما به قوام الناس واستقامتهم، واستقامة أحوالهم، والاستقرار وتحقق السِّلم في الأمَّة، قال -عَزَّ وَجلَّ: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8]، وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [المائدة: 42]، ونهى عن الظلم وحذَّرَ منه فقال: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ [إبراهيم: 42].
وهذا تقرير لأسباب التمكين، فإنَّ من أسباب التَّمكين وأسباب السِّلم والأمان للأمة وللدولة وللمجتمع: إقامة العدل، والله -عَزَّ وَجلَّ- أمر بالعدل حتى مع العدو، فقال: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8]، فالعدل أساس قيام الدول والأمم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في تفكره وتدبره في لطائف القرآن: "إنَّ الله يُقيم الدولة الكافرة إذا كانت عدلا"، يعني: يصير لها أسباب القيام؛ لأن إقامة العدل من أسباب القيام. قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "ويزيل الدولة المسلمة إذا كانت ظالمة"، وهذا لوجود الظلم. وهذا نبَّه الله -عَزَّ وَجلَّ- إليه.
وهكذا في أمورٍ كثيرة، كتحريم الحيل في البيع والشراء، والاحتيال على الناس، ولهذا ذكر الله -عَزَّ وَجلَّ- الأمم المحتالة ومنهم اليهود فقال الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [الأعراف: 163]، فأصحاب القرية حُرِّم عليهم صيد السمك يوم السبت، فجعلوا شباكهم يوم الجمعة ثم استخرجوها يوم الأحد! فاحتالوا على أمر الله -عَزَّ وَجلَّ-، وما ذكر الله تعالى ذلك إلا لتحريم الحيل، فالحيل في البيع والشراء محرمة، والصدق به أسباب الانتفاع والتكاثر، وبه أسباب رد كيد الأعداء عن الأمة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الرابعة والعشرون: التوسط والاعتدال وذم الغلو)}.
هذه قاعدة عظيمة النفع، ولو نظرنا فيها لوجدنا أنها شعارٌ يرفعه كل أحد، فكلٌّ يدَّعي هذا الشعار، وهو شعار الوسطيَّة، فالوسطيَّة كلمة مجملة، ولكن الوسطية في القرآن ليست شعارًا؛ بل هي حقيقة، فالإسلام دين الوسط، قال الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطً﴾ [البقرة: 143]، فالأمَّة الوسط هي أمة الإسلام، وهي أمَّة الخيار والعدل، والقرآن يُرشد إلى التَّوسُّط والاعتدال في الأمور، ويذم التقصير والغلو ومجاوزة الحد، لأنَّ من طبيعة النفوس إما أن تكون غالية أو مفرِّطة، والله -عَزَّ وَجلَّ- لا يجري على طبائع النفوس، بل يأمر بالجريان وفق أمره تعالى، ولهذا جاءت الأوامر والنواهي بمخالفة الهوى، فالهوى يُميلك إلى أحد طرفي النقيض، إما الإفراط -وهو الغلو- أو التفريط، ولهذا أمر الله -عَزَّ وَجلَّ- بالعدل فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ [النحل: 90]، والعدل هو الوسط. وقال -عَزَّ وَجلَّ: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ﴾ [الأعراف: 29]، وحذر الله -عَزَّ وَجلَّ- من الغلو وبخاصَّة الغلو في الدين، فهو مذموم، قال -عَزَّ وَجلَّ: ﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ [النساء: 171]، فحصل الغلوم من أهل الكتاب، فذمَّ الله -عَزَّ وَجلَّ- الغلو في الأنبياء.
ومما يُذكر من الغلو في الأنبياء: ما حصل من النصارى، فإنهم قالوا: إن عيسى ابن الله -وهذا غلو- لأمورٍ رأوها، ولإلقاء الشيطان في قلوبهم هذا، فزادت محبَّتهم لعيسى وغلو فيه حتى زعموا أنه ابن الله؛ وغلو فيه وفيه أمِّه، تعالى الله عما يقولون.
قال الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾ [المائدة: 75]، وكونهما يأكلان الطعام فهذا لابدَّ له من إخراج، وهذا يتنافى تمامًا مع الألوهية، فأشار الله -عَزَّ وَجلَّ- إلى هذا المعنى اللطيف العظيم في القرآن، ولهذا كفَّر الله -عَزَّ وَجلَّ- النصارى فقال: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ [المائدة: 17].
ونهى الله -عَزَّ وَجلَّ- عن الغلو في جانب العبادات، ونهى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- عن الغلو فقال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد الله ورسوله فقولوا عبد الله ورسوله»، صلى الله وسلم على نبينا محمد.
كذلك أمر الله -عَزَّ وَجلَّ- بالوسط في جانب المعاملات المالية، فقال: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورً﴾ [الإسراء: 29]، فتأمَّل هذه الآية يا شيخ عبد الرحمن، وتأمل أخي المشاهد وأختي المشاهدة هذا التوجيه القرآني العظيم، وهو أن تكون متوسطًا في الإنفاق في جانب المال، فلا تُمسك ولا تُرسل، لابدَّ أن يكون الإمساك بقدر والإرسال بقدر، لأنك إذا كنت على وضع الإمساك فستكون ملومًا من مجتمعك وأقاربك، وستتحسَّر أنك لم تنتفع بهذا المال عندما تشيب، وعندما تذهب بك الليالي والأيام.
والله -عَزَّ وَجلَّ- ذمَّ التبذير هذا فقال: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ [الإسراء: 27] فإذا تصرفت في هذا المال بإسراف وتبذير، ولم تمسكه بقدرٍ؛ فإنَّك ستكون ملومًا ومتحسرًا، فسيلومك الناس الذين كنت تنفق عليهم وتبذل هذا المال لهم، وستتحسر أنك عند الحاجة إلى هذا المال لم تجده، وعند الحاجة غلى مَن أنفقتَ عليه وجدتَّ أنه باخلٌ عليك، فانت على كلا الحالين ملوم محسورٌ.
ولهذا وجَّهكَ الله -عَزَّ وَجلَّ- إلى أن تكون وسطيًّا في أمورك كلها، في عباداتك، وفي تعاملاتك، وفي محبَّتك وبغضك، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجلَّ- في الآية الأخرى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ يعني: لا يجملنَّكم. قال: ﴿شَنَآنُ قَوْمٍ﴾، يعني: بغض قوم. قال: ﴿عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8]، فأمركَ الله -عَزَّ وَجلَّ- بالاعتدال حال البغض، وألا يحملك هذا البغض على الاعتداء والعداون، فإنَّك إذا اعتديتَ فأنت غالٍ في بغضك، فكنْ في حبِّكَ معتدلًا، وفي بغضك معتدلًا، كنْ وسطيًّا كما أمرك الله -عَزَّ وَجلَّ- وفق ما جاء عن الله في كتابه، وما جاء عن رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
وبالجملة؛ فما أمر الله بشيءٍ إلَّا كان وسطًا بينَ خُلقين ذميمين، إمَّا تفريط وإمَّا إفراط، ولهذا فإن شعار الوسطية لا ننطلق منه بشعارٍ دعائي، وإنما بواقع ملموس في كتاب الله، وفي سنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
ولهذا فإن الشريعة وسطٌ بينَ الشرائع، وأهل السنة والجماعة وسطٌ بينَ الفِرَق، فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال: «ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين وفرقة كلها في النار إلا واحدة». قالوا: يا رسول الله، مَن هي؟ قال: «ما أنا عليه اليوم أنا وأصحابي».
فهذه الشعارات لابدَّ أن توافق الحقيقة، فكل وسطية لا تكون مبنية على أصول شرعية من كلام الله ومن كلام رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فهي ليست من الوسطية في شيء، ولهذا يجب على أهل الإيمان أنهم إذا تكلموا في قضية الوسطية أن يتكلموا بعلم وبرهان، ولهذا لا يُمكن أن يستجيب الناس للوسطية كشعارٍ، وإنما يستجيبون للوسطية القائمة على البرهان من كلام الله وكلام رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، وبهذا أمرنا الله -عَزَّ وَجلَّ- وعلى هذا كانت شريعة الإسلام، فالحمد لله الذي أنعم الله علينا بالإسلام، وأنعم علينا بالعقيدة السليمة، عقيدة السلف الصالح التي هي الوسطية في كل شيءٍ، فهذه هي القضية المهمَّة التي ينبغي لكل مسلم ومسلمة أن يعرفها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الخامسة والعشرون: حدود الله قد أمر بحفظها ونهى عن تعديها وقربانه)}.
الله -عَزَّ وَجلَّ- أمر بحفظ الحدود، وهي ما أمر الله -عَزَّ وَجلَّ- به وما نهى عنه، قال تعالى: ﴿وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 112]، وقال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَ﴾ [البقرة: 229]، وقال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَ﴾ [البقرة: 187].
فحدود الله: هي ما حدَّه الله لعباده من الشرائع الظاهرة والباطنة التي أمرهم الله بفعلها، والمحرمات التي أمرهم الله -عَزَّ وَجلَّ- بالانتهاء عنها، فهي الأوامر والنواهي.
فالحفظ لحدود الله هو: أداء هذه الحقوق وتركُ هذه المحرمات، وعدم قربان هذه المحرمات ولو من قريبٍ، وذلك متوقف على العلم الواجب، فلابد للإنسان أن يعلم حدود الله.
قال العلماء: ما لا يسع المكلف أن يجهله. وقالوا: المعلوم من الدين بالضرورة؛ فهذا يدل على أنه من العلم العيني أن يعلم المسلم وأن تعلم المسلمة حدود الله -عَزَّ وَجلَّ.
ولهذا فإن الله أثنى على الحافظين لحدوده فقال: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: 112].
جعلنا الله -عَزَّ وَجلَّ- من الحافظين لحدوده من الذين يعرفونها، وينتهون عمَّا نهى الله -عَزَّ وَجلَّ- عنه، ويأتمرون بما أمر الله -عَزَّ وَجلَّ- به، وأن نكون في ذلك وفق ما جاء عن الله وجاء عن رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك