الدرس الثامن

فضيلة الشيخ د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

2098 12
الدرس الثامن

القواعد الحسان المتعلقة بتفسير القرآن

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ فهد سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حياكم الله يا شيخ عبد الرحمن، وحيا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يرزقنا جميعًا العلم النافع والعمل الصَّالح.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: (القاعدة الأربعون: في دلالة القرآن على أصول الطب)}.
الحمد لله، والصَّلاة والسلام على رسول الله.
الشيخ عبد الرحمن -أجزل الله له المثوبة- ذكر في هذه القاعدة دلالة القرآن على أصول الطب، وهذا ما تتشوف النفوس إلى معرفته والتنبيه عليه، ولهذا قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (أصول الطب)، يعني ليس العلاج، وإنما أصول الطب، وأصول حفظ الصِّحة.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (أصول الطب ثلاثة: حفظ الصحة باستعمال الأمور النافعة، والحمية من الأمور الضارة، ودفع ما يعرض للبدن من المؤذيات)، فهذه هي أصول الطب.
إذن؛ القرآن عُني بسلامة القلوب وسلامة الأبدان؛ لأنه بالأبدان يُتعبَّد لله -عز وجل- العبادة المشروعة التي جاءت في كتابه -سبحانه.
السؤال الذي يطرح نفسه: كيف نبَّه القرآن على ذلك؟
في قوله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إنه لا يحب المسرفين﴾ [الأعراف:31]، فهذه الآية جمعت أصول الطب، ولو أنَّ الإنسان عمل بها في حياته لوجدَ فائدتها في صحَّةِ بدنه.
ولهذا أُمرَ بالنَّافع الملائم من الأكل والشرب الذي به قوام البدن، فتأكل ما ينفعك، ونُهي الإنسان عن الإسراف في المأكول والمشروب، فالإسراف مذموم، وكذلك أُمر بالحمية عن المؤذي، وذلك بترك الإسراف بالزيادة في الأكل عن القدر، أو التَّخليط في الأكل، ولهذا جاء في الحديث «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ حَسْبُ الْآدَمِيِّ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ غَلَبَتْ الْآدَمِيَّ نَفْسُهُ فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ» ، فهذه أصول الطب، وهذا من دلائل نبوة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ومن دلالة أن القرآن جاء من عند الله -عَزَّ وَجَلَّ- فهذا الأمر في غاية النفاسة والأهميَّة.
ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- من صور الحمية عمَّا يؤذي في التشريع الإسلامي، وهذا من محاسن الدين الإسلامي، قال: (أباح الله للمريض التيمم إذا كان استعمال الماء يضره)، والله -عَزَّ وَجَلَّ- جاء بهذه الشريعة في رفع الحرج والضَّرر، فالوضوء عبادة لله -عَزَّ وَجَلَّ- ويكتفى عنه بالتَّيمم، وهو ضرب الصعيد بالكفين، وهذا من رحمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- بهذه الأمَّة، ومن حمية الأبدان عمَّا يؤذيها.
ثم ذكر الشيخ صورة أخرى من الحمية عمَّا يؤذي فقال: (وأباح للمحرم الذي به أذى من رأسه أن يحلقه ويفدي)، وجاء هذا في حديث كعب وأنَّه كانت تؤذيه هوام رأسه، فإذا كان يؤذيه الشعر فإنه يحلق ويفدي.
ولو تلاحظ هذا تجد أن أصول الطب موجودة في القرآن، الأكل والشرب، وعدم الإسراف، والحماية عن المؤذي.
ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في ختم هذه القاعدة أنَّ كل ما شرعه الله -عَزَّ وَجَلَّ- من الأحكام وإن كان مقصودها الأعظم هو التَّعبُّد لله -عَزَّ وَجَلَّ- وإخلاص العبودية له؛ كالصلاة والصيام والجهاد والحج؛ إلا أنَّ فيها صحَّة للأبدان وراحة للنفس، يعني: يأتي من مصالحها تحقيق صحَّة البدن وراحة النفس، وهذه ثمار وبركة التعبد لله -عَزَّ وَجَلَّ.
إذن؛ الشريعة جاءت بتحقيق مصالح القلوب والأبدان، وبحماية الأبدان والقلوب، ولهذا في التشريع الإسلامي تجد حماية الجسد مما يؤذيه ومما حرمه الله -عَزَّ وَجَلَّ- من الخمر، ومن أشياء كثيرة جدًّا حرمها الله -عَزَّ وَجَلَّ- فجاءت هذه الشريعة بتحقيق المصالح ودفع المفاسد، وهذه قاعدة مُهمَّة، وهذا من محاسن الدين الإسلامي الذي ينبغي أن تُظهَر للناس جميعًا؛ لأنَّه دين الله -عَزَّ وَجَلَّ- وليس دين جنسٍ مُعيَّنٍ أو قوميَّة مُعيَّنة، فهو دين الله -عَزَّ وَجَلَّ- الذي ارتضاه لأهل الإسلام.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الحادية والأربعون: قصر النظر على الحالة الحاضرة)}.
قال الشيخ -عَزَّ وَجَلَّ: (يرشد الله عباده في كتابه من جهة العمل إلى قصر نظرهم على الحالة الحاضرة التي هم فيه)، يعني: إذا كنت في عمل فاشتغل بنظرك فيما أنت عليه.
قال: (ومن جهة الترغيب في الأمر)، يعني: ترغب في هذا العمل، وتقصر النظر عليه.
قال: (والترهيب من ضده إلى ما يترتب عليها من المصالح)، يعني: أنت إذا لم تشغل نظرك بعملك الذي أنت قائمٌ به يحصل لك الفوات، وضد المقصود من العمل.
ثم قال الشيخ: (ومن جهة النعم إلى النظر إلى ضده)، وهذا مذكورٌ في القرآن.
قال الشيخ في بيان هذه القاعدة: (وهي من أعظم ما يدل على حكمة الله، ومن أعظم ما يرقى العاملين إلى كل خير ديني ودنيوي)، إذن؛ صلاحيَّة الإسلام لكل زمانٍ ومكانٍ.
والشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يُعلِّل هذه القاعدة القرآنية بأنَّه إذا كان مُشتغلًا بالعمل الحاضر نجحَ، فلا يكون هناك تشتيت، فيقصر النظر على هذا العمل، وإن تشوَّقت نفسه إلى غيره ضرَّ بالحاضر، وهذا يُدركه الإنسان من نفسه.
مثلًا: أنا وأنتَ نتكلَّم في مسألةٍ من مسائل العلم، فلو عرض لنا شيء يُخالف هذا، إما الاشتغال بداخل، أو الاشتغال باتصال، فيحصل التشتيت، والمطلوب أن يكون النظر في العمل الذي نحنُ بصدده.
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثم إذا جاءت وظيفة العمل الآخر جاءه وقد ضعفت همته وقل نشاطه)، فالهمَّة تضعف في العمل الحاضر، وربما كان العمل الأول مترتبٌ على الثاني؛ فيفوت الأول والثاني، فما تتحقق المصلحة، وتصير مفسدة من جهتين.
وذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أمثلة كثيرة من القرآن من استنباطاته، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾ [النساء: 77]، يعني: عن القتال، وتعرفون أن الجهاد في أول أمر الإسلام كان محرَّمًا، وأمر الله -عَزَّ وَجَلَّ- بكف الأيدي؛ لأنَّ الأمَّة وأهل الإسلام ليس لهم قدرة ولا إمكان، فقتالهم للمشركين على فنائهم، فأُمروا بكفِّ الأيدي.
قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾، هنا الاشتغال بالتكليف الحالي.
قال: ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾ [النساء: 77]، فمن لم يشتغل بالعمل الحاضر وتشوَّق إلى غيره فلما جاءه الثاني ما حصل المقصود، بل حصل له التَّأخُّر والتَّكاسُل عن الأمر الثاني، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾، [آل عمران: 143]، وهذا واضح في شاهد هذه الآية القرآنية.
المثال الآخر مما يشهد لهذه القاعدة: قوله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾، فدلَّ على أنهم ربما يُكلَّفونَ بعملٍ ولا يستطيعونه وهم يتشوقون إلى غيره، وهذا مذكور في القرآن، فقال -عَزَّ وَجَلَّ- في المنافقين: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِم﴾ [التوبة: 75: 77].
إذن؛ المطلوب هو الاشتغال بالحاضر، وهذا يُفرَّق بينه وبين التَّطلُّع للخير والنية الطيبة، ولكن المطلوب هو أن يحسن الإنسان نظره في عمل الحاضر ويتقنه، وجاء في الحديث: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ» .
أما قضية الإرشاد إلى النعم فهي قضيَّة دينية تربويَّة توجيهيَّة، والناس في أمس الحاجة إليها، وأكاد أجزم أنَّ الناس لو أخذوا بإرشاد القرآن وإرشاد النص الشرعي لارتاحت نفوسهم، ولكن ضعف التسليم للنصوص وضعف النفوس واستيلاء الهوى -نسأل الله أن يطهر قلوبنا من الهوى ومن التعلق بالدنيا- هو من أسباب تشتت القلوب وانزعاج القلوب، فهذه قضية مهمَّة جدًّا نبَّه الشيخ لها في هذا الكتاب، ونبَّه لها في رسالته الماتعة "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" وهي من أنفع الرسائل لتي أُلفت في هذا المجال، وهي رسالة تربوية أنصح المشاهدين بقراءتها، وهي قصيرة جدًّا ولكن تحتاج تمعُّن واعتبار.
نأتي للقاعدة التي ذكرها الشيخ وهي الإرشاد في باب النعم، وهي أن تنظر إلى من دونك، وذلك من وجهين:
الأول: بالشكر لها، فأنت إذا لم تنظر إلى مَن دونك في باب النِّعم تحتقر النعمة التي أنت فيها، والله -عَزَّ وَجَلَّ- قال: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَ﴾ [إبراهيم: 34]، فنعم الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليك، فإذا قدَرَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليك في نعمةٍ معيَّنةٍ لحكمةٍ يعلمها -سبحانه وتعالى- هو؛ فإنَّك لا تتناسى النعم، فإذا نظرتَ في مثل هذه الأمور إلى مَن هو أعلى منك قصَّرتَ في واجب الشُّكر، والله -عَزَّ وَجَلَّ- يقول: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7]، أسأل الله أن يوزعني وإيَّاك وإخواني المشاهدين والمشاهدات شكرَ نعمه، فهذا شيء عظيم جدًّا.
الثاني: بالنَّظر إلى ضدها، وهذا سبيل لأن تعرف هذه النعمة، وطريقٌ لشكرها، فإذا نظرتَ إلى هذه النعم وضدها، وإلى النعمة ومَن هو دونك فيها؛ فهذا سبيل لأن تقدِّر هذه النعمة وأن تشكر هذه النعمة، ولكن إذا نظرتَ إلى مَن دونك ولم تنظر إلى ضدها لم يتحقق هذا، ولهذا نبه الله -عَزَّ وَجَلَّ- على شكر نعمه في مواضع كثيرة، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران: 164]، فكانوا في جاهليَّة فامتنَّ الله عليهم، فاذكروا نعمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليكم.
قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَ﴾ [آل عمران: 103]، نزلت في الأوس والخزرج. وقال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [لأنفال: 26].
فتذكُّر هذه النِّعم مهم جدًّا، وإنما تُنقَضُ عُرَى الإسلام عُروة عروة إذا نشأ في الإسلام نشءٌ لا يعرفون الجاهليَّة، فمَن لم يعرف النعمة التي يعيشها لا يقدرها حق قدرها، ولهذا مطلوب من الناس أن يذكروا آلاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- ونِعَم الله -عَزَّ وَجَلَّ- حتى يقدِّروها حق قدرها.
ثم قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الأصل في باب النِّعم النظر إلى من هو دونك، وهذا الذي أرشد إليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- حيث قال: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ» )، يعني أحق أن لا تزدروا نعمة الله عليكم، ازدراء النعمة هو احتقار النعمة، فعدِّد النِّعم التي عليك، نعمة الصحَّة والعافية، نعمة سالمة الحواس، وإذا سُلبتَ شيئًا فانظر إلى ما أبقى الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليك من النعم، وبهذا تعيش الراحة النفسية وسلامة القلب، وعدم انشغال القلب.
وفي هذا الزمان -زمان شبكات التواصل وزمن البرامج المتنوعة- صار الناس على الوضع الذي أنت تعرفه، وهذا في الحقيقة لا تتحقق به مصالح، لا المصالح الشرعيَّة ولا المصالح التربوية، ولهذا امتنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- على نبيه فقال: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ [الضحى:6-8]، وكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يقوم من الليل حتى تتفتَّر قدماه، ولَمَّا سألته عائشة قال: «أفلا أكُونُ عَبْدًا شَكُورً» ، أسأل الله أن يجعلني وإيَّاكم من الشَّاكرين.
فينبغي على الإخوة والمسلمين جميعًا، والخطاب يتوجَّه لنا أيضًا؛ أن نذكر نعم الله -عَزَّ وَجَلَّ- علينا ولا نتطلع ولا نتشوَّف إلى ما في أيدي الناس، وهذه سنَّة الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ونتذكر آلاء الله تعالى، ونحن الآن عندنا وظيفة لابدَّ أن نقوم بها هي شكر النِّعم التي عندنا التي نتصبَّح بها في كل صباح ونتمسَّى بها في كل مساء، ولهذا في ورد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر»، فالمؤمن يسأل ربه في كل صباح ومساء أو يوزعه شكر هذه النِّعم، ومن قدر هذه النعم ألا تحتقرها ولا تزدريها، ولا تطلق نظرك فيما عند الناس وفيما بين أيدي الناس، ولكن أطلق نظرك فيما أعطاك الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولا شكَّ أن القلب ينزعج في طبيعته، ولكن إذا انزعج في مثل هذه الأمور فالمطلوب أنَّه يتذكر نعم الله -عَزَّ وَجَلَّ- ثم ما يعطيه الله -عَزَّ وَجَلَّ- للناس هو عطاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- فهو يعطيه لمن يشاء حكمةً وابتلاء، فالمطلوب من أهل الإيمان أنَّه إذا رأى صاحب نعمة أن تدعو له بالبركة، وبأن يوزعه الله شكر هذه النِّعم لأنَّه مبتلى الآن بواجب الشكر، ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «لَا حَسَدَ إلَّا في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ مالًا، فَسَلَّطَهُ علَى هَلَكَتِهِ في الحَقِّ ...» ، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «نعمَ المالُ الصَّالحُ للرَّجلِ الصَّالحِ» ، فإذا كان المال لا يُستعمل في طاعة الله -عَزَّ وَجَلَّ- فهو نقمة على صاحبه، وإذا كان المال -وهو من أجل النعم- لا تستعمل في طاعة الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيكون وبال على صاحبه، ولا يكون نعمة بل هو نقمة، وهذا ذكره الله -عَزَّ وَجَلَّ- في القرآن ونبه عليه في مواضع كثيرة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الثانية والأربعون: الحقوق لله ولرسوله)}.
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (قد ميز الله في كتابه بين حقه الخاص وحق رسوله الخاص والحق المشترك.
وعلم بذلك أن الحقوق ثلاثة:
حق لله وحده، لا يكون لغيره: وهو عبادته وحده لا شريك له بجميع أنواع العبادات)
، ولهذا جاء في حديث معاذ عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أنه قال: «يَا مُعاذُ أتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ علَى العِبَادِ؟، قَالَ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: أنْ يَعْبُدُوهُ ولا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئً» .
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وحق خاص لرسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: وهو التعزير والتوقير والقيام بحقه اللائق واتباعه والاقتداء به)، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، فحقه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أن يُوقِّر، وأن يُصلَّى عليه عند ذكره -اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمد- وأمورًا كثيرة جاءت بها الشَّريعة، فهذا هو حق الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- الخاص.
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وحق مشترك: وهو الإيمان بالله ورسوله وطاعة الله ورسوله ومحبة الله ومحبة رسوله).
والشيخ يُمثل بمثال للحق الأول وهو حق الله تعالى وحده، وهو حقٌّ أكثر من أن يُحصى، والقرآن مشتملٌ من أوله إلى آخره على ذلك، قال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئً﴾ [النساء: 36].
وذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- في مواضع كثيرة حقَّه -سبحانه وتعالى- وهو أن تُخلَص العبادة له، قال تعالى: ﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الزمر: 66]، وقال: ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ [الزمر: 3].
والحق الثاني هو حق الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، قال تعالى: ﴿وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾، وقال تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63]. قال الإمام احمد: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أن يقع في قلبه شيءٌ من الزَّيغ فيهلك".
وفي مثال الجمع بين الحقين ذكر الشيخ أن القرآن مشتمل على طاعة الله وطاعة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ [آل عمران: 132]، وقال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: 24].
ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أن الفرق بين حب الله -عَزَّ وَجَلَّ- وحب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ:
- أن حبَّ الله -سبحانه وتعالى- وطاعته تعبُّد وخضوع.
- وحب الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- هو في الله وفي طاعة الله -عَزَّ وَجَلَّ-، قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: 31].
فهذا في معرفة حق الله تعالى وحق الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الثالثة والأربعون: الأمر بالتثبت)}.
يقول الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (يأمر الله بالتثبت وعدم العجلة في الأمور التي يخشى من سوء عواقبها، ويأمر ويحث على المبادرة على أمور الخير التي يخشى فواته).
يقول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُو﴾ [النساء: 94]، وقال -عَزَّ وَجَلَّ- في تقرير هذا الأصل: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: 6]، وقال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83]، فهذه أدلة القواعد الشرعية؛ لأن مثل هذه الأمور يُحتاج فيها إلى التثبُّت وعدم الاستعجال؛ ولأنه يترتب عليه أحكام، فطلب من أهل الإيمان التَّريُّث وعدم العجلة؛ لأنه يترتب عليه أحكام، فمطلوب أن لا يكون الإنسان على عجلة فيها، ويكون حليمًا متأنِّيًا، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرِّفْقَ لا يَكونُ في شيءٍ إلَّا زانَهُ، ولا يُنْزَعُ مِن شيءٍ إلَّا شانَهُ» ، وليس من عقل الإنسان أن يستجيب للانفعالات النفسيَّة ويطيش مع كل طائش، ولهذا في أمر السلم والخوف يُرد إلى أهله، ولا يُذاع؛ بل يُرجع فيه إلى أهله حتى يُعلَم الأمر على وجهه وعلى حقيقته.
إذن؛ القـرآن أدَّبنا بهذه الآداب ووجَّهنا بهذه التَّوجيهات العظيمة التي يحصل بها مصالح الدين والدنيا حتى لا يكون الندم؛ لأنَّ الاستعجال في هذه الأمور يُورث النَّدامة.
القسم الثاني مُغاير للقسم الأول، وهو الحث على المبادرة إلى الخير، فثَّم أمورٌ يُرادٌ بالمكلف المبادرة والمسارعة إليها، وهي مَن ظهرَ فيه الخير، وحُمدت فيه العاقبة، والمقصود الاستعجال وليس العجلة، وإنما المبادرة، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ [آل عمران: 133]، أي: بادروا. وقال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [البقرة: 148]، فهذا استباق.
وجاء النَّص الشرعي من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بالمبادرة فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّ» ، فالمطلوب هو المبادرة لأعمال الخير، مُبادرة إلى صلاة الجماعة إذا سمعت "حي على الصلاة"، والمبادرة بالزَّكاة وأحكام الله -عَزَّ وَجَلَّ- في الزَّكاة والحج على الفور، يعني المبادرة وعدم التَّريُّث في مثل هذه الأمور.
والتباطؤ مذموم غير محمود؛ بينما الأمور التي يترتب عليها أحكام شرعية مطلوب من الإنسان التَّثبُّت والتَّبيُّن، فتُلاحظ هذه التَّوجيهات العظيمة في كلام الله، أسأل الله أن يجعلني وإيَّاكم من المنتفعين بكلامه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الرابعة والأربعون: علاج ميل النفوس إلى ما لا ينبغي)}.
الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ذكر ترياقًا -يعني: علاجًا- من القرآن، يقول: (عند ميل النفوس أو خوف ميلها إلى ما لا ينبغي)، أي: إلى ما لا يُحمَد، كاشتغالٍ بالمفضل والمذموم.
قال: (يذكرها الله ما يفوتها من الخير، وما حصل لها من الضرر بهذا الميل. وهذا في القرآن كثير، وهو من أنفع الأشياء في حصول الاستقامة)، أي: الاستقامة على الدين، قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153]، وفي حديث سفيان بن عبد الله الثقفي لما قال للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عليه غيرك، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «قُلْ: آمَنْتُ باللَّهِ، ثم اسْتَقِمْ» .
والشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يقول: (وهو من أنفع الأشياء في حصول الاستقامة؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي المجرد لا يكفي أكثر الخلق في كفهم عما لا ينبغي، حتى يقرن بذلك ما يفوت من المحبوبات التي تزيد أضعافًا مضاعفة على الذي يكرهه الله، وتميل إليه النفس، وما يحصل من المكروه المرتب عليه كذلك)، يعني حتَّى أُعلل أنَّك إذا لم تأتمر ولم تنتهِ اشتغلتَ بالمذموم، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾، [الأنفال: 28]، فالاشتغال بهم عن طاعة الله -عَزَّ وَجَلَّ- لا شكَّ أنه مذموم، ثم قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- في تمام الآية: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾.
وقال -عَزَّ وَجَلَّ- في موضع آخر: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلً﴾ [النساء: 109]، يعني: اشتغلتم بالجدال عنهم، وهذا أمرٌ مذمومٌ.
وقال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ﴾ [الشورى: 20]، يعني: مَن يُريد الجنَّة فالله -عَزَّ وَجَلَّ- يضاعف له الأجر.
ثم قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾، يعني: إذا كان المراد هو حظ الدنيا ونصيب الدنيا فالله -عَزَّ وَجَلَّ- يُعطيه في الدُّنيا، لكنه في الآخرة ليس له نصيب، وهذا من أعظم الخذلان -نسأل الله السلامة والعافية.
قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾، [الشعراء: 205- 207].
إذن؛ هـذه قاعدة قرآنية عظيمة النَّفع، وينبغي أن يشتغل بها أهل التربية في توجيه الناس؛ لأنَّ بعض الأحوال آمر أو أَنهى لوا أقرن بعلَّة الأمر والنَّهي، ولا أُبيِّن الآثار التربويَّة على الائتمار والانتهاء، وهذا مهم جدًّا في تربية النفوس.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الخامسة والأربعون: حث الباري سبحانه في كتابه على الصلاح والإصلاح)}.
الرَّب -سبحانه وتعالى- الباري حثَّ على الصَّلاح والإصلاح؛ وهذه من القواعد.
إذن؛ أمرَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالصَّلاح وهو مغاير للفساد، وبالإصلاح بين الناس، وأثنى الله -عَزَّ وَجَلَّ- على طائفتين: الصالحين والمصلحين. و"الصَّالح والمصلح" من ألفاظ العموم.
وذكر الشيخ ضابط هذا الإصلاح فقال: (والصلاح: أن تكون الأمور كلها مستقيمة معتدلة آخذة سبيلها الذي سنه الله مقصودًا بها غايتها الحميدة).
وذكر الشيخ أمثلة لذلك، فذكر عن نبي الله شعيب لَمَّا دعا قومه وبيَّن لهم أنه لا يريد بهم إلَّا الإصلاح، قال تعالى: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ﴾، [هود: 88].
إذن؛ الأنبياء يأمرون بإصلاح حال الناس، ولهذا جاءت الشريعة بتحقيق المصالح ودفع المفاسد، بإصلاح أحوال الناس في دينهم ودنياهم.
ثم ندب الله -عَزَّ وَجَلَّ- إلى جمع قلوب الناس بالإصلاح، فقال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [النساء: 114]، فالله -عَزَّ وَجَلَّ- أثنى على الإصلاح بين الناس.
وبيَّن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أنَّه رُخِّصَ في الكذب في مجال الإصلاح، مع أنه مفسدة، ولكن مصلحته راجحة، فقال: «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرً» .
ولهذا بيَّن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنَّ هذه الأمَّة أمَّة الوسط الخيار، فقال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: 110]، وأثنى الله -عَزَّ وَجَلَّ- على الآمرين بالمعروف والنَّاهين عن المنكر؛ لأنهم من المصلحين.
فمن الإصلاح: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر العلم والدعوة إلى الخير؛ وكل هذا كما مرَّ معنا في قَالَب الإحسان بالقول والعمل، قال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنً﴾ [البقرة: 83] وقال تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الإسراء: 53]، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرِّفْقَ لا يَكونُ في شيءٍ إلَّا زانَهُ، ولا يُنْزَعُ مِن شيءٍ إلَّا شانَهُ»، فإذا نُزِعَ من هذا اللباس فإنه يعود على صاحبه بالضرر وعلى الأمة بالضرر، فالواجب أن يكون هذا في لباس الإحسان والرَّحمة والرِّفق، ولكن لا ينقطع هذا الواجب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة السادسة والأربعون: ما أمر الله به في كتابه، إما أن يوجه إلى من لم يدخل فيه فهذا أمر له بالدخول فيه، وإما أن يوجه لمن دخل فيه فهذا أمر به ليصحح ما وجد منه، ويسعى في تكميل ما لم يوجد فيه)}.
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ما أمر الله به في كتابه)، يعني في القرآن.
قال: (إما أن يوجه إلى من لم يدخل فيه فهذا أمر له بالدخول فيه، وإما أن يوجه لمن دخل فيه فهذا أمر به ليصحح ما وجد منه، ويسعى في تكميل ما لم يوجد فيه. وهذه القاعدة مطردة في جميع الأوامر القرآنية: أصولها وفروعه).
مثال القسم الأول -يعني أن يوجه لمن لم يدخل بالدخول فيه: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ [النساء: 47]، فالله -عَزَّ وَجَلَّ- وجَّه أهل الكتاب إلى الإيمان بالقرآن وبمحمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فهم لم يدخلوا فيه، فوجَّههم وخاطبهم بهذا اللفظ، وهم اليهود والنصارى.
مثال القسم الثاني -من دخل فيه أن يصححه- ويدل على أن الإنسان لا ينقطع عن التَّزكية والتَّربية والتَّصحيح في عمله، قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بالله ورسوله﴾ [البقرة: 104]، فهم مؤمنون، وأرشدهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- إلى مزيد من الإيمان وتصحيح هذا الإيمان، والبلوغ بهذا الإيمان غلى أعلى الدرجات، وهذه وظيفة المؤمن، التوبة والتعبد لله -عَزَّ وَجَلَّ- قال تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 99]، يعني حتَّى يأتيك الموت.
والمطلوب من الإنسان أن يُجاهد نفسه في مراقي الكمال ومراقي تزكية النفوس ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَ﴾ [الشمس: 9]، حتى يحل الأجل، وهو في ذلك في غاية التَّعبُّد لله -عَزَّ وَجَلَّ- والجهاد في سبيل الله -عَزَّ وَجَلَّ- قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69].
يقول الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وبهذه القاعدة نفهم جواب الإيراد الذي يورد على طلب المؤمنين من ربهم الهداية إلى الصراط المستقيم، مع أن الله قد هداهم للإسلام!)، ولماذا نقول في كل ركعة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: 6]، ونحن قد هُدينا إلى الصراط المستقيم وإلى الإسلام؟!
الجواب: هو سؤال التَّكميل والثَّبات عليها، ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لمعاذ: «يَا مُعَاذُ إِنِّي لَأُحِبُّكَ». فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا أُحِبُّكَ. قَالَ: «أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» ، فهذا التكميل وهو حسن العبادة لله -عَزَّ وَجَلَّ- والاستقامة والإنابة، ولهذا فإن التوبة هي وطيفة العمر، فمطلوب من الإنسان أن يتوب ويستغفر الله -عَزَّ وَجَلَّ-، قال تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31]، فالخطاب لأهل الإيمان بأن يجددوا توبتهم، وهذا فيه دلالة على هذه القاعدة، وهي أن الإنسان لا ينقطع عن التوبة والاستغفار والإنابة والمغفرة، وأن يُكمِّل النَّقص، وأن ينظر إلى نفسه بعين التقصير، وأن يسأل ربَّه أن يكمل أموره، وأن يحسن له العاقبة، ولهذا جاء في الحديث «اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا وَأَجِرْنَا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ» ، وفي الحديث: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ عُمُرِي آخِرَهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَواتِيمَ عَمَلِي رِضْوِانَكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ أَيَّامِي يَوْمَ أَلِقَاكَ» ، فالمؤمن لا ينقطع عن التعبد لله -عَزَّ وَجَلَّ- وعن تزكية النفس وسؤال الله المغفرة، وبهذا أُمر وبهذا كُلِّف.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يثبت قلوبنا على الإيمان، وأن يهدينا إلى الصراط المستقيم، وأن يحسن لنا الختام، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك