{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكَ الله يا شيخ عبد الرحمن، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات.
{سيشرع فضيلة الشيخ في هذا الفصل -بإذن الله- في متن "القواعد الحسان في تفسير آي القرآن" لفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي. فلو تعطونا فضيلة الشيخ مقدمة عن هذا المتن}.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
هذا الكتاب اسمه "القواعد الحسان في تفسير القرآن" لمؤلفه الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- المتوفى سنة 1376 هـ
وكما هو ظاهرٌ من عنوان المؤلف، فقد جعله في القواعد الحسان في تفسير القرآن، وهي أصولٌ وقواعد لتفسير القرآن الكريم، ولهذا وصفها المؤلف بأنها جليلة القدر، وعظيمة النفع، وهذا حقٌّ، فمن طالع هذه القواعد وجدَ أنها مُعينةٌ على فهم كلام الله -عزَّ وجلَّ.
لماذا ألَّف هذا الكتاب؟
الكتاب له سببٌ في التأليف، وذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- سببه، وهو: إعانة القارئ والمتأمِّل على فهم كلام الله -عزَّ وجلَّ-، والاهتداء بهذا الكلام العظيم الذي هو كلام الله -عزَّ وجلَّ- على النَّحو الذي جاء عنه -سبحانه وتعالى.
ثمرة هذا التأليف، وثمرة ضبط هذه القواعد التي جمعها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بيَّنها بقوله: (تفتح للعبد من طرق التفسير، ومنهاج الفهم عن الله -عزَّ وجلَّ).
إذن هي مُعينةٌ لمن يُطالع كلام الله -عزَّ وجلَّ- على أن يفهمه على النحو الصَّحيح، وتجمع له هذه القواعد هذا المتفرق، وتعينه على ضبط هذه القواعد التي يندرج في أفرادها أمور ومفردات وأفراد كثيرة جدًّا، وهذا كما ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مؤلف هذه القواعد سبب ذلك، وهو أن علم التفسير من أهم العلوم، ولهذا قال: (واعلم أن علم التفسير أجل العلوم على الإطلاق، وأفضلها وأوجبها وأحبها إلى الله).
لماذا كان علم التفسير على هذا النحو؟
لأنَّ هذا العلم وسيلة لتدبر وفهم كلام الله -عزَّ وجلَّ-، والله -عزَّ وجلَّ- أنزل هذا الكلام ليُعقَل ويُعلَم ويُعمَل به، فإنَّك إن فهمت هذا الكلام على النَّحو الصَّحيح؛ فإنَّ ثمرَة ذلك أن تعمل بما جاء فيه، ولهذا فإن الله -عزَّ وجلَّ- حَثَّ في مواضع كثيرة من القرآن على تدبُّر القرآن، فقال سبحانه: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَ﴾ [محمد: 24].إذن؛ تدبُّر القرآن بفهم هذه القواعد.
والشيخ عبد الرحمن السعدي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- من المؤلفين الذين تميَّزت مؤلفاتهم -وبخاصَّة في العصر الحاضر- بسهولة العبارة وسلاستها وبساطتها والتي تعين طالب العلم على أن يفهم كلام أهل العلم على الوجه المطلوب.
هذه مقدمات ذكرها الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في بداية هذه القواعد، فذكر القاعدة الأولى، وهي كالتوطئة لِما يأتي بعدها وما يتلوها من القواعد، فعلى سبيل الإجمال لِما ذكره الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ذكر أنَّ ثَمَّ سنن كونية وشرعيَّة لابدَّ من مُراعاتها، هذه السُّنن هي قواعد، فالعلوم لها قواعد، والتفسير له قواعد، وكل الأمور مربوطة بقواعد وضوابط وأصول لابدَّ لكل مَن طلب علمًا أن يُراعي هذه القواعد وهذه الضَّوابط، فلا يأتي الأمر جزافًا، وإنما يأتي الأمر بالطريق الصحيح للدخول إليه، ولهذا قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كل من سلك طريقاً وعمل عملاً، فعليه أن يراعي ذلك)، يعني: أن يُراعي هذه السنن.
قال: وعظم المطلوب يؤكد إحسان البحث عن الطريق.
يعني: المطلوب لطالب العلم في التفسير أن يفهم كلام الله -عزَّ وجلَّ- على النحو الذي جاء عنه -سبحانه وتعالى.
إذن؛ المطلوب عظيم وجليل، فلابدَّ للإنسان أن يُحسنَ البحث في الطُّرق التي توصله إلى فهم كلام الله -عزَّ وجلَّ- لأنَّ هذا الفهم هو سبيل لأن يُعقل كلام الله -عزَّ وجلَّ- وأن يُفهَم على الوجه الذي جاء عنه، فإنَّه مَن لم يسلك الطريق المستقيم الذي هو منقول عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وعن أصحابه فإنه يضل، فلابدَّ أن يسلك هذا المسلك، وأن يعرف هذا الطريق.
ثم قال الشيخ: (وفهم القرآن أعظم مطلوب)، ولا شكَّ أن فهم القرآن من أعظم المطالب؛ لأن القرآن سببٌ للهداية؛ بل هو أعظم أسباب الهداية؛ لأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9]، فمن ابتغى الهدى بغير كلام الله -عزَّ وجلَّ- ضلَّ وخسر.
ونبَّه الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بعد ذلك إلى أنَّ الإنسان في غاية الضرورة والحاجة إلى أن يسلك طريقة فهم السلف، وأن يُتابع فهم السلف في فهم هذا القرآن.
فكما ذكرتُ لكم أنَّ الطرق التي تُسلَك لفهم كلام الله -عزَّ وجلَّ- طرق مختلفة، وهذه الطرق لا توصل إلى الفهم الصحيح لكلام الله -عزَّ وجلَّ-، وأقوم طريق هو طريق السلف، وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان، فهذا الفهم لابدَّ أن يكون من هذه المدرسة -مدرسة الصحابة والتابعين وتابعي التابعين- فهذا المنهج وهذا الطريق هو أقوم طريق، وهذا ما قرر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في القاعدة الأولى ونبَّه إليه.
ونبه الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- إلى أنَّ طريقة السلف في فهم كلام الله -عزَّ وجلَّ- أنهم إذا قرؤوا عشر آيات لم يتجاوزوها حتَّى يعرفوا ما دلَّت عليه من العلم والعمل، وهذا منقولٌ عنهم، ومنقول عن التابعين فيما شاهدوه من أصحاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، وهو أنهم كانوا يتعلمون العلم والعمل، فيعقلون ويعملون، يعقلون كلام الله -عزَّ وجلَّ- ويعلمونه.
إذن؛ هذا هو المنهج السليم، وهذا هو الطريق القويم، ولهذا عقد الشيخ هذه القواعد المختصرة المجملة لإعانة طالب العلم في علم التفسير.
ثمرة متابعة منهج السلف -كما قال الشيخ: أنه يجعل طالب العلم يَقوَى فهمه لكلام الله -عزَّ وجلَّ- وتكون عنده البصيرة لفهم كلام الله -عزَّ وجلَّ.
وكما نبَّه الشيخ أنَّ هذا لا يكفي وحده، فهذا المسلك يحتاج إلى روافد وإلى إعانة تعينه على فهم كلام الله -عزَّ وجلَّ- فمع أنه يسلك هذا المنهج وهذا الطريق إلَّا أنه يحتاج إلى روافد وإعانة لفهم كلام الله -عزَّ وجلَّ.
ثم ذكر الشيخ أنه يحتاج علوم الآلة، وبخاصَّة علم اللغة العربية -علم النحو والصرف والبلاغة- لأنَّها من أعظم العلوم النافعة لفهم كلام الله -عزَّ وجلَّ- لأنَّ القرآن نزل بلسان عربي مبين، ونزل إلى قوم أهل فصاحة وبلاغة، فأهل لغة العرب الذين نزل القرآن بلسانهم يعقلون هذه المعاني، ولكن مع تعاقب الأزمنة ضعف الناس في هذه اللغة وفي فهمها وفي فهم بلاغتها وأساليبها، فيحتاج الإنسان إلى علم اللغة العربية كما ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- حتَّى تكون معينة له لفهم كلام الله -عزَّ وجلَّ.
ونبَّه كذلك إلى أنَّه مع علم اللغة العربية يحتاج إلى المعرفة بالآثار والسُّنن، يعني: ما نقل عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ؛ لأن أحسن التفسير هو تفسير كلام الله -عزَّ وجلَّ- بكلامه -سبحانه وتعالى-، ثم تفسيره بكلامِ رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ، ثم تفسير كلامه -سبحانه وتعالى- بأقوال الصحابة وأقوال التابعين، ولهذا برزَ عبد الله بن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في علم التفسير، وكذلك عبدالله بن مسعود، وغيرهم من أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، ثم من التابعين مجاهد بن جبر، والزهري، وغيره من علماء التابعين، ومن تابعي التابعين، فالإنسان يحتاج إلى هذه الآثار حتى يعقل كلام الله -عزَّ وجلَّ- على النحو الذي جاء منه -سبحانه وتعالى.
وهذا الفهم وهذه المعرفة معينة له في حياته الدنيا، ومن أسباب ثباته على الدين، ومن أسباب فهمه لواقعه الذي يعيشه، ومن أسباب الاهتداء إلى الطريق المستقيم، لأن للقرآن دلالة وهداية للإنسان في الحياة الدنيا حتى يسلك الطريق القويم والصراط المستقيم الذي يسأله المسلم في كل ركعة من ركعاته بقوله عند تلاوة الفاتحة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: 6].
ونبه الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنه لابدَّ لطالب علم التفسير وقارئ هذه القواعد أن يقرر في قلبه هذه العقيدة، وهي أنَّ القرآن تبيانًا لكل شيءٍ، يعني أن كل العلوم النافعة قد اشتمل عليها القرآن، كل الأخبار أشار الله تعالى إليها، أصول العلوم، وأصول السياسة، كل العلوم النافعة ستجد في كلام الله -عزَّ وجلَّ- الإشارة إليها؛ لأن القرآن تبيانًا لكل شيءٍ، ما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية والعلاقات بين الناس، والعلاقات بين المخالفين لدين الإنسان؛ كلها لها أصول ولها إشارات وعلامات، لكن يحتاج من الطالب كما ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أن يبحث وأن يتأمَّل وأن يتدبَّر، وأن يستعين بهذه القواعد على فهم كلام الله -عزَّ وجلَّ-، لأن القرآن تبيانًا لكل شيء، ومُقتضى أنه تبيانًا لكل شيء أنه مشتمل على كل خير للعبد في دنياه وآخرته.
ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- القاعدة الثانية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب)}.
هذه قاعدة أصوليَّة وقاعدة صحيحة، ويُعبَّر عنها بـ "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، ولابدَّ للإنسان أن يفهمها فهمًا جيدًا، وأن تقرر في قلبه عندما يقرأ كلام الله -عزَّ وجلَّ؛ لأن القرآن أنزل منجَّمًا، يعني: على الوقائع والحوادث التي تقع، تأتي حادثة مُعينة فينزل القرآن ببيانها، وقد يأتي لتقرير أمرٍ آخر، أو لردِّ شبهةٍ أو لردِّ باطلٍ؛ لكن في الجملة فإنَّ القرآن نزل مسبَّبًا.
وأشار الشيخ إلى أن هذه القاعدة متفقٌ عليها وليس فيها خلاف، وإذا علمتَ أنه متفق عليها جعلتها نصب عينيك في مطالعتك لكتب التفسير، وعند قراءتك لكلام الله -عزَّ وجلَّ.
قال الشيخ: إنَّ مراعاتها تنفع الطالب.
فنفعها لطالب العلم ولمن يقرأ كلام الله -عزَّ وجلَّ- أنه يحتاج إلى أن ينظر إلى أسباب النزول، وثَمَّ كتبٌ مؤلَّفة في أسباب النزول، مثل أسباب النزول للواحدي وغيره من أهل العلم، وتعقيب سبب النزول عند إيراد معنى الآية يفيد الطالب، فلو قرأت في تفسير ابن جرير ستجد أنه يذكر عند كل آية سبب النزول إن كان فيها سبب نزول، فتحتاج أن تعرف هذه القاعدة، وأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإن نزلت في قضيَّةٍ مُعيَّنة تدخل في هذه القضية دخولًا أوليًّا فإنها تعم كل الوقائع التي تحدث بعدها؛ لأن القرآن تبيانًا لكل شيء.
ولهذا أمثلة، أن العبرة بعموم اللفظ، وأن سبب النزول لا يفيد الحصر، مثل آيات سورة المجادلة، المرأة التي جادلت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وهي خولة مع زوجها أوس بن الصامت، فهذه الآيات نزلت في قضية مُعيَّنة، فهل معنى ذلك أن يكون الحكم خاص بهذا؟
لا؛ فإن العبر بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
لماذا لا تفيد الحصر؟
قال الشيخ: لأن القرآن أُنزل لهداية الأمة في أول الزمان وآخره.
وذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أثر لعبد الله بن مسعود "إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو﴾ فَأَرْعِهَا سَمْعَكَ".
ذكر الشيخ هذا الأثر لأن عبد الله بن مسعود وهو من أئمة الصحابة في التفسير يقول: "إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو﴾"، مع أن الخطاب في الآية للصحابة في زمن نزول القرآن، فهم يدخلون في هذا الخطاب دخولًا أوَّليًّا، ومع ذلك يقول عبد الله بن مسعود: "فَأَرْعِهَا سَمْعَكَ فَإِنَّهُ خَيْرٌ يَأْمُرُ بِهِ أَوْ شَرٌّ يَنْهَى عَنْهُ"، وهذا يدل على أن خطاب ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو﴾ شامل للأمَّة، فما أخبر الله -عزَّ وجلَّ- به يشمل أهل الإيمان كلهم، وهكذا في تقرير الأحكام الشرعية.
ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في هذه القاعدة قول الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِير﴾ [الفرقان:33].
يقول الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فمراعاة هذه القاعدة أكبر عون على معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله والقيام بها. والقرآن قد جمع أجل المعاني وأنفعها وأصدقها بأوضح الألفاظ وأحسنه).
وهذه الآية عظيمة، قال تعالى: ﴿وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِير﴾، وهذا في زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فلا يأتون هذا القرآن ولا بما جاء محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بمثل يُعارضون به ما جاء عن الله من أحكام إلا جاء الله -عزَّ وجلَّ- بالحق وأحسن من مثلهم، وتفصيلًا لشبهتهم والرد عليها، وهذا في زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
هل الحكم موقوف على زمنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ؟
لا، حتَّى في الأزمنة التي تتلو زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، زمن الصحابة، زمن التابعين، زمن تابعي التابعين، إلى يومنا هذا؛ فلا يأتي أهل الباطل بشُبهةٍ في مُعارضة الحق إلَّا ستجد في القرآن ما يرد على هذه الشبهة، ولا يأتون بحجَّةٍ يظنونها حجَّة إلا وستجد في القرآن ما يرد عليها.
ولهذا قرر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وغيره من أهل العلم أنَّ الالتزام بالقرآن والانتفاع به يشتمل على العلوم كلها، فمن أراد أن يردَّ الباطل فلابدَّ أن ينطلق من كلام الله -عزَّ وجلَّ- أولًا، وستجد في القرآن ما يرد على اليهود والنصارى، وعلى المنافقين والمشبِّهين على الناس في كل قضيةٍ من قضايا الدين والإسلام، الذين يُشككون في صلاحية الإسلام لهذا الزَّمان؛ فكله موجود في كتاب الله -عزَّ وجلَّ.
ثم إن هذه الشبهة التي يُعارَض بها هذا الدين هي متوارثة كما قرر السلف -رَحِمَهُم اللهُ- فلكل قوم وارث، هي نفس الشبهة التي كان يُشبَّه بها من جنس الشُّبه التي كان يُشبه بها أهل الشرك على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- خاض مع مشركي قريش بالمجادلة والمُحاجَّة، وأمثلة كثيرة قد لا يسع المقام إلى ذكرها، كمسألة حل الميتة، فأنزل الله -عزَّ وجلَّ- الرد على شبهتم، فقالوا: كيف لا نأكل ما قتله الله ونأكل ما قتلناه بأيدينا؟ وكذلك ما يتعلق بعبادة الأصنام، والإخبار بأنها ستكون معهم في النار، ثم شبَّهوا على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وجادلوه في عيسى ابن مريم، فالقرآن مليء جدًّا بمحاجَّة المشركين في العهد المكي.
ثم بعدَ انتقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- إلى المدينة خاض النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- المحاجَّة مع اليهود، وكان لهم بقيَّة من العلوم، وأثر من علم الكتاب من التوراة والإنجيل، فكانوا يُحاجُّون النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ويذكرون أشياء في القرآن.
وفي عهد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- نبغت نابغة تُسيء للإسلام، وهم أهل النفاق، فذكر الله -عزَّ وجلَّ- في القرآن آيات كثيرة جدًّا في النفاق وفي شبهات المنافقين، وفي أن بعض أهل الإيمان يتلقون عن أهل النفاق ويُحسنون بهم الظن، وقال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ [التوبة: 47].
ثم المجادلة مع النصارى في وفد نجران لما جاؤوا إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في المدينة، فأنزل الله -عزَّ وجلَّ- آيات: ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 64]، وكذلك المباهلة مع النصارى.
وستجد أن القرآن حافل بهذه المحاجَّة، وطالب العلم يحتاج إلى أن يرجع إلى هذه الآيات وأن يعرفها، فإن المتأخرين من أهل الباطل ورثوا هذا الباطل من المتقدمين، وما يزالون يتخوَّضون في الباطل، فربما تتغير لون الشبهة أو صورتها الظاهرة، أمَّا باطنها فواحد كما قال السلف: "لكل قوم وارث"، فلا تغيير في الحقيقة.
ثم إن هذا الإمداد بالشُّبهات من مصادره الشيطان الرجيم، وهو إمامهم في هذا الوحي الشيطاني، ولهذا قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرً﴾ [الفرقان: 31]، وقال -عزَّ وجلَّ: ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورً﴾ [الأنعام: 112]، وذكر أشياء كثيرة جدًّا في إمداد الشيطان لهم بهذه الشبهات، فهو مصدر تلقي هذه الشبهات.
وطالب العلم يحتاج إلى أن يقرأ كلام الله -عزَّ وجلَّ- وأن يتدبَّره، وأن يستظهر هذا الكلام، وأن يفهمه على الوجه اللائق، حتى يستطيع أن يرد على أهل الباطل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الألف واللام الداخلة على الأوصاف وأسماء الأجناس تفيد الاستغراق بحسب ما دخلت عليه.
وقد نص على ذلك أهل الأصول وأهل العربية، واتفق على اعتبار ذلك أهل العلم والإيمان)}.
هذه قاعدة، وهي أن (الألف واللام الداخلة على الأوصاف وأسماء الأجناس تفيد الاستغراق)، يعني لما دلَّت عليه.
هذه القاعدة متفق عليها، وبين الشيخ أنه متفق عليها بين الأصوليين وأهل اللغة العربية، وما بينهم خلاف في أن هذه القاعدة محكَّمة في فهم كلام الله -عزَّ وجلَّ.
وهنا نحتاج أن نعرف معنى الاستغراق:
الاستغراق لغة: الاستيعاب والشمول، يعني تستوعب كل الأجزاء وتشملها.
وفي الاصطلاح: استيفاء شيء بتمام أجزائه وأفراده، فلا يخرج شيء.
ولهذا ذكر الأصوليُّون الاستغراق في كلامهم على مبحث العام، وأن العام هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له، ولهذا يقولون "يتناوله دفعة واحدة من غير حصر"، وهذا على رأي بعض الأصوليين.
وبعضهم يرى أن الاستغراق أشمل من العموم، ولابدَّ أن يُعرَف أنَّ الاستغراق من ألفاظ العموم عند جملة علماء الأصول.
إذن؛ عرفنا الآن الألف واللام الداخلة على وصف أو على اسم جنس.
ثم ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- أمثلة على ذلك تجعل هذه القاعدة في ذهنك وأنت تقرأ كلام الله -عزَّ وجلَّ.
المثال الأول: الألف واللام الداخلة على الوصف.
ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ...﴾ [الأحزاب: 35]، فهنا الألف واللام استغراقيَّة، وتعم كل مسلم وكل مؤمن، وكل خاشع، إلى غير ذلك من الأوصاف.
والثواب لهم: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمً﴾ [الأحزاب: 35]، فكل من قام بهذا الوصف فثمرة هذا العلم -أو هذه المعرفة- فهو موعود بهذا الفضل من الأولين والآخرين إلى قيام الساعة.
المثال الثاني: الألف واللام الاستغراقيَّة الداخلة على اسم الجنس -يعني الجنس الذي يعم أفرادًا.
قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ [المعارج: 19- 22] ؛ فكل إنسان هذا وصفه إلَّا مَن استثناه الله -عزَّ وجلَّ-، ولهذا قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾ [سورة العصر]، فهو وصف ملازمٌ له، فكل إنسانٍ في خسرٍ إلا من استثناه الله -عزَّ وجلَّ- واتَّصفَ بهذه الصفات فإنه خارجٌ عن هذا الوصف، ووصف الإنسان تجده في القرآن كثير، قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ﴾ [يونس: 12]، تجد بعض المفسرين يعبر عن "الإنسان" هنا بالكافر، فهذا الكافر يدخل دخولًا أوليًّا، ولكنه يعم وصف الإنسان، فالألف واللام تعم كل مَن يدخل في أسماء الأجناس.
ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- أن هذه القاعدة تُرد في فهم معاني أسماء الله -عزَّ وجلَّ- فإن أسماء الله -عزَّ وجلَّ- الحسنى لها معانٍ، فمثلًا "العليم" أي: العليم بكل شيء، فالألف واللام هنا للجنس، ولا يُشاركه -سبحانه وتعالى- أحد من خلقه، وكذلك اسم "العزيز" فله كل معاني العزَّة.
وهذا يُفيدك -كما نبه الشيخ- أنَّك بالإضافة إلى أنَّك تفهم كلام الله -عزَّ وجلَّ- على وجهه وعلى المعنى الذي وُضع له أصلًا؛ فإنَّك تحتاج أن تستصحب هذا المعنى في ذهنك، حتى في ذكرك لله -عزَّ وجلَّ-، فمن الأذكار الواردة والمأثورة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في التشهد في الصلاة: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين»، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «فإنكم إذا قلتم ذلك سلمتم على كل عبدٍ صالحٍ»، فهذا يعم كل عبد صالح من الجن والإنس والملائكة؛ كل مَن هو متَّصفٌ بالعبودية لله -عزَّ وجلَّ.
إذن؛ لابد لطالب العلم أن يُراعي هذا المعنى، وأن ينتبه لهذه القاعدة، وهي أن الألف واللام للاستغراق.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (القاعدة الرابعة: إذا وقعت النكرة في سياق النفي أو النهي أو الشرط أو الاستفهام دلت على العموم)}.
هذه القاعدة الرابعة التي تفيد من يقرأ كلام الله -عزَّ وجلَّ- في فهم كلامه -سبحانه وتعالى.
قال: (إذا وقعت النكرة)، النكرة تخالف المعرفة، والنَّكرة كما عُرفت في الاصطلاح: ما شاعَ في جنسٍ موجودٍ أو مُقدَّرٍ دون تعيينٍ، وهي من ألفاظ العموم، وتكون النكرة في سياق النهي أو النفي أو الشرط.
وذكرنا أن اللفظ العام هو: كل لفظٍ استغرق ما صلح له دفعة واحدة من غير حصر.
ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- أمثلة:
المثال الأول: النكرة في سياق النهي.
قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئً﴾ [النساء: 36].
النكرة هنا "شيئًا"، وأداة النهي "لا"؛ فهذا يعم كل أنواع الشرك، فلا تشركوا بالله الشرك الأكبر، والشرك الأصغر، والشرك الخفي؛ فكل هذا يدخل في هذا النهي، فيعمل كل هذه الأنواع؛ لأن النكرة في الآية في سياق النهي، فهي من ألفاظ العموم، فلا يُمكن أن يَستثني أحدٌ شيئًا بأنَّه خارجٌ عن النهي؛ لأن النكرة في سياق النَّهي من ألفاظ العموم.
المثال الثاني: النكرة في سياق النَّفي.
النَّهي غير النَّفي، و"لا" الناهية غير "لا" النافية، ولكل أحكام خاصَّة، ولكنها في العموم معناها واحد، قال تعالى: ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئً﴾ [الانفطار: 19]، يعم كل نفس، يعني: كل نفس ما تملك شيء، ويعم كل مُلك، فلا يُمكن أن يكونَ ثَمَّ مُلكٌ ولا نفع من الإنسان لغيره يوم القيامة، فإن الْمُلك يوم القيامة لله -عزَّ وجلَّ.
المثال الثالث: النكرة في سياق الشرط.
وألفاظ الشرط وأدوات الشرط سيأتي ذكرها في أحد القواعد.
فمن ألفاظ الشرط "إِنْ"، قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ﴾ [الأنعام: 17]، فـ "إِنْ" من أدوات الشرط، وهو حرف شرط جازم مبني على السكون لا محل له من الإعراب، كما هو مقرر في لغة العرب.
إذن النكرة في سياق الشرط من ألفاظ العموم.
النكرة في الآية ﴿بِضُرٍّ﴾، وهذا يعم كل ضر، فإنَّه لا يكشف أي ضرٍّ إلا الله -عزَّ وجلَّ.
وقوله: ﴿بِخَيْرٍ﴾، أي: أيَّ خيرٍ، فمن ألفاظ العموم النَّكرة في سياق الشرط.
ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- من هذه الأدوات، في قوله تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النحل: 53]، ﴿نِعْمَةٍ﴾ نكرة في سياق الشرط، فهي من ألفاظ العموم، يعني: أيَّ نعمةٍ وكل النعم من الله -عزَّ وجلَّ- وهو الذي أسداها.
فـ "ما" اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.
المثال الرابع: النكرة في سياق الاستفهام.
قال تعالى: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾ [فاطر: 3]، دخول "مَنْ" هنا يصيرها نصًّا في العموم -كما ذكر أهل العلم- يعني: ليس ثَمَّ خالق غير الله.
إذن؛ النكرة في سياق الاستفهام تفيد العموم، بخاصَّة إذا كانت في سياق الاستفهام الإنكاري.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (القاعدة الخامسة: المقرر أن المفرد المضاف يُفيد العموم كما يُفيد ذلك اسم الجمع.
فكما أن قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ [النساء: 23] إلى آخرها يشمل كل أم انتسبت إليها، وإن علت. وكل بنت انتسبت إليك وإن نزلت ـ إلى آخر المذكورات)}
هذا هو قول بعض المالكية والحنابلة، وليست قاعدة متفق عليها.
والقول الثاني: أن المفرد المضاف لا يفيد العموم.
وهذا مهم جدًّا، أن يُنبَّه إلى القواعد المتفق عليها والقواعد التي فيها خلاف.
والقول بأن المفرد المضاف يُفيد العموم يترتب عليه ثمرات وفروع، فمن ثمرات هذه القاعدة فقهيًّا:
- أنه ورد عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أنه كان يسبِّح بيده، فهنا "يده" مفرد مضاف؛ وعلى القول الأول أنَّه كان -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يسبح بيديه جميعًا.
- كذلك من التطبيقات الفقهيَّة للقاعدة: لو قال رجل: "زوجتي طالق" ولم يُعيِّن، وله أربعُ نسوة؛ فعلى القول الأول تطلق جميع الزوجات، وعلى القول الثاني تطلق واحدة فقط، على اختلاف بين الفقهاء كيف يكون التطليق، هل هو بالإقراء أو بالاختيار، إلى غير ذلك.
هل المفرد المضاف يُفيد العموم أو لا؟
كلا الفريقين له استدلالات:
يستدل الأوَّلون بقول الله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَ﴾ [إبراهيم: 34]، فيقولون: المفرد المضاف "نعمة" يعم كل النِّعَم، والدليل أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- أضاف هذا المفرد، ودل على أن نعم الله -عزَّ وجلَّ- عامَّة.
وهناك قولٌ يتوسَّطُ بينَ القولين، فلا يُطلق القول بأن المفرد المضاف يُفيد العموم، فيشترط له شروط، فيقول: المفرد المضاف لا يعم على كل الأحوال، ولا يُطلق هذا القول، وإنما هو عامٌّ بشروطٍ ثلاثة:
الشرط الأول: أن يُضاف إلى معرفةٍ. مثل قولك: "قلمُ حبرٍ"، فـ "قلم" مفرد مضاف إلى نكرة، فليس من ألفاظ العموم، ولكن لو قلت: "قلمُ الحبرِ" فيكون "قلم" مفرد مضاف إلى معرفة، فيكون ألفاظ العموم.
إذن؛ إذا أُضيف المفرد إلى نكرة فلا يكون من ألفاظ العموم.
وفي قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ﴾، فـ ﴿نِعْمَةَ﴾ مفرد مضاف إلى معرفة وهو لفظ الجلالة، وكما قال سيبويه -رَحِمَهُ اللهُ: "لفظُ الجلالة أعرف المعارف".
الشرط الثاني: أن يكون المفرد اسم جنسٍ يدل على معنًى شائع في أفراده.
فقوله: ﴿نِعْمَةَ﴾ اسم جنس يدل على معنًى شائع في أفراده.
الشرط الثالث: أن لا تكون الألف واللام الواقعة في المضاف "ال" العهدية، فإذا كانت "ال" التي للعهد فإنها لا تُفيد العموم.
فهذه اشتراطات اشترطها بعض أهل العلم حتَّى يُقال بأن المفرد المضاف يعم.
والمؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- هنا ذكر أمثلة للمفرد المضاف على القول بأنه من ألفاظ العموم، مثل قول الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [الضحى: 11]، وتم الكلام عليها.
وقوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ [النساء: 23]، فـ "الأم" هنا تعم كل أم وإن نزلت، أمُّك التي ولدتكَ، ويدخل في ذلك الجدة، وأم الجدة، فإنها -كما ذكر الفقهاء- تدخل في وصف الأم وفي حكم الأم.
ثم ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- أمثلة أخرى على تقرير هذه القاعدة، كقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162]، فالآية تعم كل صلاة وكل نسُك، و ﴿مَحْيَايَ﴾ يعني: كل عبادته في حال الحياة.
وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90]، يعني كل اهتداء من هدي الأنبياء، وفيه دليل على قاعدة أن شرع من قبلنا شرعٌ لنا، وهذه مسألة أصوليَّة، وهي من المسائل التي وقع فيها الخلاف:
- فبعض أهل العلم يقول: إنَّ شرع مَن قبلنا هو شرعٌ لنا.
- وبعضهم يُقيِّده فيقول: إنَّ شرع من قبلنا -يعني ما جاء عن الأنبياء- شرعٌ لنا ما لم يرد في شرعنا خلاف، فما ورد في الشرع مخالفته فإنه من شرعنا.
إلى غير ذلك من تقرير هذه القواعد المهمة التي ذكرها الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (القاعدة السادسة: في طريقة القرآن في تقرير التوحيد ونفي ضده)}.
المراد بالتوحيد: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
وبتقسيم آخر عند أهل العلم:
* توحيد المعرفة والإثبات، وهو يشمل توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات.
* وتوحيد القصد والطلب: وهو توحيد العبادة.
كل هذه الأنواع في التوحيد جاءت مُقررة في كلام الله -عزَّ وجلَّ- فالقرآن له طريقة في تقرير هذا التوحيد.
ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنه من المقدمات المهمة في هذا: أن القرآن كله في تقرير التوحيد، إما بالنَّصِّ على ذلك، أو بلوازم ذلك، فالقرآن كله من أوله إلى آخره إما لتقرير براهين التوحيد، أو تقرير ما يجب على المؤمن تجاه ربِّه -سبحانه وتعالى- في تعبُّده لله -عزَّ وجلَّ- أو ما يجب على المؤمن الموحِّد في معرفة ربه -سبحانه وتعالى- فالآيات تقرر هذه الأنواع باختلاف أنواعها.
كذلك من طريقة القرآن: أنه نبَّه إلى أن كل الرسل يدعون إلى هذا التوحيد، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36]، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25] ؛ فهذه من الأساليب التي جاء القرآن فيها بتقرير التوحيد.
وبيَّن أن الغاية من الخلق هو التوحيد، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].
ثم بيَّن القرآن أن كل الكتب السماوية جاءت بتقرير هذا التوحيد، فالكتب السابقة وما فيها من العلوم اشتملت على علم التوحيد.
وكذلك بيَّن القرآن في تقرير التوحيد: أنه من لم يأتِ بالتوحيد فإن عمله باطل، قال -عزَّ وجلَّ: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورً﴾ [الفرقان: 23]، وقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 88]، ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر: 65]. فمن لم يعمل بالتوحيد فلا قبول لعمله.
والفطرة تدل على هذا، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 172]، وقال تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ [الروم: 30].
كذلك بيَّن القرآن أنَّ التوحيد هو استحقاق لله -عزَّ وجلَّ- لا يشاركه فيه غيره -سبحانه وتعالى- لأنه حقه -سبحانه وتعالى-، فالعدل أن يُصرَف التوحيد له -سبحانه وتعالى- وأن يُتعبَّد له، وضدُّه -وهو الشرك- ظلمٌ عظيم، ولهذا قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82]، وقال -عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13].
كذلك التوحيد هو حكم الله -عزَّ وجلَّ- على خلقه.
ومن أساليب القرآن في تقرير التوحيد: ذكر محاسن التوحيد ومساوئ الشرك، وآثار التوحيد في الدنيا، وآثار الشرك في الدنيا والآخرة.
ومن أساليب القرآن ذكر آثار التوحيد، فأثر القيام بالعبودية -وهو القيام بتوحيد الله عز وجل- دخول الجنان، وأثر الإعراض عن هذا التوحيد هو دخول النيران -أعاذنا الله والسامعين والمشاهدين والمشاهدات من دخولها وأجارنا منها.
فهذا القرآن العظيم مشتمل على هذه التقارير وهذه الأساليب في تحقيق هذا التوحيد، فالقرآن من أوله إلى آخره توحيد، جلعنا الله من أهل التوحيد، وأماتنا على التوحيد، وختم الله لنا به.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.
{نشكركم فضيلة الشيخ ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.