الدرس السابع

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

3361 12
الدرس السابع

القواعد الحسان المتعلقة بتفسير القرآن

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور: فهد سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حياكم الله يا شيخ عبد الرحمن، وحيا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: (القاعدة الثالثة والثلاثون: المرض في القرآن -مرض القلوب- نوعان: مرض شبهات وشكوك، ومرض شهوات ومحرمات)}.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- عقدَ هذه القاعدة الماتعة، وهذه القاعدة النفيسة في تمييز أمراض القلوب وأمراض الشبهات والشُّكوك.
المسألة الأولى التي ربما تظهر لكل مشاهد ولكل سامع: ما الطريق إلى التمييز بين مرض الشبهة ومرض الشهوة؟
الله -عزَّ وجلَّ- ذكر المرض في القرآن، فتارة يُشير إلى مرض الشهوة، وتارة يُشير إلى مرض الشُّبهة، فدلَّ على أن ثَمَّ مرضان.
والطريق إلى تمييز ذلك هو السياق القرآني، فإذا كان في ذمِّ المنافقين فهو يُراد به مرض الشُّبهة؛ لأنَّ أهل النفاق يُوردون الشبهات والشُّكوك على القلوب.
وإذا كان في ذكر المعاصي عُلم أنه يُراد به مرض الشهوة، وفي كلا الأمرين فهو مرض للقلب، فالقلب تارةً يمرض بالشبهة وتارة يمرض بالشهوة، وعلى كلِّ حالٍ فالمطلوب هو التَّوقي لهذا القلب حتى يكون قلبًا سليمًا.
السؤال الذي يليه: ما وجه حصر المرض في هذين المرضين؟
يقول الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (مرض القلب خلاف صحته، وصحة القلب الكاملة بشيئين)، أي أن صحَّة القلب وسلامته تُدرَك بأمرين:
الأول: قال الشيخ: (كمال علمه ومعرفته ويقينه)، أي بكمال العلم والمعرفة واليقين، فيكون القلب عامرًا باليقين بالله -عزَّ وجلَّ- وبالعلم الذي يُنافي هذا المرض، فإنَّ العلم سببٌ لزوال هذا المرض.
الثاني: قال الشيخ: (وكمال إرادته وحبه لِما يحبه الله ويرضاه).
إذن؛ بكمال العلم والمعرفة واليقين وكمال الإرادة يُدفع مرض القلب بنوعيه -مرض الشبهة ومرض الشهوة.
والشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ذكر أمثلةً، ومن الأمثلة على مرض الشُّبهة: قول الله -عزَّ وجلَّ- في آيات النفاق في سورة البقرة: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضً﴾ [البقرة: 10]، وهذا هو مرض الشبهة، فقلوبهم عامرة بالشُّبهات وبالشُّكوك -نسأل الله السلامة والعافية- وهذه الشُّكوك لا تزيدهم إلَّا مرضًا بالشَّكِّ، وهذا من عاجل العقوبة.
وقوله: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: 125]، يعني مرضًا إلى مرضهم.
ومثله كذلك قول الله -عزَّ وجلَّ: ﴿لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ [الحج: 53].
إذن؛ ثَمَّ مريضٌ بمرضِ الشُّبهة، وهذا مرضٌ له علاجٌ مذكورٌ في القرآن، وله أسبابٌ من الوقاية ربما يطول الكلام فيها، ولكن نُجملها -إن شاء الله- في كلامنا بعد مرض الشهوة.
ومن أمثلة مرض الشهوة: قوله -عزَّ وجلَّ- في خطابه لأمهات المؤمنين: ﴿فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفً﴾ [الأحزاب: 32]، والمراد بالمرض هنا هو مرض الشهوة؛ فدلَّ على أنَّ القلب المتعلق بالشهوات هو مريض يحتاج إلى أن يُنقِّي هذا القلب من هذا المرض، فكل مَن أرادَ شيئًا من معاصي الله -عزَّ وجلَّ- فقلبه مريض، ويحتاج إلى أن يُنقِّي هذا القلب من أمراضه.
والله -عزَّ وجلَّ- أثنى على القلوب الزَّاكية التي زكَّت نفسها بطاعة الله -عزَّ وجلَّ- وبمدافعة هذا المرض، فقال -عزَّ وجلَّ: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء:88، 89]، فأثنى الله -عزَّ وجلَّ- على هذا القلب السَّليم، السَّالم من مرض الشُّبهة ومرض الشَّهوة.
قال -عزَّ وجلَّ: ﴿وَلكنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً﴾ [الحجرات: من الآيتين 7، 8].
فعلاج مرض القلب يكون بطاعة الله -عزَّ وجلَّ- وبقراءة القرآن وبتدبُّر ما في القرآن، فبالقرآن يكون اليقين الذي يُدفَع به مرض الشُّبهة ومرض الشهوة، ووسائل ذلك مذكورة في كلام أهل العلم في كتاب الرقاق في صحيح البخاري، وفي غيره ممَّا ذكره أهل العلم مما يحصل به زكاة القلب، والإنسان بحاجة إلى تزكية هذا القلب والمجاهدة في ذلك، لأنه لا يكون هذا الأمر في يوم وليلة، ولكن نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يطهر قلوبنا من أمراضها، ولهذا قال -عزَّ وجلَّ: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69].
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الرابعة والثلاثون: دلَّ القرآن في عدة آيات أنَّ من ترك ما ينفعه مع الإمكان ابتلى بالاشتغال بما يضره، وحُرم الأمرَ الأول)}.
الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ذكر أنَّ من قواعد القرآن هذا الأصل العظيم، ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أمثلة على ذلك، فتتبَّع الآيات القرآنية واستخلص هذه القواعد من خلال الاستقراء والتَّتبُّع.
والشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ذكر صورًا لهذه القاعدة، فمَن ترك ما ينفعه ابتُليَ بالاشتغال بما يضره، وهذا ناموس وقاعدة، فالله -عزَّ وجلَّ- يُعاقب المعرض بمثل هذه العقوبات.
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (أن المشركين لَما زهدوا في عبادة الرحمن ابتلوا بعبادة الأوثان، ولما استكبروا عن الانقياد للرسل، بزعمهم: أنهم بشر، ابتلوا بالانقياد لكل مارج العقل والدين)، فابتلوا بالانقياد للعقول الفاسدة، ولم يعبدوا الله -عزَّ وجلَّ- حق عبادته وعبدوا أهواءهم، ولهذا قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الجاثية: 23]، فدلَّ على أن الإنسان لا ينفك عن اتِّخاذ الآلهة، إمَّا أن يتَّخذ المستحق للعبادة والألوهيَّة -وهو الله عز وجل- أو يتَّخذ ما هو دونه، ومن ذلك الهوى.
ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فقال: (وَلَمَّا بين لهم الصراط المستقيم، وزاغوا عنه اختيارًا ورضوا بطريق الغي على طريق الهدى والرشد، عوقبوا بأن أزاغ الله قلوبهم، وجعلهم حائرين في طريقهم.
وَلَمَّا منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وأخربوها ما كان لهم بعد ذلك أن يدخلوها إلا خائفين.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ﴾ [التوبة: 75 - 77])
.
وذكر الله -عزَّ وجلَّ- عن اليهود كذلك: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 101]، كأنهم لم يعلموا أنه هو الرسول، مع أن الله -عزَّ وجلَّ- ذكر أنهم يعلمون، فقال: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 146].
ثم لَمَّا أعرضوا عمَّا جاءت به الرسل فانظر إلى العاقبة والعقوبة: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُو﴾ [البقرة: 102]، فلمَّا أعرضوا عن الوحي الموجود في كتابهم -التوراة- اتَّبعوا السِّحر وعمدوا إليه، وهو ما تلته الشياطين على ملك سليمان ونسبته إليه ظلمًا وكذبًا وزورًا.
وهذه قاعدة محكَّمةٌ حتى في الجوانب التربوية، أنَّ الإنسان لا يشتغل إلا بما ينفعه، ويترك ما لا ينفعه، لأنَّك إذا اشتغلتَ بما لا ينفعك أورثك ذلك العقوبة العاجلة، وجاء الأمر على خلاف ما تريد، فهذه قاعدة محكَّمة، والله -عزَّ وجلَّ- ذكرها في القرآن، فينبغي لكل مسلم أن يُعنَى بمثل هذه الأمور.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الخامسة والثلاثون: تقديم أعلى المصلحتين وأهون المفسدتين)}.
هذه قاعدة عظيمة، وهي من القواعد الأصوليَّة، ومتَّفقٌ عليها في الجملة، فالله -عزَّ وجلَّ- في عدَّة آيات في القرآن ذكر الحثَّ على أعلى المصلحتين، يعني: إذا كان ثَمَّ مصلحتان فتُقدَّم المصلحة الأعلى.
وإذا كانَ ثَم مفسدتان فإنَّك تُقدِّم الأهون، ففي باب المصلحة تقدِّم الأعلى، وفي باب المفسدة تقدِّم الأهون.
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ومنع ما كانت مفسدته أرجح من مصلحته) كل ما كان مفسدته أعلى وأرجح من المصلحة فإنَّه يُمنَع، وهذه قاعدة محكَّمة عند علماء الأصول، ومتَّفق عليها في الجملة.
وذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- شواهد هذه القاعدة من كلام الله -عزَّ وجلَّ- ومن القرآن، فمن أمثلة تقديم أعلى المصلحتين المفاضلة بين الأعمال الصالحة، وتقديم الأعلى منها، فإذا عرضَ لكَ عملانِ فإنَّك تقدِّم الأعلى مصلحة والأكثر أجرًا، وهكذا في أمورك كلها، ولهذا قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُو﴾ [الحديد: 10]، فالله -عزَّ وجلَّ- فضَّل النَّفقة قبل الفتح على النَّفقة بعد الفتح؛ لأنَّ وضع أهل الإسلام ومكانهم قبل الفتح غير، فكانوا في أمسِّ الحاجة إلى المال والعون، ولكن لَمَّا فتحَ الله -عزَّ وجلَّ- على رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- مكَّة قال -عزَّ وجلَّ: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجً﴾ [النصر:1-2]، فانقادت العرب جميعًا، فهذه القاعدة الفقه الشرعي.
ومنه قوله تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 19]، فكان المشركون يفتخرون على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بأنهم هم سدَنة البيت والقائمين بشأنه، ويفضِّلون هذا العمل على الإيمان بالله واليوم الآخر والمجاهدة في سبيل الله -عزَّ وجلَّ-، ولا يُمكن الموازنة بين الأمرين.
كذلك مما ذكر الله -عزَّ وجلَّ- في تقديم أعلى المصلحتين قوله: ﴿لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [النساء: 95]، فالله -عزَّ وجلَّ- فرَّقَ بين الأمرين.
ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مثالًا لتقديم أهون المفسدتين، أو الوقوع في أدنى المفسدتين -كما يُعبِّر بعض علماء الأصول- وهو قوله تعالى: ﴿وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمً﴾ [الفتح: 25]، فهذه الآية تدل على أنه لو تزيَّل أهل الشِّرك عن أهل الإسلام ممن يكتم إيمانه في مكَّة لعذَّب الله -عزَّ وجلَّ- الكفَّار بالعذاب العام، ولأجل أنَّهم لم يتزيَّلوا -يعني لم يتبيَّنوا- فكان في مكَّة قبل فتح النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لمكَّة هناك مَن هو في سواد المشركين وهو يكتم إيمانه، وهو معذور في ترك الهجرة، من النساء والصبيان وما شاكل ذلك، ولذلك قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال: 33]، وفي قول جماعة من المفسرين: أنهم في سواد المشركين من يستغفر الله -عزَّ وجلَّ- ولهذا جعل الله هذا مانعًا من العقوبة لهم، فإذا كان ثَمَّ مفسدتنا فتُقدَّم أهون المفسدتين، فلأجل هذه المفسدة لم يسلط الله -عزَّ وجلَّ- عليهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بالقتل، وامتنع من ذلك.
وذكر الشيخ مثالًا لمنع ما كانت مفسدته أرجح من مصلحته، وهو قول الله -عزَّ وجلَّ: ﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَر مِنْ نَفْعِهِمَ﴾ [البقرة: 219].
يقول الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وهذا كالتعليل العام أن كل ما كانت مضرته وإثمه أكبر من نفعه)، يعني هذه قاعدة محكَّمةٌ في مسألة ما كان ضرره أعظم من نفعه، فإنه يُغلَّب في جانب المنع والتَّحريم.
وهذه قاعدة محكَّمة عند علماء الأصول، وهذا هو المعقول والمفطور على استحسانه، أي أن العقول فُطِرَت على استحسان مثل هذا الأمر، وهذا يُدركه العقلاء، فالقرآن جاء بموافقة الفطرة والعقل في أحكامه وغي تشريعاته، والفقيه هو مَن يسلك هذه المسالك، يعني الفقه الشرعي الذي جاء الثَّناء عليه من حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ» ، فإنه يُعنَى بضبطِ هذه المسائل وفرعيَّاتها، لأنَّه يُقدِّم أعلى المصلحتين، ويرتكب أدنى المفسدتين.
قال ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "الفقيه مَن يعرف خير الخيرين، وشر الشرين"، وبهذا تكون السلامة، وتحقيق مصالح الإسلام وقواعده الكبرى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة السادسة والثلاثون: مقابلة المعتدي بمثل عدوانه.
طريقة القرآن: إباحة الاقتصاص من المعتدي ومقابلته بمثل عدوانه، والنهي عن ظلمه، والندب إلى العفو عنه والإحسان)
}.
ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في هذا قواعد لابدَّ للإنسان أن يكونَ على ذكرٍ منها، فذكر الله -عزَّ وجلَّ- أصول هذه القاعدة وأمثلتها، قال تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ يعني القصاص.
ثم قال: ﴿وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ [النحل:126]، فحثَّ الله -عزَّ وجلَّ- على الاقتصاص وعدم الزيادة، ولهذا قال بعض أهل العلم: "الدعاء قصاص"، يعني: لو حصل من إنسان عداون عليك فإنَّك في دعائك عليه ينبغي أن تلاحظ هذا الملحظ، وهو أنَّك لا تعتدي عليه، ولهذا ندب الله -عزَّ وجلَّ- إلى الصبر والإحسان؛ لأنَّك قد تزيد في مسألة القصاص فتتعدَّى، وقلَّ مَن يسلم من هذا إلَّا مَن سلَّمه الله -عزَّ وجلَّ.
قال -عزَّ وجلَّ: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَ﴾، السيئة تُقابلها سيئة، ومَن اعتدَى عليكَ فإنَّك تقابله بمثل هذا، وهذه هي الرُّخصة التي جعلها الله لك. ثم قال -عزَّ وجلَّ: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [الشورى:40].
ومن اللفتات اللطيفة في هذا: أن الله -عزَّ وجلَّ- لم يُسمِّ هذا الأجر؛ بل أطلقه، وهذا من عظيم الثواب لأهل العفو والإحسان -نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.
قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾، [البقرة: 191].
وقال -عزَّ وجلَّ: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [البقرة: 194].
وقال -عزَّ وجلَّ: ﴿لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ [النساء:148].
قال الشيخ: (والآيات في هذا المعنى كثيرة)، ومع ذلك فالله -عزَّ وجلَّ- ندبَ إلى الإحسان والعفو، ورغَّب في كظم الغيظ فقال: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 134]، وندب إلى هذا في آياتٍ كثيرة، ولكن جعل لأهل الإيمان رخصة، وهذه الرخصة مقيَّدة في مسائل القصاص، وهي أنَّ الإنسان لا يتجاوز فيها الحدود الشرعيَّة وما حدَّه الله -عزَّ وجلَّ- حتَّى لا يتحوَّل من مظلومٍ إلى ظالمٍ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة السابعة والثلاثون: اعتبار المقاصد في ترتيب الأحكام)}.
هذه قاعدة عظيمة، يقول الشيخ: (اعتبر الله القصد والإرادة في ترتيب الأحكام على أعمال العباد)، يعني يُمكن أن نقول: الأعمال بمقاصدها -كما يعبر بعض علماء الأصول- ويدل على ذلك الحديث العظيم المشهور حديث عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «إنَّما الأعْمَالُ بالنِّيَّةِ» ، وفي رواية «إنَّمَا الأعْمَالُ بالنِّيّاتِ، وإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» ، فهذا أصلٌ من أصول الإسلام.
وورد كذلك في الحديث في بيان أن الأعمال تتفاضل بحسبِ النيَّة، فجاء في الحديث «نية المؤمن أبلغ من عمله»، وما جاء في تسمية بعض النصوص أنَّ أعمالًا يسيرة يحصل بها المغفرة والأجر العظيم.
قال أهل العلم: إنما مدار الأعمال على النيَّات، فإذا كانت النيَّة خالصة لله -عزَّ وجلَّ- عظُمَ الأجر والثواب، وإن كان العمل في صورته عملًا يسيرًا؛ فدلَّ على أنَّ الأعمال بمقاصدها.
وبيَّن الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنَّ من اعتبار القصد أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- رتَّبَ الثواب على النيَّة.
قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمً﴾ [النساء: 114]، وابتغاء مرضات الله -عزَّ وجلَّ- من أعمال القلوب وهو النيَّة والقصد.
وبيَّن الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنَّه القصد معتبرٌ في مسائل كثيرة من مسائل الفقه، فقال تعالى في الرجعة الزَّوجيَّة: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحً﴾ [البقرة: 228].
وكذلك اعتُبر القصد في اليمين، فقال -عزَّ وجلَّ: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [البقرة: 225].
كذلك اعتبر القصد في الاعتراف بالدَّين للموصي، فقال -عزَّ وجلَّ: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارّ ْ﴾ [النساء: 12]، يعني لو اعترف بدينٍ لا يُريد به المضارَّة للورثة، فالقصد معتبر في هذا.
كذلك اعتبار القصد في مخالطة مال اليتيم، فمطلوب ممَّن كان له ولاية على مال اليتيم أن يتَّجرَ فيه، وقد ورد في الحديث: «اتَّجِرُوا فِي أَمْوَالِ اليَتَامَى، لَا تَأْكُلَهَا الزَّكَاةُ» ، وقال -عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ [البقرة: 220].
كذلك اعتُبرَ القصد والنية في القتل، فالشَّارع يُفرق بين قتل الخطأ وقتل التَّعمُّد، قال -عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمً﴾ [النساء:93].
كذلك اعتبر القصد في الصيد للمحرم، فإن الصيد للمحرم غير جائز، قال -عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ﴾ [المائدة: 95].
وهذا يدل على أنَّ الأحكام بمقاصدها، وأن هذه قاعدة قرآنية يلحظها القارئ لكلام الله -عزَّ وجلَّ- ويتنبَّه إلى آثارها، فإنَّ الأعمال بمقاصدها، والأجر والثواب على المقصد وعلى النيَّة، فربَّ عملٍ صغيرٍ كبَّرته النيَّة، وربَّ عمل كبيرٍ صغَّرته النية.
فهذه القاعدة قاعدة مهمَّة ينبغي لكل مسلمٍ ومسلمةٍ أن يتنبَّهوا لمثل هذه الملاحظ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الثامنة والثلاثون: قد دلت آيات كثيرة على جبر المنكسر قلبه، ومن تشوفت نفسه لأمر من الأمور إيجابًا أو استحبابً)}.
ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أمثلة لذلك:
- أمَّا جبر خاطر مَن ينكسر قلبه لحكمٍ شرعي أو لمصلحةٍ شرعية كالمطلَّقة، ولا شكَّ أنَّ الطلاق كما ورد في الحديث «أَبْغَضُ الْحَلاَلِ إِلَى اللَّهِ الطَّلاَقُ» ، وإن كان لا يسلم من المقال ولكن معناه صحيح، فالمطلقة يحصل لها شيء من الانكسار، ولهذا ندب الله -عزَّ وجلَّ- إلى جبر خاطرها، فقال تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 241]، فشُرِعَت المتعة للمطلَّقة سواء كانت مطلَّقة قبل الدخول أو بعد الدخول، والمتعة في قدرها يُرجَع فيه إلى العرف كما قال تعالى: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 236]، يعني: بالعرف، فكل امرأة بحسبها وبحسب البيئة التي هي فيها، وهذا من جبر الخاطر لِمَن انكسر قلبه لتنفيذ حكمٍ شرعي.
كذلك ذكر الله -عزَّ وجلَّ- ممَّن يُندَب إلى الإحسان إليه وإعطائه ولو شيئًا قليلًا جبرًا لخاطره: مَن حضرَ قسمة الإرث، ولهذا قال الشيخ: (إيجابًا أو استحبابً)، على خلافٍ بين أهل العلم في مثل هذه المسائل، فقال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفً﴾، [النساء: 8]، فإذا حضر القسمة مَن ليس بوارثٍ فيُعطونَ ما به يكون جبر الخاطر.
وذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- من الصور وقتَ حصاد الثِّمار، فإنَّه قد يكون وقت حصاد الثِّمار مَن تتشوَّف نفسه من العمَّال والأُجراء، ولهذا قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾، [الأنعام:141].
وجمعٌ من أهل العلم يرونَ أنَّ هذا في الزَّكاة، وبعضهم يرى أنَّ هذا مُطلق يشمل الزَّكاة ويشمل الإحسان للأجراء، فإنَّهم يُعطونَ ولو شيئًا قليلًا.
قال بعض السلف: "إذا حُصِدَ أُطعم منه، وإذا أَدخله البيدرَ أطعم منه، وإذا داسه أطعمَ منه ولو شيئًا قليلًا"، لأن الله -عزَّ وجلَّ- يُحب المحسنين؛ فهذا يحصل به جبرُ خاطر مَن تتشوَّف نفسه إلى مثل هذه الأمور، والنفوس بطبيعتها تتشوَّف إلى مثل هذا الأمر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة التاسعة والثلاثون: في طريقة القرآن في أحوال السياسة الداخلية والخارجية)}.
هذه قاعدة عظيمة، وهي من السياسة الشَّرعيَّة، وهذا فيه دليلٌ على أنَّ القرآن مُشتملٌ على العلوم كلها، ومن تلك العلوم علوم السياسة، سياسة الناس داخل البلاد وخارج البلاد، والعلاقات الدوليَّة، كل هذا موجودٌ أصول التعامل فيه في القرآن، فالقرآن تبيانٌ لكلِّ شيءٍ، فما ترك القرآنُ شيئًا من الخير إلا ودلَّ على أصله.
فالشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قرَّرَ في هذه المسألة العلاقة بينَ الإسلام، فالإسلام تعبُّد وعمل، وليس كالأديان الأخرى أنه خاصٌّ في مسائل التَّعبُّد فقط؛ فالقرآن والإسلام تعبُّد وعمل وتعامل، فالإنسان لا ينفك عن التَّديُّن لله -عزَّ وجلَّ- في كافَّةِ أمور حياته، فالتَّعاليم لا تكون في موضع معيَّنٍ كالمسجد، وخارج المسجد خلاف ذلك، لا؛ القرآن شامل في العلاقات الداخليَّة والعلاقات الدوليَّة، وسياسية الناس، وفي تعامل الناس مع بعض.
ثم قال الشيخ في الدلالة على هذا الأصل: (طريقة القرآن في هذا أعلى طريقة، وأقرب إلى حصول جميع المصالح الكلية، وإلى دفع المفاسد).
وذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أن من أصول السياسة: الشورى، وهذه ذكرها الله -عزَّ وجلَّ- في أكثر من موضع، قال -عزَّ وجلَّ: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾، [آل عمران: 159]، وقال تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾، [الشورى: 38].
والشُّورى تعم الحاكم والمحكوم، حتى في تعامل الناس فيما بينهم، في بيوتهم وفي أُسَرِهم، وهذا طبَّقه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- تطبيقًا عمليًّا، وهكذا كان أصحابه -رضوان الله عليهم.
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقد اتفق العقلاء أن الطريق الوحيد للصلاح الديني والدنيوي هو طريق الشورى)، ثم قال: (فهذا النظام العجيب الذي أرشدهم إليه القرآن: هو النظام الذي يصلح لكل زمان ومكان).
وهذه الشُّورى عاقبتها خير للحاكم والمحكوم، ولمن كان له أيَّ نوعٍ من أنواع الولاية، لأنَّ المشاركة وأخذ الشُّورى فيه تبصيرٌ لمن ولَّاه الله -عزَّ وجلَّ.
ومسألة أنَّ الشُّورى مُلزمة أو مُعلِمَة مسألة أخرى، ولكن أصل القضية هي أنَّ الشورى مطلوبة، وهذا مما دلَّت عليه القواعد الشرعيَّة، ودلَّت عليه العقول الصحيحة، وهذه من أصول السياسة التي ذكرها الله -عزَّ وجلَّ- في القرآن.
كذلك من أصول السياسة: الإعـداد للعدو؛ لأنَّ العدو قد يكون معلومًا وقد يكون غيرَ معلومٍ، قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾، [الأنفال: 60]، وهذا يدل على وجوب الاستعداد للأعداء بما يُستطاع من القوَّة العقليَّة والماديَّة والمعنويَّة والحسيَّة؛ كل أنواع الإعداد مطلوبٌ من أهل الإيمان أن يُعدِّوها، وتلك من أصول السياسة.
كذلك من أصول السياسة التي ذكرها الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وهي مذكورة في القرآن: الحذر والتَّحرُّز من العدو، قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾، [النساء: 71].
والدول الآن تتكلَّم عن هذا الأمن، الأمن اللوجستي، والأمن السيبراني، والأمن الاستخباراتي؛ فكل هذا موجودٌ في القرآن، ومطلوب من أهل الإسلام أن يأخذوا حذرهم من كل عدوٍّ، فهذا من أصول السياسة التي ذكرها الله -عزَّ وجلَّ.
كذلك من أصول السياسة التي ذكرها الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- واستنبطها من القرآن: غياب القائد لا يضر الجماعة.
ونبَّه أنَّ القائد قد يعتريه ما يعتريه من الموت والآفات، قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾، [آل عمران: 144]، فدلَّ على واجب الأمة أن تتحوَّط لمثل هذا، وذكر أهل العلم في الأحكام السُّلطانيَّة اختيار ولاية العهد حمايةً لهذا الأصل الذي هو من أصول الشَّريعة.
كذلك من أصول السياسة: الأحكام في مثل هذه الأمور تجري على الاستطاعة، كل أحكام الشريعة تجري على الاستطاعة، لأن الله -عزَّ وجلَّ- قال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾، [التغابن: 16].
كذلك من أصول السياسة: أداء الأمانات، وهو فرض على كل مسلم، قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَ﴾، [النساء: 58].
وبيَّن الشيخ أنَّ الأمانة تشمل الولايات الكبيرة والصغيرة، فلا يُولَّى عليها إلَّا الأكفأ، ويجب عليهم القيام بهذه الولاية على الوجه الذي يُرضي الله -عزَّ وجلَّ-، ولهذا قال تعالى: ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾، [القصص: 26]، ذكر القوَّة والأمانة، فلا تكفي القوَّة؛ بل لابدَّ من القوَّة والأمانة.
كذلك من أصول السياسة: العدل.
قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ [النساء: 58]، وفي آيات كثيرةٍ جدًّا أمرَ الله -عزَّ وجلَّ- بالعدل، ومرَّ معنا ذلك.
قال ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "إن الله يُقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ويُزيل الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة"، وهذا لأجل قيمة العدل في بقاء الأمَّة.
ومن أصول السياسة التي ذكرها الله -عزَّ وجلَّ: الحدود الشرعية.
وذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنها في غاية العدل والإحسان والحُسنِ، وردعِ المجرمين والنَّكال بهم، لأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- هو الذي شرعها، وهو الذي خلق الناس، وهو أعلم بما يحصل به الردع، ولهذا قال -عزَّ وجلَّ: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50].
نسأل الله -سبحانه وتعالى- بمنَّه وفضله وجوده وإحسانه أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يوفقنا لكل خيرٍ جميعًا.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك