{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور: فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكَ الله يا شيخ عبد الرحمن، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات.
{نشرع فضيلة الشيخ في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة السابعة: في طريقة القرآن في تقرير نبوة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ)}.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
هذه قاعدة جاءت بعد طريقة القرآن في تقرير التوحيد ونفي ضده.
أولًا: ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- خصائص نبوة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- من وجهين:
الوجه الأول: خصائص تتعلق بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
الوجه الثاني: خصائص تتعلق بشريعته -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
أمَّا ما يتعلق بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فإنه صدَّقَ المرسلين، وأنه دعا إلى ما دعوا إليه، وجميع المحاسن التي في الأنبياء هو أولى بها -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فهو سيد المرسلين، وسيد ولد آدم -عليه الصلاة والسلام.
هذا ما يتعلق بخصائص النبوة المتعلقة بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
كذلك ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- الخصائص المتعلقة بشريعة النبي محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وهو الإسلام، الذي جعله الله خاتِمًا للأديان، والذي لا يرتضي الله -عزَّ وجلَّ- دينًا سواه، قال -عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85].
فشريعته -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- الشريعة المحمديَّة هي الشَّريعة المهيمنة على جميع الشرائع، وكتابه مُهيمنٌ على كل الكتب، فهي الشريعة الناسخة، والقرآن ناسخٌ لما جاء قبله من الكتب.
وجميع محاسن الأديان موجودة في دين الإسلام، وجميع محاسن الكتب السابقة موجودة في القرآن الذي أوحي إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
فالشيخ ذكر هذا كمقدمة في طريقة القرآن في تقرير نبوة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
وهذه القاعدة في غاية الأهمية؛ لأن فهم هذه القاعدة ومعرفة طريقة القرآن في إثبات نبوة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يستطيع من خلالها طالب العلم والمؤمن والمسلم والمسلمة أن يردوا على المشككين في نبوة النبي محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وهذا التشكيك وُجِدَ في زمانه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ولا يزال يوجد إلى آخر الزَّمان، لكن ليس الشأن أن يوجد هذا الباطل، ولكن الشَّأن أن يسلك الإنسان طريقة القرآن في الرد على هؤلاء المبطلين والمشبِّهين والمشككين في نبوته -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
وذكر الشيخ أن تقرير نبوة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- جاء من أوجه متعددة، تقريبًا عشرة أوجه:
أولًا: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يجالسَ أحدًا من أهل الكتاب؛ لأنه عاشَ في مكَّة؛ بل جاء بكتاب مُعجِزٍ في لفظه ومعناه، فهو مُعجز في ألفاظه ومعانيه، ولهذا قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرً﴾ [الإسراء: 88] ؛ بل لم يكتفِ القرآن في تقرير ذلك، فتحدَّاهم أن يأتوا بعشر سور، ثم تحداهم بأن يأتوا بسورةٍ من مثله؛ فما استطاعوا، مع تداعي همم أولئك المعارضين والمشككين على ذلك، وهم الفصحاء البلغاء، ولم يستطيعوا ذلك، أليس هذا برهان واضح وبيِّن على أنَّ هذا القرآن جاء من عند الله؟ وعلى أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يُوحَى إليه من عند الله -عزَّ وجلَّ؟
لا شكَّ في ذلك.
ثانيًا: إخبار النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بقصص الأنبياء مطوَّلة على سبيل التفصيل تارةً، وتارةً أخرى على سبيل الإجمال، تجد أن القرآن يذكر قصَّة موسى، يختصرها في موضعٍ ثم يتناولها في موضع آخر، وهكذا كل قصص الأنبياء، كقصة يوسف والأحداث التي وقعت فيها، وأشياء كثيرة جدًّا من قصص الأنبياء ذكرها الله -عزَّ وجلَّ- في القرآن، وهذا القرآن أُنزِلَ على مَن لا يقرأ ولا يكتب، وليس له عِلمٌ بالكتب السابقة، ولهذا قال الله -عزَّ وجلَّ- في موضع الامتنان على نبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بهذا الوحي: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ [القصص: 44]، وذكر الله قصة مريم فقال: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ [آل عمران: 44]، ومع هذا لم يستطع أحدهم في زمانه أن يُعارض النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فيما أخبرَ به عن الأنبياء، مع وُجود هذه الكتب بينَ أيديهم، وعندهم هذه القصص وهذا العلم ومع ذلك لم يستطيعوا؛ أليس ذلك من براهين نبوَّة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ؟
ثالثًا: ظهور دين النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، فدين النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- والشريعة المحمَّديَّة ظهرت، وفي هذا الزمان تعتبر ظهرت بسرعة فائقة، تعرف أن الزَّمن نسبي، ولكن في وقت -وهو زمن قصير جدًّا في عمر الزمان- ظهر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وظهر أتباعه وهم الصحابة، وتعرف أن بين هجرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وفتح مكَّة ثمان سنوات، فبين أن يُخرَج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- من مكَّة وهو خائفٌ على نفسه وبين أن يفتح مكَّة ثمان سنوات، تعتبر في عمر الزمان قصيرة جدًّا.
ثم لو نظرتَ إلى زمن الخلفاء الراشدين عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وإسقاط إمبراطورية فارس ومغالبة الروم في سنوات معدودة؛ فظهور هذا الدين وإسلام الناس، وكما قال تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجً﴾ [النصر 1 - 2]، ففي زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بفتح مكَّة، ثم بعد ذلك تتابعَت الأجناس المختلفة على الإيمان بهذا الدين.
إذن؛ ظهور الدين برهانٌ على نبوة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فنصره الله على أعدائه، ومكَّنه الله -عزَّ وجلَّ- في الأرض، ولا يكون هذا إلَّا لأنَّه رسول من عند الله، ومَن خالف ذلك فقد قدح في حكمة الله -عزَّ وجلَّ- وقدرته الباهرة. كيف يكون هذا الظهور والتمكين لمن تصفونه بأنه يكذب على الله -عزَّ وجلَّ- وينسب له ما ليس له بحق!
فلا يُمكن للإنسان إلَّا أن يُذعن ويُقر بأنَّه هو الدين، وأنه هو النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 33]، وقال تعالى: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [الصف: 8].
ولهذا؛ فكل مَن أراد النصرة والتمكين فعليه أن ينصر ما جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لأن المعادي لشريعته ولنبوته مبتورٌ؛ لأن الله -عزَّ وجلَّ- قال: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ [الكوثر: 3]، أي: مقطوع.
فهذا من براهين نبوة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- التي، ومن الأساليب التي قُرِّرَت فيها هذه النبوة في القرآن الكريم.
رابعًا: ما عليه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- من الأوصاف والأخلاق الجميلة، ومن ذلك خُلق الصدق الذي كان عليه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قبل البعثة وبعدها فلم ينفك عن هذا الخلق، ولهذا أثنى الله -عزَّ وجلَّ- عليه فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، وكانت عائشة تقول: "كان خلقه القرآن"، وهو لم يُعلَم عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- الكذب، فكيف يُتصوَّر ممَّن لم يكذب على الناس ولم يُعرَف عنه في مبدأ أمره أن كذب على أحد من الخلق؛ فكيف يُتصوَّر أن يكذب على رب العالمين! حاشاه عن ذلك -عليه الصلاة والسلام.
فإذا كان لم يُعلَم منه أن يكذب الكذبة الواحدة وهو معروفٌ بأمانته وصدقه في قريش، فهم يعرفون ذلك ويوقنون بذلك، ويسمونه محمد الأمين، أليس هذا من البراهين الدالَّة على أنه نبيٌّ حقًّا!
خامسًا: ما جاء في كتب الأولين -التوراة والإنجيل- مع ما هي عليه من التحريف والتبديل من البشارة بنبوة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وباسمه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال تعالى: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ [الصف: 6]، فهو مذكور في التوراة والإنجيل، وتسمى التوراة بـ "العهد القديم" والإنجيل بــ "العهد الجديد"، وإن حاولوا أن يُخفوا ذلك؛ بل يعرفون أوصافه ممَّا في كتبهم، فكانوا يزنون ويعتقدون -وبخاصَّة اليهود- أنَّه سيُبعَث منهم، ويعلمون من كتبهم المحرَّفة أنَّ مَهجره -أي مكان هجرته- يثرب -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، ولهذا ذكر جملة من المؤرخين أن من أسباب وجود القبائل اليهوديَّة هذا المعنى، ولهذا قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 146].
سادسًا: الإخبار بالمغيَّبَات في زمانه -عليه الصلاة والسلام- وفي الأزمنة التي تلَت، ولا تزال هذه الإخبارات التي أخبر بها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يراها الناس عيانًا كما أخبر -عليه الصلاة والسلام- أليس ذلك برهانٌ على أنَّه مبلِّغٌ عن الله -عزَّ وجلَّ- وأنَّه نبيٌّ؟!
سابعًا: أنَّ دينه محفوظٌ مع ما جاء به من هذه النبوة، ومع ما قام له من الأعداء، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الفرقان: 31]، وقال تعالى: ﴿وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾ [القلم: 51]، فوصفوه بأوصاف، وذكروا عنه أشياء، وهمُّوا بقتله؛ ومع ذلك حفظه الله -عزَّ وجلَّ- وعصمه من أذى الخلق، مع تداعي الهمم على القضاء عليه والإيقاع به، وإبطال ما جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ولهذا أنزلَ الله -عزَّ وجلَّ- قوله: ﴿يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: 67]، فعصمه الله -عزَّ وجلَّ.
ثامنًا: الإعجاز بالقرآن، فإن القرآن معجزٌ في لفظه ومعناه، فهو كما قال تعالى: ﴿لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد﴾ [فصلت: 42].
تاسعًا: ظهور المعجزات على يديه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في زمانه، وقد شاهدوا ذلك عيانًا، من نبع الماء بين أصابعه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- إلى غير ذلك من المعجزات التي رآها الناس عيانًا.
عاشرًا: بيان أنَّه عظيم الشَّفقة -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- على هداية الخلق؛ بل يُتعبُ نفسه ويُضرُّ بنفسه-عليه الصلاة والسلام- لأجل هداية الناس، ويتخذ بذلك أحسن الأوصاف والأخلاق، قال تعالى: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159]، وقال الله -عزَّ وجلَّ- معاتبًا له: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفً﴾ [الكهف: 6]، يعني: حزنًا على عدم الإيمان -عليه الصلاة والسلام-، وقال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128]، فاللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمدٍ.
فهذه كلُّها دلالات وأساليب قرَّرها القرآن أحسن تقرير.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الثامنة: طريقة القرآن في تقرير المعاد)}.
مرَّ معنا طريقة القرآن في تقرير التوحيد، ثم في تقرير النبوة، ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- القاعدة الثامنة وهي: طريقة القرآن في تقرير المعاد، يعني: في تقرير البعث.
ولابدَّ أن يُعلَم أن البعث هو: الإيمان باليوم الآخر، وأن الله -عزَّ وجلَّ- يبعث الأجساد بعدَ فنائها للحساب والجزاء، فيُدخل أهل الجنة الجنة، ويدخل أهل النار النار، وفق حكمته -سبحانه وتعالى.
ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنَّ أمرَ المعاد اتَّفقَت عليه الرُّسل والشَّرائع كلها، ما فيه خلاف بين الأديان والشرائع الثلاث -اليهودية والنصرانية والإسلام- أنَّ الله يبعث الأجساد، حتى الأديان التي دخل جملة منها وضعٌ للبشر، مثل المجوسيَّة وغيرها؛ تجد أنَّها تؤمن إيمانًا كاملًا أو جزئيًّا بأمر المعَاد.
فالشيخ قدَّم بهذه المقدمة -وهي محل اتفاق- ثم جاء بتقرير القرآن للبعث، ولابدَّ أن يُعلم أن جملة من العرب كانوا يُنكرون البعث، ولهذا جاء تقرير المعاد بالبراهين الواضحة البيِّنة.
وذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ستَّةَ أمثلة لبيان أساليب القرآن في تقرير المعاد:
الأسلوب الأول: بيَّنَ لهم في القرآن أن الله لا يعجزه شيء، فإذا استقرَّ في قلب العبد أن الله لا يعجزه شيء؛ فإن أمر المعاد فردٌ من أفراد هذا الشيء، فالله لا يعجزه شيء، وإعادة العباد والخلق بعدَ الموت فردٌ من أفراد قدرة الله -سبحانه وتعالى- الذي لا يعجزه شيء، فليس ثَمَّ حدود لقدرة الله -عزَّ وجلَّ.
هذا لابدَّ أن يستقر في قلب المؤمن ويستقر في قلب العبد كتوطئة وأسلوب، ولهذا ذكر الله -عزَّ وجلَّ- أنه لا يعجزه شيء، فقال تعالى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾.
الأسلوب الثاني: أن يذكرهم بالنشأة الأولى، يعني كيف بدأ الإنسان، فأنت لك تاريخ ميلاد، وقبل تاريخ الميلاد هذا ليس لك وجود، وهكذا أنا وأنت وفلان وفلانة؛ ولهذا قال الله -عزَّ وجلَّ- مذكِّرًا بالنَّشأة الأولى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورً﴾ [الإنسان: 1]، فقبل خلق آدم لم يكن شيئًا، وفي بني آدم فإنهم لهم تواريخ معيَّنة، وقبل الميلاد ليسوا بشيءٍ، قال تعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرً﴾ [الإنسان: 1، 2].
ولما جاء ذلك المبطل إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بعظمٍ بالٍ وكسَّره أمام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وقال: أربك يستطيع أن يُعيدُ هذا؟! فقال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ [يس: 78]، فهذا برهانٌ عقليٌّ يدل على أن أمرَ المعاد واقع، فأنت قبلُ لم تكن شيئًا مذكورًا، قال تعالى: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [يس: 79]، فهذا برهانٌ عظيمٌ لا ينفك عن إبطال الشُّبهة، فهو يقضي على هذه الشبهة، يعني كيف خلق الله الناسَ في النشأة الأولى وهم ليسوا بشيء؟! فهو خلقهم وأوجدهم، ولايزال تَكرار الخلق ووجوده موجود، وهذا مُعجز، ولكن كثرة المساس تذهب الإحساس، يعني: كثرة تكرار هذه الآية يجعل الإنسان لا يشعر بها، فالمرأة والرجل يحصل بينهما الزواج فتخرج منهما لذرية، فهذا برهانٌ عظيم على أمر المعاد.
الأسلوب الثالث: ضرب الأمثال المحسوسة للمعاد.
فالناس يشاهدون في حياتهم هذه الأمثلة، وهي الإحياء من لا شيء، إحياء الأرض الميتة بعد موتها، ولهذا قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً﴾، يعني ما فيها شيء، لا نبات ولا شيء مما أصابها من انقطاع ماء السماء عنها. قال: ﴿فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [فصلت: 39]، آمنتُ بالله!
كيف أنَّ الأرض الجدب التي ليس فيها شيء وليس فيها حياة، ثم يأتي هذا المبارك، قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكً﴾ [ق: 9]، فمن بركته أنه يُحيي الأرض، فينزل الماء من السماء ثم تكون عند ذلك دورة الحياة، فتخرج تلك الأعشاب على اختلاف أجناسها، وتزهر الأزهار على اختلاف ألوانها، ثم بعدَ ذلك تخرج الدورة الحياتية، فتخرج الحشرات والدود والفراش، ثم بعد ذلك تنتهي، فهذا برهانٌ عظيمٌ على المعاد، وعلى أن الله -عزَّ وجلَّ- على كل شيءٍ قدير.
الأسلوب الرابع: خلق السماوات والأرض، ومع عظيم خلقها وسَعة السماوات بالنسبة للأرض، فبأي شيءٍ يستبعدون إحياء الموتى!
ولهذا قال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ [الملك: 1- 4]، فخلق السماوات والأرض أعظم من خلق الناس، فإذا كان الله خالق هذا العالم بما فيه، وخالق هذه الكواكب والشمس والأقمار، ففي سيرها وتعاقبها برهانٌ عظيمٌ على أمر المعاد.
الأسلوب الخامس: أن المعاد متوافق مع حكمة الله -عزَّ وجلَّ- قال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: 115]، فالله -عزَّ وجلَّ- ما خلقنا سُدَى، إنما خلقنا امتحانًا وابتلاءً، قال تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلً﴾ [هود: 7]، فإن مُقتضى الحكمة أن لا يُترَك الناس سُدَى دونَ جزاءٍ ولا يُعاقبون، فمثلًا وجود الظلم والشر في هذه الأرض، والبغي وما شاكلَ ذلك من الاعتداء؛ فهذا يدل على أنَّه ثمَّ جزاء وهو يوم المعاد.
ومن عظيم قدرة الله -عزَّ وجلَّ- وهو أحكم الحاكمين -سبحانه وتعالى- أن الله يعدل حتَّى بين العجماوات من مخلوقاته يوم القيامة؛ فكيف بأهل التَّكليف من الجن والإنس، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» ، فهذا متوافقٌ مع حكمة الله -عزَّ وجلَّ- في خلقه من الجن والإنس وفي خلق المخلوقات.
الأسلوب السادس: الأمثلة التي رآها الناس عيانًا في الأمم السابقة معجزات، كإحياء الموتى على يد عيسى، وإحياء صاحب البقرة، وكقصَّة أصحاب الكهف، وغيرهم من الشواهد التي رآها الاس عيانًا؛ ذكرها الله -عزَّ وجلَّ- كبراهين على أن أمر المعاد من الأمر اليسير، ولهذا قرَّره القرآن بأساليب متنوِّعة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة التاسعة: في طريقة القرآن في أمر المؤمنين وخطابهم بالأحكام الشرعية)}.
الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وأجزل له المثوبة وغفر له وأسكنه فسيح جناته ذكر لها مقدِّمة، وهي أن القرآن له طريقة في مخاطبة أهل الإيمان بالأحكام الشرعية؛ لأن الأحكام الشرعية تكاليف كلَّف الله -عزَّ وجلَّ- بها الناس، حتى يعلم مَن يقوم بهذه التَّكاليف ممَّن يُعرض عن القيام بها، فقرَّر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مقدَّمة، ثم وضَّح أساليب القرآن في ذلك:
الأسلوب الأول: أنَّ الدعاء بالتي هي أحسن هو أقرب طريقٍ للمقصود وحصول المطلوب، يعني أنَّك تسلك الدعاء بالتي هي أحسن، يعني استخدام النداء بالألفاظ الحسَنَة والتَّوجيه الحسن، والقرآن استخدم هذه الطريقة في دعوة الناس إلى الحق والخير، لأن القرآن فيه أمرٌ ونهيٌ وإخبارٌ وأحكام، وهذه الأمور يُرادُ بها دلالة الناس على الصراط المستقيم لخيرهم في دنياهم وأخراهم، فالله غنيٌّ عن خلقه.
إذن؛ القرآن استخدم هذا المنهج، وخاطبهم بأحسن أوصافهم، لأنه خطاب بالتي هي أحسن، فخاطبهم بوصف الإيمان، كما في أثر عبد الله بن مسعود: "إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو﴾ فَأَرْعِهَا سَمْعك، فَإِنَّهُ خَيْرٌ يَأْمُرُ بِهِ أَوْ شَرٌّ يَنْهَى عَنْهُ" ، وفي بعض الآيات ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ﴾، فالقرآن يخاطبهم بهذه الألفاظ الحسنة.
لماذا خاطبهم بوصف الإيمان؟
لأنه أحسن وصف لهم، وهذه هي طريقة القرآن، كما في قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُو﴾ [الحجرات: 6]، إلى غير ذلك من الآيات.
الأسلوب الثاني: أنَّ الإيمان له لوازم ومقتضيات، فيحثهم على القيام بلوازمه ومقتضياته، فمقتضى أنك مؤمن أنك تلتزم، حتى في خطاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لأصحابه، كقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فلا يُؤْذِ جارَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» ، إلى غير ذلك من النصوص.
الأسلوب الثالث: أن الله -عزَّ وجلَّ- يذكرهم أنَّ إيمانهم محض فضلٍ ونعمةٍ منه -عزَّ وجلَّ- ولهذا قال تعالى: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الحجرات: 17].
وقال في مقام الامتنان: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾ [الحجرات: 7]، فثَمَّ تحبيبٌ وتزينٌ للإيمان، وثَمَّ تبغيضٌ للكفر والفسوق، ثم قال -عزَّ وجلَّ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾، يعني: من اتَّصفوا بهذه الأوصاف.
ثم قال -عزَّ وجلَّ- مبيِّنًا أنَّ هذا فضلٌ من الله ومحض توفيقٍ وإلهام منه لخلقه: ﴿فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الحجرات: 8]، عليم بالمحالِّ التي تصلح للاهتداء فهداها، وحكيمٌ في تلك الهداية والدلالة، ولا يظلم ربك أحدًا، فالله -عزَّ وجلَّ- يهدي مَن يشاء ويضل من يشاء بمقتضى علمه وحكمته، فالله أعلم بالمحال التي تستحق الهداية فهداها، والمحال التي لا تستحق ذلك والمعرضة فلم يهدها ووكلها إلى نفسها.
ونعمة أن الله -عزَّ وجلَّ- هداكَ حقها أن تُشكَر فلا تكفر، ولهذا فعليك أن تمتثل للأحكام الشرعية، فالله -عزَّ وجلَّ- اصطفاكَ وشرَّفكَ.
قال الشاعر:
قد هيّؤوكَ لأمرٍ لو فطنتَ لهُ ** فاربأ بنفسكَ أن ترعى مع الهملِ
فأنت مؤمن؛ فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ، لأنكَ من أهل الإيمان، ويجب على أهل الإيمان القيام به، فالله اختصَّكَ بهذا الإسلام واختصَّكَ بهذا الدين؛ فعليكَ أن تلتزم بلوازمه ومقتضياته.
الأسلوب الرابع: أنَّ الإيمان له آثارٌ حميدة، كما أن الكفر والفسوق والطغيان له عواقب وخيمة؛ فكونك تدرك أنَّ له آثارٌ فهذا يبعثكَ على القيام بهذه التَّكاليف وإن كانت على خلاف الهوى، وإن شقَّت على النفس؛ لأنَّ النفس يشق عليها التَّكاليف، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، ولكنها شاقَّة وتحتاج إلى مجاهدة، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69].
الأسلوب الخامس: أنَّ القرآن يذكر عاقبة الإيمان، وما أعدَّه الله -عزَّ وجلَّ- لهم من ذكر الجنَّة وأوصافها، وما فيها من النَّعيم، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ [الطور: 21]، وقال: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابً﴾ [النبأ: 31، 32]، إلى غير ذلك من الآيات.
كذلك بذكر عاقبة العصيان وما أعدَّه الله للعاصين -نسأل الله السلامة-، فأعدَّ للعاصين النار تلظَّى، فكون فيه عاقبة للإيمان فهذا يبعثكَ على القيام بهذه التَّكاليف.
الأسلوب السادس: ذكر ما له -سبحانه وتعالى- من الأسماء الحسنى والصفات العلا، فكون الله -عزَّ وجلَّ- موصوف بكل اسم حسنٍ، وبكل صفةٍ حسنةٍ -سبحانه وتعالى- وله أعلا الأوصاف وأحسن الأسماء، فهذا ممَّا يكونُ من حقِّه -سبحانه وتعالى- على العباد أن يقوموا بعبوديَّته ولا يكون ذلك إلَّا بالإيمان، وفي حديث معاذ لما كان رديف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «يا مُعَاذُ! أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ وما حقُّ العبادِ عَلَى الله؟» قَالَ قُلْتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «فَإِنَّ حَقَّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوا اللّهِ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئ» .
الأسلوب السابع: ذكر عظيم أثر ولاية الله -عزَّ وجلَّ- لخلقه، فإنَّ مُقتضى أن تقوم بهذه التكاليف والأحكام الشرعية، وأن تنتهي عن ما نهى الله -عزَّ وجلَّ- عنه، وأن تأتمر بما أمر الله -عزَّ وجلَّ- به؛ لا شكَّ أن لذلك ثمرة في الدنيا والآخرة.
أما في الآخرة: فالجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ ففيها النعيم المقيم -نسأل الله لنا ولكم وللمشاهدين وللمشاهدات الجنة.
وأما في الدنيا: فقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128]، فمعيَّة الله -عزَّ وجلَّ- لأهل الإيمان، وأهل الإيمان هم الممتثلون لتلك الأحكام الشرعيَّة، ولهذا قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ [يونس: 62- 64]، الله أكبر! فأهل ولاية الله -عزَّ وجلَّ- هم الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82]، فلهم الأمن والاهتداء في الدنيا والآخرة إلى الصراط المستقيم، وكذلك عند حضور الأجل كذلك، لأنهم ممتثلون لأحكام الله -عزَّ وجلَّ- قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ [فصلت: 30- 31].
إذن؛ هذه معاني عظيمة يذكرنا الله -عزَّ وجلَّ- بها، وهذه الولاية لله -عزَّ وجلَّ- لا تكون إلَّا لمن امتثل أمر الله -عزَّ وجلَّ.
وأذكر عبارة للإمام الشافعي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فيما نقل عنه بعض السلف، قال: "لا تغتروا به -يعني العابد- ولو طار في الهواء حتى تنظروه عند الأمر والنهي"، يعني: عند أمر الله ونهيه -عزَّ وجلَّ- فيكون ممتثلًا لأمر الله، منتهيًا عن ما نهى الله -عزَّ وجلَّ- ؛ فهذه هي ولاية الله تعالى، وولاية الله لا تُدرك إلا بطاعته -سبحانه وتعالى- فلا يُمكن أن تكون الولاية على غير هذا، وهذا من الانحراف في مفهوم الولاية كما هو مقرَّر عند أهل السنَّة والجماعة.
الأسلوب الثامن: أنه يحذرهم من أن يسلكوا مسلك أهل الغفلة عن الإيمان، قال -عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 205]، وقال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ [هود: 114]، وقال تعالى: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ﴾ [طه: 130]، إلى غير ذلك من الآيات التي تذكر أهل الإيمان بهذا الامتثال، ولا شكَّ أنَّ من أعظم ما يُقام به ذكر الله -عزَّ وجلَّ- إقامة الصلوات الخمس حيث أمر الله -عزَّ وجلَّ- بها، فلا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة، وهي من تكاليف الله -عزَّ وجلَّ- ولهذا قال تعالى: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة: 43]، دلَّ على أن هذه الصلاة إنَّما تكون حيثُ يُنادَى بهنَّ في المساجد، ولهذا فإنَّ أهل الإيمان عليهم أن يمتثلوا أمر الله -عزَّ وجلَّ- وأن يُقيموا هذه الشريعة العظيمة وفقَ ما أمرَ الله به، ووفق ما أمر به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، ووفق ما نقل عن أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
قال عبد الله بن مسعود عن هذه الشعيرة العظيمة التي هي من الأحكام الشرعية: "وَلقَدْ رَأَيْتُنَا وَما يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلقَدْ كانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى به يُهَادَى بيْنَ الرَّجُلَيْنِ حتَّى يُقَامَ في الصَّفِّ" .
فأسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا والإخوة المشاهدين والأخوات المشاهدات من أهل الذكر، ومن القائمين بحقوق ربِّهم، وأن يجعل لنا الثواب العظيم، وأن يختم لنا بخير.
هذا ما يتعلق بالقاعدة التاسعة التي قرَّرها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وأجزلَ له المثوبة.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.