{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاك الله يا شيخ عبد الرحمن، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الشيخ عبد الرحمن بن السعدي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة السادسة والعشرون: الأحكام في الآيات المقيدة)}.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
نقول في هذه القاعدة: الأصل أنَّ الآيات التي فيها قيودٌ لا تثبت أحكامها إلا بوجود تلك القيود إلا في آيات يسيرة.
إذن؛ القيـد مُعتَبرٌ إلا في آيات يسيرة لا يُعتبَر هذا القيد، وله أجوبة، والشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ذكرَ أمثلةً وسنذكرها حتى تتضَّح للمشاهد والمشاهدة وطالب العلم.
من الآيات التي تذكر في ذلك: قول الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [المؤمنون: 117]، قُيِّد هذا الدُّعاء بأنَّه لا برهان له به، مع أنَّ الدَّاعي لغير الله ليس عنده برهانٌ في دعوته لغير الله -عزَّ وَجلَّ- لا عقلي ولا شرعي.
قال أهل العلم: بيَّنه لبيان شناعة الشِّرك.
والشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يقول: (يقول المفسرون: هذا قيدٌ غيرُ مراد).
ويقول الشيخ: هذا لا يُناسب مع القرآن، فيرى أنَّ هذا التَّعبير غير مناسب من المفسرين، ويرى أنَّ القيد مُراد لبيانِ أنَّ الدَّاعي لغير الله -عزَّ وَجلَّ- لا برهان له به، فإنَّ غالب الدعاء أنه بغير برهان عقلي ولا شرعي، ولا يُمكن أن يكون له برهان، وسيأتي مع الآيات ما يُبيِّن الأحكام الشرعية في هذا، هل القيد مراد أو غير مراد؟ وهل القيد خرج مخرج الغالب -كما يُعبر بعض المفسرين- أو لا؟
بعضهم يُعبِّر ويقول: "قيد غير مراد"، ثم يُعلِّل بأسباب لأجل هذا القيد، ويختلفون في التَّوجيه، ولكن الصحيح أنه مُراد وله معانٍ وأسرار ولطائف عظيمة بلاغيَّة وشرعيَّة حكميَّة.
أُبيِّن لك هذا في قوله -عزَّ وَجلَّ: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ [النساء: 23]، ذكر الله -عزَّ وَجلَّ- الرَّبيبة، وهي بنت الزَّوجة، فكونها في حَجره أو في غير حَجره فليس قيدًا في التحريم، يعني: أنَّ الربيبة إذا كانت عند الزَّوجة ومع الزوج في البيت أو كانت خارج البيت؛ فهل هذا قيدٌ مُراد أو معتبر؟
الجواب: هذا ليس قيدًا، وإنما لبيان تشنيع الزَّواج منها، يعني كيف يحل له الزواج بها وهي في موقع البنت، سواء كانت في حَجره أو لم تكن في حَجره.
إذن؛ هـذا القيد فيه سر لطيف، فهذا تعليل للتَّحريم، فقول الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿فِي حُجُورِكُمْ﴾ ليس لبيان أنه إذا لم تكن في حَجره فإنه يجوز له أن يتزوجها كما نُقل من الأقوال الشَّاذَّة التي لا تصح، فقد رُويَت عن علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهذا لا يصح عنه.
إذن؛ هذا قولٌ شاذٌّ، وهو أنَّ الربيبة إذا كانت في غير حجره فإنها تحل للزَّوج، ولهذا ذكر الله -عزَّ وَجلَّ- هذا القيد لبيان شناعة أن تكون حلالًا لأنها في مقام البنت.
وهذا بخلاف القيد الآخر في المحرمات وهو الدخول، قال تعالى: ﴿مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ [النساء: 23]، فهذا القيد مُراد ومُؤثِّر في الحكم، وهذا من كلام الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- من الاعتبار في الآيات، فبنت الزَّوجة لا تحرُم إلَّا بشرط الدخول على الأم، فإذا دخل بأمها تحرم عليها، فإذا عقدَ على الأم فإنَّها لا تحرم.
ولهذا يُقعِّدون بالقاعدة: العقد على البنات يُحرِّم الأمهات، ولا عكس.
إذن؛ الدخول مؤثِّر، فإذا دخل بالمرأة حرمت عليه ابنتها. وذكر العلماء قواعد في المحرمات.
قول الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾ [الإسراء: 31].
فالقيد هنا هو: خشية الفقر.
هل معنى هذا أنه إذا لم يخشَ الفقر له أن يقتل؟
لا، وإنما هذا القيد لبيان شناعة القتل لمن جُبلت النفوس على محبته والشفقة عليه، فكيف تقتله لأجل خوفك من الفقر.
ولهذا يقول العلماء في التعبير عن هذا القيد: إنه خرج مخرج الغالب.
ثم ذكر الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أمثلة كثيرة جدًّا، منها قوله تعالى: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنً﴾ [النور: 33].
فهل يعني ذلك أنَّها إذا لم ترد التَّحصُّن فله أن يُكرهها على البغاء؟
لا، وإنما هذا خرج مخرج الغالب -كما يقول بعض العلماء.
السؤال الثالث:
القيد في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾ لبيان شناعة القتل لمن جُبلت النفوس على محبته والشفقة عليه.
صواب
قال الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُو﴾ [النساء: 101]، فهل حكم قصر الصلاة مُرتبط بالخوف من الكفار؟
لا، وإنما هذا القيد غير مراد.
وقوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ [آل عمران: 21]، فهل ثَم قتل للأنبياء بحق؟
لا، وإنما لبيان أنهم يقتلون الأنبياء بغير حق، مع أن الأنبياء جاءت لهدايتهم.
وقال -عزَّ وَجلَّ- في الرهن: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ [البقرة: 283]. فهذا القيد خرج مخرج الغالب ولبيان السبب، فيجوز الرهن في الحضر والسفر -كما قال الفقهاء.
وهنا لطيفة مهمَّة جدًّا يذكرها علماء الأصول، وهي: إذا خرج القيد مخرج الغالب فلا عموم له، وهذا عليه أكثر علماء الأصول.
وهذا مما ينبغي أن يراعيه الإنسان: أن القيد إذا خرج مخرج الغالب في التَّوجيه النبوي، أو في كلام الله -عزَّ وَجلَّ-؛ فإنه لا عموم له.
فيُتنبَّه لهذه اللطيفة الأصوليَّة حت يفهمها طالب العلم على وجهها المراد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة السابعة والعشرون: المحترزات في القرآن تقع في كل المواضع في أشد الحاجة إليه)}.
إذن؛ الله -عزَّ وَجلَّ- يحترز أو يذكر استثناءات لعظيم الحاجة إليها، فقال الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمً﴾ [النساء: 95]، وهذا لأن الحاجة ماسَّة لهذا القيد؛ لأنَّ بعض القاعدين عن الجهاد من المعذورين، استثناهم الله -عزَّ وَجلَّ- بعد ذكر القاعدين، وهذا جاءت النصوص به، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَقْوَامًا خلْفَنَا بالمدِينةِ مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلاَ وَادِيًا إِلاَّ وَهُمْ مَعَنَا، حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ» ، فدل على أنَّ مَن عذره الله -عزَّ وَجلَّ- عن المشاركة في الجهاد فإنه داخلٌ في الأجر بحسب نيَّته، وهذا يدل على أن نيَّة المؤمن أبلغ من عمله.
وقال الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُو﴾ [الحديد: 10]؛ ولأنه ربما يتوهَّم أحدٌّ أنَّ مَن أنفق بعد فتح مكَّة لا تكون له الجنة، قال الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾.
وكذلك من المحترزات النَّافعة التي يذكرها الله -عزَّ وَجلَّ- ونحن في أمس الحاجة إليها قوله -عزَّ وَجلَّ: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾، وأعقبه بقوله: ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [القصص: 56]، فدلَّ على أنَّ الاهتداء والهداية متعلقة بعلم الله -عزَّ وَجلَّ- وبحكمته -سبحانه وتعالى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الثامنة والعشرون: في ذكر الأوصاف الجامعة التي وصف الله بها المؤمن)}.
أولَّا لابدَّ أن يُعلَم أنَّ مقامَ الثَّناء في القرآن هو على الإيمان المطلق الذي رتَّب الله عليه كل خيرٍ في الدنيا والآخرة، قال الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانً﴾ [الأنفال: 2]، وقال -عزَّ وَجلَّ: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال: 3، 4]، فهذا وصفٌ للإيمان المطلق، والمراد به الإيمان الكامل الذي يُطلَب من المؤمنين أن يتَّصفوا به، ولهذا وصف الله -عزَّ وَجلَّ- في آيات كثيرة أهل هذا الإيمان، ووصف أنهم إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا، وذكر الله -عزَّ وَجلَّ- أنهم على ربهم يتوكلون، وذكر أوصافًا كثيرة جدًّا؛ لأنه مطلوب من أهل الإيمان أن يتَّصفوا بهذا الإيمان، الذي هو الإيمان المطلق.
ثم ذكر -عزَّ وَجلَّ- مطلق الإيمان، وفرق بين الإيمان المطلق، ومُطلق الإيمان:
- مُطلق الإيمان: هو الذي يجري فيه الحث على الاتِّصاف به لأهل الإيمان، وهذا يدخل فيه مسلم ومسلمة وكل مؤمن ومؤمنة وإن ضعُفَ إيمانه، فهو على سبيل الحث على الصدق، ومنه قوله -عزَّ وَجلَّ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، وقال -عزَّ وَجلَّ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119]، وقوله: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾ [النساء: 1]، آيات كثيرة جدًّا يُنبه الله فيها ويحث أهل الإيمان على الاتِّصاف بهذه الصفة، وقال -عزَّ وَجلَّ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 2، 3]، فهذا وصفٌ للمؤمن الذي معه أصل الإيمان، وأصل الإيمان مع كل مؤمنٍ.
- الإيمان المطلق يأتي في آيات كثيرة، وهو للخُلَّص من عباده -عزَّ وَجلَّ.
وهذه القاعدة قرَّرها شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في العقيدة الواسطية، وهي التفريق بين الإيمان المطلق ومُطلق الإيمان.
إذن؛ الإيمان المطلق لا يدخل فيه كل مُؤمن، وأمَّا مطلق الإيمان فإنه يدخل فيه المسلم والمؤمن والمحسن، ولهذا كان عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يقول: "إذا سمعت قول الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو﴾ فأرعها سمعك، فإنها إمَّا خير تؤمر به، وإمَّا شر تُنهى عنه".
فالمطلوب منك أن تمتثل في الأمر وفي النَّهي وفق ما جاء عن الله ووفق ما جاء عن رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
وحتَّى في السنَّة النبوية فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- كان يحث أهل الإيمان بوصف الإيمان، يقول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فلا يُؤْذِ جارَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ» ، إلى غير ذلك من النصوص التي يُخاطب فيها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أمته بمطلق الإيمان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة التاسعة والعشرون: في الفوائد التي يجتنيها العبد في معرفته وفهمه لأجناس علوم القرآن)}.
خلاصة هذه القاعدة: أنَّ القرآن مُشتملٌ على علوم، وأجل هذه العلوم هو:
1- علم التوحيد، فهو مشتمل على الأنواع الثلاثة:
- توحيد الربوبية: وهو توحيده تعالى بأفعاله، كالخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، والتدبير، ولهذا تجد الله -عزَّ وَجلَّ- ذكرها في كتابه في مواضع متفرقة.
- توحيد الألوهية: وهو أنه المستحق للعبادة -سبحانه وتعالى- ومنه قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، وقالوه: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [المؤمنون: 117]، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾[الأحقاف:5-6].
توحيد الأسماء والصفات: ويدل عليه قوله -عزَّ وَجلَّ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، وقوله: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [سورة الصمد].
فهذه آيات في القرآن مُشتملة على علم التوحيد بأنواعه الثلاثة.
2- ما يتعلق بالعقائد وصفات الرسل وما هم عليه، قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128]، وقوله: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران: 159]، إلى غير ذلك من صفات الرسل.
3- من علوم القرآن: علم أهل السعادة وأهل الشقاوة، قال تعالى: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ [الشورى: 7]، فذكر الله أوصافهم وأسباب السعادة، وأسباب النجاة، وأسباب الحماية، ثم ذكر الله -عزَّ وَجلَّ- أسباب الشقاء من التَّنكُّب عن طريق الله -عزَّ وَجلَّ- والتَّكذيب لرسل الله -عزَّ وَجلَّ.
4- الإيمان بالآخرة، وما ذكره الله -عزَّ وَجلَّ- من الصراط والميزان، قال تعالى: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ [الأنبياء: 47]، وذكر الله -عزَّ وَجلَّ- الجنة وما فيها، وذكر النار وما فيها، وحذر الله -عزَّ وَجلَّ- من أسباب دخول النار، فقال تعالى: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابً﴾ [النبأ: 31، 33]، آيات كثيرة جدًّا أخبر الله فيها بذلك.
5- علم الأمر والنَّهي.
كل هذه العلوم تكون على وفق مراد الله -عزَّ وَجلَّ- كما أخبر الله، وكما فسَّرها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
إذن؛ القرآن مشتمل على كل العلوم الدينية النافعة، وعلى أصول العلوم الدنيوية -كما مرَّ معنا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الثلاثون: أركان الإيمان بالأسماء الحسنى ثلاثة: إيماننا بالاسم، وبما دل عليه من المعنى، وبما تعلق به من الآثار)}.
هذه قاعدة لطيفة جدًّا، ذكر أركان الإيمان بالأسماء الحسنى، فالله -عزَّ وَجلَّ- في القُرآن يُسمي نفسه بأسماء، ويصف نفسه بصفات، وكلامنا الآن عن أسماء الله -عزَّ وَجلَّ- فقال المؤلف: إن أركان الإيمان بالأسماء الحسنى في قوله: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 180]، وهي:
الركن الأول: الإيمان بالاسم.
الركن الثاني: الإيمان بما دلَّ عليه من المعنى، وأنَّ هذه الأسماء لها معانٍ، وليست أعلام مترادفة كما يقول الجهميَّة والمعتزلة.
الركن الثالث: الإيمان بما تعلق بهذا الاسم من الآثار، فكل اسمٍ من أسماء الله -عزَّ وَجلَّ- له أثر، ومن أثره أنَّك تدعو الله -عزَّ وَجلَّ- به وأن تمتثل ما فيه.
قال الشيخ: (وفي القرآن الكريم من الأسماء الحسنى ما يزيدُ عن ثماني اسمً)، فيجب الإيمان بها من وجوه ثلاثة متلازمة، مرَّت معنا هذه الأركان.
على سبيل المثال: اسمه تعالى: "العليم"، فالله -عزَّ وَجلَّ- قال: ﴿الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: 32]، فأركان الإيمان بهذا الاسم:
أولًا: أن تؤمن أن من أسمائه تعالى: "العليم"، وأن تتعبَّد الله تعالى بهذا الاسم، فلك أن تسمي ابنك "عبد العليم"، ولك أن تدعو الله -عزَّ وَجلَّ- بهذا الاسم فتقول: يا عليم بما في الصدور.
ثانيًا: الإيمان بما دلَّ عليه من الوصف، فإذا كان عليم فإنه ذو علمٍ، وهذا العلم لا يُماثله علم المخلوق الذي يفنى ولا يحيط بشيء، بل إنَّ علمه تعالى أحاط بكل شيء، ولا يُماثل علم المخلوق؛ لأن الله -عزَّ وَجلَّ- في أسمائه وفي صفاته لا يُماثل المخلوقين، قال تعالى: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّ﴾ [مريم: 65]، وقال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].
ثالثًا: الإيمان بما دلَّ عليه من الأثر، وهو أن علمه محيطٌ بكل شيء، ولا يعزبُ عن علم الله شيء، فإذا كان الله -عزَّ وَجلَّ- من أسمائه "العليم" فإنه يعلم ما تخفي الصدور، ويعلم ما تسرُّ به، وهذا يُوجب عليك أن تخشاه، وأن تمتثل لأمره في حال الغيب وحال الشهادة.
وذكر أهل العلم أن هذه الأركان الثلاثة تترتب على الأسماء المشتقَّة، والمشتق يكون دالًّا على المعنى الذي اشتُقَّ منه، فإذا كان الاسم مشتقًّا من مصدرٍ متعدٍّ دلَّ على هذه الوجوه الثلاثة، مثل "العليم، الرحيم"، فلك أن تأخذ من هذا الاسم هذه الوجوه الثلاثة المتلازمة.
وإذا كان اسم الله -عزَّ وَجلَّ- مشتق من مصدر لازمٍ فلا يتعدَّى مسمَّاه إلَّا إلى وجهين:
أولًا: الإيمان بالاسم.
ثانيًا: ما دلَّ عليه من الوصف.
وهذا يذكر له أهل العلم مثالًا، كاسم الله -عزَّ وَجلَّ- "الحي، والعظيم"، فتؤمن بحياة الله -عزَّ وَجلَّ- وأن حياته كاملة، وتؤمن بعظمته وأنه عظيم، وبما دلَّ عليه هذا الوصف أنه لا يُماثل المخلوق لا في صفة الحياة ولا في صفة العظمة، لأنه -سبحانه وتعالى- أعظم، ولكن هذا الاسم لا يتعدَّى إلى غيره، فالحياة والعظمة التي من صفاته تعالى لا تتعدى إلى غيره.
وقاعدة التفريق بين المصدر المتعدي والمصدر اللازم ذكرها الشيخ محمد بن صالح العثيمين في "القواعد المثلى"، ولكن هناك ثَمَّ ملحوظة مهمَّة جدًّا، وهي أنَّ أهل اللغة مختلفون في أصل الاشتقاق إلى قولين:
- أن المصدر هو الأصل.
-أن الفعل هو الأصل.
ما يهمنا أن نعرِّف الفعل سواء كان الفعل لازم أو متعدٍّ، لأنه يترتب عليه الأثر، حتى نعرف الفعل اللازم الذي لا يؤخذ منه إلا وجهين وما يُؤخذ منه ثلاثة وجوه.
الفعل اللازم: هو ما لا يتعدى أثرُ فاعله، ولا يتجاوز إلى المفعول به -هكذا قال أهل اللغة.
مثل: ذهبَ سعيدٌ؛ فهذه جملة تامَّة، وعرفتَ الآن أن سعيدًا ذهب، وهذا يحتاج إلى فاعله، فالفعل "ذهب" لا يفيدك، ولكن لما قلنا: "ذهب سعيدٌ" أفادتك الجملة.
وهذا الفعل لا يحتاج إلى مفعول، فإن الفعل "ذهب" فعلٌ لازمٌ".
أما الفعل المتعدي: هو ما يتعدى أثرُ فاعله ويتجاوز إلى المفعول به، يعني يحتاج فاعل ومفعول.
مثل: "فتح طارق" الجملة غير تامَّ، وهذا بخلاف قولنا "ذهب سعيد"، فجملة "فتح طارق" تحتاج إلى فاعل "فتح طارق بن زياد الأندلس".
إذن؛ ثَمَّ فرقٌ بين الفعل المتعدي والفعل اللازم، فإذا اشتُقَّ الاسم الكريم من مصدرٍ لازمٍ فإنه على وجهين، بخلاف ما إذا اشتُقَّ من مصدرٍ متعدٍّ، وذكرنا الفرق بين اسم الله "العظيم" و"العليم".
ولعلنا وضَّحنا هذه القاعدة، ومَن أرادَ مزيدَ إيضاحٍ فليُراجع "القواعد المثلى" للشيخ محمد بن عثيمين -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الحادية والثلاثون: ربوبية الله في القرآن على نوعين: عامة وخاصة)}.
هذا واضحٌ وجليٌّ، فالربوبيَّة العامَّة كقول الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2]، وقوله: ﴿وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 164]، وهي عامَّة لكل الخلق، برهم وفاجرهم، عاصيهم ومطيعهم، مؤمنهم وكافرهم، ومقتضاها أنَّ الله -سبحانه وتعالى- هو الخالق لهم والرازق لهم، فهذه ربوبية عامَّة لا تتغير بتغير حال العبد، ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «ما أحَدٌ أصْبَرُ علَى أذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، يَدَّعُونَ له الوَلَدَ، ثُمَّ يُعافيهم ويَرْزُقُهُمْ» ، فهذه هي الربوبية العامَّة التي لا تنقطع، فهي شاملةٌ لكل الخلق، وهي مقتضى الله -عزَّ وَجلَّ- في خلقه للناس مختلفين، قال تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118، 119]، فهذا هو مُقتضى حكمة الله -عزَّ وَجلَّ- وهذه ربوبية شاملة.
والربوبية الخاصَّة تكون في مقام الثَّناء، ومقام أنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- يكون ربًّا لهم بنصره وتأييده وتوفيقه، ولهذا قال الله -عزَّ وَجلَّ- لَمَّا أدركَ موسَى فرعونُ قال الله على لسان موسى: ﴿قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 62].
وكذلك هذه الربوبية يُراد بها أنه تعالى يُربِّي أصفياءه وأولياء بالتوفيق والنصرة والإعانة، فإذا أُطلق قول "ربُّ العالمين" يُراد به المعنى الأول، وإذا قُيِّدَت يُراد به المعنى الثاني.
والشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قال في طرد هذه القاعدة: (وكذلك لفظة "العبودية")، فمنها ما هو عام ومنها ما هو خاص.
فالعبوديَّة العامَّة: أن الخلق كلهم عبيده -سبحانه وتعالى- ومعنى ذلك أنهم مربوبون مقهورون تحت تدبيره، وهذا يُفيدك في التَّوكُّل على الله -عزَّ وَجلَّ- وأنَّك لا تطلب إلَّا ما عندَ الله -عزَّ وَجلَّ- ويُعلَّق قلبك بربك، ولهذا قال الله تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدً﴾ [مريم: 93]، فكلهم ملكٌ لله، وليس لهم من أمرهم شيء؛ بل هم مقهورون مُدبَّرون، وإذا كانوا ذلك فلا تطلب عندهم الرزق، ولا تطلب عندهم الإعانة، بل هم مجرد أسباب موصلة إلى ما تريد، وأمَّا على الحقيقة فإن الله -عزَّ وَجلَّ- هو المدبر، وهذا يُفيدك في مقام التَّوكُّل على الله -عزَّ وَجلَّ.
والعبوديَّة الخاصَّة: جاءت في مقام الثَّناء، قال الله -عزَّ وَجلَّ- في بيان كفايته لعبده محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر: 36]، وقال -عزَّ وَجلَّ- في إسراء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ومعراجه إلى السماء: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ [الإسراء: 1].
فالعبودية هنا في مقام الثناء، وتكون هذه العبودية لمن قام بمقام العبودية الحقَّة لله -عزَّ وَجلَّ- في الامتثال لأمره، والانتهاء عن نهيه، وهو الإيمان المطلق، وليس مطلق الإيمان؛ بل الإيمان الكامل.
والفرق بين الربوبية والعبودية: أن الربوبيَّة وصفُ الرَّبِّ والعبوديَّة وصفُ العبدِ، والربوبيَّة عامَّة وخاصة، والعبوديَّة عامَّة وخاصَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القاعدة الثانية والثلاثون: الأمر بالشيء نهي عن ضده)}.
هذه القاعدة عظيمة النفع، جليلةُ القدرِ، والقرآن فيه أوامر وفيه نواهٍ.
والشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يقرب هذه القاعدة فيقول: (إذا أمر الله بشيء كان ناهيًا عن ضده، وإذا نهى عن شيء كان آمرًا بضده، وإذا أثنى على نفسه أو على أوليائه وأصفيائه بنفي شيء من النقائص كان ذلك إثباتًا للكمال).
وبالمثال يتَّضح المقال.
أمثلة القاعدة: أمرُ الله -عزَّ وَجلَّ- بالتَّوحيد نهيٌ عن الشرك.
قال الله -عزَّ وَجلَّ- في جمع هذين الأمرين: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئً﴾ [النساء: 36]، فمجرد العبادة نهي عن الشرك.
وأمرُ الله -عزَّ وَجلَّ- بالصلاة نهيٌ عن تركها، قال تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [النساء: 77]، فأمرُ الله -عزَّ وَجلَّ- بالزكاة نهيٌ عن تركها.
وأمرُ الله -عزَّ وَجلَّ- بالصبر نهيٌ عن الجزع، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُو﴾ [آل عمران: 200]، وقوله: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ [البقرة: 153].
وأمرُ اللهِ -عزَّ وَجلَّ- بالشُّكر للمنعم نهيٌ عن كفرِ النِّعمة، قال -عزَّ وَجلَّ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ [إبراهيم: 34]، فالإنسان يظلم نفسه بكفره نعم الله -عزَّ وَجلَّ.
وهكذا نهيه عن الشركِ أمرٌ بالتَّوحيد، نهيه عن قطيعة الأرحام أمرٌ بصلةِ الأرحام، وهكذا كافَّة الأوامر والنَّواهي، فإذا أمر الله بأمرٍ فهو نهيٌ عن ضده، وإذا نهى عن شيءٍ كان أمرًا لضده؛ فهذه قاعدةٌ محكَّمة تمرُّ عليها في كل الأوامر والنواهي.
الشِّطر الثاني من القاعدة وهو مهم، وهو قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وإذا أثنى على نفسه أو على أوليائه وأصفيائه بنفي شيء من النقائص كان ذلك إثباتًا للكمال).
نمثل بمثال واضح في آية الكرسي: قول الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: 255]، فـ "الحي" اسم الله -عزَّ وَجلَّ- وصفته "الحياة"، وله تعالى هذه الصفة بكمالها، وتَنفي عنه ما يُناقضها أو يُنقصها، فقول الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ﴾، فـ ﴿الْحَيُّ﴾ أفادَ معنى أنه لا يُمكن أن يكون في هذه الصفة نقصٌ بوجهٍ من الوجوه.
وقوله ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾، فيه وصف لنفسه -عزَّ وَجلَّ- بالقيُّوميَّة.
قال الله -عزَّ وَجلَّ- عقبها: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾، قال العلماء: لكمال حياته وقيُّوميَّته على كل شيء، فهو قائمٌ على كل شيءٍ ومطَّلعٌ على كلِّ شيءٍ، ولا يعزبُ عنه مثقال ذرَّةٍ.
وهذه الآية عظيمة الثناء على الله -عزَّ وَجلَّ-، فلا تأخذه سِنَةٌ ولا نومٌ، فهو الحي القيوم.
وهنا قاعدة يذكرها علماء أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات، وهي أنَّ القرآن يأتي بالإثبات المفصَّل والنفي المجمل، ولو تتبعت الآيات لوجدَّتها شاهدة على هذه القاعدة العظيمة، فهذه قاعدة من قواعد أهل السنَّة، فيثبتون لله -عزَّ وَجلَّ- الإثبات المفصَّل وِفقَ ما جاء عن الله، ووفق ما جاء عن رسوله، ولا يُفصِّلون في النَّفي، بخلاف أهل البدع، فإنهم يفصِّلون في النفي على خلاف ما جاء عن الله وما جاء عن رسوله، وما جاء عن الصحابة وما جاء عن سلف هذه الأمَّة، فتجدهم في وصفهم لله -عزَّ وَجلَّ- يُخالفون منهج القرآن، فيقول: ليس بمجسَّم ولا جوهر ولا عرض ولا تحدث فيه الحوادث؛ فيفصِّلون في النفي، وهذا خلاف منهج القرآن.
إذن؛ لابدَّ أن يُعلَم أنَّ القرآن يأتي بالإثبات المفصًّل والنفي المجمل.
كذلك من قواعد أهل السنَّة التي يُستفاد منها وتُقعَّد: أنَّ إثبات هذه الصفة إثباتٌ لكمال الضِّد، فكونه -سبحانه وتعالى- حيٌّ إثباتٌ لكمال حياته، وهكذا طردُ هذه القاعدة في أسماء الله -عزَّ وَجلَّ- وفي صفاته -سبحانه وتعالى.
قال الشيخ: (أو على أوليائه)، أي: في حق الرسل وأولياء الله -عزَّ وَجلَّ- جعلنا الله منهم.
وسيدُ الأنبياء هو النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قد وصفه تعالى بأوصاف، ومن أوصافه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ما جاء في قوله -عزَّ وَجلَّ: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 4]، وكونه وحيٌ يُوحَى فهو لا ينطقُ إلَّا بالوحي من الله، فيُنفَى عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- كل ما يقدَح في النبوَّة والرسالة.
وواجبك في سماعك لكلام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أن تأخذه على أنه وحيٌ من الله -عزَّ وَجلَّ-، فما صحَّ عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فهو وحيٌ، وهذا الوحي يجب أن تُعملَه وأن تُعظِّمه، وأن لا تعرض عليه بالاعتراضات السَّامجة العقليَّة الكاذبة التي ليس لها حظٌّ من العقل، فالوحي لا يُعارض العقل، وإنما يُوافقه، ولكن عقول الناس متفاوتة، فواجبك عند النُّصوص أن تعرف أنها وحي وأنها من عند الله -عزَّ وَجلَّ- فما أشكل عليك فإنك لا تعترض وتكذب الأحاديث النبوية الواردة عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- مما يُحار به عقلك.
وشيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قعَّد قاعدة من قواعد أهل السنة، وهي أنَّ النصوص -النبوية وكذلك ما جاء في القرآن- تأتي بما تُحارُ به العقول لا بما تُحيله العقول، فالعقل الصَّريح لا يُعارض النَّقل الصَّحيح.
ولهذا ألَّفَ ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مؤلَّفًا عظيمًا اسمه "درء تعارض العقل مع النقل"، وإنَّما ضلَّ مَن ضلَّ من الجهميَّة والمعتزلة ومَن سلكَ مسلكهم من المتأخرين ومن المذاهب المنحرفة بسبب تقديم العقل على النقل.
وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.