الدرس الثاني عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالعزيز بن محمد السدحان

إحصائية السلسلة

4018 12
الدرس الثاني عشر

التفسير

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/عبد العزيز بن محمد السَّدحان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
حيَّاك الله، وحيَّا الله المشاهدين والمستمعين.
{في هذه الحلقة -بإذن الله- ما زلنا نتكلم عن أخلاق الأنبياء، وسنتكلم في هذه الحلقة عن صبر الأنبياء على أسئلة أقوامهم.
نستمع وإيَّاكم إلى مجموعة من المقاطع.
المقطع الأول: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ [البقرة: 219].
المقطع الثاني: ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 220].
المقطع الثالث: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222].
المقطع الرابع: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [المائدة: 4].
المقطع الخامس: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 1]}.
هذه الآيات تدل دلالة واضحة على تحمُّل الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- أسئلة الناس.
وتدلُّ من ناحية أخرى على عدم قولهم على الله بلا علمٍ؛ لأنَّ الله تعالى يُفتيهم، فإذا سأل الناس الأنبياء فإن كانوا يعلمون أجابوا، وإلَّا جاء الوحي لهم كما سمعنا في هذه الآيات.
ونستفيدُ أيضًا من هذا: تربية طالب العلم نفسَه على أن يتحمَّل ما يُسأل، والسَّائلون للأنبياء أقسام، ناسٌ يريدون الحق، وناسٌ عندهم شُبه يُريدون إزالتها، وناسٌ أهل باطل وأهل شُبه؛ فعلى طالب العلم أن يكون صدره متَّسعًا ومفتوحًا قبلَ بيته لتحمُّل أسئلة الناس، فهناك الصَّغير والكبير، والجاهل والمتعلِّم، وصاحب الشُّبهة، ومَن يُريد الخروج من شبهته؛ فينبغي أن يتحمل طالب العلم أسئلة لناس، إن كان عنده علم أجاب، وإلَّا بحثَ وسأل مَن هو أعلم منه حتَّى يكون متأدِّبًا بما أدَّبَ الله تعالى أنبياءه -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- وخيرهم نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فأسئلة الناس له كثيرة، وما جاء في القرآن كثير، وما جاء في السُّنَّة أكثر.
المقطع السادس: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 187].
المقطع السابع: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلً﴾ [الإسراء: 85].
المقطع الثامن: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرً﴾ [الكهف: 83].
المقطع التاسع: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفً﴾ [طه: 105].
المقطع العاشر: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينً﴾ [النساء: 153].
هذه الآيات تؤكِّد ما سبق ذكره من تحمُّل الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- لمسائل الناس، ولو لاحظت في الآيات أنَّ الأسئلة متنوعة، من موضوع إلى آخر إلى ثالث إلى رابع.
وهنا ينبغي لطالب العلم أن يستفيد من المنهج النبوي لأنبياء الله -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- وخيرهم نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وأن يكونَ ذا بالٍ وذا تحمُّلٍ، فالنَّاس طبقات، والنَّاس يختلفون في مداركهم، والجهالات عندهم مختلفة، فهذا عنده جهالات في أمرٍ عقدي، وهذا عنده جهالات في العبادات، وهذا في المعاملات، وهذا في السلوكيات؛ فينبغي لطالب العلم أو يوطِّنَ نفسه أن يُجيب على تساؤلاتهم إن كان عالمًا بها، وإلَّا أرشدهم إلى مَن يُجيب عليها إن علم.
وممَّا يُذكر فيُشكَر؛ أنَّ بعض الأفاضل من طلاب العلم إذا سأله أحد سؤال ولم يعلم جوابه أخذَ هاتف السائل، فذهب وسأل المشايخ ومن هم أعلم منه عن هذا السؤال، فإذا أجابه أحدهم اتَّصلَ بالسَّائل وأخبره الجواب، فاستفادَ أنَّه أزال عن السائل الجهالة، واستفادَ أنَّه تزوَّدَ علمًا ممَّن سألهم، واستفادَ أيضًا الأجر من الله -عَزَّ وَجَلَّ- له ولمن سأل من أشياخه، فاجتمعت بذلك مصالح، وهذا قد يكون شاقًّا في كل سؤال، ولكن بعض الأسئلة تحتاج إلى عناية من المسؤول؛ لأنَّ السَّائل ما أتى ليسأل إلَّا ليستفيد، فربما تركه طالب العلم ما عرف الجواب، فيؤدِّي إلى الجهالة، ولكن إذا كان السؤال يحتاج إلى عناية -كما يُقال في بعض الأسئلة أنها من العيار الثَّقيل- والسائل محتاجٌ لها، فمثل هذا السائل لابدَّ أن يهتم بسؤله، ويسأل طالب العلم مَن هو أعلم منه حتَّى يُفيدَ نفسه، ويُفيد السائل الأصلي، ويستفيد مَن أجابَ السُّؤال.
المقطع الحادي عشر: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 33].
المقطع الثاني عشر: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [هود 45 - 47].
المقطع الثالث عشر: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة: 116 - 118].
المقطع الرابع عشر: ﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: 50].
من أخلاق الأنبياء الجليلة: تورُّعهم عن القول على الله بلا علم، وقد ذكر في الآية الأولى ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ ، يقول بعض أهل العلم: رتَّبَ أمرَ الموبقات ترتيبًا تصاعديًّا، فأعظمها آخرها، وهو القول على الله -عَزَّ وَجَلَّ- بلا علم، حتَّى قالوا: إنَّ إبليس قال على الله بغير علم، وسبب شرك المشركين هو القول على الله بغير علم؛ لأنَّهم عبدوا غير الله، وأشركوا مع الله بغير علم، أو بجهالتهم وباتِّباع أهوائهم.
وطالب العلم إذا سُئِلَ عمَّا لا يعلم؛ فعليه أن يتقرَّب إلى الله بقوله: "لا أعلم"، فالأنبياء أكمل الناس وأعلم الناس بالله وكانوا لا يتكلَّمون إلَّا بما يعلمون، حتَّى لما سُئل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- عن الرُّوح سكتَ؛ فأنزل الله الآية التي سمعناها سابقًا.
والشاهد: أن قول: "لا أدري" من التَّعبُّد لله تعالى، حتَّى قال بعض السلف: مَن تركَ "لا أدري" أُصيبت مَقاتلُه ".
وبعض الناس قد يُسأل في مجلس عشيرته أو أمام أقرانه، وهو يعرف من نفسه عدم العلم بالجواب؛ فيتثاقل أن يقول: "لا أدري" لزعمه أن هذا نقص.
والصواب أنَّ قول: "لا أدري" نوعٌ من التَّعبُّد لله تعالى يؤجر عليه قائله، وينبغي للعالم أن يُورِّث طلابه "لا أدري"، وجاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أنه قال: «وَمَا أَدْرِي ذُو الْقَرْنَيْنِ نَبِيًّا كَانَ أَمْ لَ»[79]، وهو النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- الذي نزل عليه القرآن، فالتَّورُّع واجب على مَن لا يعلم أن يقول: "لا أعلم".
قال السيوطي: "الكلام على من يعلم فرض ﴿قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ ، والسكوت لمن لا يعلم فرض ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ "، وهم الملائكة!
فنبغي لمن سُئل عن ما لا يعلم أن يتقرب إلى الله بقول: "لا أعلم".
المقطع الخامس عشر: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ [هود: 69].
المقطع السادس عشر: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ﴾ [الذاريات 24 - 25].
المقطع السابع عشر: ﴿فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ [الذاريات 61 - 71].
في هذه الآيات صفة حميدة للأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- وهي: إكرامهم للضيف، فكل الأنبياء كرام، وهم أكرم الناس، وجاء في الحديث: «كَانَ أَوَّلَ مَنْ ضَيَّفَ الضَّيْفَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ»[80]، وسمعنا في الآية الأولى أنه جاء بعجل حنيذ، وفي آية الذاريات ﴿فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ﴾ ، ولوط -عليه السلام- عرض على قومه بناته بالنكاح الشرعي دفعًا لهم عن الوقوع فيما حرم الله، وحمايةً لأضيافه وإكرامًا لهم.
وشاهد القول: أنَّ إكرام الضيف من خصال الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَام.
وأتمنَّى أن تقرؤوا كلام ابن القيم في تفسيره لسورة الذاريات، ذكر عجائب في إكرام إبراهيم -عليه السلام- لأضيافه.
وهناك مَن يُمسك يده ويشح ويبخل بماله ويشح بمال غيره، والبخل صفة ذمٍّ، ولما جاء قوم إلى الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال لهم -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سَلِمَةَ؟». قالوا: جَدُّ بنُ قيسٍ وإنَّا لنُبخِّلُه. قال: «وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ الْبُخْلِ»[81].
ومن لطائف كلام ابن السعدي أنَّ الكرم من أسباب شرح الصدر؛ لأنَّ البخيل في قلق كيف يُنفق وماذا يُنفق! وأمَّا الكريم -وبخاصَّة من يُنفق لله -عز وجل- فهذا دائمًا مُطمئن القلب منشرح الصدر، وبكل حال فأهل العلم هم أولى الناس بهذه الخصلة، وهي إكرام الضيف ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، وأمَّا إذا كان الإنسان غير قادر فيبقى طيب الكلام وحسن الفعال.
لا خيل عندك تهديها ولا مالُ ** فلينفع القول إن لم ينفع الحال
المقطع الثامن عشر: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف 59 - 62].
المقطع التاسع عشر: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ﴾ [هود 74 - 76].
المقطع العشرون: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾ [الأعراف 65 - 68].
المقطع الحادي والعشرون: ﴿فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾ [الأعراف 77 - 79].
هذه الآيات تدلُّ على رحمة الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- وشفقتهم على أقوامهم، فبعض الناس إذا وقعت المصيبة بالعاصي أو وقعت الكارثة على العُصاة شمتَ وتندَّرَ وسخرَ وتهكَّمَ، والأولى أن يقول كما قال الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- هنا: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ﴾ ، وقال الآخر: ﴿وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾ ، والآخر يقول: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾ ؛ فكل هذه شفقة من الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- وعدم الشَّماتة بالقوم.
وتجد بعض الناس إذا بلغه أنَّ فلانًا أصيبَ أو عُوقِبَ؛ قد يُشفَى صدر الإنسان على مَن عادى الله ورسوله، لكن في الوقت نفسه يحمد الله تعالى أن عافاه ونجَّاه ممَّا ابتلى غيره به.
المقطع الثاني والعشرون: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 44].
المقطع الثالث والعشرون: ﴿قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنً﴾ [الكهف: 2].
المقطع الرابع والعشرون: ﴿قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود: 87، 88].
من خلق الأنبياء: لزومهم لِمَا يأمرون الناس به، وبعدهم وعدم قربهم عما ينهونَ الناس عنه، وهذا من كمال أخلاق مَن دعا الناس للخير.
ولهذا قال نبي الله شعيب: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾ ، فالآمرُ إذا أمرَ الناس بأمرٍ ولم يفعله قد يُكذِّبه الناس، أو يخوض الناس فيما نهاهم عنه، لكن إذا رأوا أنَّ الآمر أسرع الناس فيما أمرهم به، وأنَّ النَّاهي أسرع الناس في اجتناب عمَّا نهى عنه؛ فهذا ممَّا يُؤثِّر في المدعويين، ويجعلهم يرون صدق الدَّاعي في قوله وفي فعله، وأمَّا مَن دعا وأمر وعصى وارتكبَ؛ فهذا لا يضر نفسه فحسب، بل يضر نفسه ومَن دعاه، ولهذا من أخلاق الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- أنهم أحرص الناس على الإتيان بما يأمرون به، وأبعد الناس عمَّا ينهون الناس عنه.
{هل معنى هذا أنَّ مَن يعصي لا يجوز له أن يأمر بالمعروف؟}.
المُكلَّف يأمر ويفعل، وأن ينهى ويكف؛ فإذا ما أمرَ بالمعروف فهو آثمٌ، فقد يأمر بالمعروف ويفعل خلافه، فهو يأثم، ولكن الأشد إثمًا هو الذي لا يأمر بالمعروف ويفعل خلافه، ولكن شخصًا أمرَ بالمعروف فقال: لا تعقوا والديكم، فهذا أمر صحيح شرعي يُؤجَر عليه، فإذا كان هو عاق لوالديه، فهو مأجور على نهيه وآثم على فعله.
المقطع الخامس والعشرون: ﴿فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾ [الأعراف 77 - 79].
المقطع السادس والعشرون: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ [الأعراف 91 - 93].
تكرر ذكر هذه الآيات؛ لأنَّ بعض الناس يتفرَّح ويجعل همَّه وغايته أن يرى النَّكالَ والعقوبةَ بمن خالفه، والأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- كانوا يُحاولون جاهدينَ أن يكونوا سببًا لهداية العُصاة.
وتقدَّم في أحد المجالس هنا أنَّ نوحًا -عليه السلام- ما زال يدعو ولده حتَّى حال بينهما الموج، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ما زال يدعو عمَّه حتَّى حال بينهما الموت؛ ومع ذلك لم يشمتوا.
وهنا قال نبي الله صالح: ﴿وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾ ، وفي الآية الثانية: ﴿وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ ، ألفاظ ليس فيها شماتة، بل فيها تحسُّر وندم على ما أصاب القوم لكونههم جنوا على أنفسهم ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46].
ويُلحظ الآن لو كان شخص في سيارته، فيرى سيارة أخرى سائقها متهور ارتكبَ حادثة، فيبدأ بالتَّندُّر عليه واتِّهامه بالجنون!
وإنَّما الأدب النَّبوي في قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَنْ رَأَى صَاحِبَ بَلاءٍ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلاكَ بِهِ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا إِلَّا عُوفِيَ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَاءِ كَائِنًا مَا كَانَ مَا عَاشَ»[82]، فلا تتهكَّم فتُبتَلى.
المقطع السابع والعشرون: ﴿قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [هود 46، 46].
المقطع الثامن والعشرون: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [البقرة: 67].
فيها بُعدُ الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- عن الجهالات، وما يُوصف صاحبه بالجهل، سواء بأفعال الجاهلين، أو أقوال الجاهلين، فهذا نوح -عليه السلام- لَمَّا أخبره الله أنَّ ابنه ليس من أهله؛ قال: ﴿إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ ، ولَمَّا أكثر بنو إسرائيل سؤال موسى عن البقرة قال لهم: ﴿أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ .
فالأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- أبعد الناس عن صفات الجهالة القوليَّة والفعليَّة.
ولذا على طالب العلم أن يُنزِّه نفسه، وأن يقتدي بالأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- في البُعد عن مواطن ومقامات الجهالة القوليَّة والفعليَّة؛ لأنَّها تُنقص من قدره، وتُذهب هيبته، وتخرم مروءته، وناتج هذه المقدِّمات الثلاث: عدم قبول دعوته.
 
 
المقطع التاسع والعشرون: ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدً﴾ [الكهف 65، 66].
المقطع الثلاثون: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمً﴾ [طه: 114].
فيها من خصال الأنبياء العظيمة: التَّزوُّد من العلم، فقصَّ الله علينا في سورة الكهف أنَّ موسى -عليه السلام- لَمَّا بلغه خبر الخضر -عليه السلام- ذهبَ إليه وطلب مصاحبته، فموسى -عليه السلام- رحل في طلب العلم حتَّى وصل بغيته، ثم من حرصه أراد أن يُلازم الخضر في أمره، وحرص أن يلزم ما أمره به الخضر وهو أن لا يسأله، ولكن موسى من حرصه على العلم والتزوُّد منه سألَ.
أيضًا في سورة طه في قوله: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمً﴾ ، قال بعض أهل العلم: ما أمرَ الله نبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بالتَّزوُّد من شيءٍ إلَّا من العلم، فالعلم لمَن وُفِّق له هو خير الدين والدنيا والآخرة، وكلما زاد العبد بالله علمًا زاد له تعظيمًا، ومنه خشية، ومنه تواضعًا، ومنه حياءً، وله تعبُّدًا، وعن معصيته ابتعادًا، ولطاعته لزومًا.
وعلى طالب العلم أن يدعو الله -عَزَّ وَجَلَّ- دائمًا أن يزيده علمًا، وأن يوفقه لخير العلم، وأن ينفعه بما علم.
المقطع الواحد والثلاثون: ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ [ الأعراف:88-89].
المقطع الثاني والثلاثون: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء:61-62].
فيه عظيم ثقة الأنبياء بالله، وحسن ظنهم بالله، فهذا شعيب لَمَّا آذاه قومه وضيَّقوا عليه قال: ﴿عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ ، وموسى -عليه السلام- لما تراءى الجمعان قال أصحابه مما اعتراهم من الخوف ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ ، ولكن موسى -عليه السلام- بثقته بربه، وعظيم ظنِّه الحسن بالله قال: ﴿قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ ، فلو قال: "معي ربي سيهدين" لكفى، ولكن كلمة: "كلا" فيها إبطالٌ لِما قبلها وهو قولهم: "إنا لمدركون"، أي: لن تُدركوا بإذن الله.
ولهذا ينبغي للمسلم عموما ولطالب العلم خصوصًا أن يعظِّم ثقته بالله، وحسن ظنه بالله، فحسن الظن بالله يجعل الأمر العسير يسيرًا، ولهذا كان مالك بن أنس -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يُكثر من قول: "لا حول ولا قوة إلا بالله" ثقةً بالله إذا ألمَّ به أمر. فكان أحدهم يقول: لماذا يُكثر مالك من هذا! فرأى هذا الرجل في المنام -كما ذكر اللالكائي- قائل يقول له: أنت الذي تقول لِمَ يُكثر مالك من قول: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، والله لو أراد مالك أن يخرق جبلًا بها لخرقه!
فالشاهد هو عظيم ثقة الأنبياء بالله وعظيم حسن ظنهم بالله، وهذا هو منهج أهل العلم من أقوامهم، وينبغي لطلاب العلم خاصَّة في أوقات الفتن أن يُحسن ظنَّه بالله، وأن يعظِّم ثقته بالله، وأن يعلم أنَّ ما أراده الله سيكون وما لا فلا يكون، فإذا أحسن العبدُ ظنَّه شرح الله صدره، وطمأنَ قلبَه، ويسر أمره، وأقرَّ عينه.
{لو تعطونا فضيلة الشيخ بعض النَّصائح المتعلقة بالتَّفسير لمن يُريد الاهتمام بهذا الشَّأن، وتكون -بإذن الله- خاتمة لهذا الفصل المبارك}.
من خلال ما قرأتُ ومن خلال مجالستي لمشايخي ثم لطلاب العلم؛ وجدتُّ أنَّ هناك طريقة، وكل إنسان له طريقة وله تصوُّرات، ولكن ممَّا ينفع محبي التَّفسير: أنه قبل أن يرجع إلى التفسير يقوم بنحت الذِّهن، وهو التَّعلُّم بقوة في المنطق؛ وليكن معه قلم وورقة، ثم يأخذ الآية الأولى ويكتب فوائدها، ثم هكذا حتَّى آخر آية، ويجعل جدولًا للكمات الغريبة في الآية، ثم يُحاول أن يعرف معناها، وهذا قبل أن يرجع إلى كتب اللغة وكتب التفسير. وهذا ليس مقام فُتيا أو قول على الله بغير علم؛ بل هو مقام بحث ونظر بينه وبين نفسه.
ثم يُعيد النظر مرة أخرى ويضيف فوائد، ويعيد ثلاث مرات أو أربع حتى يستنفذ جهده، بعد ذلك يبدأ بالتفاسير المختصرة مثل الجلالين، فينظر إلى الكلمات الغريبة التي فسرها توافق أو لا، فإن كانت توافق حمد الله وأبقاها، وإن كانت ما تُوافق حمد الله على الصواب الذي عرفه.
ثم يترقَّى إلى تفسير الشيخ ابن السعدي، وهذا التفسير أوصي نفسي ومَن يسمعني ويراني أن يكون له قراءة فيه إمَّا بنفسه أو مع أهله أو مع أصحابه، ثم إذا كانت الفوائد التي كتبها ذكرها المفسرون فيحمد الله على هذه النعمة، وإذا وجد فوائد أخرى يُضيفها، فإذا أضيفت مع ما ذكره هو، ثم توسَّع وارتقى إلى تفسير ابن كثير ثم القرطبي؛ فأنا أجزم وأُقسم أنه سيجد راحة، وإذا استفاد ينبغي أن يُزكَّى هذا العلم، وتزكية المال ربع العشر، وزكاة العلم العمل به وأن يبلغه إلى مَن خلفه.
ومن أحسن الأشياء لرسوخ التفسير أن يبدأ الإنسان بقراءة تفسير ما يحفظ، فأنت تقرأ في كلا صلاة -سواء كنت إمامًا أو مأمومًا- ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ، فإذا سألته: ما معنى كلمة "الحمد"؟ يقول: ما أدري!
أنت الآن في كلامك إذا ذكرتَ مُفردة غريبة، سيقول المشاهدون: ذكر الشيخ كلمة وكررها أكثر من مرة وما بينوا معناها؟
وهنا يحق لهم أن يسألوا، وأيضًا حُق لي ولك أن نعرف مفردات ما نقرأ في كتاب الله الكريم، مثل قوله ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ ، فهذه نحفظها قبل جريان قلم التكليف من أمهاتنا وآبائنا، وكذلك ﴿وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾ ، وكذلك قوله ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ﴾ ؛ فإذا فهم المصلي تفسير ﴿الْحَمْدُ﴾ وتفسير ﴿الصَّمَدُ﴾ وتفسير ﴿غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾ ؛ فثِقْ تمام الثِّقة أنَّه إذا قرأها أو سمع الإمام يقرأها سيشعر بلذَّة في أذنيه وفي قلبه؛ لأنَّه يفهم ما يقرأ.
وإذا فهمنا أنَّ الغاسق هو الليل، وأن "وقب" يعني: اشتدَّ ظلامه، وقيل: هو القمر إذا غابَ، وخُصَّ الليل بالاستعاذة لانتشار الشياطين فيه وقوَّة سُلطانهم، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «لَا تُرْسِلُوا فَواشِيَكُمْ وصِبْيانَكُمْ إذا غابَتِ الشَّمْسُ حتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ العِشاءِ، فإنَّ الشَّياطِينَ تَنْبَعِثُ إذا غابَتِ الشَّمْسُ حتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ العِشاءِ»[83]. يقول شيخ الإسلام -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وسلطان الشيطان في الليل أقوى من سلطانه في النهار".
فإذا قرأ الإمام: ﴿وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾ ، وأنت تعرف تفسيرها فستشعر بلذَّة وراحة.
وقوله: ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ ، قيل من معاني الصمد: السيد الكامل السِّيادة، أن يحتاجه كل أحد ولا يحتاجُ إلى أحدٍ.
فائدة: إذا نطقت العرب كلمتين حروفهما واحدة والترتيب مختلف فبينهما قاسم مشترك.
مثال: "الحبر" و"البحر".
البحر: واسع المساحة وكثير كمية الماء.
الحبر: واسع العلم.
إذن؛ فيه قاسمٌ مشترك، أو دائرة يُذكر في قطرها هذا وهذا.
وكذلك "الحمد" و"المدح"؛ الحروف واحدة، ولكن فيه تقديم وتأخير.
المدح: أن تثني على أحمد، ولكن قد لا تحبه، ترجو مصلحة أو درء مفسدة.
والحمد: هو الثناء مع الحب مع كمال التذلل لله -عَزَّ وَجَلَّ.
فإذا قلت: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ ، فمعناها: الوصف والثناء الجميل لله تعالى مع محبَّته وإفراده بالعبادة؛ تشعر بلذَّة وراحة إذا عرفت هذا المعنى وأنت تقرأ.
وهكذا علَّمنا علماء التفسير -عليهم رحمة الله تعالى.
{أحسن الله إليكم.
ما يُسمَّى الآن بالتَّدبُّر، فهذا الأمر انتشر وصار فيها مجموعات في بعض وسائل التواصل الاجتماعي؛ فهل هناك قواعد لهذا التدبر؟ وهل يختلف مع التفسير؟}.
لا أجزم أنَّي أعرف الفرق، لكن ما أرى أن يأتي شخص ولأول مرَّة في قناة أو في إذاعة أو في جريدة، ثم يقول: استفدتُّ كذا وكذا، فقد يكون كلامه خاطئًا، ولكن إذا كان عن بحثٍ ودراية فلا بأس.
{شكرَ الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
 -----------------------------
[79] سنن أبي داود، مستدرك الحاكم.
[80] أخرجه ابن أبي الدنيا في قرى الضيف، وابن أبي عاصم في الأوائل، والبيهقي في شعب الإيمان.
[81] رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد.
[82] رواه الترمذي وحسنه الألباني في صحيح الترمذي.
[83] أخرجه البخاري، وأخرجه مسلم والفظ له.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ