الدرس السابع

فضيلة الشيخ د. عبدالعزيز بن محمد السدحان

إحصائية السلسلة

5365 12
الدرس السابع

التفسير

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ عبد العزيز بن محمد السدحان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
حيَّاك الله، وحيَّا الله المشاهدين والسامعين جميعًا.
{نتحدَّثُ في هذه الحلقة -بإذن الله- مع فضيلة شيخنا عن بِرِّ الأنبياء بوالديهم.
المقطع الأول من سورة الإسراء: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرً﴾ [الإسراء 23، 24]}.
الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد؛ فالأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلاةُ والسَّلامُ- صفوة خلق الله تعالى، فهم أعلم الناس بالله، وأتقَى الناس لله، وأكرم الناس على الله، اصطفاهم الله تعالى، وخصَّهم بهذه الرُّتبة الشَّريفة، رتبة النبوَّة والرِّسالة، فهم قُدوةٌ لأقوامهم، وقد بلغوا في حُسنِ الأخلاق غايته، فهم مثال القدوة لأممهم -عَلَيْهِم الصَّلاةُ والسَّلامُ.
وقد ذكرهم الله تعالى في كتابه الكريم في مواضع كثيرة، وكما أشرت فيما يتعلَّق ببرِّ الوالدين.
وقبل ذكر ما يتعلَّق بالبرِّ أحبُّ التعليق على بعض ما جاء في الآية الكريمة، قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ﴾ ، ذكر الطبري -رَحِمَهُ اللهُ- تفاسير متنوعة عن السَّلف، ومردُّها إلى معنًى واحد:
Ø   فقال بعضهم: ﴿قَضَى﴾ ، أي حَكَم.
Ø   وقال بعضهم: ﴿قَضَى﴾ ، أي: أَوصَى.
Ø   وقال بعضهم: ﴿قَضَى﴾ ، أي: أَمَرَ.
قال بعض أهل العلم: يكفي الوالدين فخرًا أنَّ الله قرَنَ حقَّهما بحقِّه، فبدأ تعالى بحقِّه ثمَّ ثنَّى بحقهم.
ومن المعلوم أنَّ دين الإسلام العظيم هو دين الحقوق، وأنَّه أعطَى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، حتى الحيوان أعطاه حقَّه، وهذا فيه ردٌّ على جمعيَّات الرفق بالحيوان، التي تزعم أنَّ الإسلام نكَّلَ بالحيوان؛ فالإسلام أعطى الحيوان حقَّة، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا قَتَلْتُمْ فأحْسِنُوا القِتْلَةَ»[50]، بل أعطى الجماد حقَّه، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجَالِسَ، فأعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَ»[51].
ومن الحقوق العظيمة في الإسلام: ما يتعلَّق بحق الوالدين، وهذه الآية التي في سورة الإسراء هي عُمدةُ أبواب وبحوث الكلام ع برِّ الوالدين.
قال تعالى: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾ ، قُرِأَت "أُفٍّ" وقرأها بعضهم "أُفٍ"، وقرأها بعضهم "أُفَ".
ومن معانيها جلَّ الله المتكلِّمَ والمشاهد والسَّامعين: أنَّها الوسَخ من الأظفار، أو ما في المغاب في الآباطِ وما شاكلها.
وهذه الكلمة تُقال غالبًا عندما يتضجَّر الإنسان ممَّن طلبَ منه طلبًا، أو أمره بشيءٍ أو نهاه عن شيءٍ، وهي منهيَّة في حقِّ الوالدين لقُبحِ قولها للوالدين.
وجاء الأمر في الآية بالنَّهي عن قول، وبالأمرِ بقول، فنهى عن قول "أُف"، وقال بعضهم: لو كان هناك أدنَى من التَّأفيف لذكره الله، فنُهينا عن قول "أُف" وأمرنا بقول: ﴿وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمً﴾ .
فالمراد بــ "أف": الكلام السَّيء ولو كان مجرَّد التَّأفُّف، ومن باب أولى يدخل ما فحُشَ من القول.
وفي المقابل: ﴿وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمً﴾ ، يدخل فيه جميع الأقوال الطَّيبة الكريمة التي تليق بمقام الوالدين.
وهذه الآية الكريمة فيها حكمٌ وأحكامٌ كثيرَة لمن رامَ التَّزوُّدَ فَكُتُب التَّفسير والشُّراح مليئة بهذا.
{وإن كان سيأتي معنا كثير من المواضع المتعلقة ببر الوالدين، لكن ثمَّةَ سؤالٌ يا شيخ أحسنَ الله إليكم؛ الآن يحصل في كثيرٍ من المجالس التي يجلس فيها الوالدين أنَّ بعض الأبناء يُخرج الجوَّال، فهل هذا يُعتَبَر من العقوق؟}.
هذه لفتةٌ طيِّبَةٌ -شكر الله لك.
يبدو ممَّا ذكره العلماء في المروءة أنَّ الإنسان لا يتشاغل إذا كانَ أحد في المجلس يتكلَّم، يعني شخص يتكلَّم في المجلس، وشخص مشغول بتفقيع أصابعه، أو بقراءةٍ في ورقة؛ فهذا لا يليق مروءةً، فإذا تكلَّم رجلٌ فيكون الجميع منصتين، فمن لوازم أدب المجالس أن تستصحب حالةَ الحاضرين وتكون متأدِّبًا.
الآن عمَّت البلوى بالجوال! فمرَّة من المرَّات كان شخص في سيَّارة، فقلت له: انظر إلى مَن يقودون السَّيَّارات، خذ فقط عشرين سيارة وانظر كم واحد يمسك الجوال؟
فقال: ثلاثة عشر، كلهم معهم جوالتهم! أمَّا السبعة الباقون فقد يكونوا انتهوا من المكالمات!
في بعض المجالس تدخلها، فإذا جلستَ رأيت الكل منشغل بجواله أو مُشغل مَن بجانبه بجوَّاله، حتَّى أنَّ أحدهم تضجَّر مرَّة في مجلس وقال: نحن اثنا عشر، تسعة منكم مشغول بجواله، إذن لماذا نجتمع؟ كل يجلس في بيته!
وأخبرني أحد الفضلاء قائلًا: عندنا اجتماع أُسرَي، أبناء إخواني وأخواتي والأسباط والأحفاد، وجدتنا كبيرة تنتظرنا في الاستراحة، فإذا أتينا بعدَ المغرب للسلام عليها، وهي تضع أمامها إناء، تقول: لا يُسلِّم عليَّ أحد حتى يضع جواله هنا؛ فنضع جوالتنا. حقيقة! يتوحَّد المجلس.
وبعضهم يكون قبيحًا، تكلمه أمُّه أو يكلمه أبوه وهو إمَّا يكتب رسالة أو يقرأ رسالة، أو يكلم صاحبه ثم يرد على والدته بجمل مقطَّعة؛ هذا لا يرضاه الرجل العاقل أن يُتصَرَّف معه، فكيف تتضرَّف مع الناس بهذا! بل كيف بحقِّ مَن لهم حقٌّ عظيم وهما الأم والأب!
المقطع الثاني: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ [لقمان: 14].
تنبيه! كثيرٌ من النَّاس إذا تكلَّمَ عن برِّ الوالدين ينسى حق الأب، ويُعظِّم جانب الأم تعظيمًا فيه بخسٌ لحقِّ الأب، لا شكَّ أنَّ حقَّ الأمِّ مُقدَّمٌ، لكن غالب مَن يتكلَّم لا يُعرِّجُ إلَّا على الأم، وفي الآية الكريمة هنا ذكر الله -عزَّ وجلَّ- أنَّه أوصَى الإنسان بوالديه إحسانًا، وذكرَ حقَّ الأم وأنَّه عظيم فقال: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ﴾ ، لا شكَّ أنَّ آثار الحمل والولادة شيء عظيم، وقد جاء في بعض الأحاديث أنَّ المرأة إذا ماتت بسبب ولادة فهي مما يُرجَى لها الخير، إذا كانت محتسبة في أثناء مرضها وولادتها، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِيْ نَفْسِيْ بِيَدِهِ إِنَّ السِّقْطَ لَيَجُرُّ أُمَّهُ بِسَرَرِهِ إِلَىْ الجَنَّةِ إِذَا احْتَسَبَتْهُ»[52]، فإذا ماتت من أثر الولادة فلا شكَّ أنَّ أجرها عظيم، وحقَّها عظيم في الدنيا قبل الآخرة.
والله -عزَّ وجلَّ- جمعهما في ذكر البر فقال: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَاأُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمً﴾ ، فلا ينبغي تغليب جانب الأم تغليبًا فيه بخس لحقِّ الأب لا ينبغي، لكن لاشكَّ أنَّ الأمَّ مقدَّمة.
ومما يُحفِّز ويُرغب ويُؤكِّد حق الوالدين: ما ذكره الله -عزَّ وجلَّ- من الوصية بشأنهما، وخصَّ الأم لأنَّ من جبلتها الولادة، وتعب الولادة لا يحس به إلَّا مَن قاساه من الأمهات.
يقول بعضهم: لو أنَّ العاق لوالديه رأى كيف أنَّ الأم قاسَت في أثناء وضعها له وتحمَّلته تسعة أشهر في بطنها وتعبت، وهذا غير ما يُصيبُ بعض الأمهات من أمراض أو نزيف أو موت؛ فلو أنَّ الولد رأى ما تُقاسيه أمِّه أثناء الولادة لعضَّ أصابع النَّدمَ إذا كانَ عاقًّا لها.
{أحسن الله إليكم.
بعضهم يقول: تعظيم حق الأم ليس من باب جحد الأب، وإنَّما لأنَّ الأب يستطيع أن ينهر ابنه ويزجره ويؤدِّبَه، لكن الأم قد لا تستطيع هذا}.
كلامك سليم لا غبار عليه، ولكن قصدي أنَّ كثيرًا من المحاضرات أو من الكلمات أو من وصايا تكون أغلبها عن الأم، ولكن في المقابل فإنَّ الأب له حقٌّ عظيم، ولا يلزم من التَّنبيه على حق الأب تهوين حق الأم، وكذلك لا يُغلَّب جانب حق الأم تغليبًا بحيث يكون فيه بخس لحق الأب، فبعض الناس إذا سمع هذا قد يقول: الوالد لا يستحق هذا! فلا شكَّ أنَّ للجميع حق، ولكن الأم مُقدَّمة، وقد يتهاون بعض الناس ويُهمل جانب الآباء، فالأب له حقٌّ عظيم، فهو الذي يُوفِّر لك المعيشة وما يتبعها من ذلك.
المقطع الثالث: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأحقاف: 15].
كالآية التي قبلها، فذكر الله تعالى مراحل الحمل، ثم قال: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ ، قد يُفهَم منه أنَّ الإنسان كلَّما تقدَّمَ به العمر كلَّما زاد معرفةً بحقِّ والديه؛ لأنَّ الصغير لا يشعر، يطلب ما يُريد ويبكي إذا مُنِعَ، ويفرح إذا لُبِّيَ طلبه، فكلما تقدَّمَت به السِّنُّ وبخاصَّة إذا بلغ الأشد وكثُرَت المسؤوليَّات وجاء أولا؛ يكون تصوُّره لحق الوالدين أعظم بمرات وأضعاف كثيرة لِمَا كان من قبل.
ومن جميل ما قرأت قول أحدهم: كنتُ أُخالفُ والدي وأقول كذا وكذا، وأُعانده وأفجر، ولَمَّا تقدَّمتُ في العمر قليلًا بدأت أخف الضَّجر، ثم لَمَّا تقدَّمتُ بدأتُ أرفع أغلب الضَّجر عن والدي، ثم وصلتُ لمرحلةٍ أصبحتُ لا ألوم والدي إن ضجرَ، ثم لَمَّا جاءني أولاد أصبحت أصوِّب ضجر وتأديب وقسوة والدي عليَّ بعض الأحايين.
وفي قوله: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ ، نفهم منها أنَّ الإنسان كلَّما تقدَّمَ في السِّنِّ كلَّما ازداد علمًا ومعرفةً بحق الوالدين، ولهذا قال: ﴿وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي﴾ ؛ لأنَّ تذكَّر سيرته مع والديه وأنَّه قد يكون مُقصِّرًا؛ فيدعو بصلاح ذريَّته حتى لا يقعونَ فيما وقعَ فيه هو مع والديه، وقد يكون مع والديه صالحًا بارًّا فيسأل الله أن يكون أبناؤه كما كان هو لوالديه.
{هل يُفهم من قوله: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ﴾ استحباب الدُّعاء للوالدين؟}.
من أعظم حقوقهما: الدُّعاء لهما، وليس فقط في حياتهما؛ بل بعدَ موتهما، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ: إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»[53]، والدُّعاء مفتاح لأبواب الخير كلها.
المقطع الرابع: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [لقمان: 14].
أنبه أنَّ الآية جاء فيها أمرٌ ونهيٌّ، ممَّا يُبيِّن عظيم حق الوالدين، قال تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي﴾ ، ليس فقط أمراكَ أو أشارا إليك، وإنَّما جاهداكَ، والمُجاهدة من المفاعلة، فالقول والفعل والإكراه والزَّجر والنَّهر على أن يُشرك بالله تعالى.
فجاء في الآية نهيٌ وأمرٌ، قال: ﴿فَلَا تُطِعْهُمَ﴾ ، مع هذا الفعل الشَّنيع لا تُطعهما، وفي المقابل جاء الأمر: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفً﴾ ، وهذا دليل على عِظَم حق الوالدين، فتسقط الحقوق أحيانًا إذا كان الطَّرف الآخر تسبَّبَ فيما يُلغي حقَّه، فالله -عزَّ وجلَّ- أسقط حقَّ الوالدين في عدم طاعتهما في أمر ولدهما بالشِّرك، لكن أبقَى لهما لحق الآخر في قوله: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفً﴾ .
ومَن تأمَّل هذه الآية وجدَ أنَّها من أعظم الأدلة على حقوق بر الوالدين، وإن لم تكن هي أعظم آية فإنَّها من أعظم الآيات، فالإنسان إذا أمرَ بمعصيةٍ يُستقبَح فعله وقد يسقط ما له من التقدير، أمَّا الوالدان فلهما وضعٌ مستقلٌّ ولهما شأنٌ آخر، فلو أمرا بمعصية فلا يُطاعا، فكيف إذا أمرا بأكبر الكبائر وهو الشرك بالله، وليس أمرًا فحسب؛ بل أمرًا مستمرًّا، ويصحبُ الأمرَ المجاهدة، وقد تكون المجاهدة تارة بالإكراه، وتارة بالتَّهديد، وتارة بالضَّربِ، وتارة بتسليط آخرٍ على ابنهما؛ ومع قبيح هذا العمل، لأنَّ الشرك بالله أكبر الكبائر؛ ومع هذا كلِّه لا يُطع الولد أبويه فيما أمراه به، لكن ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفً﴾ ، فالواو هنا عاطفة، وهذا دليل على عِظَم شأن ورفعة حق ومكانة الأبوين.
{ثمَّ سؤال يردنا في هذه الآية، ولعلي أُعمِّم هذا السؤال:
كيفَ يُجمَع بينَ الولاء والبراء وحب الشَّخص، سواء في الزَّوجَة الكتابيَّة، أو غيرها؟}.
ما فيه تعارض، دائمًا الإنسان يُحبُّ بحسبِ ضوابط الشَّرع، ويُبغض بحسب ضوابط الشَّرع، فإذا جاء رجلٌ مُشركٌ مُلحدٌ وثنيٌّ إلى قاضٍ مُسلم، فإنَّ هذا الرجل ديانته له وحقُّه له، فإن كان لا يُحبُّ ديانةً، فلا يلزم من بغضه أن يسقط حقه.
هذا الوالد وهذه الأم لا يُطاعان حتَّى لو فعلا ما فعلا في معصية الله -عزَّ وجلَّ- ولكن مع ما فعلا من المنكر الجسيم في أمر ولدهم بالإشراك؛ لا يُطاعا في هذا ويبقَى لهما الحق، فلا يضربهما ولا يبصق عليهما -معاذ الله- ولا يشتمهما ولا يسبهما، وسيأتي في بعض الآيات في توضيح مقام الأنبياء وكيف أنهم -عَلَيْهِم الصَّلاةُ والسَّلامُ- تمثَّلوا البر بأسمى معانيه، مع حفظ حق الله تعالى أتم حفظٍ.
المقطع الخامس: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [العنكبوت: 8].
قدَّم الوصية بالإحسان قبل ذكر خطأ والديهم في أمرهما بالمعصية، وهذا يدلُّ على تأكُّد حقِّهما، فقدَّم حقَّهما وأنَّه وصيةٌ من الله وأمر وحكمٌ مهما أتيا ما سيفعلان، يعني اِلزَموا أيُّها الأولاد -ذكورًا وإناثًا- المعاملة للوالدين بالحسنَى، وهذا حكمٌ من الله وأمرٌ، ما لكم فيه تفضُّل؛ بل يجب عليكم، فأيُّ فعل يفعله الوالدان وأي قول يقولانه مهما بلغ فحشه العقدي؛ فلا تنسَى أنَّك موصًى بأن تُحسنَ إليهما.
وكما تقدَّم أنَّ الوصيَّة فيها أمرٌ ونهيٌ ﴿فَلَا تُطِعْهُمَ﴾ في المعصية، ثم الوصية بالإحسان في قوله ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفً﴾ .
ولاحظ في هذه الآية والآية السابقة أنَّ الله قدَّم الوصيَّة بالإحسان إليهما، فمع شناعة ما وقعا فيه من جهاد الأولاد على الشِّرك فأنتَ منهي عن طاعتهما، وفي المقابل مأمور بحفظِ ما لهما من الحق.
قوله: ﴿مَعْرُوفً﴾ ، هو ما يخلو من الأذى القولي والأذى الفعلي.
{أحسن الله إليكم.
هل معنى أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- ضرب مثلًا بالشِّركِ أنَّ ما دون ذلك من باب أولى؟}.
نعم، من باب أولى، كأن يكون مبتدعًا أو عاصٍ، أيًّا كانا الأبوين، فلمَّا جاءت أسماء إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقالت له: يا رسولَ اللهِ إِنَّ أمِّي قدمَتْ عليَّ وهيَ رَاغِمَةٌ مُشْرِكَةٌ أَفَأَصِلُها؟ قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ؛ صِلِي أُمَّكِ»[54]. ولَمَّا قال علي: "إِنَّ عمَّكَ الشيخَ الضالَّ قدْ ماتَ فمَنْ يوارِيهِ". فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذهَبْ فوارِهِ»[55]، الحق يبقى حتى ولو كانا مُشركين، ولكن في غير معصية الله.
المقطع السادس: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورً﴾ [النساء: 36].
كالآية السابقة، أمر -عزَّ وجلَّ- بعبادته، ونهى عن الشرك، ووصَّى بالوالدين، وأن يتعامل الأولاد بالإحسان مع والديهما، فهذا تأكيدٌ لما سبق.
ومما ذكره أهل العلم: أنَّ الله تعالى إذا ذكر في القرآن أمرًا وجاء التَّأكيد عليه إمَّا تأكيد لفظي أو تأكيد معنوي؛ فهذا يدلُّ على أهميَّة ذلك الأمر، وقد تكرَّرَ ذكر هذا الأمر في آيات كثيرة، إمَّا نصًّا أو تضمُّنًا، فتارةً يأتي تخصيص، وتارة يأتي تعميم يدخل في هذا التَّخصيص.
فالشَّاهد أنَّ كثرة الآيات التي تأمر بالإحسان إلى الوالدين تدلُّ دلالة كشمس النَّهار ليس دونها سحاب على تعظيم شأن ومكانة الوالدين في الإسلام، وأنَّ هما حق التقدير والبر والإحسان مهما بلغا في المعصية، سواء في ذاتهما، أو أن تكون متعدِّيةً في أمرهما لأولادهم، فلا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، ولا يسقط حق المخلوق إذا ارتكبَ معصيةً.
المقطع السابع: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الأنعام: 151].
في الآيات السابقة قدَّم الأمر بالوصيَّة في قوله: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ﴾ ، وهنا في هذه الآية قال: ﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ﴾ ، وفي آية الإسراء: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ﴾ ، وهنا في هذه الآية قال: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ﴾ ، فتقديم الوصيَّة في بعض الآيات وتأخيرها، والتأكيد بالأمر، والتَّأكيد بالنَّهي؛ كله يدلُّ دلالة عظيمة قطعيَّة على عِظَم شأن الوالدين، وعلى عِظَم ما نُهينا عنه، ولكن بما أنَّ الحديث عن الوالدين فبدأ بحقِّه -عزَّ وجلَّ- ثم ثنَّى بحق الوالدين.
ويكفي أنَّ يُقال:
وصَّى الله بشأن الوالدين في أوَّل الآيات، ووصَّى بهم في آخر الآيات تأكيدًا، ونهى عن عقوقهما؛ بل نهى عن التَّأفُّفِ والتَّضُّجر، ولو بلغ ذنب الوالدين ما بلغ فيبقى لهما حق البر والتَّقدير ولو كانا على غير دين والدهما.
وواحدة من هذه فقط تكفي لبيان شرف وعِظَم ومكانة الوالدين، فكيف بهذه الدَّلائل وهذه الأوامر الشَّرعيَّة، والتَّحذيرات الشَّرعيَّة، والنَّهي الشَّرعي، والوصايا في أول الآيات، والوصايا في آخرها، فهذا دليل على عظيم شأن الوالدين.
وينبغي أن يتأمَّل الإنسان وبخاصَّة العاق المقصِّر المتضجِّر المتأفِّف من شأنِ والديه.
المقطع الثامن: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارً﴾ [نوح: 28].
المراد به نوح -عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- وأفضل الناس هم الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلاةُ والسَّلامُ- وأفضل الأدعية دعاء الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلاةُ والسَّلامُ- وأعلم الناس بحقوق الله وحقوق الناس الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلاةُ والسَّلامُ.
فهذا نوح أوَّل رسول لأهل الأرض، ومع هذا يقول: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي﴾ ، فبدأ بنفسه. ﴿وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ ، فثنَّى بالدُّعاء لوالديه بعدَ الدُّعاء لنفسه، فإذا كان هذا هو خُلق الأنبياء وهم أبرُّ النَّاس بوالديهم، سواء كانوا على دينهم أو خلاف دينهم، فهم أبرُّ الناس، وأدرى الناس بحق الوالدين، فثنَّاهم بالدُّعاء بعدَ الدَّعاء لنفسه.
ومن أعظم علامات البرِّ: أن يخصَّ الإنسان والديه بالدُّعاء، وأن يُكثر من الدعاء لهما، فالأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلاةُ والسَّلامُ- مع عظيم مسؤوليَّتهم، فهم كُلِّفوا بدعوة أمم، فلكل نبي أمة، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أرسلة لجميع الأمم من الثَّقلين؛ فمع مشاغلهم العظيم لم يغفلوا عن حق شأن الوالدين.
وإذا ذكر الله -عزَّ وجلَّ- صفةً لنبيٍّ فهي في جميع الأنبياء حسبَ وضع النبي -عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ.
{أحسن الله إليكم.
في نفس السياق نجد أنَّ مخاطبة نوح -عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- لابنه في رقَّةٍ عظيمة؛ يتجلَّى منها أنَّ الوالد يحرص على صلاح ابنه؛ فهل يُستفاد من هذا أنَّ أعظم برٍّ يُقدَّم للوالدين هو صلاح الابن}.
جاء في سورة هود: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾ [هود: 45]، فلاشكَّ أنَّ الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلاةُ والسَّلامُ- قاموا بحق واجب الأبوَّة وحق واجب البنوَّة، وهذا هو التَّكامل الأسري، أن يرعى الإنسان جانب أبويه بالحق الشرعي وبالتَّعامل الشَّرعي، وفي المقابل يرعى حقَّ أولاده في الجانب الشَّرعي.
المقطع التَّاسع: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئً﴾ [مريم 41، 42].
هذا هو الخليل -عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- وأبوه ليس على دينه، وانظر إلى في خطاب لأبيه قال: ﴿يَاأَبَتِ﴾ ، ولهذا قال بعضهم: من أنواع العقوق أن يُنادي الابنُ أباه باسمه العلم فيقول له: "يا فلان"، فإذا كان الشَّيخ لا يُنادَى باسمه العلم من التَّلميذ، والأبوَّة أبوَّةُ نسبٍ وأبوَّة علمٍ؛ فهنا إبراهيم -عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يقول: ﴿يَاأَبَتِ﴾ في تلطُّفٍ، يقول بعض المفسرين: استعملَ أرق عبارات البنوَّة في خطاب الأبوَّة، فقال: ﴿يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ﴾ ، فبيَّن له خلل مَن يعبده، وأنَّه لا ينفعه، فهو لا يسمع ولا يُبصر، ولا ينفعه في دفع ضرر أو في جلب نفعٍ.
فهذا أبوه مشركٌ ويعبد الأصنام، ومع هذا كلِّه ما تضجَّرَ وما تأفَّفَ -عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، فالأنبياء هم أعظم الناس أخلاقًا في التَّعامل مع الوالدين، وبخاصَّة في دعوتهما إلى الخير.
{بعضهم يُنادي والده ووالدته باسمهما المجرَّد من باب المزاحة والملاطفة. فما حكم ذلك؟}.
القاعدة: إذا كان الشَّخص يعرف أنَّ في هذا إدخال سرور بهذا الفعل أو بهذا الفعل فيفعله، أمَّا لو كان بعض الناس يأنَف من هذا الأسلوب، فبعض الناس يقول: لا أرضى أن يسميني أولادي باسمي العلم ولا بكنيتي؛ طبعًا هذا نفسيَّة لا تقبل الأبوَّة!
وأنا أذكر الوالدة -رَحِمَها اللهُ ورحم الله أمهاتنا جميعًا وشفي الله مَن كانت أمُّه مريضةً، ورحم الله مَن كانت أمُّه ميِّتةً، وبارك الله فيمَن كانت أمُّه معافاةً وزادها الله عافيةً وصحَّة- فكنتُ أزور الوالدة بعدما أخرج من المدرسة التي كنت أعمل فيها مُدرسًا، فبعض النساء لها طبع تأنس به، فقامت تصب القهوة، كنتُ أريد أن أصبَّ عنها ولكنَّها كانت تُلح؛ فسألتُ الشيخ ابن باز -رَحِمَهُ اللهُ- في ذلك، فقال لي: أتفرح بهذا الشيء؟ فقلتُ: نعم تُسرُّ.
فقال: اُطلب منها وكلِّفها.
فهذا من فقه الشَّرع؛ لأنَّ المراد هو إدخال السرور عليها، وليس هذا من باب العقوق، فأنت تعرف مثلًا أنَّ والدك يُحبُّ أن يُقطِّع لك اللحم على الَّعام، والأولى أنَّ الابن هو الذي يُقطِّع لوالده، لكن تعرف أن الوالد يضيق إذا قُطِّعَ له اللحم كأن يكون قد تقدَّم في السِّن ونحوه، حتى أنِّي رأيتُ بعضهم أنَّ والده أخذَ لحمًا ليأكلها فأخذها من يده وقال: أنا أحقك بها منك، تأكل الطيب؟! فضحك ودعا له.
فالقصدُ أنَّ إدخال السُّرور مَطلبٌ ما لم يكن في مَعصية.
{أحسن الله إليكم شيخنا.
لو ذكرتم لنا بعض صور بر الوالدين}.
الصُّور كثيرة، ونستفيد مما تقدَّمَ من أخلاق الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلاةُ والسَّلامُ: حسن التَّلطُّف في النداء لهما كقول إبراهيم: ﴿يَاأَبَتِ﴾ .
كذلك من صور بر الوالدين: التَّبسُّم والبشاشة عند لقائهما، ورأيتُ بعض الفضلاء يكتب اسم والدته على الجوال "الغالية الجوهرة والدتي"، ويكتب اسم والده "الغالي الذهبي والدي"؛ فهذا طيِّب، فإذا رأى أبوه أو رأت أمه هذه التسمية تفرح وتسر وتدعو.
ومن صور برِّ اللوالدين: أن لا يتضجَّر الولد، قد تقول بعض البنات: لماذا تأمرني أمي وعندي فلانة أختي ما تأمرها؟ أو يقول ابن: لماذا والدي يأمرني؟
أنت تقرَّب إلى الله بتنفيذ طلبهما، واحمد الله أنَّهما كلَّفاكَ لأنَّهما يرتاحانِ لك، أو أنَّهم يرون أنَّ إخوانك الآخرين عندهم من الأشغال ما يكفيهم، فإذا طلب منك والدك طلبًا، أو طلبت الأم من ابنتها طلبًا؛ لا تتضجَّر فيذهب أجرك، ولا تمنَّ على والدتك أو والدتك وتقول: فلان أخي ما تُكلِّفه! بل افرح، لأنَّ هذه عبادة، فإذا كنتَ تذهب وتصلِّي وتصوم وتتصدَّق؛ فإن طاعته لوالديك عبادة متعدِّية، فطاعتك لهما أفضل من قيام الليل وصيام النَّهار.
قال بعض السلف: "بَاتَ أَخِي عُمَرُ يُصَلِّي وَبِتُّ أَغْمِزُ قَدَمَ أُمِّي وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لَيْلَتِي بِلَيْلَتِهِ"[56]، فهذا يُصلِّي وهو على خير ولاشكَّ وهو مأجور، لكن هذا منعه من الصلاة أنَّ والدته تتألَّم قدميها وتحتاج إلى تدليكٍ أو تهميز لتخفيف آلام قدمها، فهذا أعظم وأشرف.
كذلك من صور برِّ الوالدين: ليس فقط تنفيذ ما يُريدان؛ بل أعرض عليهما، وقل: هل تريدان شيئًا؟ أنا مستعد لأي شيء تأمرانِّي به؟ فأنتّض مشكورٌ، ولكن أحيانًا قد يستحي الوالد ويقول: أثقلتُ على فلانٍ وأتعبته، وهذا يحصل، فمن باب البر تقول لوالدتك: ترين شيئًا؟ يا والدي تريد شيئًا؟ حتى لو ما أراد شيئًا فالكلمة هذه تزيده راحةً وسرورًا، ونحن آباء نشعر بهذا الشيء.
أيضًا من البر أن يتصل بهما إذا سافرَ، والآن وسائل الاتِّصال -بحمد الله- قرَّبت البعيد، ويسَّرَت العسير، وجمعت المتفرق بفضل الله -عزَّ وجلَّ.
{بعضهم يقول: تأدية أوامر الوالدين هذا واجب وليس بر، وإنَّما العرض هو البر. فهل هذا صحيح؟}.
إذا أمراك بشيء في غير معصيةٍ يجب أن تطيع أمرهما، وأما لو أمراك بمعصيةٍ فلا، وكون الإنسان يعرض فلا شكَّ أنَّ هذا أعلى درجات البر.
وهنا تنبيه! بعض الآباء والأمهات قد يكون مُصاب بما يسمى بالمصطلح الطبي "الزهايمر" فتجد أنَّ الأب يُكرر السؤال، ما جاء فلان؟ ما جاءت فلانة؟ تجد بعض الأبناء يتضجَّر! لا، هذا موطن الصبر، فكم تحمَّلونا ونحن صغار؟ وكم أزالوا عنَّا الأذى؟ كم سهروا حتى ننام؟ وكم تعبوا حتى نرتاح؟
إذن؛ نتحمَّل ونتقرَّب إلى الله تعالى بالتَّحمُّل، ولعلَّ الكلام يكون له بقيَّة.
اللهم ارزقنا برَّ أمَّهاتنا وآبائنا، سواء كانوا أحياءً أو أمواتًا، أسأل الله -جلَّ وعلا- أن يرزق الأبناء والبنات برَّ أمَّهاتهم وآبائهم.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
------------------------
[50] صحيح مسلم (1955).
[51] صحيح البخاري (2465)، واللفظ له، صحيح مسلم (2121).
[52] سنن ابن ماجه (1609).
[53] مسلم (1631).
[54] أخرجه البخاري (2620)، ومسلم (1003).
[55] صحهه الألباني في صحيح أبي داود (3214).
[56] رواه الذهبي ونسبه لابن المنكدر/ كتاب تاريخ الإسلام (3/521). 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ