{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء
العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ عبد العزيز بن محمد السدحان، فأهلًا وسهلًا
بكم فضيلة الشَّيخ}.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، حيَّاك الله وبيَّاك يا شيخ عبد الرحمن، وحيَّا
الله المشاهدين والمستمعين والحاضرين معنا جميعًا.
{أهلًا وسهلًا بكم.
في هذه الحلقة -بإذن الله- سنتحدَّث على برِّ الأنبياء بوالديهم.
نستمع للمقطع الأول: ﴿يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ
يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّ﴾ [مريم: 43]}.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلم على رسول الله.
تقدَّم في المجلس السَّابق أنَّ هذا هو النِّداء الثَّاني للخليل -عليه السلام-
لأبيه، وكان النَّداءُ الأوَّل: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا
لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئً﴾ ، وتقدَّم أنَّ الخليل
-عَلَيْهِ السَّلام- استعمل أرقَّ وألطفَ عبارات البنوَّة في خطاب الأبوَّة، وهنا
قال: ﴿يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ﴾ ، لم يقل
له: "أنت جاهل" مع أنَّ هذا مُؤدَّى الكلام، فلم يقل له: "أنت جاهل"؛ لأن كلمة
"الجهل" تُؤثِّر، حتى قال ابن حزم في كتاب "مداواة الأخلاق والسير": "من قبح الجهل
أن صاحبه لا يرضى أن يُوصَم به"، مع أنه يعرف أنه جاهل، فالخليل -عَلَيْهِ
السَّلام- ما رمى أباه بالجهل، وهذا من كمال الأدب، وحسبك به -عَلَيْهِ السَّلام-
فهو خليل الرحمن.
قال: ﴿يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ﴾ فيه من فقه إبراهيم
-عَلَيْهِ السَّلام- وأنَّه من باب البرِّ والتَّرفُّق وبيان الحق، فيقول: يا أبتِ
ما أتكلَّم به ليس من هوى النَّفس، أو أُحاكي فلانًا وفلانًا؛ وإنَّما علم، والعلم
ضد الجهل.
قوله: ﴿مَا لَمْ يَأْتِكَ﴾ ، فيه نسبةُ أبيه إلى العلم، ومعنى الكلام: أنَّك عندك
علم يا والدي، ولكن الذي عندي زيادةٌ على ما عندك.
قال: ﴿فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّ﴾ ، ما طلب حظًّا لنفسه، وما طلبَ
مصلحة دنيويَّة، وإنَّما أراد الخير لوالده.
فقال: ﴿أَهْدِكَ صِرَاطً﴾ ، وأكَّده بقوله: ﴿سَوِيًّ﴾ ، أي: مُستقيمًا.
ولو أنَّ الابن الذي يعظ والده أو يعظ أمَّه إذا كان أحدهما واقعًا في خطأ شرعي
تذكَّر هذا المسلك من الخليل -عَلَيْهِ السَّلام- لكان خيرًا، ولكن بعض الأبناء
يتضجَّر ويتشكَّى ويشتَكِي والداه إلى مَن عرف ومَن لا يعرف، فيقول: فيهما كذا
وفيهما كذا!
ويُقال له: ما الأسلوب الذي نصحتَ به والديك؟ فهما مُسلمان، ولو كانا كافرين لكان
ينبغي لك أن تصاحبهما معروفًا، فكيف إذا كانا مُسلمين، فإذا تلوث أحدهما في معصية
فينبغي التَّرفُّق والتَّحبُّب والتَّأدُّب ومعرفة حقِّهما.
ويُمكن أنَّ الولد ما عنده أسلوب، وقد يُعرَف عنه أنَّه إنسان غضوب أو اندفاعي، أو
يستخدم عبارات جارحة؛ فيُقال: لا تنصحهما ولا تخاطبهما، وَسِّط مَن تعرف منه العقل
والأدب من إخوانك أو من قرابتك، وهذا منهج لكل مَن أرادَ أن ينصح، فإذا ما كان عندك
أسلوب لتنصح جارك أو تنصح زميلك في العمل وتنصح أخًا أو صديقًا لك؛ فادعُ الله له
بالتَّوفيق، وكلِّف غيرك أن يتولَّى نصحه بدلًا منك.
{هل يُقال في الجملة أنَّ الإنسان لا ينصح والده، خصوصًا إن كان صغيرًا في نظرهما،
فيُكلِّم زميلًا أو جارًا؟}.
الأمر يختلف باختلاف نفسيَّات الوالدين، يعني بعض الآباء قد يكون حجريًّا ما يقبل،
والقصدُ هو أن يُهدَى بإذن الله إلى الصراط المستقيم، فيُسلَك معه مسلكًا آخر، يعني
أحيانًا الأم تصر على شيء، ويعلم الأولاد أنَّها مخطئة، ويعرفون أنَّ كلامهم معها
سيزيدها إصرارًا، فمن السياسة الشرعية والأساليب التربوية أن تسحب بساطك، وأن
توسِّط مَن كانت أمُّك تقدِّره من محارمها أو من أهل العلم أو من صديقاتها، أو من
جيرانها؛ فأحيانًا في لحظة واحدة أو جملة واحدة يقولها يقولها فلان تتغير.
وأذكر مرة من المرَّات أن أحد الآباء أصرَّ على أمرٍ فيه حرمان للأولاد من خير
كثير، وأصرَّ إصرارًا، وكلما طلب منه أولاده زاد إصراره، فكلموا أحد أصدقائه الذي
يُجله ويقدره، فهذا الصديق من فقهه وأدبه وسياسته الدَّعويَّة أتى بنفسه إلى البيت،
فلما خرجَ له الوالد قال له: ما تريده تمَّ.
فهذا هو الصواب، إذا كنتَ تعرف أنَّ ليس لك أسلوب وليس لك قبول، فاسلك السبيل
الأحسن والأسلم والأقوم في سبيل تعديل الخطأ، سواء كنتَ أنتَ المباشر لهذا أو أنت
المتسبب لمباشر آخر.
المقطع الثاني: ﴿يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ
لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّ﴾ [مريم44].
أتمنى أن يؤخَذ منهج الخليل -عَلَيْهِ السَّلام- في بر الوالدين كرسالة ماجستير
علميَّة، أو يُؤخَذ عمومًا منهج الأنبياء في البر كرسالة دكتوراه، فإبراهيم
-عَلَيْهِ السَّلام- في هذه الخطابات الأبويَّة قال أولًا: ﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا
يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ﴾ قبَّحَ ذلك المعبود لفقدانه السَّمع والبصر.
ثانيًا: بيَّنَ أنَّه قد أتاه من العلم ما لم يأتِ والده، مع أنَّه نسبَ والده
للعلم ولم يرْمِه بالجهل، فقال: ﴿إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ
يَأْتِكَ﴾ .
ثالثًا: صرَّح بالنَّهي ﴿لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ﴾ ؛ فوطَّأ توطيئات سابقة، فلو
قال له أولًا: أنت تعبد الشيطان؛ فربما يضجر.
وأكَّد بقول: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّ﴾ ، فأقامَ الحُجَّةَ،
وأوضحَ المحَجَّةَ كالشَّمس في رابعة النَّهار، وما بقي لوالده من حًجَّة.
المقطع الثَّالث: ﴿يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ
الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّ﴾ [مريم: 45].
عليه الصَّلاة والسَّلام، وعلى نبيِّنا وعلى جميع أنبياء الله.
قال: ﴿يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ﴾ ، يعني:
الآن بيَّنتُ لك قبحَ ذلك المعبود، وأنَّه لا يسمع ولا يُبصر، ولا يُغني عنكَ
شيئًا، ثم تلطَّفَ معه، فقال: إنَّ عنده علم زيادة على ما عنده، ثم صرَّح له بأنَّه
يعبد الشيطان، ثم قال: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ﴾ ،
فهذا ترتيب نبوي يدلُّ على كمال عقول الأنبياء، وقوَّة إيمانهم، وعظيم علمهم،
وبصيرتهم وحكمتهم.
فهذا التدرُّج والتوطئة لأبيه حتَّى بيَّنَ أنَّ خاتمة الأمر إذا خالف أمره وعصاه
فإنَّه يخاف أن يمسَّه عذاب، وكلمة ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ
الرَّحْمَنِ﴾ فيها إظهار شفقة البنوَّة على مقام الأبوَّة، فحفظَ حق الأبوَّة
بالخوف عليهم.
ثم أنَّ هذا العذاب الذي يمسَّكَ من الرحمن هو عدلٌ من الله، جزاء وفاقًا لِمَا
فعلتَ، فأقام الخليل -عَلَيْهِ السَّلام- الحجَّة، وأوضحَ المحجَّة.
المقطع الرابع: ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ
تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ
سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّ﴾ [مريم: 46- 47].
مع كل هذه النداءات والتَّلطُّفات وبيان الحجَّة وإيضاح المقصد؛ كان جواب والد
الخليل في جملةٍ واحدةٍ ﴿أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ
لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّ﴾ ، رجم وتعذيب وتعزير مع
الهَجر، ومع هذا كله انظر لأخلاق الأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام- وياليت مَن
عقَّ والديه تأمَّل مثل هذه الآيات، ويا ليت مَن قصَّر في حقِّ والديه وأذاقهم
الأمرَّين يتأمَّل!
قال الخليل: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي
حَفِيًّ﴾ ، فهذا مقام خليل الرحمن، فإبراهيم عزمَ على أن يستمر في الاستغفار، لكن
الله نهاه، فقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا
عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ
لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة: 114]،
فوفَّى بوعده.
والشَّاهد في هذه القصَّة: أنَّ هذه المحاورة جمعت برَّ الوالدين والعقوق نصًّا
وتضمُّنًا ومفهومَ مخالفةٍ، وانظر بعدَ كلِّ هذه المحاولات، فإبراهيم نبي وهو خليل
الرحمن ويُوحَى إليه، وقد بيَّنَ الحق لوالده، ومع هذا كله أصرَّ والده، بل
وتوعَّده، ومع هذا كله ما قال له إبراهيم: بيَّنتُ لك، ولا خير فيك، وأنت...،
وأنت...!
بل قال: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكَ﴾ وهذا من إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلام- استمرار في
البرِّ، فمع كل ما حصل قال له: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكَ﴾ ، ثم قال: ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ
رَبِّي﴾ ، أيُّ برٍّ بعدَ هذا؟! لو قُسِّم هذا البرُّ على الناس لكفاهم.
المقطع الخامس: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّ﴾
[مريم: 32].
هذا في مقام عيسى -عَلَيْهِ السَّلام-، فعيسى لم يكن له أبٌ بقدرة الله تعالى، وكل
الأنبياء كانوا بارِّين بوالديهم، وبرهم هو أعلى بر ابن لأمِّه، وأعلى بر ابن لأبيه
وأمِّه.
والبِرُّ: هو أعمال الخير القوليَّة والفعليَّة، والأنبياء -عليهم الصَّلاة
والسَّلام- أفقه النَّاس وأرحم النَّاس بالنَّاس، وأعلم النَّاس بالله، وأدرى
النَّاس بحقوق الوالدين والقيام ببرهما.
{أحسن الله إليكم.
لو تذكرون لنا بعض من صور برِّ الوالدين، وإن كنَّا أخذنا تمهِدَةً في الحلقةِ
الماضية}.
حدَّثني سماحة الشَّيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ -حفظه الله- وحدَّثني غير
واحدٍ من المشايخ أنَّ الأمير سعود بن محمد بن عبد العزيز بن فيصل، وأبوه الأمير
محمد بن عبد العزيز، أنَّ هذا الأمير "سعود" كان مثالًا في برِّ والده، فسمعتُ
أنَّه كان إذا جلس والده في مجلس جلسَ عندَ قدميه، ورأيتُ أحد أولاده بعيني يُلبسه
النعال، يعني رأيت أحد أبناء الأمير سعود يضع النعال في قدمه، فقلت له: يا أمير
سعود حدثني مشايخي أنَّك بارٌّ بوالدك وبارٌّ بقدميه، والآن رأيتُ هذا! فقال:
مُقصِّرٌ معهم، مُقصِّرٌ معهم.
وأنا ذكرت هذا عن الأمير سعود -رَحِمَهُ اللهُ- لأنَّه كما يُقال: "ليس الخبر
كالمعاينة".
وقيل:
يا بنَ الْكِرَامِ ألاَ تَدْنُو فَتُبْصِرَ مَا ** قَدْ حَدَّثُوكَ فَمَا رَاءٍ
كَمَنْ سَمِعَا
والأصل في المجتمع الخيريَّة والحمد لله، ونحمدُ الله أنَّنا نسمع أنَّ بر الأولاد
والبنات بالآباء والأمهات هو الأصل، وقد تحصُل حالات شاذَّة، نشاز في المجتمع، وفي
الحقيقة قد عضَّ آباءٌ أصابع أيديهم من النَّدم والحسرة لمَّا رأوا من عقوق
والديهم، وفي هذه الحالات تُذكر صور بر الأبناء للآباء ترغيبًا لهم.
{لو تذكرون لنا شيخنا مواطن يتضاعف فيها بر الوالدين}.
أستحضر الآن في ذهني أربعة أمورٍ:
الأوَّل: إذا تزوَّجَ أحد الأبناء أو البنات، فينبغي للمتزوِّج أن يُضاعف برَّ
الوالدة والوالد؛ لأنَّ البنت كانت مع أبيها وأمها في البيت، تراها أمها أمام
عينيها، تأكل معها، تتحدَّث معها، فإذا خرجت البنت إلى بيت الزوجيَّة سيشعر
الوالدان بمكان شاغر، فممَّا يُعينُ على سدِّ هذا المكان كثرة الاتصال والزيارة،
وإشعار الوالد والوالدة أنَّها معهما.
وكذلك الولد إذا تزوَّج، وأنا دائمًا أوصي الأبناء بمضاعفة البر إذا تزوَّج.
الثَّاني: إذا سافر أحد الوالدين، فيُضَاعَف البر لمن بقي.
الثَّالث: إذا مرض أحد الوالدين.
الرَّابع: إذا مات أحد الوالدين يُضاعف البر للحيِّ منهما.
قد يقول قائل: أنا أتحدث مع الأم بعد وفاة الوالد!
صحيحٌ، لكن لغة الولد كزوج مع زوجته تختلف عن لغة الابن مع أمِّه.
{أحسن الله إليكم.
حدثونا عن صور لعقوق الوالدين}.
من صور العقوق: التَّضجُّرِ عندَ مطالبهما، حتَّى لو قضَى الولد مطلبَ والديه يعتبر
عاقًّا لهما، إذا قال الأب أو قالت الأم للابن: أحضر كذا...؛ فيتعبَّس ويتلفَّظ
بألفاظٍ، ثم يُنفِّذ طلبهما.
فيُقال له: أنت عاقٌّ، ولا خيرَ فيما فعلتَ، لأنَّك أدخلتَ ما فعلتَه التَّأفُّفَ
والتَّضجُّر والعبوس.
بعض الناس عنده من التَّبسُّم والدُّعابة ما لو قُسِّم على سبعين لكفاهم، فإذا حضر
عند والديه لا يتبسَّم! وإذا سألته يقول: أخشَى أن يظنَّان أنَّ هذا بخسٌ من
هيبتهما.
وهذا ليس بصحيح، فكثير من الأبناء والبنات لهم بشاشة مع والديهم، ودعابة لا تجرح
مقامهما، ولا تذهب بمروءة الابن.
ومن صور العقوق: إذا أتى الوالد من سفر وكأنَّه آتٍ من مِشْوارٍ خرج إليه من ساعة،
فيكون سلامه عليه بعدَ أربعة أو خمسة أيامٍ كسلامه عليه بعدما خرج من المسجد!
أَشعِرْ والدك بقيمته، وأَشعِرْ أمَّك بقيمتها، والخطاب هنا للابن والبنت.
وأقولها رسالة للأبناء والبنات: أحيانًا يكون الابن له أصدقاء من عشر سنوات أو أقل
أو أكثر، ما يعرفون والد صديقهم، وبعض البنات يكون بينهن زيارات وما يعرفون أم
صاحبتهن، والأولى أنَّك إذا جاءك صديقك أن يسلِّموا على والدك، ولكن بعضهم -مع
الأسف- يحرص على دعوة أصدقائه حيال سفر والده، أو تحرص البنت على دعوة صديقاتها في
حال سفر الوالدة؛ لأنَّها تتضايق من وجودها، والأولى أن تُعرِّف البنت صديقاتها
بوالدتها، وأن يُعرِّف الابن أصدقاءه بوالده، فإذا رأى الأصدقاء والدك في مكان
تحفوا به ووقَّروه وقدَّروه، ويكون لك الفضل بعد الله، وكذلك الأم إذا رأتها إحدى
صديقات ابنتها في مكان، في زواج أو عزاء أو مناسبة؛ تقول هذه أم صديقتي فلانة،
فتسلِّم عليها وتقبِّل رأسها وتحتفي بها، فتُدخل السُّرور بهذا السَّلام على الأم.
{أحسن الله إليكم.
لو تذكرون لنا فضيلة الشيخ بعض ثمار بر الوالدين}.
من أعظم ثمار البر: أنَّه طاعة لله تعالى، وطاعة للرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فإنَّ الله أمرَ بذلك في كتابه الكريم كما سمعنا في غير آيةٍ، وأمرَ
بذلك الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن ثمار البر: أنَّه من أحبِّ الأعمال إلى الله، فلما سأل الصحابي الرسولَ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أحب الأعمال، فذكر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- الصلاة، ثم ذكر بر الوالدين.
ومن ثمار بر الوالدين: بر الدُّعاء، ولا يخفى على المشاهدين والسامعين حديث أصحاب
الغار الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، فقال أحدهم: "كان لي أبوان شيخان
كبيران...".
وأويس القرني -رَحِمَهُ اللهُ- كان بارًّا بوالدته، وكان مقبول الدُّعاء.
ومن ثمار البر: البركة في الرزق، والسَّعة فيه، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «مَن أحَبَّ أنْ يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، ويُنْسَأَ له في أثَرِهِ،
فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»[57]، فإذا كانت صلة الرحم من أسباب البركة في العمر وبسط
الرزق؛ فإنَّ بر الوالدين من باب أولى.
{أحسن الله إليكم شيخنا.
يقول بعض الناس: إنَّ البرَّ ينتهي بموت الوالدين. فهل هذا صحيح؟}.
هذا فهمٌ قاصر، فمن عظيم حق الوالدين أنَّ برهما يبقى بعدَ موتهما، ولهذا يقول بعض
الفضلاء: الحمد لله أدَّيتُ برَّ الوالدين وقد رضيا عنِّي. فيُقال له: أنتَ مأجورٌ
ومشكورٌ؛ بل والله مغبوطٌ أنَّهما قد رضيا عنكَ، لكن برَّهما لا ينقطع بعدَ موتهما،
فيبقى لهما برٌّ بعدَ موتهما، كالدُّعاءِ لهما، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: « إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن
ثَلَاثَةٍ»، وعدَّ من الثلاث «أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَه»[58].
أيضًا من علامات برِّ الوالدين بعدَ موتهما: صلة ودِّهما، فإذا علم الابن أنَّ
فلانًا من أصحاب والده، فاذهب إليه أو اتصل به وسلِّم عليه، وإن كان مريضًا فعُدْه؛
لأنَّ الابن إذا زارَ صديق والده سيدعو ذلك الصَّديق لوالدة، وإذا اتَّصلَت البنت
بصديقةِ أمِّها أو ذهبت لتزورها؛ سيترتَّب عليه الأجر من الله، وأنَّ هذه المرأة
ستدعو لصديقتها الميِّتَة وتذكر بعض محاسنها لابنتها.
أيضًا قضاء ديونهما، فإذا استطاع الأولاد -ذكورًا أو إناثًا- استطاعوا قضاء ديون
والديهم فلا شكَّ أنَّ هذا من البر.
وكذلك ذكرهما بالجَميلِ عند الأحفاد والأسباط، فيُحبِّب الوالدين الميِّتين إلى
الأحفاد والأسباط، فيُكثرانِ من الدُّعاء لهما.
{بقي مقطع لعلَّنا نختم به، قال تعالى: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ
جَبَّارًا عَصِيًّ﴾ [مريم: 14]}.
هذا يحيى -عَلَيْهِ السَّلام- وكلُّ الأنبياء برُّوا والديهم.
قد يقول قائل: كيف كان الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بارًّا بوالديه،
وقد مات أبواه قبلُ؟}
يُقال: عمُّ الرُّجل صنو أبيه، والرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- برَّ
عمَّه برًّا لو قُسِّمَ على ملايين لكفاهم، حتَّى كان عمه في فراش الموت فقال له
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أيْ عَمِّ، قُلْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ،
كَلِمَةً أُحَاجُّ لكَ بهَا عِنْدَ اللَّهِ»[59]، يسترجيه ويستعطفه، فهذا من أعظم
أنواع البر.
وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للعباس: «يَا عمِّ أَلَا أصِلُكَ، أَلَا
أحْبُوكَ»[60]، وهذا عمه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فبرُّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأعمامه هو برٌّ للآباء، واستمرار
أنَّ الأنبياء أبرُّ الناس بآبائهم ومَن يقوم مقامهم، وأبرُّ النَّاس بأمَّهاتهم
ومَن يقوم مقام أمَّهاتهم.
رزقنا الله جميعًا برَّ أمَّهاتنا وآبائنا أحياءً وأمواتًا.
{شكرَ الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين
حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن
أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم
ورحمة الله وبركاته}.
-------------------------
[57] البخاري (5986)، ومسلم (2557).
[58] صحيح مسلم (1631).
[59] البخاري (3884)، ومسلم (24).
[60] سنن الترمذي (482)، صححه الألباني في صحيح الترمذي .