الدرس الحادي عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالعزيز بن محمد السدحان

إحصائية السلسلة

4018 12
الدرس الحادي عشر

التفسير

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ عبد العزيز بن محمد السَّدحان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
حيَّاكَ الله يا شيخ عبد الرحمن، وحيَّا الله المشاهدين والسَّامعينَ جميعًا.
{استكمالًا لِمَا بدأناه في الحلقات الماضية من أخلاق الأنبياء في القرن الكريم.
نستمع وإيَّاكم إلى المقطع الأول: ﴿قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ﴾ [الشعراء 167 - 173]}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّمَ على نبيِّنا محمدٍ.
تقدَّم الكلام عن عناية الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- بأهليهم، وتقدَّم قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي»[75]، ويستفاد من هذا الحديث: أنَّ الأنبياء هم خير الناس لأهليهم، سواء كان أهلوهم على دينهم أو على خلاف دينهم، ومن هذه الخيرية -كما سمعنا في الآيات: الدُّعاء لأهليهم بالنَّجاةِ عندَ حلول العقوبة لمَن خالفهم، ولوط -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- مع ما قاسى من قومه من إهانة أضيافه والفعل المشين والسُّخرية والاستهزاء؛ ومع هذا كله لَمَّا حانَ أوان عقوبتهم ما نسيَ أهله، كما أنَّ نوح -عليه السَّلام- لم يحل بينه وبين ابنه إلَّا الموج ومازال مستمرًّا معه، وكما أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لم يحُلْ بينه وبين عمه أبي طالب ودعوته إلى الخير إلَّا الموت، فكذلك لوط -عليه السلام- ما نسيَ أهله، فقال تعالى عنه: ﴿رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ﴾ ، ففي الغالب عند مواطن العقوبات والفتن والمصائب والنَّوازل تَزهل النُّفوس عن النُّصوص، ومع ذلك كان الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- أكثر الناس عناية بأهليهم في السراء والضراء.
{قد يُبتلى بعض الصالحين بابن أو ابنة أو زوجة. فما العمل أحسن الله إليكم؟}.
ابتُليَ إبراهيم -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- بأبيه، وابتُليَ نوح -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- بابنه، وابتُلي لوط -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- بزوجته، وابتُلي يوسف -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- بحسدِ إخوته، وابتُلي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بعمِّه أبي لهبٍ وعمِّه أبي طالب؛ فالذي ينبغي هو الدُّعاء لهم بالتَّوفيق والهداية، والتَّعامل الشَّرعي كلُّ أحدٍ بحسبه، فيتعامل مع الأب كما تعامل إبراهيم -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- فيتقرب إليه بأرقِّ عبارات البنوَّة في خطاب الأبوَّة، ونوح -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- كما قال لابنه: ﴿يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾ ، أرق عبارات الأبوَّة في مخاطبة البنوَّة، ولوط -عليه السلام مع امرأته ودعوتها ونصحها ووعظها، وكذلك يوسف مع إخوانه، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- مع قومه؛ كلهم حاولوا وبذلوا الجهود، وأقاموا الحجَّة وبيَّنوا المحجَّة، فهذا هو الواجب، ويكون الإنسان قد بذل ما عليه، وما لا يستطيعه ليس مكلَّفًا به.
المقطع الثاني: ﴿إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ [النمل: 7].
عناية الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- بأهليهم ليست مقصورة فقط على دعوتهم للخير؛ بل على ما يحتاجونه في أمور معاشهم، فموسى -عليه السلام- لمَّا رأى النار ذهبَ وقال لأهله: ﴿سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ ، تصطلون: أي لاتِّقاء البرد.
فمسؤولية الإنسان تجاه أهله -وبخاصَّة أهل العلم- ليست مقصورة فقط على تبليغ العلم؛ بل عليهم مسؤوليَّة مضاعفة، فمع تبليغ العلم عليهم القيام بحاجاتهم الدنيويَّة بما يُصلح معاشهم.
وكما قالت أمُّنا عائشة -رضي الله عنها: كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- "يخصف نعله، ويحلب شاته".
الشَّاهد: أنَّ الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- كانوا يُعنون بأهليهم فيما يتعلق بدعوتهم إلى الخير وتحذيرهم من الشَّر، والقيام بما يُصلح معاشهم.
وحديث «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ» أعظم الخيريَّة للأهل هي دعوتهم للخير، ثم القيام بما يُصلح أمورهم.
المقطع الثالث: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران:37-39].
من أخلاق الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- أنَّهم أعظم الناس قيامًا بالمسؤوليَّة، فلمَّا تكفَّل زكريا بمريم قام عليها حق القيام، واستشعر مسؤوليَّته -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- ولهذا كان يتفقَّدها صباح مساء، وفي كل حينٍ، فلمَّا رأى عندها رزقًا ما أحضره هو، ولا أمر بإحضاره، ولا علم بمَن أحضره؛ كان من تمام المسؤولية أن يسألها ﴿أَنَّى لَكِ هَذَ﴾ ، وهذا من عنايته بالقيام بالكفالة.
فأجابته ﴿هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ ، ومن أخلاق الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- الحمل على المحمل الطَّيب وتصديق المتكلِّم ما لم يتبيَّن خلاف ذلك، ومريم كانت عفيفة طيبة -رحمها الله.
فلمَّا عَلِم أنَّ هذا الرزق من الله ما حسدها -معاذ الله- فالأنبياء أبعد الناس عن هذه الخصال؛ بل دعا ربَّه بدعوة تتعلق بعناية الأنبياء بالذُّريَّة، فتمنَّى ودعا ربَّه بطيب الذريَّة قبل وجودها، قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ أكثر الناس يدعو أن يرزقه الله الذرية، وأن يهبه الله غلامًا أو جارية، لا مانع من هذا؛ لكن فقه الأنبياء واستشعار عظيم نعمة الله بما عنده من الخير أنَّه دعا ربَّه بطيب الذُّريَّة قبل وجودها، فبعض الناس ما يدعو بطيب الذرية إلَّا بعد وجودها، أو بعدَ بلوغها سنًّا معيَّنًا، لكن من فقه الأنبياء الواسع -وهم أعلم الناس بالله- أنَّهم يدعون ربَّهم بصلاح وطيب الذرية قبل وجودها.
وهنا الأنبياء دعوا لأبنائهم وذريَّاتهم بالصَّلاح والطِّيب وهم في العدم، وبعض الناس يدعو على أولاده بالهلاك وهم في الوجود، ولهذا فإنَّ من الأخطاء التَّربويَّة عند بعض الوالدين الدُّعاء على أولادهم بقصد رَدعهم وكفِّهم وزجرهم، وهذا ممَّا لا يجوز، فقد جاء في الحديث عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أنه قال: «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ لَا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ»[76]، فلا ينبغي الدعاء عليهم، فقد تُجاب الدَّعوة ابتلاءً وعقوبةً لمن دعا.
وأذكر في أحد دروس الشيخ عبد الله بن جبرين -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- كنتُ أنا القارئ للأسئلة، فكان من ضمن الأسئلة أنَّ امرأة تقول: عندي ابنًا عمره أربع سنوات، وكان كثير الطلبات والإحراج، فأقلقني وأشغلني، فدخل مرة عليَّ وأنا في المطبخ وأكثر الطَّلب علي، أريد كذا، أريد كذا؛ فقلت له: اصمت قطع الله لسانك! فأُصيبَ بالبكم ما تكلَّم بعدها. فالشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وبَّخها وعلَّمها الطَّريقة الشَّرعية، وأنَّ هذا ما ينبغي.
وبعضهم يزيد مع الدعاء على أولادهم اللعن، والعجب أنني سمعتُ أحدهم قديمًا يلعن والد ولده -يعني: يلعن نفسه- فهذا جهل، نعم قد يُعاقب الوالد أولاده، وقد يزجرهم ويعزرهم إما بحرمانهم من مالٍ أو من ذهابهم إلى مكانٍ؛ لكن يتجنَّب الدُّعاء عليهم وسبهم وشتمهم.
{هل يُستفاد من قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ القدوة العمليَّة أو الفعليَّة؟}.
لاشك، القدوة الفعليَّة سواء كانت قولًا يقوله، أو أفعالًا يفعلها؛ فهذه من أعظم ما يُؤثِّر في نفوس الأبناء.
ونسمع بعضهم يقول: إنَّ المعلم هو القدوة الأولى للتَّلاميذ؛ لا شكَّ أنه قُدوة، ولكن الصَّحيح أنَّ القدوة الأولى هو الأب، فالأب قبل المعلم وقبل الصَّديق؛ لأنَّ الابن يعيش مع أبيه، ويراه صباح مساء، ويأكلان على سِماط واحد، يُسافران سويًّا؛ فتصرُّفات الأبِ عبارة عن مسلك للابن.
وأنبه الآباء! فبعضهم ابتلى بمعاصٍ وقد يفعلها أمام أولاده، وهذه جريمة في حق الأبناء، يعني: شخص مبتلى بمخدرات تجده يتعاطى في البيت، فهذه مُصيبة! نسأل الله أن يهدي ضال المسلمين.
ويُقال له: جاهد نفسك، واتقِ الله، فهذه محرَّمة.
بعض المبتلين يقول: أتحاشا أن أفعل ذلك أمام أولادي.
فيُقال: إنَّ هذا بعضُ نصرٍ على الشيطان، ولكن ينبغي الاستمرار على جهاد نفسك حتَّى تتخلَّص من المعصية، لكن كونه يُدخِّن أمام أولاده، أو يُبتَلَى بشرابٍ أمام أولاده، فهو الآن يهدم أسرته.
يقول الشاعر:

وَيَنشَأُ ناشِئُ الفِتيانِ مِنّا ... عَلى ما كانَ عَوَّدَهُ أَبوهُ

ويقول الثاني:

وَالنَّفْسُ كَالطِّفِلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى ... حُبِّ الرَّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ

نفسُ الإنسانِ إذا عوَّدها اعتادت، كذلك إذا عوَّد أولاده اعتادوا.
المقطع الرابع: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ [طه: 132].
من مسؤوليَّة الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- كما تقدَّم أنهم أحرص الناس على تربية أهليهم على الخير.
هنا قوله: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ﴾ ما قال: "واصبر"، والعرب إذا زادت في المبنى فمن لازم ذلك الزيادة في المعنى، ولذلك جاء في سورة الكهف: ﴿مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرً﴾ و ﴿مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرً﴾ .
وحرف الطاء في قوله: ﴿وَاصْطَبِرْ﴾ فيه المصابرة على مجاهدة النفس، وأنَّ أمر الأولاد بالصلاة يحتاج إلى مُصابرة وجهاد على الاستمرار.
وبعضهم يقول: كلمتُ ابني أكثر من مرَّة أن يُصلِّي!
نقول: كلِّمه كل وقت وتلطَّف معه بالحكمة، لا اللين دائمًا ولا الشِّدَّة دائمًا، لكن الحكمة أن تضع الشيء في موضعه، فادعهم ولا تقلق، فنوحٌ -عليه السلام- مازال مع ابنه حتَّى حال بينهما الموج، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- مازال مع عمِّه حتَّى حال بينهما الموت.
والغالب أنَّ الوالد والوالدة إذا لزما الأمر بالصَّلاة فإنَّهما يُعينانه على تعظيم شأن الصلاة والحرص عليها حتَّى ولو كان يُصلِّي، وإن كان الابن مقصِّرًا فكثرة الأوامر بحكمة تصرفه عن ترك الصلاة.
وفي الآية نفسها ﴿لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ﴾ .
يظهر أنَّ من فوائد الآية: أنَّ أمر أهل البيت بالخير من أسباب الرزق، ومما يفتح الله -تعالى- به على أهل البيت بالرزق.
بعض الناس قد يكون عنده أعمال تجاريَّة ومع كثرة عمله يقول: إن ذهبت آمرُ أولادي سأتأخَّر عن طلب الرزق!
يُقال له: ارجع ومُرْهم وعظْهم بالحكمة والموعظة الحسنة وسيُفتَح لك أبواب كثيرة من الرزق.
ومما ذكره أهل العلم في باب طلب العلم أنَّ بعض طلَّاب العلم كان لا يجد وقتًا من كثرة كتابة الأحاديث والأسانيد والرواية عن الشيوخ، فاستشار شيخًا له من ضيق الوقت وكثرة العرض، فقال له الشيخ: عليك بقراءة القرآن!
هو الآن يُريد وقتًا زائدًا لكتابة الحديث، فإذا قرأ سيأخذ شيئًا من وقته.
قال: فقرأتُ القرآن، فبارك الله في وقتي.
ويُقال لِمَن كان تاجرًا: لا يشغلك طلب الرزق ولا تشغلك التِّجارة عن العناية بأهل بيتك عامَّة، وفي شأن الصلاة بصفة خاصَّة، بل اعلم أنَّ عنايتك بأمرهم بالصلاة والمتابعة لهم في الصلاة من أسباب رزقك وحلِّه وعدم وقوعك أو خسارتك.
{هل يُقال بشكل عام: إن من لزم الآخرة أتته الدنيا؟}.
لاشكَّ؛ ويؤكد هذا قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ»[77].
المقطع الخامس: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ [البقرة: 61].
من أخلاق الأنبياء: الحلم، وتحمُّل تصرُّفات المدعويين، فبنو إسرائيل طلبوا من موسى -عليه السلام- أن يدعو لهم ربَّه أن يُخرج لهم مما تنبت الأرض، فكان هذا هو همُّهم فقط، فكان يقول لهم: ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾ ، فما غضبَ ولا كهَرَ ولا تضايق أنَّهم دعاهم ثم يكون هذا مطلبهم.
وهذا يُستفاد منه: أنَّ على طالب العلم ومَن دعا الناس إلى الخير إذا ما تقبل الناس دعوته، أو طلبوا أمورًا تخالف ما أراد منهم؛ أن يتحمَّلَ وأن لا ينفعلَ، وأن يتصرَّف بالحكمة؛ لأنَّ بعض الناس يُغلِّب جانب اللين دائمًا وبعضهم يُغلِّب جانب الشِّدَّة دائمًا، وهذا ليس على إطلاقه؛ بل الصَّواب أن يستعمل الأسلوب الحكيم، وهو وضع الشَّيء في موضعه، فإن استعمل الليل في هذا الموضع ضرَّ، وذلك الموضع لو استعملَ الشِّدَّة ضرَّت؛ ولكن الحكيم -كما يُقال- كالأعمى لا يطأ الأرض حتَّى يفحصها بعصاه ويتأكَّد من سلامة المشي عليها، فالأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- مع ما حصل لهم من ابتلاء في تناقض المدعويين والتَّنطُّع في السُّؤال والعناد ما لو قُسِّمَ على آلاف لكفاهم، ومع ذلك كانوا أحلمَ الناس وأرفق الناس وأحكم الناس.
{أحسن الله إليكم.
قوله: ﴿اهْبِطُوا مِصْرً﴾ ، هل المقصود به "مصر" البلد المعروف؟}.
بحسب علمي القاصر أنَّ "مصر" هي البلد المعروفة الآن.
{أحسن الله إليكم.
أيضًا قوله: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ . ما معنى تقييدها بالحق؟}.
هي صفة كاشفة لا مفهوم لها، مثل قوله: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾ [المؤمنون/117]، هل هناك إله آخر له برهان؟!
مستحيل! فهذه صفة لا مفهوم لها.
وهم يقتلون الأنبياء ويزعمون أنَّ هؤلاء الأنبياء أتوا بدينٍ غير ما كانوا عليه، وأنهم سيفرقون الناس، وهؤلاء كَذَبة وظَلَمة وقَتَلَة، وجاء في الحديث: «فَرَأَيْتُ النبيَّ ومعهُ الرُّهَيْطُ، والنبيَّ ومعهُ الرَّجُلُ والرَّجُلانِ، والنبيَّ ليسَ معهُ أحَدٌ»[78].
المقطع السادس: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ [البقرة 67 - 72].
في الآيات من أخلاق الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: البعد عن الاستهزاء والسَّخرية، فلما قال قوم موسى: ﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُوً﴾ قَالَ: ﴿أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ .
ويُستفاد من ذلك: أنَّ الاستهزاء والسخرية من أخلاق الجاهلين، ولهذا نهى الله -عَزَّ وَجَلَّ- عن ذلك في قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن﴾ [الحجرات/11].
وفي الآيات من أخلاق الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: تحمُّل أسئلة الناس، هنا طلبوا أن يدعو ربَّه أن يُبيِّن لهم ما هي، فقال: ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ﴾ ، ومع ذلك أصروا وقالوا: ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَ﴾ قَالَ: ﴿إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَ﴾ ، ثم قالوا: ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَ﴾ ، فبيَّنَ لهم ذلك؛ فهذه الأسئلة تجعل الإنسان يخرج عن طوعه، فلو أنَّ مُستفتٍ سألَ كذا ثم كذا ثم كذا..؛ قد يضجر المسؤول وينهر السَّائل، ولكن على طالب العلم ومعلمي الناس الخير أن يتحمَّلوا أسئلة الناس، وبخاصَّة إذا كان ذلك بيان لما قد يسلكون به سبيل الخير.
قوم موسى تنطَّعوا، ولكن موسى -عليه السلام- جاراهم على تنطُّعهم وأجابهم ليزداد عليهم البيان وتقوم الحجَّة عليهم، ويتأكَّد البيان مرَّات ومرَّات حتَّى لا يكون لهم عذرٌ في عدم وصول الحق لهم.
وأحيانًا بعض السَّائلين قد يكون فيه ضعف في الفهم، وقد تكون لهجته غير لهجة المسؤول، فيحتاج السائل إلى زيادة في الإيضاح، فقد يطلب إعادة الجواب، وهنا ينبغي لطالب العلم أن يحتسب لأنَّ هذا نوعٌ من التَّعبُّد ولا يضجر؛ لأنَّ الضَّجر قد يقلب الخير إلى شر.
وبعض المعلمين قد يسأل طالبًا ويجده ما فهم، فإعادة الجواب مرتين أو ثلاثة لا تُؤثر على وقت التَّلاميذ، أما إن كانت تؤثر على وقتهم يُقدم المصلحة الكبرى، ولكن بعض المعلمين يعلم أنَّ الإجابة على سؤال الطالب لن تضر الطلاب الآخرين، ومع ذلك قد يمتنع أو يُعيد بضجر، فالطالب يتهيَّب أن يسأل المعلم مرَّة أخرى، ويترتب على ذلك كره الطالب لها المعلم، وقد يبغض المادة!
فيُقال لطالب العلم للمعلم: تحمَّلوا أسئلة الناس، لأنَّ هذا خير ساقه الله لكم، فقد تكونُ سببًا في مضاعفة محبَّة الناس للعلم.
{من المعلوم أنَّ بني إسرائيل شدَّدوا فشدَّد الله عليهم؛ فهل من صورٍ مُعاصرة من تشديد الإنسان على نفسه؟}.
عدم فهم النُّصوص الشرعية كفهم السَّلف الصَّالح إمَّا أن يكون إفراطًا أو تفريطًا؛ فبعض الناس مثلًا يتنطَّع في أمر الطَّهارة ويُشدِّد على نفسه، وكذلك في بعض المعاملات الماليَّة التي يكون أمرها واضح في الجواز، فيأتي هذا ويُشدِّد أو يحتاط احتياطًا يُحرِّج على غيره الدخول فيها، والله تعالى أحلَّ البيع وحرَّم الربا، وبعض الناس يكون الغالب عنده الاحتياط الغير محمود، فالاحتياط المحمود هو التَّورُّع، ولكن بعضهم قد يُشدِّد على نفسه، وليتَ أنَّ الأمر يقف على نفسه؛ بل يتعدَّى ذلك فيُثرِّب على مَن فعل غير فعله، أو اختطَّ غيرَ خُطَّته، أو سار على غير منهجه؛ فهذا لا شك من التَّنطُّع.
بعضهم يتوضَّأ ويدخل المسجد، فإذا رأى أيَّ رطوبة في الفُرشِ أو إذا وطأ شيئًا رطبًا أخذَ يُشكِّك في طهارته، إذا رأى شخصًا في مكان وقعَ في نفسه أنَّ هذا المكان مشبوه، فيقول فلان كذا وكذا؛ فيُغلِّب سوء الظَّن والاحتياط المذموم والتَّنطُّع في غالب حياته.
المقطع السَّابع: ﴿مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ [الشُّعراء 154، 155].
التَّنطُّع وإرادة الإعجاز للأنبياء من قولهم؛ فهم يسألون أسئلة قصدها التَّنطُّع وصد أنفسهم عن دعوة الحق بدعوى أنَّهم يجهلون الأشياء، فإذا جاء الجواب وجاءت الآية أصروا واستكبروا استكبارًا كما ذكر الله تعالى عن قوم نوح -عليه السَّلام.
الشَّاهد: هؤلاء قوم صالح -عليه السلام- طلبوا آية، فأتتهم النَّاقة بأمر الله تعالى وإذنه، ومع ذلك تحمَّل نبي الله صالح -عليه السلام- سؤالهم، وصبر حتَّى أجاب الله دعوته، ثم أقام الحجَّة عليهم وقال: هذا ما سألتم!
وكلُّ هذا يدور في فلكِ تَحمُّل أسئلة الناس إذا كان ذلك التَّحمُّل يقودهم إلى سبيل الخير.
المقطع الثامن: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [المائدة 111 - 114].
في الآيات من أخلاق الأنبياء: تحمُّل أسئلة الناس.
وفيها من الآداب: أنَّهم لمَّا طلبوا أن يُنزل الله عليهم المائدة؛ ما وعدهم عيسى -عليه السلام- بهذا الشيء، وهذا من أدب الأنبياء وورعهم، وإنَّما دعا ربَّه، ما تكفَّل بها، ليس له حق أن يقول "ستأتيكم" حتَّى يدعو ربَّه، فلمَّا دعا ربَّه أن يُنزل عليهم مائدة من السَّماء، وبسبب تنطُّعهم في السؤال قال الله تعالى: ﴿قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [المائدة: 115].
ذكر بعض المفسرين من لطائف التفسير: أن المراد من قوله ﴿فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ : أنَّ مَن سألَ آيةً بعينها فجاءت الآية ثمَّ كفر بها؛ فإنَّ عذابه يكون أشد ممَّن عصا ولم يطلب آية.
ونستفيد مما سبق:
- تحمُّل الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- أسئلة الناس في سبيل دعوتهم للخير.
- أدب الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- فهم ما يطلبون شيئًا إلَّا بإذن الله تعالى، ولا يضمنون لأحدٍ شيئًا إلَّا بإذن الله تعالى -عَزَّ وَجَلَّ- فعيسى -عليه السلام- لمَّا سأله قومه أن يُنزل عليهم مائدة من السَّماء ما قال "ستأتيكم"، وإنَّما دعا ربَّه، وهذا من عظيم خُلق الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَام.
المقطع التاسع: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: 189].
أيضًا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- سأله قومه أسئلة كثيرة، وأذكر كتابًا عنوانه "يسألونك" ذُكرت فيه الأسئلة الواردة في القرآن الكريم، وأمَّا في السُّنَّة فقد عقدَ ابن القيِّم في "إعلام الموقِّعين" الجزء الأخير مبحثًا سمَّاه "فتاوى إمام المفتيين صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ"، وذكر فيه أسئلة كثيرة.
وعلى داعية الخير ومعلمي الناس الخير أن يتحمَّلوا أسئلة الناس، فهناك الجاهل، وهناك المعاند، وهناك المتنطِّع، وهناك طالب الحق -وهو الأصل إن شاء الله- فينبغي أن يُجيب على كل سؤال إذا كان في الإجابة مصلحة، وأن لا يتضجَّر، وأن يعلم طالب العلم أن بتضجُّره من أسئلة الناس يضر نفسه وقد يأثم، ويضر غيره وقد يحرمه من الخير، فينبغي أن يتَّسع صدره قبل بيته لتحمُّل أسئلة الناس.
المقطع العاشر: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 215].
في مبحث تحمُّل أسئلة الناس يُنبَّه على أنَّ بعض الأسئلة قد تتكرَّر، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- سُئِلَ أسئلةً متكرِّرَة، ولهذا يقول العلماء: إذا جاء الجواب مختلفًا؛ فالغالب أنَّه سُئل في أكثر من موضع.
وهذا من مواطن الضَّجر، فإذا سألك زيدٌ سؤالًا، ثم عمرو يسألك السؤال نفسه، ثم خالد...؛ يتضجَّر الإنسان!
فيُقال: تحمَّل هذا التكرار.
ومن لطائف ما ذُكر عن الشيخ ابن باز -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في فتاوى الحج، ففي الغالب أن أسئلة الناس تدور في أقواسٍ مشتركة، شكَّ في عدد رمي الجمار، شكَّ في عدد أشواط الطَّواف؛ المهم كان السؤال عن الشَّك في عدد رمي الجمار كثيرًا، يقول أحدهم كنتُ مخيِّم الشيخ ابن باز؛ فسُئل عن سؤال واحدٍ تكرَّر أكثر من ستِّينَ مرَّة، ومع هذا كان جواب الشيخ لآخر سائل سأله كجوابه لأول سائل سأله، في البيان والتَّوضيح، ولم يتضجَّر ولم يفتر.
وهذا أخذه الشيخ من أخلاق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في تحمُّل أسئلة الناس واستشعار أنَّ داعية الخيرِ ومعلم الناس عليه أن يصبر ويتصبَّر في نفع الناس.
المقطع الحادي عشر: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 217].
ذكر المفسِّرون في هذه الآية فوائد عظيمة وكثيرة، ولكن الشَّاهد هو الكلام عن ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ ، وهو الجامع لقضيَّة تحمُّل أسئلة الناس وطلاب العلم.
ونُكرِّر هذه الكلمة لأنَّ الناس أجناس، يختلفون في اللهجات والمقاصد والنَّفسيَّات والأعمار، وكل إنسان له طبيعة، ولو لم يكن من إجابة أسئلة كبار السِّن وتحمُّل إعادة الجواب إلَّا الدُّعاء لك ولوالديك لكفى، فهذا المُسنِّ يركع ويسجد ويُوحد الله قبل أن تُخلَّق.
 
فتحمُّل أسئلة الناس من أسلوب الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- وعدم الضَّجر والتَّضايُق.
{شكرَ الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
----------------------------
[75] سنن الترمذي (3895)، سنن ابن ماجه (1977)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه وصحيح الترمذي.
[76] صحيح مسلم (3014).
[77] سنن الترمذي (2465)، وصححه الألباني.
[78] صحيح مسلم (220).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ