الدرس العاشر

فضيلة الشيخ د. عبدالعزيز بن محمد السدحان

إحصائية السلسلة

4001 12
الدرس العاشر

التفسير

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ عبد العزيز بن محمد السَّدحان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
حيَّاك الله، وحيَّا الله المشاهدين والمستمعين ومَن بلغ.
{نستكمل في هذه الحلقة ما بدأناه من سلسلة أخلاق الأنبياء في القرآن الكريم.
نستمع وإيَّاكم إلى المقطع الأوَّل: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [النحل 120، 121]}.
الحمد لله ربِّ العالمين.
تقدَّم في حلقات سابقة أنَّ أيَّ خلقٍ في نبيٍّ فهو في جميع الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلاةُ وَالسَّلَام- وأنَّ الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلاةُ وَالسَّلَام- بلغوا في الخلقِ الأحسن والصِّفات السَّامية مبلغًا ما بلغه أحدٌ سواهم.
ومن أخلاق الأنبياء كما سمعنا في هذه الآية: الشُّــــكر.
والشُّكرُ عبادةٌ، وقد أثنَى الله -تعالى- على أهل الشَّكر في غير آية، وجاءت الأحاديث الكثيرة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في فضيلة الشُّكر، وكل الأنبياء -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذين جاء ذكرهم في القرآن قد ذكرَ الله تعالى شكرهم له -عزَّ وَجلَّ- إمَّا نصًّا وإمَّا تضمُّنًا، وهذا الخليل قال الله فيه: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ﴾ .
وذكر شُرَّاح الأحاديث ومفسرو القرآن أنَّ الشُّكر على أنواع ثلاثة، ودائمًا يقل التَّقسيم بالإجمال، ويكثُر بالتفصيلِ.
أنواع الشُّكر:
النَّوع الأوَّل: الشُّكر بالقلب، أن يعتقد العبد اعتقادًا جازمًا أنَّه لولا الله -عزَّ وَجلَّ- لم تتوفَّر له أيُّ نعمه، فمن شكر الله تعالى الاعتراف بنعمه.
النَّوع الثَّاني: الشُّكر باللسان.
النَّوع الثَّالث: أن يُسخِّرَ تلك النِّعمة في مرضات الله تعالى.
مثلًا: شخصٌ اشترى سيَّارة، فهذه نعمة، فينبغي أن تُوظَّف فيما يُرضي الله تعالى، فيستعين بها على طاعة الله من قضاء حوائج، ومن ذهابٍ إلى وطيفة، ومن ذهابٍ إلى مسجد أو درس علم أو حلقة تحفيظ، المهم أن تُوظَّف نِعَم الأكل ونِعَم الشُّرب ونِعَم اللباس ونِعَم الرُّكوب كلُّها في طاعة الله، فهذا من شكر الله تعالى بالنِّعم نفسها.
المقطع الثالث: ﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ [النمل: 19].
هذا نبي الله سليمان، وقد أنعم الله عليه بنعمٍ قد تفرَّدَ بها، وهو ممَّن عُلِّمَ منطق الطَّير، قال تعالى: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ﴾ [ص 36 - 38].
ومن كمال خلق الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلاةُ وَالسَّلَام- أن شكرَهم دائمٌ، ويزيد مع كثرة النِّعم.
ويُستفاد من هذا: أنَّ من أسباب بقاء النِّعم الشُّكر، وقد قرأتُ حكمةً جميلةً لبعضهم، يقول: إنَّ النِّعم بشكرها تقرُّ، وبكفرها تفرُّ.
وخيرٌ من قول الحكيم قول ربِّ الحكيم -عزَّ وَجلَّ: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7].
المقطع الثالث: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [النمل: 40].
هذا خبر سليمان -عليه السلام- مع عرش بلقيس، قال العفريت: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك؛ وتعلمون أن مجالس الملوك في الغالب ليست طويلة، فهذا العفريت تكفَّل لسليمان الإتيان بعرشها من اليمن إلى الشام قبل أن يقوم من مقامه، وهذه نعمة عظيمة، ولكن قال الذي عنده علم من الكتاب: أنا آتيك به قبل أن يرتدَّ إليك طرفك؛ يعني جزء من الثانية.
وهذه النِّعَم ممَّا أفاء الله بها على سليمان -عليه السلام- فكان شاكرًا لله تعالى ذاكرًا.
وذكر بعض المفسرين أنَّ الذي عنده علم الكتاب اسمه "آصف بن برخيا"، وقيل إنَّه كان وزيرًا أو مسؤولًا، وقيل إنَّه جبريل، وقيل إنَّه رجل صالح مجاب الدَّعوة يدعو الله تعالى باسمه الأعظم.
وعلى كل حال؛ فتشخيصه لا يترتَّب عليه فائدة، ولكن يُفهَم من سياق الآيات النِّعم التي أنعم الله بها -عزَّ وَجلَّ- على سليمان، وأنَّه كان من أكثر النَّاس شكرًا لله تعالى على نعمه العظيمة.
ونستفيد من هذا: أن يُكثر العبد من شكر نعم الله -عزَّ وَجلَّ- ولا يستهين بنعمةٍ حتَّى لو كانت يسيرة، ولهذا تجد بعض الناس يشكر الله تعالى، ويُهذِي اللسانَ بشكر الله وبحمده وبذكره على كل ما يُصادفه في حياته، حتَّى جاء في الحديث: «إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَ»[65].
وذُكر أنَّ الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- كان كلما أكلَ لقمةً حمدَ الله وأثنى عليه. فقال له أحدهم: يا أبا عبد الله، أكلٌ وحمدٌ!
فقال الإمام: "أكلٌ وحمدٌ خيرٌ من أكلٍ وصمتٍ"[66].
{يُذكر في قوله تعالى: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ﴾ أنَّ هذا العلم علم دنيوي، يعني كان عنده صناعات. فهل هذا الكلام صحيح؟}.
الله أعلم! لكن ظاهر الآية أنَّ "الكتاب" ليس متعلق بالأمور الدنيوية، قد يكون كتاب من كتب الأنبياء السَّابقين، قد يكون ممَّا نزل على سليمان -عليه السلام.
لو قال قائل: لماذا لم يدعُ سليمان، ودعا غيره؟
قد يُقال: إنَّ هذا من حكمة الله -عزَّ وَجلَّ- أن يُقيِّد لأنبيائه -عَلَيْهِم الصَّلاةُ وَالسَّلَام- مَن يقوم بخدمتهم وإعانتهم، وإلَّا فإنَّ الأنبياء دعوتهم مجابة، ولكن لحكمةٍ أرادها الله -عزَّ وَجلَّ- جعل هذا الرجل هو الذي يكون سببًا في إحضار عرش بلقيس.
سمعتُ بعضهم يقول: إنَّما نُقِلَ العرشُ مِن اليمن إلى الشَّام بأن تفتَّتَ وكان ذرَّات ثم وصلَ بسرعة البرق -كما يُقال-، وهذا الكلام في حقيقته شيء خارج عن النَّص، فالله أخبرنا أنَّ العرش نُقل، أمَّا أنَّه تفتَّت ثم خُلق من جديد فهذا يحتاج إلى دليل، والأصل أنَّ العرش نُقل بجسمه من مكانٍ إلى مكانٍ.
{هل يُستدل بهذه الآية على تفضيل العلم الشَّرعي؛ لأنَّ الله -سبحانه وتعالى- فضَّلَ الذي عنده علم الكتاب على العفريت من الجن؟}.
قدَّم سليمان -عليه السلام- الذي عنده علم من الكتاب لأنَّه أسرع في إحضار العرش، وحتَّى يكون الأمر واضحًا؛ فإنَّ العلم الشَّرعي حثَّ على علم الصِّناعات ورغَّبَ فيها، فبعض النَّاس يقول إنَّ العلم الشَّرعي يختلف؛ فنقول: إنَّ العلم الشَّرعي حثَّ على كل خير، علوم الرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، والهندسة، وما يتبعها من علوم الذَّرَّة وما شاكلها، كل هذا حثَّ عليه العلم الشرعي، قال تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [الأنفال/60]، وقال: ﴿ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق/5].
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الجواب الصَّحيح: "كل حضارات الأديان السَّابقة، وما بلغوا في الصِّناعات؛ ففي الإسلام أعظم من ذلك، وفي حضارات المسلمين ما هو أعظم من ذلك".
نعم العلم الشَّرعي فيه الأحكام الشَّرعية، الحلال والحرام إلى آخره، لكن كل ما يُصلح أحوال النَّاس جاءت الشَّريعة بالأمر به، ومقاصد الشَّريعة -أو قواعد الشَّريعة أو الضَّروريَّات الخمس- تُحفَظ بالصِّناعات، والطائرات والسَّيَّارات، وما شاكلَ ذلك.
{هل إذا أُطلق "فضائل العلم" في الشَّرع تنصرف إلى هذه العلوم؟}.
الأصل أنَّ فضائل العلم إذا أُطلق فإنَّها تُطلق على العلم الشَّرعي، ولكن من ضمن العلم الشَّرعي الحث على الصِّناعات وعلى التَّقدُّم الحضاري، وعلى التَّقدم التِّقني، ولهذا -والحمد لله- كتب الأعلام وكتب مَن أثَّر في العالم فيها من كتب المسلمين، وأذكر أنَّ بعض علماء فرنسا يقول: نهضت فرنسا وحضارة فرنسا وأسبانيا بسبب المسلمين في الأندلس.
ومن اللطائف: أنَّ بعض القادة الفرنسيين يقول: ليتَ أنَّ المسلمين لمَّا دخلوا أسبانيا دخلوا فرنسا.
فقيل له: كيف ترضى أن تحتل البلد؟
قال: لأنَّ أسبانيا استفادت من الحضارة الأندلسيَّة وبلغت شأوًا بعيدًا، فلو أنَّ المسلمين دخلوا فرنسا لجعلوها حضارةً كما في الأندلس.
المقطع الرابع: ﴿قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الأعراف: 144].
هذا موسى -عليه السلام- كليم الله، اصطفاه الله برسالاته وبكلامه كما اصطفى غيره من الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلاةُ وَالسَّلَام- برسالاته، وكما تقدَّم أنَّ أكثر الناس شكرًا لله تعالى هم الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلاةُ وَالسَّلَام- وأعظم نعم الله عليهم، ويكفي نعمة النبوَّة والرسالة، فاصطفاهم الله، وخصَّهم بخصائص لا يُشاركهم فيها أحدٌ من العالمين.
قال السيوطي: "أشرف وظيفة في الكون النبوة والرسالة"، وفي هذا يقول ربنا: ﴿ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾ [الحج/75].
والآيات تُبيِّن أنَّ صفوةَ خلقِ الله والذروة في الكمال من خلق الله هم الأنبياء -عليهم السلام- ومن صفاتهم ونعوتهم -كما سمعنا- كثرة شكر الله تعالى.
المقطع الخامس: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرً﴾ [طه 29 - 34].
سأل موسى -عليه السلام- ربَّه أن يُعينه بأخيه هارون ويكون له وزيرًا -أي يشد من أزره.
ومن أسباب الحرص على أن يكون له هذا الوزير جاء في قوله تعالى: ﴿كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرً﴾ ، أي: يشكر الله ويُثني عليه.
ونستفيد من هذه الآية: أنَّ الإنسان إذا اتَّخذَ صديقًا له في العمل ولم يكن ذلك معينًا له على الخير وعلى طاعة الله؛ ففي الغالب يكون عليه لا له.
{قال تعالى: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرً﴾ ، هل ذكر الله يحتاج إلى هذه الإعانة؟}.
لا شك، قال تعالى: ﴿قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ﴾ [القصص: 35]، فبعض الناس قد يُخذَّل عن الطَّاعات، وقد تعرف جماعة من الإخوة كُثُر يكونوا سببًا في تخذيلك، وقد يأتيك شخص واحد يكون عونًا لك.
وأشرتُ إلى مسألة: هل الأفضل التَّكثُّر من الإخوان أو التَّقلُّل؟
ذُكر في ذلك ثلاث مذاهب:
الأوَّل: أنَّ التَّكثُّر أفضل.
الثَّاني: التَّقلُّل أفضل.
الثالث: القول بالوسط، وهو التَّكثُّر بشرط الانتقاء، تنتقي مَن يُعينك على الطَّاعة والخير وعلى ذكر الله.
ولهذا تُلاحظ الآن أنَّ كلًّا منَّا له أصحاب، ولكن بعض الأصحاب يفضل على غيره، بعض الناس إذا جلستَ معه يقول لك قبل الأذان: هل أنت متوضئ حتى نصلي؟ وبعضهم قد يُؤذِّن الأذان وتُقام الصلاة وإن لم تنبِّهه لا يُنبِّهك، وبعضهم إذا رأى منك خطأ -كأخذٍ باليسار أو أكلٍ باليسار- نبَّهكَ؛ فلا شكَّ أنَّ الصَّاحب ساحب.
{بعضهم يقول إن قوله ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي﴾ فيه دليل على الشفاعة في الوظائف وغيرها؟}.
قال تعالى: ﴿ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَ﴾ [النساء/85]، وحديث «اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُو»[67]، وقد يُقال في قوله ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي﴾ وأنَّ موسى -عليه السلام- طلبَ من ربه أن يجعل له وزيرًا؛ فيها مُتنَفَّس.
ولابدَّ أن يُقال: إنَّ بعض الناس بخيل حتَّى بجاهه، يعني يبخل حتَّى بجرَّة قلمٍ أو بكلمة قد تُغيِّر مجرى حياة أسرة بتوظيف أحد أبنائها، أو بنقل من مكان إلى مكانٍ، وعنده قدرة وعنده إمكانيَّة، ولا يُؤثر ذلك في مرتبه شيء، ولا يُقلِّل من سمعته، ومع ذلك يبخل بجاهه، ويبخل بمنصبه، ويبخل بتوقيعه، بل لو قال له مسؤول في الهاتف: يا فلان افعل كذا وما فيه مضرَّة على أحد؛ ومع ذلك لا يفعل، لأنَّه من أبخل الناس، فأبخل الناس مَن بخل بجاهه.
المقطع السادس: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الحديد: 21].
المسارعة في الخيرات من أعمال أهل الإيمان، وذروة سنامهم الأنبياء والمرسول -عَلَيْهِم الصَّلاةُ وَالسَّلَام.
والمسارعة في الخيرات أمرٌ محمود، لأنَّ الخير قد يفوت كله أو بعض أجره، ولهذا قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ خَيْرٌ إِلَّا فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ»[68].
وقيل: الخير كالطَّير، إن بادرتَ إليه قرَّ، وإن تركتَه فرَّ.
ولهذا فإنَّ المسارعة إلى الخيرات من أعمال الأنبياء، وهي من أفضل الأعمال، وبعض الخيرات يفوت كثيرٌ من أجرها بفوات بعض أجزائها، تُقام الصَّلاة وشخص يُكلِّم صاحبه، أو يُؤذَّن بالأذان وشخص يُكلم صاحبه، فوَّت على النفس متابعة الأذان، وفوَّت التَّبكير في الذهاب للمسجد، فبعضهم يذهب بعد الإقامة، وبعضهم يدخل وقد شرع الإمام في القراءة، وفوَّت على نفسه صلاة الملائكة عليه -أو دعاءهم له- وفوَّت على نفسه الصَّف الأوَّل والتَّأمين في الصلاة الجهريَّة؛ فهذا كله من التَّأخُّر عن الخيرات.
المقطع السابع: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمرن: 133].
كالآية التي قبلها، فيها أمر بالمسارعة إلى الخيرات.
وهنا فيه لطيفة علميَّة: لمَّا ذكر الله -جل وعلا- جنَّة عرضها السماوات والأرض، فقرأتُ في باب المناظرات أنَّ يهوديًّا قابل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا محمد، جنَّةٌ في كتابكم عرضها السماوات والأرض، فأين النار؟
طبعًا فيه أسلوب في العربيَّة يُسمَّى "أسلوب القلب"، أي قلب الدليل، يعني يقلب السؤال على السائل، فيجعل جوابه للسائل سؤالًا للسائل، وهذه الطريقة من أبلغ طرق الإقناع.
فهذا اليهودي لمَّا سأل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال له: "يا محمَّدُ أرأَيْتَ جنَّةً عَرضُهَا السَّمَاوَاتُ والأَرْضُ، فَأَيْنَ النَّارُ؟".
فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أرأَيْتَ هذا اللَّيلَ قد كان ثمَّ ليس شيءٌ أين جُعِل؟».
فقال اليهودي: "اللهُ أعلَمُ".
قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ»[69].
فهذا من أبلغ الأساليب في إقناع الخصم، وهو أن تجعل السائل مسؤولًا.
المقطع الثامن: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء 89، 90].
هذا نبي الله زكريا وزوجه وابنهما يحيى -عَلَيْهِم الصَّلاةُ وَالسَّلَام-، وكان من صفاتهم أنهم يسارعون في الخيرات، والخيرات تشمل كل خير، فتشمل خير حسي، وخير فعلي، وخير قولي، وخير معنوي، فأيُّ خيرٍ تستطيع أن تفعله فلا تحرم نفسك منه، إن لم تقدر على فعله فدلَّ الناس عليه وحث الناس عليه، مثلًا أراد شخص أن يحضر مجلس علم ليستفيد ويُفيد وما استطاع، فهو مأجورٌ لأنَّه همَّ بحسنة ولكن منعه العذر، أما مرض أو غيره، فقوله لفلان: استفد من الدرس هذا أو من الشيخ فلان؛ فهذا في حد ذاته من المسارعة في الخيرات، لأنَّه إذا ذهب لك أجره لا ينقص من أجره شيئًا.
{هنا يرد في الذهن مسألة، هل الواجبات على الفور أو على التراخي؟}.
الأصل أنها على الفور، واختلفوا في الحج هل هو على الفور أو على التراخي، ولعل الصحيح أنَّ مَن وجد القدرة البدنية والمالية أنه يجب عليه أن يحج في أول موسم يصادفه.
والمكلَّف إذا كُلِّف بأمر شرعي فيجب عليه، ولكن هل يجب على الفور أو على التراخي، مثل الصلاة، فهي فرض على المكلف، لا تبرأ ذمة المكلف القادر إلا بالإتيان بها، ولكن إذا أذن المؤذن لا يُقال صلُّوا مباشرة، كذلك صيام رمضان يجب على الفور بدخلو الشهر.
المقطع التاسع: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ [آل عمران: 81].
هذا السِّياق القرآني يدلُّ على أنَّ مِن أخلاق الأنبياء: الوفاء بالوعود وعدم نقضها، لأنَّ الوفاء بالعهود صفة من الصفات المحمودة، ونقضها من الصِّفات الذَّميمة، حتَّى أنَّ أهل التَّأريخ ذكروا أنَّ الجاهليين كانوا يعظِّمون من الصِّفات: الوفاء لاوعد، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «إِنَّما بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صالِحَ الأَخْلاقِ»[70]، ومن مكارم الأخلاق التي كان عليها أهل الجاهليَّة فيما يتعلَّق بهذا السياق: الوفاء بالوعود، حتَّى قرأتُ في ترجمة عوف بن النُّعمان أنَّه يقول: "كان الرجل في الجاهليَّة يحب أن يموت عطشًا ولا أن يكون مخلافًا للوعد"، لأنَّ هذا سُبَّةٌ وشَتيمةٌ، وقبيحٌ أن يُوصَم فلان بخلف وعده، فهذا يُخزيه عند قومه، ولهذا فإنَّ الإسلام حثَّ على الوفاء بالعهد والميثاق، والأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلاةُ وَالسَّلَام- أكمل الناس في هذا الأمر.
ومما يُقال في هذا: أنَّ من قُبح صفة إخلاف الوعد أنها من صفات النفاق، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْبَعٌ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَن كَانَتْ فيه خَلَّةٌ منهنَّ كَانَتْ فيه خَلَّةٌ مِن نِفَاقٍ حتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ»[71].
وقال الشاعر:
إِذا قُلتَ في شَيءٍ نَعَم فَأَتِمَّهُ ** فَإِنَّ نَعَمٌ دَينٌ عَلى الحُرِّ واجِبُ
وَإِلّا فَقُل لا تَستَرِح وَتُرِح بِها ** لِئَلّا يَقولَ الناسُ إِنَّكَ كاذِبُ
ومع الأسف! تلاحظ الآن إهمال في المواعيد، يعد صاحبه ويقول له سآتيك ويُخلف وعده، وهذا لا شكَّ من قبح الصفات، ولكن بعض الناس إذا وعدك يكون عازم على الوفاء بوعده، ولكن قد يحصل له عارض، وكما يُقال "الغائب عذره معه".
والناس في هذا على قسمين: قبيحٌ وأقبح! فبعضهم يعدُك، ثم إذا جاء الموعد تركه عمدًا، فهذا قبيحٌ، وأقبح منه أنَّه يعدك وفي نيَّته الخُلف، فهذا تحمَّل الإثم منذ أن نوى إخلاف الموعد، ولكن الذي قبله كان في نيته العزيمة على الوفاء، ولكن طرأ طارئ وقال أخلف وعدي.
المقطع العاشر: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّ﴾ [مريم: 54].
كل الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلاةُ وَالسَّلَام- كانوا صادقي الوعد، وذكر بعض المفسرين في شأن إسماعيل -عليه السلام- أنه وعدَ رجلًا في مكانٍ، ومكث في ذلك المكان ثلاثة أيام ينتظره.
وبعض المفسرين: أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حصل له ذلك[72].
وعلى كل حالٍ؛ فالوفاء بالوعد ممَّا مدحَ الله تعالى به أنبياءه، وحَسبُكَ بههذ الصفة التي مدح الله بها أنبياءه وذكرها في كتابه الكريم، فدلَّ هذا على أنَّ هذه الصِّفة من أعظم الخصال الحميدة، وأنَّ نقضها والتَّهاون بها من قبيح الأخلاق وسيء الأعمال.
المقطع الحادي عشر: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾ [هود: 42].
يُستفاد من هذه الآية: عناية الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلاةُ وَالسَّلَام- بأُسَرهم وأهليهم، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي»[73].
فهذا نوح -عليه السلام- يُنادي ولده بخطاب الأبوَّة المصحوب بالشفقة والرحمة والعطف.
قال: ﴿يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَ﴾ ، وفي سياق الآيات في سورة هود أنَّ ابنه ردَّ عليه ﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي﴾ ، ومع هذا الموج العظيم، وهلاك الهالكين نجاة الناجين كان يُخاطب ولده ويقول ﴿لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ﴾ ، ويدل سياق الآيات على أنَّ نوحًا -عليه السلام- كان يرفع صوته، ومازال معه حتَّى حال بينهما الموج، كما كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع عمه أبي طالب حتَّى فارق الحياة، وهذا يدل على كمال عناية الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلاةُ وَالسَّلَام- بأهليهم، ومن أعظم العناية دعوتهم إلى الخير، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «يا عَبَّاسُ بنَ عبدِ المُطَّلِبِ لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شيئًا، ويَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسولِ اللَّهِ لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شيئًا، ويَا فَاطِمَةُ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي ما شِئْتِ مِن مَالِي لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شيئً»[74]، فكل هذا من كمال عناية الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلاةُ وَالسَّلَام- بذريتهم وأُسَرهم.
المقطع الثاني عشر: ﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ [هود: 43].
هذا يؤكِّد أنَّ نوحًا -عليه الصلاة والسلام- كان يرفعُ صوتَه، وهذا في أصل القصَّة، فكان ابنه خارج الفُلك، وكان صوت الموج عالٍ وأصوات الناس عالية؛ فكان يُنادي ولده لينجو، فولده اغترَّ وقال ﴿سَآوِي إِلَى جَبَلٍ﴾ ، فحذَّره والده وقال ﴿لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾ ، لولا أنَّ الله قدَّر الموج لَمَا زال نوح يُحاول مع ولده، ولكن حال بينهما الموج كما حال الموت بين النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعمه أبي طالب.
{بعضهم يذكر يا شيخ أنَّه لا يعصم من الفتن إلا الكتاب والسنة، فابن نوح آوى إلى الجبل، فهنا نظر إلى عقله، وقال إن الجبل هو الذي يعصمني من الماء. فهل هذا توجيه صحيح؟}.
نعم، يقول الله تعالى في سورة القصص: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ﴾ [القصص: 79].، فهؤلاء الجُهَّال، أمَّا الذين أوتوا العلم فقالوا: ﴿وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ﴾ ، فالأوَّلون تمنَّوا وقالوا: "يا ليت"، والآخرون حذَّروا وقالوا: "ويلكم"، لأنَّ عندهم علم وبصيرة، فأولئك وُكلوا إلى عقولهم المجرَّدة، وأولئك إلى علمهم مع عقلهم، فكانت النَّتيجة ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [القصص: 81، 82].
المقطع الثالث عشر: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124].
الخليل -عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَام- من رحمته وحرصه على ذريَّته؛ يقول الله -عزَّ وَجلَّ- ومَن أصدق من الله قيلًا! ومَن أصدق من الله حديثًا! ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامً﴾ ، فهذه نعمة عظيمة قلَّده الله تعالى إيَّاها، فقال إبراهيم الخليل ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ ، ففيه أنَّ عناية الأنبياء وشفقتهم وحرصهم على أهليهم قد بلغوا في الكمال أعلاها.
المقطع الرابع عشر: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 128].
دعا لنفسه، وشكر الله تعالى، ووصفَ الله بأنَّه توابٌ رحيم، ومع ذلك ذكر ذريَّته، فما نسيَ ذريَّته، وهذا يُؤكِّدُ ما سبق، وبعض الناس إذا دعا يخصُّ نفسه وينسى غيره وبخاصَّة أهله من والدين وأولاد، ولهذا قال: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾ [إبراهيم: 41]، والأنبياء -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علاقتهم بآبائهم وأمهاتهم وأسرهم قد بلغت في الكمال أعلاه.
المقطع الخامس عشر: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: 35].
في هذا لفتة للخليل -عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَام- أنَّه دعا لذريَّته أن يجنِّبهم الله معصيته، وبخاصَّة أعظم معصية وهي الشرك، ولهذا قال بعض السلف: "ومن يأمن الشرك بعدَ إبراهيم!".
ولهذا ينبغي للوالد والوالدة أن لا يقول إنَّ ابنه صاحب طاعة، أو أنَّه يحفظ كذا أو كذا؛ فإنَّ الفتن ليست وقفًا على أحد، فإذا كان الخليل يقول ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ ، فمَن يأمن الشِّرك بعد إبراهيم.
إذن؛ يُقال: إن من العناية بالأسرة الدعاء لهم بأن يحفظهم الله من الفتن، وأعظم الفتن الشرك.
المقطع السادس عشر: ﴿قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [يوسف: 5].
هذا يعقوب -عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَام- من عنايته بأسرته، لمَّا علمَ بهذه الرؤيا وعلم مكانة يوسف وحسد إخوانه له؛ خشيَ أنَّه إذا قصَّ الرؤيا على إخوته أن يزدادوا له كيدًا، فحذَّره -عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَام- أن يقصَّ الرؤيا على إخوته، وهذا من كمال الشَّفقة والعناية بالأهل، فإذا علم الوالد أنَّ أحدَ أولاده متميِّزٌ والآخرَ ما يستطيع التَّرقي إلى ما وصلَ إليه أخوه؛ فلا يُحاول الوالد أن يحتقر الثاني أمام المتميِّز، فهذا لا يُصلح الثاني، وقد يضر الأوَّل ويُفسد بين الأخوين، وبخاصَّة إذا كان الثَّاني يحسد الأوَّل، وعلى الوالد والوالدة أن يبتعدان عن كل ما يفرق بين الأولاد، أو كل ما يُوغل صدرو الأولاد على بعضهم، وأن يعمدَ دائمًا إلى ما يؤلِّف لا ما إلى يُنفِّر، وإلى ما يجمع لا ما إلى يُفرِّق، وإلى ما يبني لا ما إلى يهدم.
والآن بعض الناس إذا رأى رؤيا ذهب وقصَّها على كل أحد، فلا تقص الرؤيا إلَّا على عالم أو ناصح، فيوسف -عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَام- قصَّ الرؤيا على أبيه، والأنبياء هم أعلم العلماء، فينبغي عدم قص الرؤيا على كل أحد.
المقطع السابع عشر: ﴿وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [يوسف: 67].
من عناية يعقوب -عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَام- بأولاده، لأنَّهم -كما قال المفسرون- أنَّهم كانوا على قسط وافر من الجمال، وعددهم كثير، فخشي يعقوب أنهم إذا دخلوا من باب واحد أن يكون دخولهم جاذبًا لأنظار الناس، والناس فيهم الحاسد وفيهم الصالح والطَّالح، فربَّما أصابهم أحد من الحُسَّاد بعينٍ، فأمرهم يعقوب بالدُّخول من أبواب متفرِّقة، حتَّى لا يكون دخولهم مجموعةً واحدةً مثيرًا للانتباه.
المقطع الثامن عشر: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 133].
هذا أيضًا يعقوب -عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَام- بدأ مع أولاده وهم صغار، فقال: ﴿يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ﴾ ، وعند ساعة موته يُوصيهم بالتَّوحيد ويُحذِّرهم من الشِّرك، فانظر إلى الأنبياء -عَلَيْهِم الصَّلاةُ وَالسَّلَام- وهم في الموت يستشعرون مسؤوليتهم تجاه أولادهم، وتجد بعض الناس لا يستشعر مسؤوليته تجاه أولاده إلَّا في حالين اثنين:
الحال الأول: عند الامتحانات الدراسيَّة.
الحال الثانية: عند المرض.
فإذا نجح الولد في امتحانه، وشفا الله الولدَ من مرضه؛ كان لسان حال بعض الآباء مع أولاده بعد ذلك:\

وَدِّع هُرَيرَةَ إِنَّ الرَكبَ مُرتَحِلُ ... وَهَل تُطيقُ وَداعًا أَيُّها الرَجُلُ

فهذا من إهمال المسؤوليَّة!
وانظر إلى يعقوب -عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَام- نصح يوسف في أوَّل حياته وهو صغير فقال ﴿يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ﴾ ، ونصح أولاده عند موته ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾ ، فهم موحِّدون، ولكن من باب التَّأكيد على ما هم عليه.
المقطع التاسع عشر: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّ﴾ [مريم: 54، 55].
من مسؤوليَّة الأنبياء تجاه أولادهم أنَّهم يأمرونهم بالشَّعائر، مع أنَّهم مقيمون لها بإشرافهم -عَلَيْهِم الصَّلاةُ وَالسَّلَام.
وتكرار الأمر يزيد رسوخ الأمر في النفوس، وأيضًا يُزيد المستمعين والمطالبين والذرية بالمحافظة على الأمر، لأنَّ بعض الناس يقول لولده: افعل كذا، فيفعل الولد؛ ولكن التَّكرار يُزيد الأمر رسوخًا، ولهذا كان إسماعيل -عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَام- يأمر أهله بالصَّلاة والزَّكاة، فهم يصلُّون ويزكُّون، ولكن من باب الحث على لزوم هذا الأمر.
{شكرَ الله لكم فضيلة الشَّيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
 -----------------------
[65] مسلم (2734).
[66] ذكره ابن مفلح في الآداب الشرعية (3/163).
[67] البخاري (6026، 6027)، ومسلم (2585).
[68] السلسلة الصحيحة (1794)، قال الألباني: على شرط مسلم، وصححه في صحيح أبي داود (4810).
[69] صحيح ابن حبان (1020)، وصححه شعيب الأرناؤوط.
[70] صحيح الجامع (2349).
[71] البخاري (2459)، ومسلم (58).
[72] رواه أبو داود (4996) ، والبيهقي (20835) والخرائطي في "مكارم الأخلاق" (193) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْحَمْسَاءِ، قَالَ:
بَايَعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيْعٍ ، قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ ، وَبَقِيَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ ، فَوَعَدْتُهُ أَنْ آتِيَهُ بِهَا فِي مَكَانِهِ، فَنَسِيتُ، ثُمَّ ذَكَرْتُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَجِئْتُ فَإِذَا هُوَ فِي مَكَانِهِ، فَقَالَ: " يَا فَتًى لَقَدْ شَقَقْتَ عَلَيَّ أَنَا هَاهُنَا مُنْذُ ثَلَاثٍ أَنْتَظِرُكَ". وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود.
[73] أخرجه الترمذي (3895) مطولاً، والدارمي (2260)، و الطبراني (22/341) (854)، و ابن ماجه (1977) مطولًا، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (285).
[74] أخرجه البخاري (4771) واللفظ له، ومسلم (206).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ