{بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء
العلمي، وفي مطلعِ هذه الفصل المبارك أرحبُ بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور عبد العزيز بن
محمد السدحان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاك الله، وحيَّا الله المشاهدين وبيَّا الجميع.
{في أولى حلقات سلسلة مادة التفسير، سنتكلم -بإذن الله- عن نُبَذٍ مختلفةٍ من
تفسيرٍ القرآن، وعن أمثلةٍ مُتعلِّقةٍ بأنواعِ القرآن.
شيخنا، لو تكلمتم عن تعريف القرآن الكريم}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين.
سيكون الكلام -كما اتَّفقنا وكما ذكرتَ- عبارة عن فوائدَ متفرِّقةٍ عن التَّفسير
وعلوم القرآن الكريم، وفيما نقله بعضُ أهل العلم ممَّا يتعلَّق بالآياتِ والأحاديثِ
وما شَاكَلَه.
وهذا الكلام بهذه الطَّريقة منهجٌ مألوفٌ عندَ أهلِ العلم، يعني الفوائد المتنوعة
سواء كانت في فنٍّ معيَّنٍ أو في فنونٍ مختلفةٍ أمرًا مألوفًا ومنهجًا معروفًا عندَ
أهلِ العلم، ولعلَّ مَن يُشاهد ويسمع يتذكر كتاب "الفوائد" لابن القيم، أو "بدائع
الفوائد"، وهناك كتب في علم الحديث رواية ودراية تتعلَّق بجمع أنواع من الفوائد،
سواء في رجال الإسناد -عند المحدِّثين- أو في العلل، أو في المتون، وعند المفسِّرين
ما يتعلَّق بعلوم القرآن الكريم أو بتفسيره أو ما يتبع ذلك، كما سنذكر -إن شاء
الله.
تعريف القرآن لغة: كلُّ كلام مَقروء فهو قُرآن.
وأمَّا في الاصطلاح -أو التَّعريف الشَّرعي: هو كلام الله الذي أنزله على محمد
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو كلام مُنزَّل غير مخلوق، مُعْجزٌ محفوظٌ من
التَّحريف والتَّبديل، المفتتح بسورة الفاتحة، والمُختتم بسورة الناس.
هذا تعريف لِمَا ذكره أهل العلم فيما يتعلق بالقرآن الكريم، وهناك تعاريف أخرى،
ولكن لعلَّ هذا -إن شاء الله تعالى- من أجمعها.
{لو ذكرتم لنا نبذة عن الكتب السَّماويَّة}.
يقول بعض أهل العلم: أرسل الله رُسلًا أخبرنا عن بعضهم، وذكر في كتابه الكريم أنَّه
قصَّ بعضهم ولم يقص البعض على نبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال بعضهم: أخبرنا الله عن كتبٍ سماويَّة نزلت، منها صُحف إبراهيم، فقد جاء في
الآية الكريمة: ﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ [الأعلى: 19]، ومنها كتاب التَّوراة
المنزَّل على موسى -عليه السَّلام.
وللفائدة: فقد ذكر بعضهم أنَّ معنى التَّوراة: البشارة والتَّعليم.
وهناك "الإنجيل" نزل على عيسى -عليه السلام- وهناك الزَّبور نزلَ على داود -عليه
السلام- في قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورً﴾ [النساء: 163]. وجاء في
مطلع سورة آل عمران ذكر الكتب الثلاثة "القرآن الكريم، والتوراة والإنجيل".
{ما الفرق بين القرآن وبين هذه الكتب. أحسن الله إليكم؟}.
ذكر أهل العلم فُروقًا، من هذه الفروق:
الفرق الأوَّل: أنَّ القرآنَ الكريم مُعجِزٌ في نظمه، ولذلك تحدَّى الله تعالى
المشركين في القرآن أن يأتوا بمثل القرآن، وآية التَّحدي الثَّانية أن يأتوا بعشر
سور مثلة، وآية التَّحدِّي الثَّالثة أن يأتوا بسورةٍ واحدةٍ. قال تعالى: ﴿قُلْ
لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا
الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرً﴾
[الإسراء: 88]، وقال تعالى: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ
مُفْتَرَيَاتٍ﴾ [هود: 13]، وقال تعالى: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾
[البقرة: 23]، فالقرآن معجزٌ في نظمهِ بخلاف الكتب السَّابقة.
الفرق الثَّاني: أنَّ القرآن محفوظٌ من التَّحريفِ والتَّبديلِ، ولهذا قال ربنا:
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]،
بينما جاء التَّحريفُ والتَّبديلُ والتَّقديمُ والتَّأخيرُ في الكتبِ السَّابقة.
الفرق الثَّالث -ولبعض أهل العلم عليه تحفُّظ: أنَّ القرآن الكريم نزلَ مُفرَّقًا،
قال تعالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ
وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلً﴾ [الإسراء: 106]، بينما الكتب السَّابقة قد عهد
الأوَّلون أنَّها لا تنزل إلا جُملةً واحدةً، وقال تعالى في سورة الفرقان: ﴿وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾
[الفرقان: 32]. هذه بعض الفروق التي يذكرها العلماء.
{سؤال يا شيخ متعلق بالسؤال الأول: ما هو الفرق بين القرآن والحديث القدسي؟}.
القرآن الكريم يشترك مع الحديث القدسي أنَّه يُقال في أوَّلهما: "قال الله تعالى"،
ولهذا يقول أهل العلم في مصطلح الحديث: "الحديث القدسي يُصدَّر بــ "قال الله
تعالى" أو "يقول الله تعالى" أو "فيما يرويه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عن ربِّه"، مثل حديث: «يا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى
نَفْسِي...»[1]، وحديث: « مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا...»[2]، وحديث « أَنَا عِنْدَ
ظَنِّ عَبْدِي بِي...»[3]، إلى آخــره.
ومن الفروق بينهــما:
أولًا: أنَّ القرآنَ معجزٌ في لفظهِ ونظمهِ، بخلاف الخبر القدسي.
ثانيًا: القرآنُ كلُّه متواترٌ من أوَّلهِ لآخرهِ، بينما الحديث القدسي فيه
المتواتر وفيه الآحاد، ودخله الضَّعيفُ والموضوعُ والمكذوبُ من الرُّواة الكّذَبَة.
ثالثًا: أنَّ القارئ له عشر حسناتٍ بكلِّ حرفٍ يقرأه في القرآن الكريم، بخلاف الخبر
القدسي.
رابعًا: القرآن مُتعبَّدٌ بتلاوته، بخلاف الخبر القدسي.
{أحسن الله إليكم شيخنا.. ما معنى "السُّورَة"؟}.
في كتب علوم القرآن ذكروا أكثر من معنى لــ "السورة":
قال بعضهم: السورة بمعنى المنزلة.
ومنهم من قال: كما أنَّ السُّورَ لبنةٌ إلى لبنةٍ؛ فكذلك السُّورة كلمة إلى كلمة.
وقال بعضهم: أُخذت "السورة" من سُورِ المنزلِ أو سور الحصنِ؛ لأنَّه يحمي -بإذن
الله- أهله، فكذلك إذا قرأ الإنسان السورة من القرآن وعمل بها تحميه -بإذن الله.
وقال بعضهم: السُّورُ مِن الرِّفعَة والعلو، وكذلك السُّورة ترفع صاحبها إذا علمها
وعمل بها.
{جزاكم الله خيرًا يا شيخ..
يعلم الجميع أن السُّور فيها مكِّي ومدني. فما هي علامات المكي؟}.
هناك ضوابط، منهـــا:
الضَّابط الأوَّل: كل سورة تقرؤها فيها كلمة "كلا" فهي مكيَّة، وتتذكَّر حرف الكاف
في "كلا" و "مكِّي".
يقول الناظم:
ولم تنزلن "كلا" بيثرب فاعلمن ** وليست من القرآن في نصفه الأعلى
يقول: إنَّ كلمة "كلا" لم ترِد في سورةٍ مدنيَّة، وليست في القرآن في النِّصف
الأوَّل -من سورة الفاتحة إلى نصف الكهف- فليس في أي سورة منها كلمة "كلا"، وإنَّما
في السُّور الأخرى.
الضَّابط الثَّاني: كل سورة يقرأها القارئ ويمر بسجدة فهي سورة مكيَّة.
الضَّابط الثَّالث: كل سورةٍ يقرأها القارئ مبدوءة بحروف مقطَّعة "الم، الر،
حم،..." فهي سورة مكيَّة، باستثناء البقرة وآل عمران.
الضَّابط الرَّابع: كل سورة فيها قصَّة آدم -عليه السَّلام- وإبليس فهي مكيَّة،
واستثنوا من ذلك سورة البقرة.
هذه بعض علامات بعض السُّور المكيَّة.
{شيخنا أحسن الله إليك، الجزء الأعلى من سورة الأعراف هل هي مكيَّة أو مدنيَّة}.
سورة الأعراف مكيَّة.
{لو توضحون قول الناظم "ولم تنزلن "كلا" بيثرب فاعلمن**......."}.
يقول: إنَّ كلمة "كلا" لم تنزل في سورة مدنية، وأنَّ "كلا" لم ترد في الأجزاء
الخمسة عشر الأولى في القرآن الكريم.
ومن باب الفائدة هنا: بعضهم تكلَّف وجمع حروف القرآن الكريم، ثم وضعوا عند الحرف
الذي يعتبر في نصف الميزان -كما يُقال: لسان الميزان- فوجوده حرف اللام الثَّانية
في قوله: ﴿وَلْيَتَلَطَّفْ﴾ في سورة الكهف، وذكر بعضهم أنَّ القارئ إذا وصل إلى هذه
الآية يقف ويدعو.
ويُقال: إنَّ تحديدَ حرفٍ معيَّنٍ أو سورةٍ معيَّنةٍ بذكرٍ معينٍ على جهةٍ
تعبُّديَّةٍ لا يكونُ إلَّا بدليلٍ شرعيٍّ.
{ما حُكم التفسير بعدد الآيات؟}.
ظهرت كتب في الزَّمن الأخير تُعنَى بالأعداد وحسابات رياضيَّة ومقدِّمات ولها
نتائج؛ وهذه أمور -فيما يظهر- كلها تخرُّصات، ولو كان خيرًا لسبق إليه الصَّحابة
-رضي الله تعالى عنهم- فهم أحرص الناس على اقتفاء أثر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وهم من نقلوا لنا الشَّريعة وحفظوها، وكانوا حقًّا أصدق أمناء بعد نبي
الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على ذلك، ومع هذا ما عُرف أنَّ أحدًا منهم
جعل َلهذه الأعداد مقدِّمات ونتائج واستنتاجات، وأنَّ هذا يكون كذا...، وكذا...،
هذا كلُّه ظهر في الزَّمن المتأخِّر، ومع الأسف الشَّديد يلقَى له رواجًا بين
الناسِ، والسَّبب هو أنَّه كلَّما كثُرَ الجهل فيهم كلَّما كان تقبُّل هذه الأمور
أكثر رواجًا عندهم.
{أحسن الله إليكم شيخنا، لو ذكرتم لنا علامات السُّورة المدنية}.
لمَّا استقرَّت دولة الإسلام في المدينة، وكما يُقال: وضعت الحرب أكثر أوزارها؛
نزلت الآيات التي فيها أحكام الفرائض وأحكام العبادات وأحكام الزَّكاة، فهذه من
علامات السُّورة المدنية.
وأيضًا ذكروا من العلامات: ذكر المنافقين، لأنَّ النِّفاق كان في المدينة، وأمَّا
في مكَّة فكان النِّفاق معدومًا أو قليلًا.
وكذلك الجهاد وأحكامه، وتقسيم الغنائم وما يتبعها، ومعاملة الأسرى؛ كل هذه علامات
على السُّور المدنية.
{يشتمل القرآن على أحكام ومواعظ وقصص. فما أنواع هذه القصص؟}.
كتب علوم القرآن والحمد لله كافية ووافية، وقد استفدتُّ منها أنَّ أنواع القصص في
القرآن على أقسامٍ ثلاثة:
الأول: قصصُ الأنبياءِ -عليهم الصلاة والسَّلام- مع أقوامهم، ومن قرأ سورة الأعراف
رأى أخبار بعض الأنبياء، وكذلك سورة الشُّعراء وسورة الصَّافات، بحسب طول الآي
وقصرها.
الثَّاني: قصصُ الرَّسولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع قومه، كما في سورة
الأنفال والتوبة أخبار عن الصَّحابة، وأخبار عن مَن نافقوا كما في قوله ﴿وَمِنْهُمْ
مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ...﴾ .
الثَّالث: قصصُ أناسٍ ليسوا بأنبياء، مثل قصَّة أصحاب الكهف، وأصحاب الجنتين،
وهلمَّ جرا.
{لو ذكرتم لنا فضيلة الشيخ بعض فوائد هذه القصص}.
في قوله: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ
فُؤَادَكَ﴾ [هود: 120]، وهذه أعظم فائدة.
وهناك تنبيه قرأته للسخاوي في كتابه: "الإعلام بالتوبيخ لمن ذمَّ التاريخ"، يقول:
"مَن ظنَّ أنَّ القَصَصَ في القرآن أحاديثَ سمرٍ تُقطَعُ به المجالس، فهذا جهلٌ
وضلالٌ؛ وإنَّما الحكمة من ذكرِ القَصَصِ تثبيتُ قلبِ النَّبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتثبيتُ قلبِ مَن ابتُلي، وأنَّ الأنبياء قبله -عليهم السلام-
قد ابتلوا واحتسبوا وصبروا".
فتثبيتُ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأخبارِ مَن قبله مِن أعظم حكم
سردِ القَصصِ، وإن لم يكن غير هذه لكَفَت.
وذكروا أيضًا من الفوائد: تصديق الأنبياء السابقين -عليهم الصلاة والسلام- فإذا
جاءت القصص عن هو -عليه السلام- أو نوح -عليه السلام- وعن دعوتهم، وكيف تحمَّلو
وكيف صبروا؛ فهذا يؤكِّد صدقهم وصبرهم واحتسابهم.
{أحسن الله إليكم. ما الحكمة من تكرار القصة؟}.
كلام البشر إذا أُعيد فالغالب أنَّه يُمل ويُسئَم من سماعه، ففي أول سرد الحكاية
يُفهَم المراد، أمَّا في القرآن الكريم فقد ذكر علماء علوم القرآن أنَّ تكرار القصة
في القرآن الكريم له حِكَم، منها:
Ø أنَّه قد يأتي في بعض السَّرد في سورة تفصيل لِمَا كان مجملًا في سورة أخرى،
تأتي أحداث في هذه السورة زيادة على ما كان في السُّور الأخرى.
Ø إظهار بلاغة القرآن الكريم، وهذا من إعجازه، يعني لو أنَّ واحدًا ذكر قصَّةً ثم
أعادها غدًا وبعدَ غدٍ؛ فيُمل منه حتى أنَّ السَّامعين قد يقولوا: يكفي ما سمعنا!
أما في القرآن إذا أعدتَّ الآية، فتأتي القصَّة في سورة الأعراف، ثم تقرأها في سورة
يونس، ثم في سورة هود؛ ثم في سورة الصَّافَّات؛ وتجد أنَّ هناك تغايرًا وأنَّ هناك
فوائد تزيد على ما سبق أو تؤكِّد ما سبق.
{أحسن الله إليكم يا شيخنا، لو ذكرتم لنا بعض آداب تلاوة القرآن}.
آداب تلاوة القرآن ليست واجبة، لكن من باب فضائل الأعمال والمستحبات التي تُعين،
منها:
أولًا: أن يكون الإنسان على طهارة، حتى ولو كان على حدثٍ أصغر فله أن يقرأ القرآن
الكريم، حتى ذكر بعض أهل العلم أنَّ مَن عليها العذر الشَّرعي لها أن تقرأ القرآن
عن ظهر قلب، واحتجُّوا بقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعائشة:
«فَافْعَلِي ما يَفْعَلُ الحَاجُّ، غيرَ أنْ لا تَطُوفي بالبَيْتِ»[4]، والحاج يقرأ
القرآن ويُسبِّح، إلى آخره.
وقد جاء في الحديث: «لَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ»[5].
ثانيًا: الاستياك، جاء في الحديث «طيِّبُوا أفواهَكُم بالسواكِ، فإِنَّها طُرُقُ
القرآنِ»[6]، حسَّنه بعضهم.
ثالثًا: الاستعاذة، فيستعيذ بالله في بدء قراءته، والاستعاذة له صيغ متنوعة، "أعوذ
بالله من الشيطان الرَّجيم، أعوذ بالله السَّميع العلم من الشَّيطان الرَّجيم، أعوذ
بالله السَّميع العليم من الشَّيطان الرَّجيم من همزه ونفخ ونفثه".
رابعًا: يستحب بعض أهل العلم إذا كان سيقرأ من أول السورة أن يُبسمِل، وإن كانت
القراءة من غير أوَّلِ السُّورة، وهذا الأمر محلُّ استحسانٍ، فلو أنَّ أحدًا قرأ
وبسملَ في وسط السور فلا يُثرَّب عليه، ولكن الأفضل كما قالوا.
خامسًا: التَّدبُّر والتَّأمُّل فيما يقرأ، فجاء في مقدِّمَة سورة المزمِّل في
تفسير البغوي أثر عن ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّه قال: "لا تنثروه نثر
الرمل -يعني أثناء القراءة- ولا تهذُّوه هذَّ الشِّعر، قفوا عند عجائبه وحرِّكوا به
القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة".
وهنا ينبغي التَّنبيه إلى أنَّ القراءة أنواع:
Ø قراءة البحث العلمي، شخص يريد كلمة في سورة فيتصفَّح الصَّفحات بسرعة؛ لأنَّ
قصده الوقوف على هذه الكلمة، وآخر يبحث مثلًا عن اسم نبي في سورة معيَّنةٍ، فيقرأ
لاستخراج الآيات في ذلك.
Ø قراءة الحدر، حتى يُكمل حزبه.
Ø قراءة التَّرسُّل والتُّؤدَة ليتأمَّل ويعتبر.
سادسًا: من آداب التلاوة تحسين الصوت ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، فالأذان قال النبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيه: «أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ فَإِنَّهُ أَنْدَى
صَوْتًا مِنْكَ»[7]، وإذا سمع الناس صوت المؤذن النَّدي فإنَّ هذا يُزيدهم حبًّا
وراحةً لهذا النِّداء، وكذلك الإمام إذا كان صوته نديًّا وتلاوته متقَنة فإنَّ هذا
يزيد الجماعة في حرصهم على الصَّلاة خلفه.
وهنا أمر -وإن كان عارضًا- ولكنِّي أحبُّ ذكره: بعض من يصلِّي بالنَّاس يحبب الناس
إلى الصَّلاة بحسن التِّلاوة والتَّنوُّع فيها، وإعطاء القراءة حقَّها من
التَّأنِّي والتَّرسُّل فيها.
في المقابل؛ بعضهم يُكثِر من ترداد السورة في الصَّلوات، يعني يقرأ السورة في
الأسبوع أربع أو خمس أو ست مرات، أو التَّكرار يجعل الصَّلاة عند بعضهم عادة، أو
يفقد فيها خشوعه، أو بمعنى آخر ينتظر متى ينتهي عند المقطع هذا حتى يُكبِّر وتنتهي
الصَّلاة!
لكن إذا نوَّع الإمام وأحسن تلاوته يكون هذا من أسباب جلب الخشوع للمصلين.
{ذكرتم يا شيخنا أثر ابن مسعود في التلاوة، وذُكر عن بعض السلف ختم القرآن في
ليلةٍ، فما الجمع بينهما؟}.
لا يُصار إلى الجمع عند الأصوليين إلَّا عند التَّعارض، وليس هناك تعارض، فكون
الإنسان يقرأ حدرًا ليختم حزبه، فيقال إنَّ هذا عرض يأتي أحيانًا، شخص ختم القرآن
في ليلة، في السنة مرة أو في السنتين مرة؛ فهذا لا مانع منه من باب مراجعة الحفظ،
والأجر لكل حرف عشر حسنات، ولتقويم اللسان.
والناس هنا اعتبارات، بعضهم يقرأ الآية سريعًا ويستخرج منها أحكامًا، وبعضهم يقرأ
بتؤدة وقد لا يوفَّق فيما سبق، فهنا باعتبار الفكر والنَّظر والتَّدبُّر، ولكن
القاسم المشترك في التَّدبُّر، والأصل أن يقرأ بالتَّرسُّل والتَّأنِّي، ولكن لو
كان إمام سيختم بجماعته أو أحبَّ أن يُراجِع القرآن الكريم فيختمه في ليلة، وقد حصل
هذا من بعض السَّلف.
{لو ذكرتم لنا ثمار تلاوة القرآن}.
ثمار التِّلاوة كثيرة، وقد ذكر العلم في كتب التفسير -عمومًا- وفي كتب الرقائق
آثارًا عظيمة، منها:
- أنَّ فيها اطمئنان للقلوب، وربنا يقول في سورة الرعد: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا
وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ
الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]، وإذا اطمأنَّ القلبُ تبعته الجوارح.
وقد يخفى على بعض الناس أنَّ من ثمار التِّلاوة البركة في الوقت، إذا كان طالبَ
علمٍ وجدَ بركةً في وقته في البحث العلمي والكتابة، وأذكر أنَّني قرأتُ في طبقات
الحنابلة أنَّ أحد طلاب الحديث كان يضنُّ بوقته على أن يُنفَق في غير الحديث، قال:
فأرشدني شيخٌ لي إلى أن أجعل لنفسي حظًّا من التِّلاوة؛ قال: فجعلتُ لي حزبًا من
التِّلاوة في كل يوم، فكنت أكتبُ من الحديث بعد هذا الحزب من أكثر من ذي قبل.
فمن ثمار تلاوة القرآن البركة في الوقت، وهذا يجده مَن قرأ وسمع وجالس مَن جعل الله
له حظًّا من التِّلاوة.
- فيها تزكية للنفوس، قال تعالى: ﴿قد أفلح من زكاه﴾ [الشمس: 9]، وخير تزكية
للنَّفس أن تُزكَّى بطاعة الله، ومن طاعة الله أن يقرأ الإنسان كلام ربِّه بتدبُّرٍ
وتأمُّلٍ.
- وأيضًا من الثِّمار -كما تقدَّم- أنَّ بكل حرف عشر حسنات.
{ما هي الأسباب المعينة لحفظ كلام الله -جَلَّ وَعَلَا؟}.
أولًا: كلُّ أمرٍ عليك فيه بالدُّعاء الدُّعاء بقلبٍ صادقٍ، وجاء في الطبقات في
ترجمة الإمام أحمد: "قيل له: كم بيننا وبينَ عرش الرحمن؟ قال: دعوةٌ صادقةٌ من قلبِ
عبدٍ صادقٍ"، عليك في كلِّ أمرٍ أن تبدأ بالدُّعاء، وأخصُّ طلاب العلم أن يبدؤوا
-أن استطاعوا- بحفظ القرآن الكريم، وأن يكون قصده في ذلك مرضات الله تعالى.
وهنا تنبيه!
بعض أهل العلم يقول: لا ينبغي الإيغال والغلو في أمور النيَّات، لأنَّ هذا يُثبِّط
بعض النَّاس، وقد يُتوهَّم أنَّه مراءٍ في العمل، ولكن يُقال له: أخلص لله -جَلَّ
وَعَلَا- وادعُ ربَّكَ أن يُعينكَ على الإخلاص، واستعنْ بالله.
ثانيًا: ترتيب وقت في اليوم، لأنَّ كلما رتَّبَ مَن أرادَ الحفظ وقتًا يوميًّا ساعة
أو أقل بحسب ظروفه؛ فهذا -بإذن الله- سيرى نتائج إيجابيَّة.
ثالثًا: قبل أن يحفظَ أن يَسمَعَ الجزء الذي يريد حفظ من قارئ، فأحيانًا بعض
الفضلاء يحفظ على تلاوته ويلفظ خطأً فترسخ في ذهنه، كأن يقرأ الآية في سورة
العنكبوت ﴿وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ﴾ [العنكبوت: 21] فيقول "تُقلَّبون"، فهذا خطأ،
وأذكر أنَّ أحدَهم كانَ يقرأ: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ﴾
[لقمان: 13] فيقول "وهو يعُظُّه"، حتى أني سمعت بأذني أنَّ أحدهم يقرأ ﴿فَلَا
تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ [النساء: 129]، فقال
"كَالْمِلْعَقَة"! فقلتُ له: تأكَّد من ترتيب الحروف. فإذا سمعت مثل هذا فحاول أن
يعرف المخطئ خطأه قبل أن تصوِّبَه، فإنَّ هذا أبلغ في نسيان الخطأ من الذِّهن.
فقصدي من هذا: أنَّ الطالب يُسَمِّع الجزء -أو الحزب- الذي يُريد حفظه على قارئ، أو
أن يَسْمَعه من قارئ، سواء كان تسجيلًا أو مقابلةً.
رابعًا: أن تكون له نسخة واحدة يحفظ منها، والآن نسخة مصحف الملك فهد -رحمه الله-
أصبحت شبه معتمدة في كل المساجد.
خامسًا: أن يقرأه في صلواته، يعني مثلًا شخص حفظ سورة الغاشية أو القيامة، فنقول:
كرِّرها في النَّوافل القبليَّة والبَعديَّة، ولا مانع أحيانًا أن تقرأها إن كنت
إمامًا.
سادسًا: طريقة كنَّا نعلمها ونحن صغار، وهي كتابة اليد، والناس أجناس، وكل له
طريقة، ولكن كتابة الآية باليد مع تكرارها لفظًا والصَّلاة بها؛ فإنِّي أعتقد -إن
شاء الله- أن تُرسِّخ، وأذكر أنَّني قراتُ في بعض طبقات الحُفَّاظ أنَّ الواحد إذا
حفظَ متنًا من المتون يذهب إلى قنطرة -جسر نهر- أو على دَرجٍ، ويُذكر أنَّ بعضهم
صعد درجًا سبعين درجةٍ، فيطلع الدرجة الأولى ويعيد ما يحفظه، ثم الثانية، ثم
الثالثة، ثم الرابعة...، حتى ينتهي؛ فمثل هذا التَّكرار يزيد الحفظ ورسوخه في
الذِّهن على تقادم الأيام.
سابعًا: أن يقرأ تفسير الآيات التي يحفظها، فالحفظ مع التَّكرار مع الكتابة؛ فهذه
كأوتاد ترسِّخ المحفوظ.
ثامنًا: ينبغي اجتناب المعاصي، جاء عن الضَّحاك -رحمه الله- أنَّه قال: "ما حفظ
أحدٌ شيئًا من القرآن فنسيه إلا بذنبٍ عمله"، قال تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46].
{أحسن الله إليكم يا شيخنا، بعضهم يتحمَّس لحفظ القرآن على الكبر، فبماذا
توجِّهونهم وتنصحونهم؟}.
طلب العلم ليس وقفًا على الصغير، بل حتى الكبير، وكم من كبير وُفِّقَ إلى حفظِ ما
لم يستطعه الصَّغير، والصَّحابة ربما طلب العلم على كبر، حتى ذكر لي بعض المشايخ
المهتمِّينَ بعلم الحديث أنَّ عبد الصَّمد شرف الدِّين -رحمه الله- الذي حقق كتاب
"تحفة الأشراف" طلب العلم على كبر، ومع ذلك فقد أخرج هذا السِّفر العظيم، فطلب
العلم ليس وقفًا على شخص معيَّن، فالكبير والصغير والمرأة والرجل والغني والفقير
يستوون، ولكن بحسب الصِّدق مع الله، وبحسب فعل وبذل الأسباب.
{هناك في القرآن ألفاظ ونظائر، فلو ذكرتم لنا أمثلة على ذلك، أحسن الله إليكم}.
هناك كتب صدرت عن نظائر القرآن الكريم، ألفاظ متشابهة، أو آيات متشابهة.
المثال الأول: ما يتعلق بعلم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين:
علم اليقين وعين اليقين جاء في سورة التَّكاثر، وحق اليقين جاء في سورة الحاقة.
وعين اليقين: يُدرَك بالنَّظر.
وعلم اليقين: ما يُدرَك بالسَّمع.
وحق اليقين: ما يُباشره.
ومثَّلوا لذلك بقولهم: لو قيل لك: إنَّ هناك عسلًا؛ فهذا علم يقين، فلو رأيت العسل
بعينيك فهذا عين اليقين، فلو ذقته فهذا حق اليقين.
المثال الثاني: الصفح الجميل، والهجر الجميل، والصبر الجميل.
قال ابن تيمية: "الهجر الجميل: هجرٌ بلا أذى، والصفح الجميل: صفحٌ بلا عتاب. والصبر
الجميل: صبرٌ بلا شكوى".
{هناك مفاهيم خاطئة لبعض الناس في بعض الآيات، لو ذكرتم أمثلة وبعض الأسباب على
ذلك}.
كلُّ مَن تكلَّم بغير علم ففي الغالب يُخطئ، حتى يُقال في الشرع: لو أصاب فهو آثم؛
لأنَّه تجرَّأ على القول بغير علم، وصوابه لا يشفع له خاصَّة في كلام الله وكلام
رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ويبدو أنَّ من أسباب الفهم الخاطئ:
أولًا: التَّعالُم، يعني شخص يُسأل في مجموع من الناس وهو له قدر عندهم ومكانة؛
فتأنف نفسه أن يقول "لا أدري" فيجيب ويخوض ويتخرَّص بلا علم.
ثانيًا: أن يتبادر إلى فهمه شيء فيُقنع نفسه أنَّ هذا هو الصَّواب.
ثالثًا: أن يسمع كلامًا لغير أهل العلم فيُحاكيهم في كلامهم، وهذا لا شك من الجهل.
وأذكر من الأفهام الخاطئة: أنِّي مرَّة صليتُ وقرأتُ ببعض الآيات من سورة يوسف،
فلما انتهيت لحقني أحدهم وقال لي: ما مصير أخي يوسف؟
قلتُ: بنيامين الصغير أخذه يوسف عنده بصواع الملك، والثاني يهوذا بقيَ عندهم، وقال
لإخوته: ارجعوا لأبيكم.
فقال: الثالث؟ قلت: وما الثالث؟ فقال: أنت قرأت ﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا
نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [يوسف: 63]؟
فهو فهم أن "نكتل" عبد لهم؛ والصواب أنه فعل من "الكيل"؛ فانظر كيف استقرَّ هذا
الفهم!
ومن الأفهام الخاطئة أيضًا في قوله -جَلَّ وَعَلَا- عن مريم -رحمها الله:
﴿يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ﴾ [مريم: 28]، فيتبادر إليهم
أن مريم بنت عمران، وموسى ابن عمران، وهارون أخ موسى، وفي الآية قال: ﴿يَاأُخْتَ
هَارُونَ﴾ ، فإذن موسى وهارون ومريم إخوة!
وهذا ليس بصحيح، فبينهم بونٌ شاسع، قدَّره بعضهم بخمسة قرون أو أكثر أو أقل، وهذه
أمور غيبية والله أعلم.
والمفهوم الصَّحيح للآية: أنَّهم كانوا يسمُّون بصالح قومهم، مثل الشخص في الأسرة
أو في القبيلة كان معروف بكرم أو شهامة أو شجاعة أو علم؛ فيُسمِّي الناس أبناءهم
وأحفادهم على اسم الشَّخص، أو بالنَّسبة إليه فيُقال: يا أخا تميم، أو يا أخا
قحطان، أو أخا عدنان، وهذ من باب التَّنوُّع.
وقيل: لقد كان عندهم رجل في ذلك الوقت اسمه هارون، وكان عابدًا قانتًا، فشبهوها به.
ومن الأفهام الخاطئة: أنَّ البعض يظن أنَّ "طه ويس" من أسماء الرسول -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والسبب في ذلك الضَّمير، فلاحظ قوله تعالى: ﴿طه * مَا
أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ [طه: 1، 2]، وقوله: ﴿يس * وَالْقُرْآنِ
الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [يس 1 - 3]، فيظنُّ بعض القرَّاء أنَّ
المراد بالضَّمير هو النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والصَّحيح أنَّ
"طه ويس" شأنها شأن الحروف المقطَّعة "حم، ق، ص، كهيعص".
وكذلك من الأفهام الخاطئة: في قصَّة الرجل الذي عمل عنده موسى -عليه السلام- والد
المرأتين، في قوله: ﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ
هَاتَيْنِ﴾ [القصص: 27]، يظنُّ بعضهم أنَّ هذا الرَّجل هو شعيب.
ويقول بعض المفسرين في سياق آيات الأعراف أنَّ بين شعيب -عليه السَّلام- وبين موسى
-عليه السَّلام- حقبة زمنيَّة، لمَّا ذكر الله أخبار الأنبياء ثم ذكر شعيبًا قال:
﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى﴾ [الأعراف: 103]، تشعر من السِّياق
القرآني أنَّ هناكَ حُقبَة زمنيَّة بينَ الأنبياء السَّابقين وبينَ موسى.
والعجب أنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في كتاب "الجواب الصحيح"،
يقول: "باتِّفاق علماء المسلمين واليهود والنَّصارى أنَّ هذا الرجل ليس شعيبًا
-عليه السلام".
ومن الأفهام الخاطئة: في مطلع سورة يوسف في قوله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ
أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ [يوسف: 3]، فيظنُّ البعض من سياق الآية أنَّ قصَّة يوسف أحسن
قصَّةٍ في القرآن، وهذا ليس بصحيح كما يقول أهل العلم، بل إنَّ الآية لها محملان،
وذكر ذلك أيضًا شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "جواب أهل العلم والإيمان فيما أخبر
به رسول رب الرحمن أنَّ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ تعدل ثلث القرآن"، وهو كتاب
مطبوع في تفسير سورة الإخلاص، يقول فيه: "إنَّ معنى أحسنَ القَصص: أنَّ قَصص القرآن
هو أحسن القصص على الإطلاق، أو أن قصَّة يوسف في بابها هي أحسنُ قصَّةٍ".
فلو قال قائل: ما أحسن قصَّة في ظلم الإخوة؟
نقول: قصَّة يوسف.
ولو قيل: ما أحسن قصَّة في ابتلاء المرأة وفتنة النساء؟
نقول: قصَّة يوسف.
ولو قيل: ما أحسن قصَّة في ابتلاء الرجل بوالده ودعوته إلى دينه؟
نقول: قصة إبراهيم عليه السلام.
ولو قيل: ما أحسن قصَّة في البلاء البدني والصبر؟
نقول: قصَّة أيوب.
إذن؛ قصَّة أحسن قصَّة فيما يتعلق بحسد الإخوة وكيد النِّساء.
والوجه الآخر: أنَّ القَصص في القرآن هو أحسن القَصص على الإطلاق.
وهناك أيضًا مفاهيم خاطئة أخرى: مثل ما يفهمه بعض الناس من قوله: ﴿يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا
اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة: 105]، كأنَّه يقول: أنت إذا أطعتَ ربَّك فلا تهتم
بالآخرين، فالصِّديق أبو بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أعلم الأمَّة بعد الرسول
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيَّنَ أنَّ هذه الآية في عهده يفهمها الناس
خطأ، والمراد بها: إذا رأى الناس منكرًا يُغيِّروه، فأنت إذا أنعم الله عليك بالخير
ورأيت مَن خالف هذا النَّهج عليك بدعوته بالتي هي أحسن.
وذكر ابن القيم في "مفتاح دار السعادة" جملةً من هذه الأفهام الخاطئة.
إذن؛ سبب هذه الأخطاء في الأفهام هو التَّعالُم والتَّسرُّع، ومتى ما استقرَّ في
ذهن الإنسان فهمًا يظنُّ أنَّه الصَّواب ولا صواب غيره.
{يذكر بعض أهل العلم ضوابط عند القرآن الكريم، لو ذكرتم بعضها أحسن الله إليكم}.
كتبتُ بعضَ النِّقاط من خلال ما سمعتُ وقرأتُ من لطائفٍ لأهلِ العلم، هذه النِّقاط
تجمع المتفرق، منها:
- كل ما جاء في القرآن من ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ فقد أخبره الله بجوابه، مثل قوله:
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ﴾ [القارعة: 9، 10]، ﴿الْحَاقَّةُ *
مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ﴾ [الحاقة
1-4]، وقوله: ﴿وما أدراك ما يوم الدين. تملك﴾ [الإنفطار: 17].
- أما قول ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ فقد اخفى الله جوابه، قال تعالى: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ
لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ [الشورى: 17]، ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾
[عبس: 3].
وأظن أنَّ هذا القول عن سفيان بن عيينه -رحمه الله تعالى.
- إذا جاء التفسير عن الله -جَلَّ وَعَلَا- يعني تفسير القرآن بالقرآن، أو جاء عن
الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يُحتج إلى كتب أهل العلم.
مثل قوله في سورة مريم: ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّ﴾ [مريم: 24]، قرأت
في بعض التفاسير من قول بعضهم أنه ملك، وجاء الحديث الصحيح قال -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السريُّ النَّهر»[8]، فهنا لا نحتاج إلى بحث آخر.
- وفيما ذكر الشيخ الشنقيطي -رحمه الله تعالى- في "أضواء البيان": كل الاستفهامات
التي جاءت في خطاب المشركين فيما يتعلَّق بتوحيد الربوبيَّة إنَّما هو لإظهار
التَّناقض، يعني أنها استفهامات تقريريَّة يُراد بها: أنَّكم إذا كنتم مُقرِّينَ
بالرُّبوبيَّة فيلزمكم الإقرار بالألوهيَّة.
ولهذا قالوا: من التَّناقض أنَّ كفَّار الجاهليَّة أقرُّوا بالرُّبوبيَّة وأنكروا
الألوهيَّة، ومن لازم الرُّبوبيَّة الألوهيَّة، فإذا أقرَّ أنَّ الله الذي خلق
السَّماوات وأنزل المطر وأنبت الزَّرع ويُحيي الموتى؛ فمن لازم هذا أن يكون هو
المستحق للعبادة، وبعضهم يضيف الأسماء والصِّفات، ومن لازم ذلك أن تكون أسماؤه لا
تليق إلَّا به، وصفاته لا تليق إلَّا به، فأنواع التَّوحيد الثَّلاثة متلازمة
لازمة.
- إذا جاءت الآية عامَّة لا تقصرها على معنًى واحد، مثل قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا
آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ [البقرة: 201]، لو قال قائل: الحسنة هي الزَّوجة
الصَّالحة، وقال آخر: الحسنة هي الدَّار الواسعة، وقال آخر: المال الحلال، وقال
آخر: الحسنة الذُّريَّة الطَّيبة. فلا تصوِّب واحدًا وتُخطِّئ الآخر؛ فكل ما يشمل
هذا يدخل تحت مظلَّته، ولا تقصر كلمة أو آية على مفردات معيَّنةٍ.
- إذا جاءت مفردتان مترادفتان؛ فالأولى تعطي معنًى خلاف الثاني، قال تعالى:
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ
انْفِرُوا جَمِيعً﴾ [النساء: 71]، قالوا: الثُّبات هو التَّفرُّق، أي: متفرقين.
وعكسه: التَّجمُّع. ومثل قوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانً﴾
[البقرة: 239]، إمَّا أن تكونوا على أرجلكم أو تكونوا راكبين الدَّواب.
{هل من طريقةٍ تُعين على فهم الآيات؟}
قد يكون لكل إنسان طريقة، لكن دوَّنتُ قديمًا طريقةً وأحسبُ أنَّ فيها نفعًا:
أولًا: الدُّعاء، أن يدعو الإنسان ربَّه، ويجتهد في الدُّعاء أن ييسر له ما تعسَّر،
والله -جَلَّ وَعَلَا- إذا قَبِل الدُّعاء قرَّبَ ما كان بعيدًا، وجمع ما كان
تفرِّقًا، ويسَّرَ ما كان عسيرًا.
ثانيًا: أن يكون معه قلم وأوراق، ومصحف يقرأ فيه.
ثالثًا: أنصح مَن أراد أن يستفيد أن يبدأ بفهم تفسير ما يحفظه، فشخص يحفظ جزء عمَّ
فلا يبدأ بتفسير البقرة وآل عمران، بل يبدأ بما يحفظ، لأنَّه سيكون أكثر رسوخًا في
ذهنه.
رابعًا: إذا قرأ السورة يبدأ باللفظ الغريب، مثل قوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾ [الفلق 1-
3]، فاللفظ الغريب هنا "غاسق، وقب". وفي قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *
اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ [الصمد 1، 2]، اللفظ الغريب هو "الصمد"، وفي قوله تعالى: ﴿فَلَا
أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ﴾ [التكوير: 15]، فاللظ الغريب
"الخنس، الكنَّس".
يُحاول من يحفظ هذه الآية أن يكتبها، ثم يُحاول بما أعطاه الله من المسميات التي
يعرفها أن ينحتَ الذِّهنَ، وهذا يسمونه "التعلُّم بالقوَّة"، ومن سبله طرح السؤال،
فأنت إذا أعطيتَ الناس معلومة أخذوها، ولكن لو قلتها في صيغة سؤال أو لُغز: ما
تقولون في كذا وكذا؟ فكل واحد يبدأ ينحت ذهنه.
فيُقال لهذا الشَّخص: حاول تعرف معنى "غاسق، وقب"، اكتب أيَّ معنى، فأنت لست في
مقام فُتيا؛ بل أنت في مقام تحريك الذِّهن.
فتبدأ تأخذ الآية الأولى في السورة، وتكتب ما تستفيده منها من فوائد عقدية مثلًا
أنَّ العبد ضعيف لأنَّه مستعيذ، والله تعالى هو القوي لأنَّه هو المُستعَاذُ به،
وأنَّ العبد فقيرٌ لأنَّه محتاج، وأنَّ الله غنيٌّ لأنَّه يُحتاجُ إليه.
فإذا انتهيت من هذا الأمر فارجع إلى التفاسير، وأنا أنصح نفسي والإخوان بتفسير ابن
السعدي كمرحلة أولى، ثم تفسير ابن كثير كمرحلة ثانية، ثم تفسير القرطبي؛ وينظر هل
الألفاظ الغريبة التي كتبها لها معانٍ توافق ما ذكره أهل العلم سواء في التفسير أو
في الغريب، فإن كانت موافقة فليحمد الله على الصَّواب، وإن كانت مخالفة فليحمد الله
أنَّ الله بصَّره بالصَّواب.
ثم ينظر إلى الفوائد التي كتبها، هل ذكرها المفسرون أولا، فإذا خطَّؤوها ألغاها،
وإن ذكروها حمد الله، وزاد ما ذكر المفسرون على ما ذكر.
كل هذا مع تزكية العلم، فزكاة المال ربع العشر، وزكاة الزَّرع يوم حصاده؛ وزكاة
العلم العمل به ونشره بينَ النَّاس والصبر على ذلك.
هذا فيما يظهر، ولعلَّها -إن شاء الله- تنفع قائلها وسامعها وشاهدها ومَن بلغ.
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين
حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج ومنِّي أنا محدِّثكم عبد الله بن أحمد العمر،
إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله
وبركاته}.
-----------------
[1] صحيح مسلم (2577).
[2] صحيح البخاري (6237).
[3] صحيح البخاري (7066).
[4] أخرجه البخاري (305) واللفظ له، ومسلم (1211).
[5] حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (115)
[6] صححه الألباني في صحيح الجامع (3939).
[7] متفق عليه.
[8]