{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء
العلمي، وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/عبد العزيز بن محمد السدحان، فأهلًا وسهلًا بكم
فضيلة الشيخ}.
وعليكم السَّلام ورحمة الله وبركاته.
حياكم الله وبياكم يا أبا عزَّام، وحيَّا الله المشاهدين والمستمعين.
كلمة "بيَّاكم" تتكرَّر، وربَّما مَن يُشاهد ويسمع قد يَخفى عليه معناها، وأنا
أجمعها في كلمة "أبجف":
أ= أضحك.
ب= بوَّأك في الجنَّة منزلًا.
ج = جاءَ بك.
ف= فرَّحك.
فهذه معاني كلمة "بيَّاكَ".
{جزاكم الله خيرًا.
في البداية لو نراجع بعض ما سبق؛ فلو ذكرتم لنا بعض خصائص الأنبياء}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.
مراجعة الدَّرس السَّابق قبل الدَّرس اللاحق ممَّا ينفع المستمع بل وحتَّى المتكلم،
ولهذا فإنَّ بعض المعلمين الموفَّقين قبل شرح الدَّرس الحالي يسترجع المعلومات
السَّابقة ليربط السَّابق باللَّاحق، وهذه الطَّريقة تُعين على ضبط المعلومة وعلى
توثُّق المتكلِّم منها، سواء كان ناقلًا أو قائلًا.
تقدَّم في المجلس السَّابق أنَّ للأنبياء -عليهم السَّلام- خصائص دون النَّاس،
وهناك خصائص للنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دون الأنبياء، فخصائص
الأنبياء دون النَّاس:
· الوحي.
· العصمة في التَّبليغ في الرِّسالة التي يحملونها.
· يُخيَّرون عند موتهم، إمَّا الحياة السَّرمديَّة أو قبض الأرواح، وجميعهم
-عليهم الصلاة والسَّلام- اختاروا قبض الأرواح.
· يُدفنون في المكان الذي ماتوا فيه.
· لا يتركون ميراثًا خلفهم.
· أنَّ دعوة الأنبياء كلهم واحدة في التَّوحيد، وأما أحكام الفرائض تختلف،
لكن الأصل واحد وهو التوحيد، قال تعالى:﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ
الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: 19]، يعني: دين جميع الأنبياء هو توحيد الله -عزَّ وجل.
· مَن كَذَّب نبيًّا واحدًا فهو مُكذِّبٌ بجميع الأنبياء، فلو زعم زاعمٌ
أنَّه يؤمن بجميع الأنبياء إلَّا فلان منهم؛ فيُقال له: عدم إيمانك بأحدهم هو عدم
إيمان بالجميع، ولهذا قال تعالى:﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء:
105]، فلأنَّهم كذَّبوا نوحًا -عليه السَّلام- فلزم تكذيب دعوته وإنكار التوحيد
الذي أتى به أنَّهم منكرون ومكذِّبون لجميع الأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام.
{جزاكم الله خيرًا يا شيخنا.
في هذه الحلقة -بإذن الله- سنتحدَّث عن بعض الفوائد من سورة يوسف.
المقطع الأول: قال تعالى:﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ
كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [يوسف 1- 3])}.
تقدَّم في مجلسٍ سابقٍ أنَّ من علامات السُّور المكيَّة أنَّها تُستفتَح بالحروف
المقطَّعة، فكل سورة مفتتحة بحروف مقطَّعة فهي مكيَّة باستثناء سورتي البقرة وآل
عمران.
قوله تعالى:﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ ، يظن كثير ممَّن يقرأ هذه
الآية أنَّ قصَّة يوسف هي أحسن قصَّة على الإطلاق، والصَّحيح أنَّ هذا فيه تفصيل:
قال أهل العلم: للآية محملان:
الأوَّل: قوله:﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ ، يعني: ما نقصُّه عليك
يا محمد في هذا القرآن هو أحسن القصص على الإطلاق.
الثَّاني: أنَّ قصَّة يوسف هي أحسن قصَّة على الإطلاق في موضوعها.
فلو قال قائل: ما أحسنُ قصَّةٍ في كيدِ النِّساء وفي حسَدِ الإخوة؟
لكان الجواب فورًا: قصَّة يوسف.
ولو قال قائل: ما أحسن قصَّة في الابتلاء والصَّبر على المرض والاحتساب؟
فيُقال: قصَّة أيوب، وهلمَّ جرا
فقصَّة يوسف هي أحسن قصَّة في بابها.
وممَّا ذُكر في الآية: قوله:﴿وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ ،
قد يستشكل بعضهم المعنى؛ فيقل: الغفلة قبل أن يُوحَى إليه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كسائر النَّاس، لا يعرف
هذا الشَّيء، فلمَّا أكرمه الله واصطفاه بهذه النُّبوَّة أخبره -عز وجل- بالأخبار
السَّابقة في الأمم الغابرة حتى نقلها إلينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو
الصَّادق المصدوق.
{المقطع الثاني: قال تعالى:﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي
رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي
سَاجِدِينَ﴾ [يوسف: 4]}.
أوردَ بعض المفسرين روايات في تسمية هذه الكواكب، وأنَّ أسماءها كذا وكذا وكذا؛
وهذا الخبر لا يصح، ولو صحَّ لا يترتَّب عليه فائدة!
وذكر شيخ الإسلام أنَّ بعض المفسرين ينقل أخبارًا أو يُسوِّد صفحاتٍ في أمورٍ لا
تنفع القارئ ولا الباحث ولا حتى السامع؛ بل حتى هو نفسه لا تنفعه.
مثَّل بعض أهل العلم لذلك: ما لون كلب أصحاب الكهف؟ هل كان لونه أبيض أو كذا، أو
كذا، أو خليطًا من لونين؟ ما نوع العصا التي ضرب بها موسى البحر فانفلق؟ هل هي كذا
أو كذا؟ ما نوع الشجرة التي أكل منها آدم؟
لا يترتَّب على العلمِ بهذه الأشياء فائدة؛ بل لو كانَ لها فائدة لنصَّ الشَّرع
عليها، فهذه الكواكب التي رآها يوسف -عليه السَّلام- ذكر عددها ولم يذكر أسماءها.
قوله:﴿إِنِّي رَأَيْتُ﴾ .
مع تقدُّم وسائل التواصل كثُرَ الكلام عن الرؤى والأحلام، وأصبح لها قنوات خاصَّة،
وهناك كثير من النَّاس صدَّرَ نفسه للتعبير، وأصبح هذا العمل -للأسف- قد خاضَ فيه
مَن يعرف ومَن لا يعرف.
وأقول للفضلاء المشاهدين والمستمعين: ليس كل ما يراه الإنسان في منامه يحتاج إلى
تعبير.
ذكر المصطلح في فتواه -وذكر ذلك غيره: أنَّ ما يراه النَّائم على أقسامٍ ثلاثة:
· الأوَّل: رُؤى، إمَّا أن تكون محذِّرَة أو مبشِّرة.
· الثَّاني: أضغاث أحلام، وهي أن يرى أشياء مُتناقضة، ليس لها زِمَامَ ولا
خِطَام، وكما قيل: لا أوَّل لها ولا آخر.
· الثَّالث: حديث النَّفس، وهو أن يرى الإنسان ما نام عليه.
ومثَّلوا لذلك: كأن يكون الإنسان مُصابًا بالحمى فيرى جمرًا وشمسًا أو نارًا، أو
يكون مصابًا بالفالج -البرد- فيرى ثلجًا وماءً... إلى آخره، في الغالب تكون هذه
تأثيرات نفسيَّة.
إذن؛ الرُّؤيا هي التي تكون مُبشِّرة أو تكون منفِّرة، وأن تخلو من التَّناقضات ومن
الأمور التي ليس لها زمام ولا خطام، وألَّا يرى ما نام عليه، حتى ذكر بعضهم أنَّه
إذا قام لا ينساها، فيتذكرها كاملة.
وينبغي لمن رأى الرُّؤيا ألا يقصَّها على كل أحد، فقد جاء في الحديث: «لَا
تَقُصُّوا الرُّؤْيَا إِلَّا عَلَى عَالِمٍ، أَوْ نَاصِحٍ»[20]، قيل: العالم يفسرها
لك، والنَّاصح يحثُّك على الخير ويأمرك به، ويحذِّرك من السُّوء والمعاصي، ولكن بعض
النَّاس قد يكون جاهلًا فيُعبِّر الرُّؤيا، حتى إن بعضهم يجزم بتعبيره كأنه يوسف بن
يعقوب - عليه السَّلام- أو كأنَّه ابن سيرين، فيجزم ويقطع بصحِّةِ تعبيره!
وبعض المعبِّرين -مع الأسف الشَّديد- يبني على الرُّؤيا أحكامًا فيها الشَّك
والرِّيبة للرأى، مثلًا يقول لك: هذه الرُّؤيا التي رأيت تعني أنَّ هناك امرأة
تحسدك، ثم يتوسَّع في الكلام فيقول: هذه المرأة صفاتها الخلقيَّة كذا وكذا! وقد
تطابق هذه الصفة صفة أمه أو أخته؛ فيُوقع الشَّك والرِّيبةَ؛ بل قد يُصرِّح
الرَّائي بهذه المرأة، وهذا لا شكَّ أنَّه رمي بهتانٍ، ومع الأسف الشديد -كما
بلغني- أنه وقع خلاف وعداء وهجران بسبب تسرع وتهوُّر من بعض المعبِّرين في القطع
بأنَّ الرُّؤيا تدلُّ على كذا أو كذا.
وممَّا ينبغي أن يُقال: أنَّ بعض النَّاس إذا أصيبَ بمرضٍ ثم رأى في المنام أنَّ
فلانًا أو فلانة؛ فيذهب لبعض المعبِّرين فيقول له: إنَّ هذه هي التي أصابتك، أو يقع
في نفسه أنَّ هذا الشخص هو الذي أصابه؛ وقد تكون المرأة التي رآها أو الرجل الذي
رآه يحمل بين جنبيه قلبًا فيه من التُّقى والورع ما لو قُسِّمَ على سبعين من الرائي
لكفاهم، فنبغي لهذا الإنسان أن يتقي الله، وألَّا يرمي النَّاس بالظنون السيئة
والبهتان بمجرَّد أنَّه رأى رؤيا.
ثم هذا الذي رأى المرأة لو ذهب إلى شخصٍ آخر وقال له: إنَّ هذه المرأة تُحبُّك
وتدعو لك؛ لتغيَّرت نفسيَّته بمجرد كلام المعبِّر.
فيُقال: إذا رأيتَ رجلًا أو امرأةً لا تبني حُكمًا في اتِّهام المسلمين -أو حتى غير
المسلمين- لمجرد أنَّك رأيته في المنام؛ فقد تكون الرُّؤيا تخذيل أو تلبيس من
الشَّيطان في سبيل إيقاع العداوة والبغضاء بينك وبين من رأيت.
{أحسن الله إليكم شيخنا.
هل ينبغي لمن رأى رؤيا أن يسارع لتعبيرها، أو أن يترك الأمر؟}.
يقولون: إن الرُّؤيا تختلف، تارة يتفاءل بها الإنسان فيكون فيها بشارات، وسنشير إلى
من ينبغي سؤال في مثل هذا، ولكن بعض النَّاس يُسارع إلى تفسيرها بنفسه، وما عنده حظ
من علم التَّعبير، أو يسأل من يُشهر نفسه على وسائل التَّواصل أنَّه يُعبِّر وأنَّه
كذا وكذا، والمشكلة أنَّه يجعل تعبير فلانٍ كأنَّه وحيٌ مُنزَّلٌ مُحكَم لا يقبل
الخلل ولا النُّقصان ولا الزِّيادة.
ومن السَّنَّة أنَّه إذا رأى ما يكره:
· أن يكتمه ولا يُحدِّث به أحدًا.
· الاستعاذة بالله من الشَّيطان الرَّجيم من شرِّ ما رأى.
· أن يعتقد أنَّها -بإذن الله- لا تضره.
· إذا قام من فراشة تَفِلَ عن يساره ثلاثًا.
· يتوضأ ويُصلِّي ركعتين.
· إذا رجع إلى النَّوم غيَّر جنبه الذي كان عليه.
فهذا في آداب الرُّؤيا المفزعة.
{المقطع الثالث: قال تعالى:﴿قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى
إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ
مُبِينٌ﴾ [يوسف: 5]}.
هنا نستفيد وصية الآباء للأبناء، فيعقوب -عليه الصَّلاة والسَّلام- جمع في هذه
النَّصيحة النُّبوَّة والأبوَّة والمعلِّم ليوسف -عليه السَّلام.
قوله:﴿يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ﴾ هنا نهي.
قوله:﴿لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ﴾ ؛ لأنَّ هناك مَن يحسُد حتى
علىالمنامات، فبعض النَّاس يحسد في اليقظة على نعمة ظاهرة خَلقيَّة أو خُلُقيَّة أو
ذُريَّة أو ما شاكلها، ولكن هناك أناس إذا بلغهم أنَّك رأيت في المنام رؤيا أو
رُئِيَت فيك رؤيا يحسدك، وهذا من أمراض القلب، فيعقوب -عليه السَّلام- ينصح ليوسف
-ولكل أحد- ألا يقصص رؤياه على إخوته، حتى لا يكيدوا له كيدًا، وهذا من فقه يعقوب
-عليه السَّلام- وكيف لا وهو من الأنبياء المصطفين.
قال تعالى:﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ ، يجتمع في قصِّ
الرُّؤيا على مَن يخشى منهم اجتماع كيد العدو الأكبر الشَّيطان والعدو الأصغر وهم
الحَسَدة أو مَن يُخشَى من كيدهم على مَن رأى، فيُقال لمن رأى رؤيا طيِّبة: لا
تقصَّها على مَن تخشى أو تشعر أن ينافسك أو يغار منك.
وهنا فائدة طيِّبة: إذا علمت من نفسك أنَّ الله أفاء عليك بنعمٍ، أو امرأة أفاء
الله عليها بنعمٍ؛ فرُئِيَ فيها رؤيا أو رأت في نفسها رؤيا بوادرها الخير والبشارة،
فلا ينبغي أن تُعين الشيطان على تلك الحاسدة؛ لأنَّ هذا ابتلي بالحسد بمرض القلب
وضعف الإيمان، فلا تقص الرُّؤيا عليه فتزيد الشيطان عونًا عليه، ولكن اطوِ بساطك
-كما يُقال- واكتمها إلَّا عن من تُحب، ولهذا في الحديث:«اسْتَعِينُوا عَلَى
قَضَاءِ الْحَوَائِجِ بِكِتْمَانِهَا، فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُود»[21]،
وهذه قاعدة عامَّة، فمن تخشَى من كيده وبطشه فلا تخرج له ما أفاء الله عليك حتى لا
تضر نفسك وتضر المسكين هذا فتُعين الشيطان عليه.
ومما يستفيده المتابعين والمشاهدين: ذكر ابن القيم عشرة أسباب في علاج الحسد، ثم
قال: "وآخرها أصعبها على النفس إلَّا مَن وفَّقه الله، وهي الدعاء للحاسد بالهداية
والتَّوفيق"، فإذا تذكر الإنسان قوله تعالى:﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت:
34]، فقوله: "حميم" يعني: زيادة في المحبَّة والحميمية بين مَن كان عدوًا لك.
{ما هو القول الوسط بينَ التَّحديث بالنعمة وبين حديث «اسْتَعِينُوا عَلَى قَضَاءِ
الْحَوَائِجِ بِكِتْمَانِهَ»}.
نقول: ليس هناك تعارض بين آية وآية، أو بينَ حديث وحديث، أو بين آيةٍ وحديث؛ ولكن
التَّعارض في ظاهر اللَّفظ، فيُقال: حدِّث بالنِّعَم الظَّاهرة، كأن يكون قد أنعم
الله عليه بإمامة مسجد، أو أنعم الله عليه بمحبَّة بين النَّاس، أو أنعم الله عليه
بمحبَّة والديه؛ فيقول: الحمد لله أنِّي أبيت وأقوم ووالداي راضين عنِّي، أو أحمد
الله -جَلَّ وَعَلَا- أن أكرمني بهذه الإمامة وأعاني على أداء أمانتها، أو رزقه
الله نعمة ظاهرة كبيتٍ إمَّا يُوهَب له أو يُهدَى له، أو يُقيِّد الله صفقة
تجاريَّة شرعيَّة فيظهر أمره فيتحدَّث بالنِّعَمِ مع شكر الله تعالى عليها.
وهناك نعم لا تكون ظاهرة، فتكون خفيَّة، كحصوله على أرباح مثلًا لا يطلع عليه إلَّا
الخاصَّة، فمثل هذا لا ينبغي إخراجه بخاصَّة عندَ مَن يُخشَى عليه أن يتأثَّر إمَّا
حزنًا أو كيدًا.
فائدة في سورة النصر:﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ هذه نعمة، ثم
قال:﴿وَرَأَيْتَ النَّاس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجً﴾ هذه النعمة
الثانية، قال:﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ
تَوَّابً﴾ ، يقول قائل: نحن نحمد الله عند النِّعم، لكن ما مناسبة الاستغفار؟
يقول أهل العلم: إذا أنعم الله على العبد بنعمة، فإنَّه يشكر الله تعالى ويستغفره،
ومناسبة الشكر معروفة في قوله:﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: 7].
وجه الاستغفار بعد الذَّنب: الاستغفار يكون بعد الذَّنب أبدًا، قد يكون العبد من
الأتقياء ويقول سيد الاستغفار، لكن الاستغفار بعد النِّعم حتى يشكر الله لتيسير هذه
النِّعمة، ويستغفر الله من تقصيره في حق الله مع إكرام الله تعالى له.
{المقطع الرابع: قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ
رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ [يوسف: 24]}.
قوله:﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَ﴾ ، هَمُّ المرأة معروف وهو الفاحشة.
وذكر أهل العلم أنَّ للهمِّ تفاسير ثلاثة:
القول الأوَّل: وهو تفسير باطل، وقد نقل بعضهم أمورًا يعف اللسان عن إسماعها
للحاضرين، فمما ذكروا: أنَّه همَّ بما همَّت به، وهذا كلام باطل بالعقل وبالنَّقل
والفطرة.
القول الثَّاني واختاره من المتأخرين الشنقيطي صاحب أضواء البيان، ومن المتأخرين
الرازي وغيره: ليس هناك همٌّ أصلًا، لأنَّ الآية فيها تقديمٌ وتأخيرٌ وتقدير، فهذه
الآية مثلما ورد في سورة القصص﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ
كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَ﴾ [القصص: 10]، فمعنى
الآية: أصبح فؤاد أم موسى فارغًا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها، فلمَّا
ربطنا على قلبها ما أبدت به، وكذلك في سورة يوسف:﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ
بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ ، قد كاد أن يهمَّ بها ولكن رأى برهان
ربِّه، فما هناك همٌّ أصلًا لأنَّه رأى البرهان.
القول الثَّالث: الهمُّ هنا الميل الطَّبيعي، مثل: العطشان عطش شديد وهو صائم في
رمضان في حرِّ الهواجر يرى الماء، فبطبيعة النفس أنَّها تتوق إلى الماء عند العطش،
لكن الوازع الشَّرعي يمنع؛ بل لا يُمكن أن يشرب الماء لحُرمة الماء، وعدم مرضاة
الله على مَن شرب في رمضان.
قالوا: فالهمُّ هو الميل الطبيعي، لكن العصمةوالعناية الإلهيَّة ومقام النُّبوَّة
إلى آخره من نفور الفطرة والعقل من يوسف -عليه السَّلام- أبعده الله ونجَّاه كما
ذكر في آخر الآية:﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ﴾ .
{المقطع الخامس: قال تعالى:﴿قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ
مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ
الْكَاذِبِينَ﴾ [يوسف: 26]}.
هنا بيان أنَّها هي المُراوِدَة، وأنَّها هي التي أرادت السُّوء.
قال تعالى:﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَ﴾ ذكر المفسرون في الشاهد" أقوالًا:
· القول الأول: أنَّ الشَّاهد من الملائكة -عليهم السَّلام.
· القول الثاني: أنَّ الشاهد من الجن الصَّالحين.
· القول الثَّالث: الشاهد هو القميص الذي عليه.
· القول الرَّابع: الشَّاهد طفل رضيع في المهد.
· القول الخامس: الشَّاهد هو رجل عاقل.
والآية نفسها ستسقط بعض الأقوال:
الأول: في نفس الآية يقول رب العالمين:﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَ﴾ ،
فالملائكة ليسوا من أهلها؛ فسقط القول الأول، وكذلك الجن ليسوا من أهلها؛ فسقط
القول الثَّاني، والقميص كذلك ليس من أهلها؛ فسقط القول الثالث؛ فبقيَ قولان:
· إمَّا أن يكون رضيعًا.
· أو يكون رجلًا عاقلًا.
وجاء في الحديث: «تكلم في المهد أربعة...»، منهم «شاهد يوسف»، لكن هذه الزِّيادة لا
تصح.
فيبقى الأصل أنَّ الشَّاهد رجلٌ عاقل، والدَّليل أنَّ هذا الكلام الذي ذكره الله لا
يصدر إلا من شخص عاقل حكيم:﴿إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ
وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ ، وقدَّم احتمال صدقها لمقامها في قصره﴿وَإِنْ كَانَ
قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ ، فهذا الكلام
لا يقوله إلا شخص حكيم وعاقل؛ لأنَّ القميص إن كان ممزَّق من الأمام فهو الذي
هجمها، وإنَّ القميص ممزَّق من خلف فهو الذي فرَّ منها وهي التي هاجمته.
{المقطع السادس: قال تعالى:﴿يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ
خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ
إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ
بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاس لَا
يَعْلَمُونَ(40)﴾ [يوسف: 39، 40]}.
يستفاد من هذه الآيات:
- أنَّ مَن كان عنده علم أن يبثَّه في كل مكانٍ، فيوسف -عليه السَّلام- في السجن،
وقد أتاه هؤلاء يسألونه عن رؤيا مناميَّة، فقبل تعبير الرؤى علم أنهم على غير
التَّوحيد، فبدأ بتعظيم التوحيد في نفوسهم ودعوتهم إلى التَّوحيد.
- أنَّ أعظم ما يبدأ به طالب العلم هو التَّوحيد، وبخاصَّة عند غير المسلمين، ولهذا
فإنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما أرسل معاذًا إلى اليمن أخبره عن
الأرضيَّة التي سيصل لها، وأخبره عن طبيعة أهلها، فقال له: «يا معاذ إِنَّكَ
تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ كِتَابٍ؛ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُم إِلَيْهِ
شَهَادَةُ أنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ»[22]، فيوسف -عليه السَّلام- مع أنَّه
مسجونٌ ومظلوم ويعرف أنَّه مظلوم؛ ومع ذلك ما أهمل دعوة هؤلاء إلى التَّوحيد، ولهذا
دائمًا طالب العلم أن يكون مباركًا، قال تعالى:﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا
كُنْتُ﴾ [مريم: 31]، أي مبارك في كل مكانٍ وفي كل زمانٍ مع كلِّ أنسانٍ على كلِّ
شأنٍ؛ فينبغي لطالب العلم إذا دخلَ مكانًا ألَّا يقوم من مكانه إلَّا مفيدًا أو
مستفيدًا، في الطَّائرة، في الباخرة، في السَّيَّارة، في المسجد، ولو فائدة في
ثواني، فبعض الفوائد لا تستغرق منك إلا دقيقة، فينبغي أو يُوظِّف طالب العلم علمه؛
لأنَّهذا زكاة، فزكاة المال ربع العشر، وزكاة الزرع﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ
حَصَادِهِ﴾ [الأنعام: 141]، وزكاة العلم: العمل به، ودعوة النَّاس إليه، والصبر على
بذله، وعدم التَّضجُّر من بذله.
يقول بعض علماء الشَّافعيَّة -عليه رحمة الله: "إذا جلس طالب العلم مع أُناس عامَّة
ما يعرفون أنَّه طالب علم؛ فينبغي أن يُبيِّن ذلك لهم"، وليس هذا من الرِّياء
والسُّمعة، فقد يكون عندهم أسئلة يحتاجونها في عقيدتهم، أو معاملتهم، أو في
عباداتهم، أو في سلوكيَّاتهم؛ ولا يقول "أنا طلب علم اسألوني"! بل يقول: يا إخواني
من لديه سؤال يتفضَّل، فهذا له مسوِّغ إذا قصدَ نفع النَّاس، ولكن بعض النَّاس قد
يثاقل أن تقول عنده "أنا طالب علم".
تقول على سبيل المثال: يا أيها الأكارم فيه فائدة، إنَّ أحد النَّاس قبل قليل قال:
"والنَّبي" والحلف بغير الله لا يجوز، قال-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ
كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ»، والحلف بالله على قسمين:
شرك أصغر، وشرك أكبر، فإذا اعتقدَ أنَّ المحلوف به مساوٍ لله فهذا شرك أكبر.
أو إذا قال أحدهم: يا أخي لو أن فلانًا ما ذهب ما وقع!
تقول: يا إخوان فيه فائدة، كلمة "لو" تنقسم إلى أقسام أربعة:
· يأثم قائلها إذا اعترض على قضاء الله وقدره.
· ويأثم قائلها إذا تمنَّى بها فعل الشَّر، كأن يقول: لو كان عندي مال لطبعتُ
كتب بدع.
· ويؤجر قائلها: إذا تمنَّى فعل خير، إذا قال: لو عندي مال لبنيتُ دارًا
للأيتام، لبنيتُ مركزًا لغسيل الكُلى للفقراء، لبنيت مركزًا لعلاج أسنان الفقراء.
· لا يؤزَر ولا يُؤجَر: وهذا في الخبر العام، كقولك: يا شيخ عبد الرحمن، بيتي
من الطَّريق الفلاني، ولو أتيت من الطريق الآخر تصل؛ فهنا ليس اعتراضًا ولا تمنِّي
فعل خير أو فعل شر.
فأنت إذا قلت هذه الفائدة فإنَّ الحاضرين سيستفيدون ويبدؤون يسألون.
{المقطع السابع: قال تعالى:﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ
سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ
يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ
لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ(43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ
الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ(44)﴾ [يوسف: 43، 44]}.
تعبير الرُّؤيا نوع من الفتيا، وقوله:﴿إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ ، فهم
على ما فيه من الكفر تبرؤوا من هذا الأمر فقالو:﴿أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ
بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ﴾ ، فينبغي للمسلم، أو لمن صدَّر نفسه للتعبير
-كما يحصل الآن- أن يعرف أن التعبير فتيا، وكما قال الإمام روى مالك وغيره: «الرؤيا
الصالحة جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ»، فينبغي لمن
لا يعرف من نفسه التَّأويل، سواء التَّأويل العام بأن لا يعرف التأويل أبدًا، أو لا
يعرف تأويل هذه الرُّؤيا، وبخاصَّة إذا سألك أحد علية القوم، فبعض النَّاس يتسرَّع
فيُعبِّر الرُّؤيا، فإذا كنتَ تعلم فعبِّر حسب ما ظهر لك، وإذا كنتَ ما تعرف
فتقرَّب إلى الله بقولك "لا أدري". قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في
بعض الأحاديث «مَا أَدْرِي أَتُبَّعٌ أَنَبِيّاً كانَ أَمْ لاَ، وَمَا أَدْرِي ذَا
الْقَرْنَيْنِ أَنَبِيّاً كانَ أَمْ لاَ، وَمَا أَدْرِي الحُدُودُ كَفَّارَاتٌ
لأَهْلِهَا أَمْ ل»[23]، وفي البخاري باب "كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لا يأخذ بالقياس"، فلما سأل اليهود النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عن الرُّوح سكتَ حتى نزل قوله:﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ
الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا
قَلِيلً﴾ [الإسراء: 85].
فالجزم بالتَّعبير واتِّهام النَّاس في أثناء التَّعبير بأنَّ امرأة فيها كذا أو
كذا هي التي وضعت لك السِّحر في مأكولٍ أو مشروبٍ أو ملبوسٍ؛ فهذا كلُّه من
التَّخرُّص ومِن رمي التُّهم بالباطل.
{المقطع الثامن:﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ
إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [يوسف: 53]}.
تزكية النفس مذمومة على الإطلاق، ولكن لا مانع من أن يُزكِّي الإنسان نفسه في
أحوال، إذا كان يعرف من نفسه القيام بالعمل، قال هنا في سورة يوسف:﴿قَالَ
اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 55]؛ لأنَّه
علم -عليه الصَّلاة والسَّلام- أنَّ تولِّي أمر الخزائن سيضيع إلَّا إذا تولَّاها
بنفسه لعلمه -عليه الصَّلاة والسَّلام- أنَّه سيضبط هذا الأمر كمًّا وكيفًا.
قال تعالى:﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ فيها
تقسيم للنفس، فقيل إنَّ النُّفوس المذكورة في القرآن على أقسامٍ ثلاثة:
· القسم الأول: في سورة يوسف، وهي النفس الأمَّارة بالسوء.
· القسم الثاني: النَّفس اللَّوامة، كما في سورة القيامة: ﴿لَا أُقْسِمُ
بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ [القيامة1،
2].
· القسم الثَّالث: النَّفس المطمئنَّة، في سورة الفجر:﴿يَاأَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ [الفجر: 27].
وذهب بعض أهل العلم إلى أنَّ النفس واحدة ولها صفات ثلاث، فتارة تكون أمَّارة
بالسُّوء، وتارة تكون مطمئنَّة، وتارة تكون لوَّامة.
النَّفس الأمَّارة بالسُّوء: تأمر صاحبها بالشَّر وتنهاها عن الخير.
النَّفس المطمئنَّة: مَن تطمئن بفعل الخير، وتمطئن بترك الشَّر.
النَّفس اللَّوامة: من تلوم صاحبها عند الموت لأنَّه فرَّط، وقيل هي نوعٌ من
المطمئنَّة تلوم صاحبها عند فعل الشَّرِّ وتركِ الخيرِ.
{من القائل: "وما أبرئ نفسي"؟}.
قال بعضهم: إنَّ القائل هي المرأة نفسها؛ لأنَّها هي التي بدأت المراودة وهي التي
همَّت بالسُّوء، ولمَّا كُشِفَ الأمر وظهر تبرَّأت من ذلك، يعني: أخطأت في ذلك.
{المقطع التاسع:﴿فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مُنِعَ
مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ﴾ }.
لا ينبغي للإنسان إذا وقع في نفسه معنًى أو تفسير أو جواب أن يقطع بأنَّه هو
الصَّواب حتى يسأل، وبخاصَّة في مقام القرآن الكريم أو أحاديث النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أو الفُتيا.
ومن العجائب أنَّني صليتُ بالنَّاس إمامًا قرأتُ هذه الآية؛ ففوجئت بأحد النَّاس
يقول لي: ما مصير أخي يوسف؟
قلت له: بنيامين أو يهوذا؟
قال: لا، أنت قرأت اسم أخ له جديد "نكتل" لأن الآية ﴿فأرسل معنا أخانا نكتل﴾ ، فكلمة
"نكتل" جاءت بعد "أخانا" فكأنَّها بدل أو اسم!
والصَّحيح أنَّ "نكتل" من الفعل كَالَ.
وأذكر أنَّ بعضهم قد يقع في نفسه معانٍ أو تفاسير.
مثل في قوله-جَلَّ وَعَلَا:﴿وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ﴾ [الشعراء: 148]،
ذكر بعضهم لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رَحِمَهُ اللهُ: أنَّ "هضيم" يعني يُعين
على هضم الطَّعام!
قال الشيخ: لا، "هضيم" معني ليِّن، يُقال هضَمَ الجدار، أو هَضَمَ السُّور، أو
هَضَمَ البيت.
ومن المحاذير ما سمعت من قول أحدهم في قوله:﴿قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي
هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ [هود: 78]، كيف يقول لهم لوط -عليه السَّلام: هؤلاء بناتي!
فهذا وقع في نفسه الأمر الآخر من هذا العرض، وهذا فهمٌ سقيمٌ؛ فقد يقع في نفس
الإنسان فهم فيظن أنَّه مراد الآية.
والصَّحيح ما ذكره أهل العلم: فيقوله:﴿هَؤُلَاءِ بَنَاتِي﴾ قولان:
القول الأول:أي: تزوجوهنَّ زواجًا شرعيًّا، واتركوا الفاحشة المحرَّمة، فهؤلاء
بناتي من صلبي.
القول الثاني: أنَّ بنات القرية كلهنَّ بناته؛ لأنَّه في مقام الوالد، وفي بعض
القراءات ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وهُوَ أًبٌ لَهُم﴾ ، وإن كانت قراءة شاذَّة.
والشَّاهد: قولهم﴿قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ
حَقٍّ﴾ [هود: 79]، قيل: البنات الصُّلب، أو مَن تكون أنت وليًّا عليهم.
فبعض النَّاس يقع في نفسه معنًى محذور خاطئ شرعًّا ومنكرَة عقلًا ونقلًا وفطرةً،
وأحيانًا يُدلي بها.
وأذكر في سورة الحجر في قوله تعالى:﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ
بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر97- 99]، بعضهم إذا قرأ هذه
الآية يسجد لقوله﴿وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾ ، ولكن هذا ليس له دليل.
وقرأتُ على سماحة الشيخ ابن باز قولًا في هذا المعنى فقال: "ليس هذا موضع سجود"،
ومواضع السُّجود واضحة في القرآن الكريم، وفي المصاحف تجد مواضع السجود عليها
علامات سجود.
{المقطع العاشر:﴿وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا
مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ
إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [يوسف: 67]}.
يعقوب -عليه الصَّلاة والسَّلام- حثَّ أولاده وأمرهم بعدم الدُّخول من باب واحدٍ؛
لأنَّ عددهم كثير، وعلى خلق حسنٍ، فخشيَ عليهم من إصابتهم بالعين، ولمَّا أمرهم
بهذا كان من باب فعل السَّبب، وفعل الأسباب لا يُنافي التَّوكُّل، ويرى بعضهم يرى
أنَّ فعل الأسباب يُنافي التَّوكُّل، وهذا من الجهل، بل قال بعضهم إنَّ فعل الأسباب
الشَّرعية من التَّوكل، ولهذا جاء في سورة مريم امرأة ضعيفة، وولادتها لم تكن، وهذه
الولادة ستغيِّر مجرى التَّاريخ، وسيفترق النَّاس بعدها، ومع هذا التَّعب البدني
والنَّفسي قال الله لها:﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ
عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّ﴾ [مريم: 25]، وما أجمل ما قال الناظم:
وأنبه أنَّ بعض النَّاس يظن أنَّ هذه آية "وجعلنا لكل شيءٍ سبب"؛ بل هو شطر بيت
شعر، أمَّا آية الكهف:﴿فَأَتْبَعَ سَبَبً﴾ [الكهف: 85].
فيعقوب-عليه الصَّلاة والسَّلام- أمر بنيه بالدُّخول من أبواب متفرِّقة، ثمَّ بيَّن
أنَّها نصيحة، ومع ذاك لا يغني عنهم من الله شيئًا، يعني أنَّ هذه نصيحة منِّي
قدَّمته لكم فخذوا بها.
قال تعالى:﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ ، يعني كل شيءٍ بتقدير الله وبتدبير
أمره، فالقاعدة العقديَّة الشَّرعيَّة أنَّ فعل الأسباب لا يُنافي التَّوكُّل،
ولهذا لمَّا رأى عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في الحج أناسًا فيهم نوع من
الضعف البدني ورثِّ الهيئة، فقال: مَن هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء المتوكِّلون، لا يحملون
زادًا، فإذا وصلوا سألوا النَّاس. فقال: هؤلاء الأكَّالون وليسوا بالمتوكِّلين.
وأعظم النَّاس توكُّلًا الأنبياء-عليهم الصَّلاة والسَّلام- فكان داود حدَّادَا،
وكان زكريَّا نجَّارًا، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَعَثَ اللَّه
نَبِيًّا إِلا رَعَى الْغَنَمَ»[24].
{المقطع الحادي عشر:﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)﴾ }.
اجتمعت على يعقوب-عليه الصَّلاة والسَّلام- مصيبة يوسف، ثم فقد أخيه بعده، ومع ذلك
قام مقام الأولياء في شكوى بثه وحزنه إلى الله، ونستفيد من هذا أنَّ الإنسان إذا
بلغت مصيبته أن يشكو لله تعالى، فبعض النَّاس إذا أصيب بمصيبةٍ ذهب إلى زيد وعمرو
وإلى قريبه وجاره ليبثأحزانه وأشجانه، وهذا لا مانع منه؛ ولكنه لا يرفع أكفَّ
الضَّراعة إلى الله، ولا يُناجي الله تعالى، وكان الأولى له أن يرفع أكفَّ الضَّراع
ويشكو بثَّ حزنه إلى الله، فالله تعالى أرحم بك من أمِّك وأبيك، ومن أختك وأخيك،
ومن صاحبتك وبنيك؛ وفي الحديث: «للَّهُ أَرْحَمُ بِعِبادِهِ مِنْ هَذِهِ
بِوَلَدِهَ»[25].
فالإنسان يشكو بثَّه وحزنَه إلى الله ويكون صادقًا في ذلك، قال تعالى﴿أَمَّنْ
يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ [النمل: 62]، والله تعالى يُحبُّ الإلحاح من
عبده.
بعض النَّاس إذا أصابهم مرض ذهب إلى الراقي أو إلى الطَّبيب، فإذا قيل له إنَّ
الرَّاقي غيرُ موجودٍ أصابه إحباطٌ كأنَّ العَافية في يد هذا الرَّاقي، وإذا قيل له
إنَّ الطَّبيب غيرُ موجودٍ أصابه إحباطٌ وفزعٌ كأنَّ الموت بين يديه لمَّا ذهب
الطَّبيب، وهذا من ضعف الإيمان؛ بل من نقص العقل والدِّين، لأنَّ هؤلاء أسباب،
فاشكُ بثَّكَ وحزنكَ إلى الله، وأحسِن الظَّنَّ بالله، وافعل الأسباب ترى من الله
تعالى ما يطمئن قلبك ويشرح صدرك ويُقرُّ عينك.
{بعض المفسرين ذكر فائدة حول قميص يوسف-عليه الصَّلاة والسَّلام- وذكرتموها، ونختم
بها جزاكم الله خيرًا}.
أعجبني قول أحدهم: إنَّ قصَّة يوسف-عليه الصَّلاة والسَّلام- تدور على أقمصةٍ
ثلاثة:
الأوَّل:﴿وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ [يوسف: 18] لخداع أبيهم والكذب
عليه.
الثَّاني:﴿وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ﴾ [يوسف: 25]، وهذا فيه براءة يوسف-عليه
الصَّلاة والسَّلام.
الثَّالث:﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ
بَصِيرً﴾ [يوسف: 93].
وهنا فائدة! أنَّ الغريب إذا ذهبَ إلى بلدٍ وأصابه شيء، يقولون: يُرسَل له تراب من
أرضه، فإذا شمَّه يتذكَّر، وقال بعضهم إنَّ له أصل في الشرع «بِسْمِ اللهِ تربَةُ
أَرْضِنَا، بِرِيقةِ بَعْضِنَا، يُشْفَى سَقِيمُنَا، بإِذْنِ رَبِّنَ»[26].
وأذكر أنَّ أحد الشُّعراء نشأ في وادي التسرير، فقرأ الشِّعر، والعرب تعرف قيمة
الشِّعر المتميِّز، فذهب إلى بلاطة في الخلافة العباسية، وأُعجبوا بشعره، فبعدَ
حينٍ وبعدَ أن رأى الخيرات أصابه نوعٌ من الكآبة، فانزوى في بيته، واشتاق وحنَّ إلى
بلده، فأرسل إلى الأطباء وأعطوه العقاقير فما نفعت، فقالوا له ما الدَّواء الذي
تريد؟
فذكر قصيدة، من ضمنها:
قال الأطباء من يشفيك؟ قلت لهم ... دخان رمثٍ من التسرير يشفيني
وقبله ميسون امرأة معاوية-رَحِمَها اللهُ-جاءت من البادية فسكنت في قصور
الخلافة، فكانت تقول:
فهذه فائدة عارضة اجتماعية تاريخيَّة.
{شكر الله لكم يا شيخ.
للاستزادة حول ما ذُكر من الرِّوايات كتاب لفضيلة الشيخ الدكتور عبد العزيز السدحان
"آراء خاطئة وروايات باطلة في سير الأنبياء والمرسلين" عليهم الصَّلاة والسَّلام.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن
أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم
ورحمة الله وبركاته}.
-----------------------
[19] سنن أبي داود (2158)، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح أبي داود.
[20]أخرجه الترمذي ( 2 / 45 ) والدارمي ( 2 / 126 )، وقال الألباني: إسناده صحيح.
[21] السلسلة الصحيحة 3/436 (حديث رقم 1453 ) وفي صحيح الجامع برقم943.
[22] رواه البخاري: (1425)، ومسلم: (19).
[23] رواه الحاكم (104) والبيهقي (18050) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ وأعله الإمام
البخاري رحمه الله وغيره .
[24]رواه البخاري: (5/601).
[25]متفق عليه