الدرس التاسع

فضيلة الشيخ د. عبدالعزيز بن محمد السدحان

إحصائية السلسلة

3934 12
الدرس التاسع

التفسير

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ عبد العزيز بن محمد السَّدحان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
وعليكم السَّلام ورحمة الله وبركاته، حيَّاك الله يا شيخ عبد الرحمن، وحيا الله مَن يرى ومَن يسمع ومَن بلغ.
{في هذه الحلقة -بإذن الله- نأخذ أخلاق الأنبياء في القرآن.
نستمع وإيَّاكم إلى المقطع الأوَّل: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 90]}.
الحمد لله رب العالمين، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأخلاق من المواضيع الهامَّة، وصُنِّفَت فيها كتب مبنيَّة على آيات كثيرة بمنطوقها ومفهومها، وجاءت فيها أحاديث نبويَّة كثيرة تدلُّ على عِظَم شأن الأخلاق، حتَّى قال بعض الشُّرَّاح: "لو لم يكن إلَّا حديث «إِنَّ الُمؤْمِنَ لَيُدْركُ بِحُسنِ خُلُقِه درَجةَ الصائمِ القَائمِ»[61]"؛ ممَّا يدلُّ على أنَّ الخُلق عبادة عظيمة، وأنَّ نفعه يتعدَّى إلى غيرِ صاحبه.
في هذه الآية ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ ؛ أعظم الخلق هم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وهم الثُّلَّة المقدَّمة قبل الناس كلهم، لأنَّهم ألم الناس بالله، وأخشى الناس لله، وأُمِرَ نبيِّنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن يسلك مسلكهم، قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 35]، وقال: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [هود: 120]، فجميع الأنبياء -عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- على أعظم قسط وافر من الأخلاق الفاضلة، وبعضهم يقتدي ببعض -عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
{كيف نقتدي بغير النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الأنبياء -عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مثل نبي الله موسى وعيسى؟}.
الأنبياء -عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كلُّهم أعظم الناس أخلاقًا، وهم متَّفقونَ في أصلِ التَّوحيد في دعوتهم.
قال بعض العلماء: "كل صفةٍ حميدةٍ ذكرها الله تعالى في نبيٍّ فهي في جميع الأنبياء"، وهذا أمرٌ معروفٌ متقَرِّرٌ، ولهذا حازوا أرفع الأخلاق، والاقتداء بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اقتداءٌ بالأنبياء جميعًا في حسن الخلق، وصدق القول والفعل.
{هل الاقتداء بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يكون اقتداءً بالأنبياء جميعًا -عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟}.
نعم، يكون اقتداءً بالأنبياء جميعًا، ويكون في الأخلاق الفاضلة والحَسَنة، وجميع شمائل الأخلاق الكريمة هي في الأنبياء جميعًا -عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ولكن نُقلَت عن أنبياء مجملة، وعن نبيِّنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مفصَّلةً.
المقطع الثاني: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم 1-4].
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ يدل على شأن خُلق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقرأتُ لفتةً لطيفةً لبعض علماء الشافعيَّة -عليهم رحمة الله- عند هذه الآية، يقول: "وتعظيم العظماء للشَّيء يدل على توغُّله في العظَمة، فكيف إذا كان المًعظِّم أعظم العظماء وهو الله تعالى".
ولعلِّي أُقرِّب المثال ليكون أوضح لمن لم يفهم المثال السابق: لله المثل الأعلى؛ لو جاءنا رجلان فقير ومَلِك، فقال الفقير: رأيتُ بيتًا في الجهة الشرقيَّة من أحسن البيوت وأعظمها. وقال الملك: رأيتُ في الجهة الغربيَّة أحسن البيوت؛ فلا شك ولا ريب أنَّ مارآه الملك هو أعظم.
ففي هذه الآية عظَّم اللهُ تعالى خلُقَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكفى بذلك شرفًا ورِفعةً ومنقبة.
قالت أمُّنا عائشة -رضي الله تعالى عنها- تفسير هذا: "كان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خلقه القرآن"، يعني: يأتمر بأمره، وينتهي عند نهيه، ويتأدَّب بما حثَّ عليه من الآداب الكريمة، وينتهي عن ما نهى من أخلاق رديئة.
المقطع الثالث: ﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ [فاطر: 28].
يقول ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه: "العلم الخشية، فمَن كان لله أخشى كان به أعلم، ولو أعبد".
وجاء في تفسير الآية: إن العلماء أخشَى الناس لله؛ لأنهم أكثر الناس إيمانًا بالله.
الآن كلُّ مَن علم شيئًا عرف ما يصلحه ولا يضرُّه، فمثلًا: إذا رأى الطفل الصغيرُ العقربَ قد يحبو له، ولو رأى الحيَّة قد يأتي إليها، ولكن الرجل البالغ يعرف أنَّ هذه تلدغ فيتَّقيها؛ بل يُخبر أهله عنها حتَّى يقتلها.
فالإنسان قد يرى في معارض السوق سلعًا في نظر العين غير مرغوبة، ولكن في قوَّتها ومتانتها لا يعرفها إلَّا أصحاب الصَّنعة ومَن كان له خبرةٌ بها سابقة.
ولذلك كان العلماء هم أخشى الناس لله، لعلمهم بالوعد والوعيد، ولعلمهم بأمره ونهيه، وبعلمهم ممَّا يكون من مآلات لمن أغضب الله -عزَّ وَجَلَّ- أو عصاه أو تجرَّأَ على محارمه، والأنبياء -عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- هم رأس الهرم في أهل العلم، وهم الثُّلَّة المقدَّمة بين العلماء، وهم أعلم الناس بالله، فمن لازم ذلك هم أخشى الناس لله -عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
ولهذا كان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا هاجت ريحٌ أو تلبَّدَت الغيوم قام وقعدَ ودخلَ وخرجَ وأقبلَ وأدبر، فإذا أمطرت سُرِّيَ عنه، فهذا يحصل دائمًا ولا أحد يهتم، ولكن مَن كان بالله أعلم يعلم أنَّ هذا قد يترتَّب عليه عقوبة، وذلك من قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَ﴾ [الأحقاف: 24]، فكانت عقوبة لهم مع ظنِّهم أنَّها نعمة.
{بعضهم يذكر أنَّ أجهل الناس هو مَن يعصي الله، فهل هذه قاعدة صحيحة؟}.
قد يكون جَهِلَ أمرَ الله في ناحيةٍ، وقد يكون قد أثَّر فيه الخير من ناحية، ولكن لغلبة هواه أو لنزعة شيطان أو لمحاكة آخرين وغلبته مطاوعتهم فعصى الله؛ فيُقال إنه قصَّرَ وأخطأ.
المقطع الرابع: ﴿فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 22- 23].
الله -عزَّ وَجَلَّ- نهى الأبوين آدم وحواء عن الأكل من شجرة في الجنة.
وهنا فيه تنبيه: بعض المفسرين يخوض في نوع الشجرة ومقار الأكل، وهل كانت شجرة كذا أو كذا أو كذا! ذكر أهل العلم من مُصنِّفي أصول التفسير أنَّ هذا الخوض لا فائدة تحته، ولا طائل نفع يُرجَى منه، وإنَّما هو تسويد أوراق بلا فائدة.
عودٌ على بدء: آدم وحواء -عَلَيْهِما الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لمَّا أكلا من تلك الشَّجرة وعاتبهما ربهما -وقد كان أنذرهما من قبل- فاعترفا فورًا بخطئهما، ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَ﴾ ، وفي اللحظة نفسها دعوا الله ربهما أن يغفر لهما وأن يرحمهما وإلا فهما من الخاسرين.
ويُستفَاد من هذا أنَّ الأنبياء -عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- هم أخشَى الناس لله، وأسرع الناس توبة، ولهذا قال بعضهم: "تأخير التوبة من الذنب ذنبٌ آخر"، فكان الأنبياء -عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- من خشيتهم لله أسرع اعترافًا بذنبهم وبخطئهم، وأسرع الناس توبةً وافتقارًا إلى الله، واعترافًا بتقصيرهم في حق الله -عزَّ وَجَلَّ-، وطلبًا من الله المغفرة والرحمة مع كمال منزلتهم ورفيع مكانتهم.
{أحسن الله إليكم شيخنا.
يذكر بعضهم أنَّ الفرق بين إبليس وآدم أنَّ إبليس لم يعترف بذنبه، وأنَّ آدم اعترف بذنبه. فهل هذا التفريق وجيهٌ وصحيحٌ؟}.
هذا من ضمن الفروق، قالوا: إنَّ إبليس منعه الكبر، وأمَّا آدم -عليه السلام- فطمع في شيءٍ، أو أنساه الشَّيطان ودلَّه بغرور، فالآلية التي عصى به آدمُ ربَّه ليست كبرًا أو عنادًا أو استكبارًا؛ بل نسيانًا وطمعًا في خيرٍ.
المقطع الخامس: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [هود:45-46].
نوحٌ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بدافع الأبوَّة ورحمته للبنوَّة سألَ ربَّه أن يُنجي ابنه؛ لأنَّه من أهله، وأنَّه وعدَه بذلك، ولكن بيَّنَ له ربُّه ليس من أهله، أي: ليس من أهله النَّاجين، وليس من أهله الذين على دينه، وعاتبه ربُّه وقال له: ﴿إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ ، ومع ذلك نسى نوحٌ كلَّ شيءٍ لَمَّا علم أنَّ دعوته بطلب نجاة ابنه ليست صوابًا؛ فمباشرةً قال: ﴿رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾ ، وهذا من كمال ورعهم، ومن عظيم خشيتهم لله تعالى، ثم دعا ربَّه كما دعا الأبوان ﴿وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ .
بعض الناس قد يعترف بخطئه فقط، لكن إذا اعترف بخطئه مباشرةً وسأل الله -عزَّ وَجَلَّ- التَّوبَة ممَّا حصلَ منه، وسأل الله المغفرة والرحمة؛ فهذا يدلُّ على كمال الخُلُق، والأنبياء -عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- هم أعظم الناس في هذا المنهج.
المقطع السادس: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87].
وقوله: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ﴾ [الصافات 143 - 146].
ذو النون هو يونس -عليه السلام-، لمَّا غاضب قومَه عاتبه ربه -عزَّ وَجَلَّ- وكما نعلم خبره في الحوت، ومع هذا مباشرة ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ ، اعترف بذنبه وبخطئه، وسأل الله في ضمن دعائه المغفرة والرحمة، وهذا كما كان في خبر نوح -عليه السلام- وكما كان في خبر آدم وحواء، وهذا قاسمٌ مشتركٌ بينَ الأنبياء، وهو من عظيم خشيتهم لله تعالى.
{يذكر بعض مشايخنا أنَّ مَن لم يكن عادته التسبيح قد لا ينجو من مُصيبة وقع فيها، استلالًا بهذه الآية}.
الاستغفار له أثرٌ عظيمٌ، ولكن ليس فقط باللسلان؛ لأنَّ مجرد الذكر باللسان كما قال بعضهم: "الِّذكرُ كالسَّيف، والسَّيفُ بضاربِهِ"، فإذا سبَّح الله ونزَّهه؛ فهذا التسبيح يتضمَّن الاعتراف بنِعَمه وفضله وتعظيم حرماته، وتعظيم شأن الله تعالى والخوف من عقوبته، فإذا استشعر المستغفر والمسبِّح والحامد والشاكر لله هذه الأمور؛ سيرى من الله ما يشرح صدره ويُطمئنُ قلبَه، ويُقرُّ عينَه.
المقطع السابع: ﴿وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ﴾ [القصص 15 - 17].
مشكاة النُّبوَّة أثرها واضحٌ على أصحابها -عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فكل مَن سبق من الأنبياء مَن عَلمنا منهم ومَن خفي علينا علمه على هذا النَّمط؛ فهذا موسى -عليه السلام- لمَّا قتل ذلك الرجل وعوتب عليه اعترف بأنَّ هذا من غواية الشيطان، فقال ﴿هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ ، ثم اعترف بظلم نفسه، فقال ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ ، ودعا الله  أن يغفر له، ثم في المقابل قال: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ﴾ .
الشَّاهد: أنَّ من عظيم خشية الأنبياء -عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لله: المبادرة بالاعتراف بالخطأ، والمبادرة بسؤال الله تعالى المغفرة، والتَّكثُّر من سؤال الله الرحمة والثَّواب والعفو عمَّا كان.
الآن بعض الناس إذا أذنبَ ذنبًا ولو كان يسيرًا؛ فمن تلبيس إبليس أن يُصغِّر خطأه بكثير طاعاته، وهذا مدخل عجبٍ يخفى على الكثير، ولهذا يقول بعض العلماء: "من أعظم حيَل الشَّيطان أن يُقنعك أنَّه ليس معك"، وزِدْ على هذا: أو أن يُعظِّمَ طاعاتك ليُنسِيَكَ عظيمِ ذنبكَ ولو كان صغيرًا.
ولاحظ كما ذكرنا من حال الأنبياء: هذا أكل من الشَّجرة، وذاك غاضبَ قومه، وهذا سأل نجاة ابنه؛ فهذه الأمور سهلةٌ بالنسبة إلى بعض الذُّنوب، ومع ذلك كانوا أسرع الناس في التوبة، وأسرع الناس في سؤال الله المغفرة.
المقطع الثَّامن: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ [ص:21-25].
أحب التنبيه على مسألة: أنَّ بعض الناس يظنُّ أنَّ النِّعاج هنا هي النِّساء، والآية على ظاهرها أنَّ النِّعاج هي الغنم المعروفة، ولا يُصرَف النَّص عن ظاهره إلَّا بقرينةٍ قطعيَّةٍ في ذلك.
الشَّاهد في الآية قوله: ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾ ، قالوا: إنَّ سبب استغفار داود -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لهذا الذَّنب أنَّه قضَى بالحكم عندما سمع الطَّرف الأول، ولم يسمع حجَّة الطرف الثاني، وهكذا خرَّجوها، والله أعلم بالصَّواب.
الشاهد من الآية: أنَّ دواد -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- سارع إلى استغفار ربه من خطأ فعله، ما هذا الخطأ؟
قيل: إنَّه حكم للأوَّل قبل سماع الثاني.
وقيل: هو أمرٌ أخفاه الله -عزَّ وَجَلَّ.
والشاهد أن داود -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- استغفر ربَّه وخرَّ راكعًا.
قيل: الركوع هو الصلاة، وقيل هو التَّعبُّد لله بسجدة.
فداود -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- سأل الله تعالى المغفرة، وتاب لله توبةً قوليَّة بالاستغفار، وتوبةً فعليَّة بأن خرَّ راكعًا.
المقطع التاسع: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ [المائدة: 116].
هذا هو خُلُق الأدب مع الله -عزَّ وَجَلَّ- فالله تعالى -وهو أعلم- يسأل عيسى وهو يعلم -عزَّ وَجَلَّ- أنَّه ما قاله، ولكن من باب دحضِ حجَّة مَن كان عنده حجَّةٌ باطلة أو شبهةٌ باطلة.
وانظر إلى أدب عيسى -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قال: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ ، أي: أُنزِّهُكَ وأُعظِّمكَ. ﴿مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾ .
ومن عظيم الأدب مع الله  قال: ﴿إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ ، هذا أدبٌ لو قُسِّمَ على ملايين لكفاهم وفضل عنهم.
{تنتشر بعض صور سوء الأدب مع الله في مجتمعنا، سواء سب الدهر وغيره، فلو ذكرتم لنا بعض الصور أحسن الله إليكم}.
سوء الأدب مع الله على أنواع:
أولًا: الجرأة على الفُتيا بلا علم، وهذا من أعظم سوء الأدب مع الله، وهي من كبائر الذنوب، تجد أنَّ الإنسان يتورَّع عن وصف علاج نفسه، أو وصف علاج لغيره، بينما يُفتي في نوزال لو حدثت في عهد الفاروق -رضي الله عنه- لجمع لها أهل بدر، فهذا من أعظم سوء الأدب مع الله -عزَّ وَجَلَّ-، وتجد بعض الناس يسمع دليلًا يهدم ما يريد، ومع هذا لا يُبالي! ولو تكلَّمَ متكلِّم صاحب وجاهة أو صاحب إمرة عليه في وزارة أو في إدارة حكوميَّة يهاب.
ثانيًا: أن تجد مثلًا شخص يدخل المسجد والإمام يقرأ والناس في صلاتهم؛ فيرفع صوته ويضحك مع صاحبه ولا يُبالي! فهذا سوء أدب، وعدم تعظيم لحرمات الله وشعائره.
المقطع العاشر: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المائدة: 117].
أعتقد أنَ هذه الآية والآية التي قبلها تستحقا أن تفردا في رسالةٍ، وليتَ مَن يهتم بالتفسير يستخرج منهما آداب طلب العلم، وتعظيم حرمات الله، وأدب الأنبياء.
وبعد أن قال عيسى -عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾ ، ثمَّ أكَّدَ ما حصل منه فقال: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ ، وانظر إلى الأدب العظيم في قوله: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ﴾ ، هذا الذي كلَّفتني به، وفيه اعتراف بفضل الله وعظمته، وأنَّ ذمَّته برئت بعدهم، قال: ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي﴾ ، أي: أدَّى رسالة الله حتَّى رفعه الله -عزَّ وَجَلَّ- ثم قال: ﴿كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ .
كل هذه آداب تعظيم شأن الله بأنَّه ما قال هذا الكلام، وإن كان قاله فالله قد علمه بسابق علمه، مع أنَّ الله -عزَّ وَجَلَّ- سأل عيسى -وهو أعلم- لإظهار فضل عيسى -عليه السلام- وتبرئة عيسى -عليه السلام- وأيضًا لتعظيم شأن التَّوحيد.
 
المقطع الحادي عشر: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة: 118].
هذا أدب مع الله، فعيسى أخبر الله عن قومه -وهو بهم أعلم-، فالله تعالى له الملك وله القضاء كله، قال: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ﴾ ، ومن أدبه مع الله أن سأله المغفرة لهم.
المقطع الثاني عشر: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [يوسف 88 - 92].
هذا أدبٌ آخر من أدب الأنبياء -عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وهو عدم انتقامهم لأنفسهم؛ بل والعفو عمَّن ظلمهم، بل وأحيانًا الدُّعاء لمن أخطأ في حقهم، وهذه كمالات من الخلق العظيم، فيوسف -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مع ما فعله به إخوانه، حسدوه وألقوه في البئر، فلما نجاه الله باعوه بثمنٍ بخسٍ، ومع طول الأمد وتعب يعقوب -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وحزنه الطَّويل؛ مع هذا كلِّه لمَّا جاوؤا معتذرين وعرفوا خطأهم قال لهم ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾ ، أي: لا لوم. مَن يتحمَّل هذا! بل مع رفع الحرج لهم قال: ﴿يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ .
وأخرج البخاري في الصحيح حديثًا فيه مثال من أمثلة كثيرة على عفو النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكان عليه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- برد نجراني غليظ الحاشية، فجذبه الرجل من البرد حتَّى أثَّرَ في عنقه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال: مُرْ لي مِن مَالِ اللَّهِ الذي عِنْدَكَ.
فهو أساء الفعل وأساء القول، فأساء الفعل بجذب البرد، وأساء القول بقوله "يا محمد مُرْ لي"، فالرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أحسن معه الفعل وأحسنَ معه القول، قابل سوء فعله بحسن فعله، فضَحِكَ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقابل سوء قوله بحسن قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن أمر له بالعطاء
فمن خلق الأنبياء -عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- العفو، وهذا من عزِّهم، ولهذا قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّ»[62]، فالعفو عن المخطئ ليس ذُلًّا؛ بل عزٌّ ورفعةٌ ومكانةٌ، وهذا ليس على إطلاقه، فأحيانًا قد يكون عدم العفو فيه مصلحة وهذه تُقدَّر بقدرها، ولكن في الأصل أنَّ العفو عز.
وذكر بعض كتَّاب التَّاريخ: "إن العرب لا تُسوِّدُ الشُّجاع فقط أو الكريم، ولكن تسوِّد من كان معه خصاله الحميدة خصلة لازمة وهي مَن إذا قدر على الانتقام عفا".
ولهذا لمَّا بعث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سلمة بن الأكوع، فلحق سلمة أناسًا قد غدروا بالمسلمين، فلمَّا تمكَّنَ سلمة من الخصوم قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا ابْنَ الأكْوَعِ: مَلَكْتَ، فأسْجِحْ»[63]، يعني ترفَّق، فخلق الأنبياء -عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- العفو عمَّن ظلمهم.
المقطع الثالث عشر: ﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [يوسف 94 - 98].
ذكر الله عدمَ انتقام يوسف -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- من إخوانه وصفحه عنهم.
وفي هذه الآية ملحظ: أنهم ما زالوا على كذبهم، وعلى إقناع أبيهم بأنَّ ما حصل حق، وهذا في قوله: ﴿قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ﴾ فهم ما زالوا مُصرِّيين حتَّى بعدَ هذا العمر الذي قدره بعض المفسرين بقرابة أربعين سنة، بغض النظر زادت المدَّة أو قلَّت فهي فترة طويلة.
والشاهد من الكلام: لَمَّا جاء البشير الذي أرسله يوسف -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ألقى القميص على وجه يعقوب فارتدَّ بصيرًا، فقال يعقوب: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ ، ولَمَّا شعر إخوة يوسف بخطئهم ما جفَّ ريقهم من إصرارهم على الكذب قبل مجيء القميص، فلمَّا جاء القميص بفضل الله تعالى وبتقديره وأن جعله سببًا لذلك؛ قالوا: ﴿يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ﴾ ، فماذا كان من يعقوب -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مع طول المدَّة وما أصابه من التَّعب النفسي والتَّعب البدني وما تحمَّله في هذه الفترة الطَّويلة؛ مع هذا كله قال: ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾ .
قال بعض العلماء أنَّ السين في ﴿سَوْفَ﴾ للاستقبال، وأنَّه أخَّرَ استغفاره للسَّحر؛ لأنَّ السَّحر أدعى للقبول، قال تعالى: ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾ [آل عمران: 17].
فالشاهد: هو عدم انتقام يعقوب -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، فيوسف صفحَ وعفا ودعا لهم، وأبوهم صفحَ وعفا، وأخَّرَ الدُّعاء لهم ليكونَ أرجى لقبول استغفاره لهم.
ومن هذه الآيات وما قبلها وما خفي من المعاني أكثر وأكثر؛ تدل دلالة قطعيَّة واضحة أنَّ أخلاق الأنبياء -عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- هي أعظم الأخلاق في الناس، وأنَّ الاقتداء بهم هو الفلاح والفوز في الدنيا والبرزخ والآخرة، وانَّه ينبغي للمسلم أن يقرأ أخبار الأنبياء، لأنَّ في قصصهم عبرة، وكان في أخبار قصصهم تثبيت لقلب الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال تعالى: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [هود: 120]، وجاء الأمر: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 35]، وقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90] ؛ فهذه النُّصوص وغيرها تدل على أنَّ في أخبارهم من الخير العظيم والثَّواب العميم ما لا يعلمه إلَّا الله.
وهناك تنبيهٌ نبَّه إليه السَّخاوي -رَحِمَهُ اللهُ- في كتابه: "الإعلام بالتَّوبيخ على مَن ذمَّ التَّاريخ"، قال: "مَن ظنَّ أنَّ القَصَص في القرآن على سبيل قطع المجالس بالسَّمر؛ فهذا أضل من حمار أهله"، وإنَّما المراد من هذه القصص: الاعتبار والاتِّعاظ، وأخذ القدوة والمثل العظيم في أنبياء الله -عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
{هل يصح أنَّ إخوة يُوسف بُلِّغوا بالوحي وأصبحوا أنبياء؟}.
فيه رسالة للسيوطي ضمن كتاب "الحاوي" اسمها "دفع التَّعسُّف عن إخوة يوسف"، وانتصر إلى القول بكونهم أنبياء، والصَّواب أنَّهم ليسوا بأنبياء لأمور، منها:
Ø   أنَّ أفعالهم ليست أفعال أنبياء.
Ø   أنَّ الله ذكرهم في مواضع كثيرة ولم يذكر لهم وصف النُّبوَّة.
Ø   ذكر الله مجموعةً من الأنبياء متوالين في سورة الأنعام، وفي الأعراف والشُّعراء، ولم يذكر ولم يُشِر إلى أنَّ إخوة يوسف أنبياء، وإنَّما هم إخوة نبي وأبناء نبي، أخطؤوا في حق أبيهم وحق أخيهم، ثم تابوا وحسُنَت توبتهم، ودعا لهم ورفع عنهم الحرج أبوهم، ورفع اللوم عنهم أخوهم ودعا لهم، فهم أذنبوا وتابوا، وليست هناك إشارة في القرآن الكريم حسب النصوص والفهم الظَّاهر أنَّهم أنبياء.
{هل هناك فرقٌ بينَ الكتاب والقرآن؟}.
الكتاب أشمل، ويُطلَق لفظ "القرآن" في اللغة على كل شيءٍ مقروء، وجاء في الحديث «خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ القُرْآنُ»[64]، وإذا أطلق شرعًا فهو المنزَّل على محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهناك كتاب العسكري في الفروق اللغة، يذكر أحيانًا فروقًا قد لا يُسلَّم بها عند بعض أهل اللغة.
ونختم بفائد لغوية: فيه كتب الآن تجد فيها "قل، ولا تقل"، أو مثل كتاب علي بن بالي القسطنطيني فيه مسألة لطيفة سماها "خير الكلام في التَّقصِّي عن أغلاط العوام"، يقول مثلًا: لا تقل للواقف: "اجلس"، ولكن قل للواقف: "اقعد" وقل للنائم: "اجلس".
فالشاهد: أنَّ كل شيءٍ مَقروء فهو قرآن، وهذا في اللغة، أمَّا إذا أُطلِقَ اصطلاحًا فالمراد به الكتاب المنزَّل على محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{شكرَ الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
--------------------------
[61] رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني (217)، ورواه أبو داود في سننه (4798)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
[62] رواه مسلم. 14/557.
[63] رواه البخاري (3041).
[64] رواه البخاري (3417).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ