{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء
العلمي، وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد العزيز بن محمد السَّدحان، فأهلًا وسهلًا
بكم فضيلة الشيخ}.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
حيَّاكَ الله، وحيَّا الله المشاهدين والمستمعين.
{في هذه الحلقة -بإذن الله- سنأخذ فوائد من الجزء الثاني من سورة يوسف، إتمامًا
لِمَا أخذناه في الحلقة الماضية.
ولعلنا نبدأ بالمقطع الأول: ﴿قَالُوا يَاأَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى
يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ
وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ }.
الآية الكريمة فيها من الفوائد:
- أنَّ التَّرفيهَ والتَّنفيسَ عن النُّفوسِ ممَّا جاءت به الشَّرائع، شريطةَ أن
يكونَ هذا التَّرفيهُ والتَّسليةُ منوطةٌ بالآدابِ الشَّرعيةِ، فالأنبياء -عليهم
السَّلام- أعلم الناس بأحكام الشَّرع، وأتقَى الناس لله، ولمَّا طلبَ إخوة يوسف من
أبيهم أن يُرسل يوسف معهم من باب أن يرتعون ويلعبون ما أنكر عليهم الرَّتَعَ ولا
اللَّعبَ، وإنَّما خشيَ أن يغفُلوا عن أخيهم فيأكله الذِّئب، وكأنَّ هذا من يعقوب
-عَلَيْهِ السَّلام- تحذير لهم لِمَا يعلم من غيرتهم وأنَّهم قد يحتالون على أخيهم
بحيلةٍ، فأقرَّهم على أن يرتعوا ويلعبوا، وهم يعلمون أنَّ هذا الرَّتع واللَّعب
منوطٌ بالآداب الشَّرعيَّة، وكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد سابق
بين الخيل مضمَّرة، وسابق عائشة، كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَبَادَحُونَ بِالْبِطِّيخِ[27]، وكما ذكر بعض أهل العلم
أنَّ عمر -رضي الله عنه- كان في سفرٍ فمرَّ بغدير ماء فقال لمن معه: تعالَ أباقيك
أيُّا أطول نفسًا في الماء.
فالشَّاهد: أنَّ الإسلام دين السَّماحة ودين الرَّحمة، وفيه من التَّرفيه واللَّهو
واللَّعب ما هو في الإطار الشَّرعي.
المقطع الثَّاني: ﴿وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ
لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا
تَصِفُونَ﴾ .
قوله: ﴿وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ ، هناك مثل شائع معناه صحيح يقول:
إذا أتاكَ أحدُ الخصمين وهو يحمل في يده عينه فلا تقضِ له، فربما يأتي الخصم الآخر
وهو يحمل العينين.
لمَّا أتى الأبناء وهم يبكون؛ كانت هناك ثلاث قرائن للتَّعاطف معهم:
v القميص الملطَّخ بالدَّم.
v البكاء.
v إجماع كلمتهم على أنَّ هذا الأمر من فعل الذِّئب.
فيعقوب -عَلَيْهِ السَّلام- أخذَ بالظَّاهر، لكن لم تأخذه العاطفة على أن يقضي لهم
بالحقِّ، وأنَّ ما قالوه هو الصَّواب، ولكن قال: ﴿وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى
مَا تَصِفُونَ﴾ .
ونستفيد من هذا: ألَّا يتسرَّع الإنسان في التَّعاطُف مع مَن ظاهره أنَّه متَّهم
إلَّا بالبحث واستقصاء القرائن، وخاصَّة إذا كان في مجال القضاء، أو في مجال
الإصلاح بينَ النَّاس.
{أحسن الله إليكم شيخنا.
بعضهم يقول: إنَّ يعقوب -عَلَيْهِ السَّلام- حكمَ بعدمِ صدقهم؛ لأنَّه رأى القميص
غير ممزَّق}.
هذا ذكره بعضهم، وهذا الذي كشف أوراقهم -كما يُقال- أنَّ العادة إذا هاجم ذئبٌ
أحدًا لابدَّ بَدَهيًّا وقطعيًّا أنَّ القميص إمَّا أن يتمزَّق، أو يكون فيه آثار
شقوق من هجوم الذِّئب، وذكر بعضهم أنَّهم عُميَت أبصارهم عن تمزيق القميص حتى يكون
أحد أدلَّة كذبهم.
المقطع الثَّالث: ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ
قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ
الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ
لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ
وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي
إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي
غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ .
ذكر أهل العلم أنَّ الله برَّأَ يوسف -عَلَيْهِ السَّلام- بستِّ شهادات:
الشَّهادة الأولى: في قوله تعالى: ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ
إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ ، هذه براءة له، فقد دعا ربَّه وهو في
مقام الطُّهر والعفاف؛ فنجَّاه الله.
الشَّهادة الثَّانية: قول المرأة: ﴿أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ
لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ .
الشَّهادة الثَّالثة: قول الشَّاهد: ﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ
فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ .
الشَّهادة الرَّابعة: ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ
إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾ .
الشَّهادة الخامسة: قول النسوة: ﴿مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ﴾ .
الشَّهادة السَّادسة: وهي أعظمها، فقد يؤخَّر الشَّيء للتَّعظيم والتَّفخيم، وهي
شهادة رب العالمين، وكفى بالله شهيدًا ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ
وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ .
{هل إقرار المرأة لا يعتبر شهادة؟}.
لمَّا قالت: ﴿أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ ،
فأثبتت أنَّها هي المراودة، وفي المقابل أثبتتَ أنَّه من الصَّادقين؛ فلزم أن تكون
هي مِن الكاذبين؛ لأنَّها ادَّعت أنَّه هو الذي راودها عن نفسها.
{في المرة الأولى لمَّا جمعَت النسوة وأعتدت لهنَّ متَّكأً وقالت: ﴿وَلَقَدْ
رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ﴾ }.
نعم، هذه شهادةٌ أخرى وتأكيدٌ لما قلناه، فسبحان مَن قيَّد لها فكرة جمع النسوة!
وهذا يدل على أنَّ الرَّجل لابدَّ أن يحذر من كيد النِّساء، ويحذر مِن التَّهاون في
إيراد الفاحشة، فالذي جاء في القصَّة أنَّ الرجل هو الذي يحذر من كيد المرأة، وهذا
فيه معنى حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي
فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ»[28].
المقطع الرَّابع: ﴿قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا
كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ
إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ﴾ .
هذه قاعدةٌ في التَّحاكُمِ والتَّخاصُمِ، ويؤكِّدها قوله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَلَا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: 164]، فمن الظُّلم والإجرام أن يُؤخَذ
البريء مكان الجاني المُجرم، أو يؤخَذ البريء مكان المتَّهم -أو المعني بالقضيَّة-
فيوسف -عَلَيْهِ السَّلام- مع ما قدَّرَ الله له ويسَّر له من طريقةِ أخذِ أخيه؛
إلَّا أنَّ إخوانه لما طلبوا أن يتركوا أحدًا مكان أخيهم ما تعاطَف معهم، وهذا من
وحي الله له، ويُقرأ الآن ويُسمَع أنَّ بعضَ النَّاس يتَّهم فلانًا بمجرَّد أن أخيه
اقترفَ جُرمًا، وفلانٌ هذا بريء كبراءة الذئب من دم يوسف!
وأذكر أنَّ الحجَّاج الثقفي- إن صح الخبر عنه- أنَّ أحدَ جنده طلبوا رجلًا قام
بجريمة وفرَّ، فأخذوا ابن عمِّه مكانه، فجاء العم للحجاج وقال: ابني بريء وأخذته
مكان ابن أخي! فدعا الحجاج رئيس الجند وقال له: ما جنيت بابن هذا الشيخ؟ فقال: فرَّ
ابن عمِّه فأخذناه رهينةً حتى يعود، وكما قال الشاعر أيها الأمير:
ولَرُبَّ مَأخُوذٍ بذَنْبِ عَشِيرَةٍ *** ونَجَا المُقَارِفُ صَاحِبُ الذَّنْبِ
فقال الشيخ الكبير والد الرجل البريء: يا حجاج، ألم تسمع قول الله: ﴿قَالَ مَعَاذَ
اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا
لَظَالِمُونَ﴾ .
فأمر الحجاج أن يُنادَى أن صَدَقَ الله وكَذَبَ الشَّاعر، وأطلقَ ذلك البريء.
المقطع الخامس: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ
مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ
يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ
رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ .
بعض النَّاس إذا نزلَت به مُصيبة يشكو بثَّه وحزنه إلى المخلوقين من فلان إلى فلان،
ولا مانع أن يتسلَّى بالجلوسِ معهم وبالاستئناسِ بحديثِهم، وأن يؤنِّسوه بذكرِ
النُّصوصِ والأمثالِ والقَصَصِ التي في عاقبتها الفرج والتَّفاؤل، إنَّما الإشكال
أن يجعل كلَّ أوقاته في بثِّ الأحزان والتَّشكِّي إلى زيد وإلى عمرو، فقد تكون
المشكلة صغيرة، فتشتكي إلى زيد وإلى عمرو فتعظم المشكلة لعدم وود حل بأيديهم، فإذا
كانت المشكلة كبيرة فاشْكُ قبل كل شيءٍ إلى الخالق -جَلَّ وَعَلَا.
لا مانعَ من الاستئناسِ بآراء النَّاس، ولهذا بعضُ النَّاس الآن إذا أتى ليسترقي
عند الرَّاقي فأُخبر أنَّ الرَّاقي مُسافر أو ترك الرُّقية، يُصاب المريض بنوع من
الخذلان والإحباط والتَّشاؤم كأن الشِّفاء والعافية بيد الراقي، وهذا من ضعف
الإيمان!
ولهذا يُقال دائمًا للمُصاب: إذا أصابتك مصيبةٌ فاشْكُ بثَّكَ وحُزنَكَ إلى الله،
وعليك بالأمور الشَّرعيَّة، وهي أدعية تفريج الكروبات، فكتب الأذكار مليئةٌ بهذا،
ولا مانع أن تستأنس بالنَّاس، كأن تزور فلاًنا من النَّاس؛ لأنَّ بعض النَّاس ترى
الجلوس معه فيه أنس وراحة نفسيَّة وبدنيَّة.
قال ابن قيم -رَحِمَهُ اللهُ: "كانت تأتيني بعض الهموم، فآتي شيخ الإسلام، فتنجلي
عنَّا"، يعني يُذكرهم بالنُّصوص والتَّفاؤل، ويحذرهم من التَّشاؤم، إلى آخره...
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ﴾ ، اليأس من مفاتيح الشَّيطان
للتَّخاذُلِ والتَّشاؤمِ، وقد تتَّسع الدَّائرة حتى يرتكب الكبائر العقديَّة، فكلُّ
شيءٍ بيدِ الله، إذا أرادَ شيئًا أن يقول له كن فيكون.
فإذا جاءت المصاب مصيبة؛ فيُوصَى:
v أولًا: بحسن الظَّن بالله تعالى.
v ثانيًا: أنَّ الله أرحم به من أمِّه وأبيه، وأخته وأخيه، وصاحبته وبينه.
v ثالثًا: أن يتذكَّر نعم الله الأخرى التي عليه، قال -جَلَّ وَعَلَا: ﴿إِنَّ
الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ [العاديات: 6]، قالوا: إذا أصابته مصيبة عدَّدَ
النِّقمَ ونسيَ النِّعم.
v رابعًا: أن يتذكَّرَ مَن هو أعظم مُصابًا منه، فإذا كنتَ قد أُصبت بفقدِ أحد
أولادك، فغيرك فقدَ كلَّ أولاده، وإذا أصبت بخسارة ماليَّة في شيء من مالك، فغيرك
خسرَ ماله كله.
v خامسًا: أن يتذكَّر أنَّ هذه المصيبة مكتوبةٌ عليه قبل أن يُخلَق، ولن يستطيع أن
يُغيِّرها.
v سادسًا: أن يتذكَّر المُصَابُ أنَّ هذه المصيبة ربَّما تكون عاقبتها خيرًا له.
فائدة: بعض النَّاس إذا أصابته مُصيبة يقول أنا قصَّرتُ وفعلتُ!
فنقول: لا تمنَّ على الله، فنِعَمُ الله أعظم من هذا، وإذا نزلت المصيبة بالشَّخص
-حسب بحثي وقراءتي القاصرة- لها أبواب ثلاثة:
الباب الأوَّل: أن تكون عقوبة مُعجَّلَة، قال تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ
مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ
عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران: 165].
الباب الثَّاني: أن تكون المصيبة كفَّارة لذنوب سالفة، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ
حَزَن وَلاَ أَذًى وَلاَ غمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُها إِلاَّ كفَّر اللَّه
بهَا مِنْ خطَايَاه»[29].
الباب الثَّالث: وهذا يخفَى على الكثير، حتى أنَّ بعضَ النَّاس لخفاء هذا الباب عنه
قد يقول: فلان ما يستحق هذا، فلان طيب وله طاعة وصدقات ونفقات
ونقول: هذا الكلام لا يجوز؛ لأنَّهم حصروا المصيبة في أنَّها عقوبة، فقد تكون
المصيبة رفعة للعبد، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا
سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ ابْتَلَاهُ
اللَّهُ فِي جَسَدِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ، ثُمَّ صَبَّرَهُ عَلَى
ذَلِكَ حَتَّى يُبْلِغَهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ
تَعَالَى»[30]، ونرى الآن مسنِّينَ ومُسنِّات لا يفتر لسانهم عن ذكر الله، فلا تسمع
إلَّا دعاء أو تلاوة أو كلام طيب، ومع ذلك يبتَلون من مرضٍ إلى مرضٍ؛ فهؤلاء
يُتفاءل لهم، وهذه المصائب -بإذن الله- وبحسن ظنٍّ في الله أنَّها رفعة لدرجاتهم في
جنات النعيم.
المقطع السادس: ﴿قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا
أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ
اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ
اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ
الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ .
قوله تعالى: ﴿قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا
إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ﴾ ، إذا قابل العبدُ المصيبةَ بتقوى الله والصبر؛
سيرى من الله ما يشرح صدره ويُطمئنُ قلبَه ويُقرُّ عينه.
ومن أعظم تعاريف التَّقوى: أن تعبدَ الله على نورٍ من الله ترجو ثواب الله، وأن
تترك معاصي الله على نور من الله تخشى عقاب الله.
فإذا أصابت العبدَ مصيبةٌ فينبغي أن يكونَ التَّعامل معها حسب الآداب الشَّرعيَّة،
لا جزع ولا تسخُّط ولا اعتراض ولا نياحة؛ بل تقوى لله -جَلَّ وَعَلَا- وطاعة وصبر
واحتساب، وحسن ظنٍّ بالله، وسيرى العاقبة خيرًا في الدنيا والآخرة.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا
لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾ ، إذا اعترفَ المخطئ
بالخطأ وندم، وظهرت بودار الأسف والحسرة عليه؛ فإنَّ من كمال الأخلاق -وهي أخلاق
الأنبياء- عدم الشَّماتة؛ بل قبول العذر، وهذا يخضع للمصالح والمفاسد، ولهذا إذا
أخطأ بعض الناس، ثم جاء المُخطئ معتذرًا معترفًا بذنبه، وآثر الله المخطئ عليه؛ فلا
ينبغي الشَّماتة، بل كما قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا زَادَ
اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّ»[31]، أي رفعة حسيَّة ومعنويَّة، فيوسف كان
قادرًا على الانتقام، وله حق أن ينتقم، فهم ظلموه وآذوه، وكذبوا على أبيهم، ومع هذا
كله لمَّا تحقَّق له الخير والمراد من جمع الشَّمل ما شمَتَ وما عزَّرَ؛ بل صفحَ،
وهذا يكون بحسب المصلحة.
المقطع السابع: ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ
بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ
قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)
قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ
الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ
لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ .
يعقوب -عَلَيْهِ السَّلام- حزنَ على يوسف حتى قدَّر بعض المفسرين المدَّة بين ذهاب
يوسف واللُّقيا به قرابة أربعين سنةٍ، ومع هذا كلِّه ما فقدَ الأمل، بل كان محسنًا
في ظنِّه بالله -عزَّ وجل- ولمَّا ذهب الابن الثَّاني بنيامين كان لايزال يعقوب
معلِّقًا الأمل بالله ولا ينقطع، وأمرهم أن يتحسَّسوا من يوسف وأخيه، وهذا من
قُوَّة يقينه بالله رب العالمين، ثم قال: ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ﴾ .
الشَّاهد: أنَّ يوسف -عَلَيْهِ السَّلام- أرسلَ قميصه مع أحد، وأمره أن يُلقيه على
وجه أبيه حتى يرتدَّ بصيرًا، وهذا بتقدير الله تعالى.
وممَّا يُذكر هنا: أنَّ بعض أهل العلم قالوا في حديث: «بِسْمِ اللهِ تربَةُ
أَرْضِنَا، بِرِيقةِ بَعْضِنَا، يُشْفَى سَقِيمُنَا، بإِذْنِ رَبِّنَ»[32]، أن يبل
سبَّابته ثم يضعها في الأرض.
وأذكر كلامًا لبعض العلماء ممَّن كتب في الطِّب النَّبوي، يقول: إنَّ التُّربةَ
التي نشأَ فيها الإنسان وعاش فيها وشمَّ هواءها يكون لها تأثير على نفسيَّته.
وذكر الجاحظ أنَّ المسافر الذي يتغرَّب عن بلده إذا أصابه نوع من الكآبة؛ تذكَّر
بلده أو شمَّ بعضَ ما كان يألفه منها فإنَّ نفسيته تتغيَّر، حتى أنَّ أحدَ النَّاس
كان في وادي التَّسرير، وذكر الجغرافيُّونَ أنَّ طوله تقريبًا مائة كيلو، وهو في
نجد، وأنَّ شاعرًا قد نشأ فيه، ثم لما عرف أهله أنَّ الشاعر فحل، أخذوه إلى بغداد
وأغدقوا عليه، فأصابه نوع كآبة، فانطوى في بيته، فجاءه الأطباء وسألوه ما دواؤك؟
فذكر بيتًا من الشِّعر، فقال:
قَالَ الأَطبِّاءُ مَا يَشْفِيكَ ؟ قُلْتُ لَهم: *** دُخَانُ رَمْثٍ مِنَ
التَّسْريِرِ يَشْفِينِي
وميسون امرأة معاوية لما قالت:
لَبَيتٌ تَخفِقُ الأرياحُ فيه ** أَحَبُّ إليَّ مِن قَصرٍ مُنيفِ
ولُبسُ عَباءَةٍ وتَقَرَّ عيني ** أَحَبُّ إليَّ مِن لبسِ الشُفوفِ
فهي كانت تعيش في البادية، فجاءت إلى الشَّام في القصور، ومع ذلك تحن إلى بلدها.
وهناك عادة عند بعض النَّاس أنَّهم يحتفظون ببعض الأشياء، يقول بعضهم: إذا شممتُ
ثوب الوالدة أرتاح نفسيًّا.
وعلى كلِّ حالٍ؛ فما قدَّره الله ليعقوب -عَلَيْهِ السَّلام- أن يكونَ القميص سببًا
في رجوع بصره، وهذا من آيات الله -عز وجل.
ونستفيد من الآية الكريمة: أنَّ الإنسان لا يفقد الأمل بالله البتَّة، حتى ولو خرجت
روحه يبقى الأمل معلَّق، وأنَّ العبدَ يُحسن الظَّنَّ بربِّه في كلِ ظرفٍ، في أيسر
الظُّروف وفي أحلك الظُّروف، فإحسان الظن مطلوب، وفي الخبر القدسي: «إِنَّ اللَّهَ
جَلَّ وَعَلا يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ خَيْرًا فَلَهُ،
وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ»[33].
وكانت عاقبة يوسف ويعقوب وإخوانه عاقبة خير.
المقطع الثَّامن: ﴿قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا
خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ﴾ .
يُستفاد مِن الآية: أنَّ الإنسان إذا أخطأ على أحدٍ من النَّاس وعرف أنَّه أخطأ،
وعلم أنَّ الذهاب إلى المخطئ عليه سيطيِّب قلبه، فعليه أن يذهب له وأن يطلبَ منه
المسامحة وأن يستغفر له.
وهنا مسألة: بعضُ النَّاس يقول: أنا اغتبتُ فلانًا، وسأذهب إليه لأطلب التَّحلُّل
منه.
يرى بعضُ أهلِ العلم أنَّ المغتابَ يذهب إلى الذي اغتابه ويقول له: قلتُ فيكَ كذا،
أو اغتبتك؛ فحلِّلني.
ويرى آخرون عدم الذَّهاب، بل الدُّعاء والاستغفار له، وقد ورد في حديث ضعيف
الإسناد: «إنَّ مِنْ كَفَّارَةِ الْغِيبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنْ
اغْتَبْته»[34]، لكن أخذ بعض أهل العلم أن الاستغفار لمن اغتبته يكفى، فقد تخبر
المغتاب بغيبتك له فيُوجد الشيطان العداء بينهما.
وقد يُقال إنَّ فيه تفصيل:
v إذا عُلِمَ أنَّه إذا ذهب لمن اغتباه وطلب التَّحلُّلِ أنَّه سيفرح ويدعو له
ويُسر؛ فيذهب له.
v أمَّا لو غلبَ عليه أنَّه سيعاتبه ولا يصفح عنه، وستزداد العداوة؛ فالأولَى
الكفُّ.
فيعقوب -عَلَيْهِ السَّلام- لما جاء إليه أبناؤه معتذرين قال لهم: ﴿سَوْفَ
أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ﴾ ، قال بعض العلماء إنَّ ﴿سَوْفَ﴾ للاستقبال، وقيل إنه أخَّرَ
وقت الاستغفار إلى السَّحر، لأنَّه أدعى للقبول، قال تعالى: ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ
بِالْأَسْحَارِ﴾ [آل عمران: 17].
المقطع التاسع: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ
ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ .
من أنعم الله عليه بنِعَمٍ عليه ألَّا يتنكَّرَ لمعارفهِ، وأن برَّ الوالدين يزداد
مع رُقي ولدهما في الدنيا والآخرة، فيوسف -عَلَيْهِ السَّلام- لمَّا رأى أبويه بعدَ
الغياب الطويل كان من إيمانه -عَلَيْهِ السَّلام- وحسن برِّه بوالديه أنَّه رفع
أبويه وقدَّر مقامهما، ولم ينسَ فضلهما ولا حقَّهما الشَّرعي.
وبعض الناس إذا ارتفع بمنصبٍ تنكَّرَ لوالديه، فبِرُّ الوالدين يزداد في أحوال:
v عندَ مرضِ أحدهما.
v عندَ سفرِ أحدهما يزداد البِرُّ لمن كان موجودًا.
v عندَ موتِهما، يزداد البِرُّ لمن كان حيًّا.
v وإذا تزوَّج الولد أو تزوَّجت البنت؛ فينبغِي لهما أن يُضاعفا من البرِّ.
v إذا رُزقَ أحد الأبناء بمنصبٍ أو بنِعَمٍ من نِعَمِ الدُّنيا فينبغي أن يزيد من
برِّ الوالدين؛ لأنَّ الفضل لهما بعدَ الله تعالى.
المقطع العاشر: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا
وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي
حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ
الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ
رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ .
في الآية فوائد كثيرة، منهـــــا:
- فائدة ذكرها بعض المفسرين في قوله ﴿وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدً﴾ ، قال: إنَّ سجودهم
إنَّما كان إنحناءً بالرأس.
ويُقال: كان السُّجود عندهم جائزًا، ولا مانع من ذلك، فقد جاء في الحديث: «لَوْ
كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللَّهِ ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ
أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَ»[35]، ثم نهي عن هذا الأمر بهذا الحديث.
- أنَّ تأويل الرؤيا لا يلزم أن يكون قريبًا، وقد ذكرَ بعضُ المفسِّرين أن بينَ
رؤيا يوسف الأحد عشر كوكبًا وبينَ قوله: ﴿هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ﴾ قرابة أربعين
سنة، فقد تتحقَّق الرُّؤيا بعد فترة كبيرة، وقد تزيد إلى أيَّام أو أسابيعَ أو
أشهرٍ أو سنواتٍ.
- قوله: ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾ ، فهذه أخلاق
الكبار، وأكبر الناس هم الأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام- قدرًا وإيمانًا، فما
قال يوسف "أخرجني من الجب" حتى لا يُذكِّر إخوانه بأمرهم، وإنَّما مِن كرمِهِ
-عَلَيْهِ السَّلام- وعظيم أخلاقه قال ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ
السِّجْنِ﴾ .
- اُنظر إلى أخلاقِ الأنبياء، قال في نفس الآية ﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ
الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾ ، فقدَّم نفسه على إخوته في النَّزغِ،
والشَّيطان إنَّما نزغَ من جهة إخوانه، فهذه هي أخلاق الأنبياء -عليهم الصَّلاة
والسَّلام- والله -جَلَّ وَعَلَا- يرزق هذه الأخلاق مَن اتَّقى ودعا ربَّه وأحسن
الظَّن بربِّه.
- قوله: ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ﴾ ، من أسماء الله "اللطيف"، فمن فقه
يوسف -عَلَيْهِ السَّلام- أنَّه ذكر الوصف "اللطيف"، وقال بعض المفسرين: من ثمار
أسماء الله "اللطيف" أنه يسوق عبدَه إلى مكارهٍ تكون عاقبتها خيرًا عظيمًا يُنسِي
ما قبله، ويحصل له من الخيرات والمسرَّات في الدنيا والآخرة أضعاف أضعاف ما حصَّل
العبد من المكاره.
المقطع الحادي عشر: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ
تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ .
هذه الآية وما قبلها من مُضاعفة برِّ يوسف بأبويه ومن صَفْحِهِ عن إخوانه؛ أقول:
على مَن تولَّى منصبًا رفيعًا أن يضع نصبَ عينيه هذه الأخلاق العظيمة:
أولًا: ألَّا يتنكَّر لأصحابه، وبخاصَّة أقرب النَّاس إليه وهم والداه وأهل بيته
وقرابته؛ بل عليه أن يُكرمهم، شريطةَ ألَّا يكون إكرامهم على مضرَّة آخرين.
ثانيًا: ألَّا يُوظِّف هذا المنصب في التَّشفِّي والانتقام ومضرَّة الآخرين، فهذا
يوسف -عَلَيْهِ السَّلام- مع قوَّته الشَّرعيَّة الدينيَّة والدُّنيويَّة صفحَ عن
إخوته، بل جعل الخطأ مشتركًا بينه وبينهم، فلم يتشفَّ.
ثالثًا: أن يكونَ مثالَ خيرٍ فيصفح عمَّن ظَلَمه، ويعفو عمَّن أخطأ عليه بالضَّوابط
الشَّرعيَّة.
- على مَن تولَّى منصبًا رفيعًا ألَّا ينسَى شكر الله تعالى والافتقار إليه ﴿رَبِّ
قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ
فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾
فيه افتقار واعتراف بفضل الله عليه، قال ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي
بِالصَّالِحِينَ﴾ . فينبغي أن يكون المنصب عونًا له على طاعة الله، وعلى الافتقار
إلى الله، وعلى كثرة دعاء الله تعالى والتَّضرُّع إليه.
ونذكر الأمور الأربعة إجمالًا:
v عدم التَّنكُّرِ لأصحابه ومعارفه؛ بل الزِّيادة في برِّهم بشرطِ ألَّا يضرَّ
الآخرين.
v ألَّا يُوظِّفَ المنصِبَ في التَّشفِّي والانتقام.
v أن يعفوَ عمَّن ظلمه بالضَّوابط الشَّرعيَّة إذا كان هناك مصلحة.
v أن يُكثر مِن الافتقار إلى الله ودعاء الله تعالى أن يتوفَّاه مسلمًا، وأن يجعل
هذا المنصب عونًا له على الطَّاعة لا عونًا له على المعصية.
المقطع الثَّاني عشر: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ .
عدم التفكُّر في آيات الله التي يراها الإنسان أو يسمعها قد يكون نوعًا من الإعراض
على الخير.
وورد فعل "التَّفكُّر والنَّظر" في مواضع كثيرًا، قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ
إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ [الغاشية: 17]، وقال: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي
الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُو﴾ [الأنعام: 11]، وقال: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾
[الأعراف: 176]، وقال: ﴿لعلكم تتفكرون﴾ [البقرة: 219].
فالتَّفكُّر في آيات الله تعالى سواء الآيات الكونيَّة -اللَّيل والنِّهار، الكسوف
والخسوف- أو الآيات التي يراها في نفسه ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾
[الذاريات: 21]، وقال: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ
الْخَلْقَ﴾ [العنكبوت: 20].
ومن لطائف التَّفكُّر ما ذكره بعض أهل العلم في سورة الغاشية، يقول: إذا خرج
الرَّجل من بيته يركب راحلته، وهي في الغالب الإبل، فأمره الله تعالى فقال:
﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ [الغاشية: 17]، هذا الحيوان
العجيب! وهذا التركيب العجيب! صنع الله الذي أتقن كلَّ شيء.
فإذا ركب على دابَّته يتفكَّر فيها، ثم إذا كان على بعيره رفع رأسه ورأى السَّماء
هذه القبَّة العظيمة، فيتفكَّر فيها ﴿وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ﴾
[الغاشية: 18]، فإذا التفتَ يمنةً أو يسرةً يرى الجبال ﴿وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ
نُصِبَتْ﴾ [الغاشية: 19]، فإذا أدنى برأسه رأى الأرض ﴿وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ
سُطِحَتْ﴾ [الغاشية: 20] ؛ فيكون عنده تفكُّر في ركوبه، فإن رفع رأسه تفكَّر، وإن
التفتَ يمنةً أو يسرةً تفكَّرَ، وإذا نظرَ إلى أسفل دابَّته تفكر في أنَّ الأرض
مسطوحة، ولو لم تكن كذلك لَمَا استقامت حياة النَّاس.
كذلك يتفكَّر الإنسان في جوارحه، هذه الأصابع لو كانت الأظافر فيها للباطن لتعطَّلت
عشرات الحِكَم، ولو كانت هذه الأصابع ليس فيها التواءات لتعطَّلت عشرات الحِكَم، لو
كان الإبهام مكان الخنصر لنعطَّلت عشرات الحِكَم، وهلمَّ جرَّا.
ومن اللَّطائف أنِّي الشيخ إبراهيم بن ناصر السَّياري -وكان زميلًا في الكُليَّة-
يقول: "ينبغي أن يعتبر الإنسان من كل ما يراه".
وبفعل! إذا رأى بعض النَّاس سيارة في الشَّارع تجد بعضهم يشتُم السَّائق أنه متهور
ومجنون!
والاعتبار من ذلك أن يقول الإنسان: الحمد لله الذي عافاني ممَّا ابتلى به غيري.
لو رأى الإنسان شخصًا يرفع صوته على والديه، فبعض النَّاس يقول هذا فيه كذا وكذا؛
بل احمد الله أن عافاكَ مما ابتلاه به، وحاول أن تُصلح ولا تزيد الفساد بالشَّماتةِ
والدُّعاء.
والآن قد يرى الإنسان هذه الطَّائرة الضَّخمة أو السَّفينة الضَّخمة، فإذا كنَّا في
الطَّائرة وتحتنا البحر أو المحيط فتعجَّب وتفكَّر.
وقرأتُ في كتاب "الحضارة، الإنسان، المناخ، الكواكب" معلومة، تقول: إنَّ كوكبنا
-الأرض- عبارة عند كوكب المشتري عن بيضة عند سلَّة بيض، والمشتري عند الشَّمس عبارة
عن بيضة عند سلَّة بيض، والشَّمس عند المجرَّة عبارة عن سلة عند سلة بيض.
المهم؛ هنا يرتد العقل إليك خاسئًا وهو حسير! قال تعالى: ﴿وما قدروا الله حق قدره﴾
[الأنعام: 91]، فالتَّفكُّر في الآيات الكونيَّة -في السَّماء والأرض والجبال- وفي
خلق الإنسان يزيد العبد إيمانًا، وجاء في الحديث «تَفَكَّرُوا فِي آلَاءِ اللَّهِ،
وَلَا تَفَكَّرُوا فِي اللَّهِ»[36]، والمراد بالآلاء هنا: المخلوقات والنِّعم،
ولذا قال تعالى : ﴿فبأي آلاء ربكما تكذبان﴾ [الرحمن: 13]، وقال: ﴿فبأي آلاء ربك
تتمارى﴾ [النجم: 55]، فالآلاء هي نعم الله وآياته.
فالقصد: أنَّ التَّفكُّر في خلق الله يزيد العبد إيمانًا وتعظيمًا لله.
ونذكر مثلًا: اللوح المحفوظ مكتوب فيه كل أعمال الإنسان، الآن لو نظرنا إلى
التَّقنية الحديثة، فشريحة صغيرة فيها آلاف الكتب؛ فإذا تعجَّبنا من هذه التَّقنية
نقول ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النمل: 88]، فكلما أًعجب
الإنسان بشيءٍ أو تعاظمَ شيئًا فليذكر أنَّ هذا الشيء مربوبٌ ومخلوقٌ لله -جَلَّ
وَعَلَا.
{أحسن الله إليكم شيخنا.
ذكرتم التَّفكُّر؛ ما يسمى بـ"التأمُّل" بأن يجلس الإنسان في غرفة ويعمل حركات
معيَّنة. فما حكم ذلك؟}.
على حد علمي أنَّ هذه -كما يُقال- دراسات نفسيَّة، ومثل هذه الأمور إذا لم تُخالف
نصوص الشَّرع الحكيم، ولم يكن فيها محاذير؛ فلا مانع، لكن سمعتُ مَن له إتقانٌ في
هذه الأمور يقول: إنَّ هذا قد يكون نوعٌ من إدخال الوهم، وإدخال التَّعب النَّفسي
على الإنسان.
لكن الإنسان إذا أعطاه الله بصرًا فيتفكر فيما يرى، وإذا كان الله أعطاه سمعًا
وأخذَ بصرَه فيتفكَّر فيما يسمع بالوصف، فيُقال أن بعض العلم أنَّه كان أعمى، وكان
يتمنى أن يرى البعير من مقولة الآية فيه، فأُتي له بناقة وبُرِكَت له، فكان
يتلمَّسها ويبكي، فهذا أعمى البصر، ولكن البصيرة متيقِّظَة، وبعض الناس مفتِّح
البصر لكنَّه أعمى البصيرة.
فالقصد: أنَّ التَّفكُّر هو أن يرى الإنسان ويتأمل، أمَّا الدُّخول في غرفة مُظلمة
وإغلاق الباب فهذا ليس مَعروفًا عن السَّلف ولا عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
ولا ينبغي للإنسان أن يتهجَّم أو يقول بالتَّخرُّص في الرَّدِّ على أهل العلم بدون
بيِّنة، لأنَّ العاطفة ليست دليلًا، فبعض الناس يقول قرأت في بعض كتب علم النفس كذا
وكذا، فيرد آخر أنها باطلة وكذا وكذا! ما الأدلَّة التي تُبطلها؟!
والله -جَلَّ وَعَلَا- يقول: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء:
36]، ومن جَهِل شيئًا عاداه! بل اسأل أهل الصَّنعَة والتَّخصُّص، فالإنسان قد
يُنكِر أشياءً، فإذا سأل عنها رأى أنَّ لها حظ من الشَّرع، بل أحيانًا يرى أنَّ
الشَّرعَ يؤيِّدها.
وأعطيك مثالًا: بعض الناس يقول عن هؤلاء الذين يُخبرون بالكسوف قبل وقوعه: إنهم
خرَّاصون، وأنَّ الشَّياطين تُحدِّثهم!
وهذا كلامٌ ساقطٌ لا قيمة له؛ لأنَّ هذا علم، فالشَّمس لها درجات، والقمر له منازل؛
بل إنَّ بعض الصَّحابة -رضي الله عنهم- كان عنده علم بالخسوف قبل وقوعه، وأذكر
أنِّي قرأتُ في فتح الباري أنَّ ابن حجر ذكر أثرًا فقال: إنَّ بعض الصَّحابة كان
يُخبر بالكسوف قبل وقوعه، فقال له بعضهم: أرجمٌ بالغيب؟ فقال: الغيبُ غيبان:
v غيبٌ استأثر الله بعلمه.
v وغيبٌ أطلعَ الله عليه بعضَ خلقه.
وهذا تقسيمٌ إجمالي، وإلَّا فقد يُقال بالتَّقسيم التَّفصيلي:
v غيبٌ استأثر الله به ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ
الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ
غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾
[لقمان: 34].
v وغيبٌ أطلع الله عليه بعض رسله: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى
غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدً﴾ [الجن 26، 27].
v وغيبٌ أطلعَ الله عليه بعض خلقه بالدِّراسة، الآن يُخبرون بالكسوف والخسوف قبل
وقوعه، وذكر لي بعض علماء الفلك: نستطيع معرفة الكسوف المستقبلي بالدَّرجات، وكذلك
الكسوف الماضي.
فلا يُستنكَر ولا يُستغرَب ولا يُشنَّع على مَن كان شأنه ذلك؛ إذ ينبغي سؤال أهل
العلم والتَّخصُّص قبل كل شيء.
{ذكرت براءة يوسف -عَلَيْهِ السَّلام- من عدَّة وجوه، لعلكم تذكرونها لنا يا شيخ}.
بعضهم يسميها شهادات وبعضهم يسميها براءات، وهي:
v الأولى: ما ذكره الله -عز وجل- عن يوسف عندما دعا ربَّه ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ
عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾
v الثَّانية: شهادة امرأة العزيز بقولها: ﴿أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ
وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ .
v الثَّالثة: قول النِّسوة: ﴿مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ﴾ .
v الرَّابعة: قول الشَّاهد: ﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ
وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ .
v الخامسة: شهادة زوج المرأة ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي
لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾ .
v السَّادسة: وهي أعظمها وأجلها، وهي شهادة رب العالمين: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ
عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ ، ما قال
"المخلِصين"، لأنَّ "المُخلَصين" فيه معنى الاصطفاء. والله تعالى أعلم.
{شكرَ الله لكم فضيلة الشَّيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين
حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر،
إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله
وبركاته}.
----------------------------
[26] أخرجه البخاري (5745)، ومسلم (2194)
[27] أخرجه البخاري في الأدب المفرد ( 266 ) عن بكر بن عبد الله، وصححه الشيخ
الألباني رحمه الله
[28] رواه البخاري (5096) ومسلم (2740).
[29] صحيح البخاري (5641).
[30] رواه أبو داود (3090) صححه الألباني في "سنن أبي داود".
[31] رواه مسلم. 14/557.
[32] أخرجه البخاري (5745، 5746)، ومسلم (2194).
[33] أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675)
[34] ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ (2/213)، وَقَالَ: فِي إسْنَادِهِ
ضَعْفٌ.
[35] رواه ابن ماجه (1853) ، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه.