الدرس الخامس

فضيلة الشيخ د. عبدالعزيز بن محمد السدحان

إحصائية السلسلة

5365 12
الدرس الخامس

التفسير

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ عبد العزيز بن محمد السَّدحان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله المشاهدين والسَّامعين.
{استكمالًا لِمَا أخذناه في الحلقات السَّابقة؛ نأخذ -بإذن الله- فوائد من سورة يوسف.
المقطع الأوَّل: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 55])}.
ذكرَ أهلُ العلم هذه الآية الكريمة في مباحث تزكية الإنسان لنفسه، فذكروا مسائل، منها:
أنَّه لا ينبغي للإنسان أن يزكِّي نفسَه إلَّا إذا كان في التزَّكية مَصلحة راجحة، ويوسف -عليه السلام- علم أنَّه إذا تولَّى أمرَ بيت المال أو أرزاق النَّاس فإنَّه سيُتقن حفظها وقسمتها على الوجه الصَّحيح، فزكَّى نفسه للمصلحة.
وبالقياس على هذه المسألة نستفيد أنَّ الإنسان إذا عَلِمَ من نفسِه أنَّه إذا تولَّى أمرًا مُعيَّنًا أنَّه سيُصلح؛ فينبغي له أن يطلبَ هذا الأمر، بشرط أنَّه إذا تركه ترتَّب على ذلك فساد، أمَّا لو كان هناك مَن يسدُّ مسدَّه أو يقوم مقامه وتورَّع هو فلا حرج، لكن إذا علم أنَّ هذا الأمر بخاصَّة سيكون فيه النَّفع المتعدِّي للنَّاس، إذا فرَّطَ فيه أو زهدَ فيه سيترتَّب عليه مظالم ومفاسد؛ فيجب أن يُقدِّم نفسَه.
ونستفيد أيضًا أنَّ مَن وُكِلَ إليه منصب وهو يعلم من نفسه القصور والضَّعف فيجب عليه أن يتجنَّب هذا المنصب، سواء كان منصبًا شرعيًّا كمئذنةٍ أو إمامةٍ أو خطابة جامعٍ، أو منصبًا دنيويًّا كوظيفة في إدارة أو وزارة أو ما شاكله، ولهذا بعضهم يستشعر نشوةَ المنصب، لكن لا يتذكَّر أن هذا المنصب رأسُ مالٍ، وأنَّ زكاته أن يقوم به صاحبه حقَّ القيام.
ولهذا يُقال: لو قُدِّر أن عُرِضَ على الإنسان منصب، وهو يعلم من نفسه الإصلاح ونفع الناس، وتجنيبهم الفساد المالي والإداري؛ فتقرَّب إلى الله بأن يتولَّى هذا المنصب.
وفي المقابل: إذا كانَ الإنسان في منصبٍ وهو يعلم من نفسِه أنَّ ليس به لا قوَّة ولا أمانة، فيجب عليه أن يترك هذا المنصب تقرُّبًا لله -جَلَّ وَعَلَا.
وممَّا يقع فيه بعض النَّاس: أن يتولَّى أحدهم منصبًا وظيفيًّا، فيُدني زيدًا أو عَمْرا من جيرانه أو أصحابه؛ بغضِّ النَّظرِ عن صلاحه لتولِّي هذا المنصب أو غيره، فمثلًا إدارة الإدارة الحكوميَّة أو وظيفة شرعيَّة؛ شخص بنى مسجدًا ورشَّح فلانًا لأنَّه أخوه أو جاره؛ هل هذا الشَّخص سيملأ هذا المحراب أو هذا المنبر؟ وهل فيه من الصِّفات ما تقوم به الذمِّة والأمانة؟
إن كان الجواب بنعم؛ فمرحبًا به، وإن كان الجواب بـ "لا" فلا مرحبًا به.
{أحيانًا تكون هناك وظائف إداريَّة، ويكون هناك ترشُّح لأحد الوظائف، كيف يكون هذا في ضوء هذه الآية؟}.
الوظائف المشاعة التي لها ضوابط في التَّقدُّم بالمسابقات أو بالمراتب؛ فهذه مصادر رزق، فيتقدَّم الإنسان ويتوظَّف، ومن المعلوم أنَّ الوظائف الحكوميَّة العامَّة هذه كإداريين فيها شروط ومسابقات وما شاكله، لكن لو قُدِّر أنَّه يعلم من نفسه أنَّ هذه الوظيفة التي ترشَّح لها لن يقوم بالأمانة والعمل؛ كعسكري في حراسة أو دوريَّة شُرطة، وهو يعلم من نفسه أنَّه لن يقوم بالعمل، ولكن مجرد أنه يُثبت نفسَه حتى يأخذ مكافأة حتى ولو خان أمانته! فهذا لا يجوز له أن يتقدَّم.
لكن لو قيل إنَّ هناك مسابقات وظيفية في وزارة كذا أو كذا، مثل الوظائف الإداريَّة أو إدارة قِسم، فهو عمل وظيفي في المعاملات، والتَّسجيلات الإلكترونيَّة والكتابيَّة؛ فالجميع يعرف هذا، فكلٌّ يُرشِّح نفسَه طمعًا في الوظيفة، ولكن بشرط أن يعلم الإنسان من نفسه القُدرة عليها، أمَّا إذا علم من نفسه عدم القدرة عليها فلا يجوز له أن يترشَّح لها.
والوظائف الحكوميَّة الدنيويَّة كلها عبادات إذا أتقن الإنسان عملها، ولكن قلنا "دنيويَّة" من باب المصطلح.
المقطع الثاني: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108].
دعوة الناس إمَّا أن تكونَ على بصيرةٍ أو تكون على غيرِ بصيرةٍ.
الدَّعوة التي على غير بصيرة تكون على عواطف جيَّاشة، أو على استحسانات عقليَّة، أو على محاكاةٍ للآخرين.
أمَّا الدَّعوة على بصيرة: أن يكون على بيِّنةٍ من ربِّه، ودعوة الأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام- وأتباعهم -كما سمعنا في الآية الكريمة- ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي﴾ .
يقول بعض أهل العلم: سبيلُ الحقِّ واحدٌ، ويأتي في القرآنِ بالإفراد، وسُبل الضَّلال كثيرة، وتأتي في القرآن بالجمع، قال تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153].
فيجب على مَن دعا النَّاس أن يكونَ على بصيرةٍ من أمره، والبصيرة هي العلم، أمَّا الإخلاص فبينه وبين ربِّ العالمين.
والاتِّباع: أن يكون في عمله متَّبعًا لا مبتدعًا.
ومن ضوابط العمل الصَّادق: ألَّا ينظر الإنسان للنتائج والمآلات، فلستَ مُكلَّفًا، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [الرعد: 7]، وقال: ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ [الشورى: 48]، ولا تنظر إلى كثرة مَن يسمع أو كثرة مَن يُطيع، ولكن انظر إلى مَن يُطاع وهو الله-عزَّ وجلَّ- فأخلِصْ النِّيَّة وطيِّب الطَّويَّةَ، وادعُ إلى سبيل ربِّك.
بعض الناس يقول: ما سمِعَ دعوتي، وما استجاب لنُصحي أحد!
فيُقال: جاء في الحديث: «فَجَعَلَ يَمُرُّ النبيُّ معهُ الرَّجُلُ، والنبيُّ معهُ الرَّجُلَانِ، والنبيُّ معهُ الرَّهْطُ، والنبيُّ ليسَ معهُ أحَدٌ»[37].
وللآلوسي كلمة طيِّبَة لطيفة، يقول: "ما ضرَّ النبي قلَّة أتباعه، وما ضرَّ العالم قلَّة تلاميذه"، فربما يستجيب لك طالبان أو ثلاثة، أو طالب واحد يُغير مجرَى التَّاريخ، وربَّما يسمعك ألف ولا ينفعون.
المقطع الثالث: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: 109].
في مبحث النُّبوَّات أورد أهل العلم مسألة: هل في النِّساء نبيَّة أو لا؟
فذهب بعضهم إلى أنَّ في النساء نبيَّة، وذكرَ مريمَ وأمُّ موسَى.
والقول الصَّحيح وهو ما عليه جماهير أهل العلم بالأدلَّة الصَّريحة: أنَّ النبوَّة مقصورة على الرجال، وهذه الآية ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالً﴾ ، فالاستثناء يزيد التخصيص على أنَّ النبوة مَقصورة على الرجال.
ومن أسباب ذلك:
·       أنَّ طبيعة الرَّجل القِوَامَة على المرأة، والعكس فيه خلاف للفطرة.
·       أنَّ المرأة يعتريها العوارض البشريَّة، مثل العادة الشَّهريَّة، والولادة والنفاس، وهذه تُضعفها.
ومَن قال بنبوَّة مريم وأم موسَى؛ أخذوها من أنَّها قد أُوحيَ إليها، وذكر أهل العلم في الرَّد على ذلك أنَّ الوحي أنواع، ومنه الإلهام مثل قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ [النحل: 68]، وكذلك كل مَن كلَّمه المَلَك يكون نبيًّا، فقد كلَّمَ المَلَكُ -بأمر الله- أناسًا وليسوا بأنبياء.
والقول الصَّحيح وهو قول الجمهور: أنَّ النُّبوَّة مقصورةٌ على الرِّجال.
ومن فوائد الآية في قوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُو﴾ ، النَّظر في آيات الله تعالى التي يراها الإنسان في نفسه، وفي الكون؛ فكلَّما تأمَّل الإنسان فيها ازداد إيمانًا.
وما أجمل قول الشاعر:
وفـِي كُـــلِّ شــيءٍ لَـهُ آيـــــة ٌ*** تَــدُلّ علــى أنّـــهُ الواحِـــدُ
وخيرٌ من قول الشَّاعر قول ربِّ الشَّاعر: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُو﴾ ، فإذا نظرَ الإنسان في تقاطيع بدنه، ونظرَ في جوارحه، ونظرَ في مخلوقات الله كالطيور والحيوانات والجمادات كالجبال، ونظرَ إلى هذه القُبَّة العظيمة -السَّماء- وإلى الأرض المبسوطَة، ونظرَ إلى تعاقب الليل والنَّهار، وتعاقب الشِّتاء والصيف، وترى أمامك الشَّخص يمشي ويتكلَّم وفجأة يكون في عداد الأموات؛ فكل هذا من آيات الله، ومَن اعتبرَ وتذكَّرَ زادَ إيمانه بالله وعلمه به.
المقطع الرابع: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ [يوسف: 110].
ذكرَ أهل العلم في هذه الآية مفهومًا غالطًا عند بعضهم، فقوله: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ﴾ ، يظنُّه بعضهم أنَّ الرُّسل يئسوا من رحمة الله، واستيأسوا من نصر الله، وهذا المعنى باطل، حاشاهم عليهم الصلاة والسلام.
وممَّا قيل في تفسير هذه الآية: حتى إذا استيأس الرُّسل مِن إيمان قَومهم.
فالإنسان ينتابه أحيانًا نوعٌ من تأخُّر النَّصر، ويتمنَّى تقدُّم النَّصر، وهذه عوارض تعرض لكلِّ أحدٍ، ولهذا قال بعضهم: هذه الآية يُوضِّحها ما جاء في قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾ [البقرة: 214]، فــ "متى" استفهام للاستبطاء، وليس لليأس والقنوط، فإذا طالَ الأمدُ على الإنسان يتمنَّى تقدُّم الأمر، وبخاصَّة إذا كان هناك ابتلاء من الأتباع، أو الإعراض من الأقوام؛ فيعتريه ضيق صدر، مثل قوله: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾ [الحجر: 97]، وفي آية سورة هود ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ﴾ [هود: 12]، فهذه عوارض، لكنَّها لا تخلُّ بقوَّة الإيمان.
المقطع الخامس: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [يوسف: 111].
في كلِّ الحضارات قَصَصٌ، والقَصَص فيها استرواحُ النُّفوس، وتشويقُ السَّامعين، ولهذا فإنَّ الطُّلاب في المدرسة إذا ثقُلَ عليهم الشَّرح -وبخاصَّة في المراحل الأوليَّة- ثم قال الأستاذ: عندي قصَّة؛ تجدهم يُنصتون!
حتى كبار السِّن، وحتى طلاب العلم إذا قال الشَّيخ في الدرس: وقد كنّا مع الشيخ فلان...؛ فيكون هناك إصغاء تام؛ لأنَّ النفوس تتوق إلى سماع الأخبار، وبخاصَّة إذا تضمَّنت القصَّة غرائب أو عجائب.
والقصص أنواع، وجاء في أول سورة يوسف ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ [يوسف: 3]، وفي آخرها: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ﴾ [يوسف: 111]، وقَصَصُ القرآن الكريم هي أحسن القَصَص على الإطلاق، وتقدَّم أنَّ المراد بقوله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ ، ليس أنَّ قصَّة يوسف هي أحسن قصَّة على الإطلاق، ولكن لهذه الآية معنيان:
المعنى الأول: أنَّ القصص في القرآن هو أحسن القصص على الإطلاق.
المعنى الثاني: أنَّ قصَّة يوسف أحسن قصَّة في بابها.
وفي قوله: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ﴾ ، أذكر كلمة للإمام السخاوي الشَّافعي -عليه رحمة الله- في كتابه "الإعلام بالتَّوبيخ لمن ذمَّ التاريخ"، مرَّت عليَّ عبارة لطيفة، يقول: "من ظنَّ أن القَصَص في القرآن من باب قطع المجالس بالأسمار والأخبار فهو أضل من حمار أهله".
ويعني بهذا أنَّ القَصَص في القرآن الكريم ليست لقطع المجالس، وإنَّما للاعتبار والاتِّعاظ، وأخذ الدروس والتَّأمُّل فيها، والقَصص من أسباب تثبيت قلوب الأنبياء، كما قال تعالى: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [هود: 120]، ففيها العِبَر والاتِّعاظ والتَّرغيب، فيسمعها الإنسان، ويتعبَّد الله بما فيها من المعاني، إن دلَّت على خيرٍ لزمه، وإن حذَّرَت من شرٍّ انتبه.
{أحسن الله إليكم شيخنا.
ما منزلة القصص في الدعوة إلى الله؟}.
هذه من أساليب الترغيب والتَّشويق، وبخاصَّة إذا أحسنَ الواعظ إيرادها، والقرآن الكريم فيه قصص، والرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقول: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ...»، ثم يسوق قصةً، كما سَاق قصَّة الثلاثة نفر لما حبستهم الصَّخرة في الغار، وقصَّة الأقرع والأعمى والأبرص، وطلبَ من تميم الدَّاري أن يقصَّ على الصَّحابة خبر الدَّجال.
والإشكال أنَّ بعض النَّاس يتوسَّع في القَصَص، وتكون مجرَّدَ سردٍ، وقد يُبالِغ في السَّرد، فيَورِد أخبارًا لا تصح من إسرائليات أو موضوعات أو أكاذيب، فينبغي أن لا يُغلِّب هذا الجانب؛ لأنَّ الناس إذا اعتادوا شيئًا صعُبَ عليهم ترك هذا الشيء.
ويقول الشاعر:
والنفسُ كالطفلِ إن تهملهُ شَبَّ على ** حُبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِم
فبعض النَّاس يُغلِّب في كل مجالسه ومواعظة القَصَص، ويُقال: إنَّ خيرَ الهدي هدي محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يورد قصصًا، ولكن كانَ يُرغِّب ويُرهِّب، ويذكر أحكامًا فقهيَّة وأحكامًا عقديَّة وسلوكيَّة.
وبعضُ النَّاس يُبالغ فيقول: لا قصَّ في الموعظة، ولا قصَّ في مجالس العلم.
والصَّواب: أنَّ خيرُ الأمورِ الوسطَ.
المقطع السَّادس من سورة التوبة: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ [التوبة 75 - 78].
الآيات ظاهرها واضحُ الدِّلالةِ، أنَّ قومًا عاهدوا الله تعالى إذا رزقهم من فضله، وأسبغ عليهم من نعمه؛ أن يصَّدقوا ممَّا آتاهم الله، وأن يكونوا من الصَّالحين، فأخلفوا وعدهم، وأعظم الخُلفُ شناعةً وقُبحًا أن يُخلف الإنسان وعده مع ربِّه، فكان عاقبة أمرهم خسرًا.
وهناك في بعض التفاسير تورِدُ أسباب النُّزول لبعض الآيات، وأسباب النُّزول علم عظيم اعتنى به أهل العلم، وبخاصَّة علماء علوم القرآن، وصنَّفوا فيه مصنَّفات مُستقلَّة، فالإمام الواحدي له كتاب، والشَّيخ مقبل الوادعي له كتاب، ويقول أهل العلم: إنَّ فهم العلم بالسَّببِ يُورث العلم بالمسبب.
وهذه الآية الكريمة ذكر فيها بعض المفسرين سببًا لا يصح، وفيه قدح في صحابي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، والصَّحابي هو ثعلبة بن حاطب -كما تقول الروايات- جاء إلى الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا رسول الله اُدعُ الله أن يرزقني مالًا.
فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا ثعلبة، قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ، خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لا تُطِيقُهُ».
فأصرَّ ثعلبة على أن يُحصِّل دعاءً نبويًّا؛ فدعا له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فرُزِقَ بوادٍ من الغنم، فبدأ يتأخَّر عن الصَّلاة، ثمَّ لما بعث له النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليدفع الزكاة كان يتلكَّأ ويُماطل حتى امتنعَ عن أدائها، وبعدَ مدَّة نَدِمَ وأرادَ دفع الزَّكاة إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأبى النَّبي أن يأخذها منه، وكذلك أبى أبو بكر الصديق، وكذلك عمر، ومات ثعلبة في عهد عثمان.
وفي بعض الألفاظ أنه كان يحثوا التراب على رأسه ويقول: ويح ثعلبة هلك، ردَّ زكاته الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبو بكر وعمر.
هذا الكلام يُستعَظم من آحاد النَّاس، فكيف بصحابي جليل! بل إنَّ هذا الصحابي طلب من الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الدعاء له -على صحَّة الخبر.
وهذا الخبر لا يصح لا سندًا ولا متنًا، وكما عَلَّمَنَا أهل الحديث -عليهم رحمة الله- أنَّ العلَّة قد تكون متنيَّةً وقد تكون سنديَّة.
أما العلة في المتن: فالآيات كانت في سورة التوبة، وسورة التوبة نزلت في السَّنة العاشرة أو التاسعة، وكما في كتب التَّراجم أنَّ ثعلبة مات بعدَ أحد بيسير، يعني في السَّنة الثانية، فبينَ نزول هذه الآيات وبين موت ثعلبة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وأرضاه- قرابة ثمان سنين أو أقل أو أكثر.
وأما العلة في السَّند: ذكر أهل العلم أن في إسنادها رجلًا يسمى عبد الرحمن بن أسلم، والقاسم بن عبد الرحمن؛ والرَّجلان مُتكَّلَم فيهما، حتى أن ابن حبان يقول في عبارة لطيفة: "إذا اجتمع القاسم وعبد الرحمن؛ فالحديث ممَّا صنعت أيديهم".
فبكل حالٍ؛ فالقصَّة لا تصح لا سندًا ولا متنًا.
وينبغي لمَن قرأ سببَ نزولٍ ألَّا يُسارع في تصديقه حتى يسأل أهل العلم عن صحَّته، وكما ذكرتُ لكم أن أهل العلم ألَّفوا كتبًا عن أسباب النزول، وهذه الكُتب تُبيِّن الصَّحيح والضَّعيف، وكتاب الشيخ مقبل الوادعي -رَحِمَهُ اللهُ- اسمه "الصحيح المسند من أسباب النزول".
المقطع السَّابع: ﴿طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ [طه 1 - 2].
التَّعليق على مطلع السورة ﴿طه﴾ ، فإنَّ الشَّائع عند كثيرٍ أنَّ "طه" من أسماء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا ليس بصحيح، وقد بيَّن المحقِّقون مِن أهل العلم كابن القيم وغيره أنَّ "طه" ليس من أسماء الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولعلَّ مَن جعله اسمه أخذه من الضَّمير المتعاقب له ﴿طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ﴾ فكأنَّ الضمير يعود على هذا الاسم، وهذا الفهم وإن كان سليمًا عند اللغويين إلَّا أنَّه له قرائنُ تُخرجه عن ذلك.
ومن لطائفِ سورة "طه" أنَّني قرأت في بعض التفاسير: أنَّ قصَّة موسى -عليه السلام- هي أكثر القصص وُرودًا في القرآن الكريم، ومع هذا لم تأتِ سورة باسم موسى، فجاءت سورة "محمد" -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسورة "إبراهيم" عليه السلام، سورة "يونس" عليه السلام، سورة "هود" عليه السلام، سورة "يوسف" عليه السلام؛ لكن لم تأتِ سورَة تُسمَّى سورة موسى.
قال بعضهم: وقد سمَّى بعض المفسِّرين سورة "طه" سورة "موسى"، فيُلغَزُ بها فيُقال: ما هي سورة "موسى" في القرآن الكريم؟
وذلك لأنَّ قصَّة موسَى في الطوال -البقرة والأعراف والشعراء وهود ويونس- وفي القصار -النَّازعات- وغيرها.
{لماذا سُميت سورة "طه" بسورة موسَى"؟}.
أسماء السُّور ليست توقيفيَّة، ذكر السيوطي في كتابه المشهور "الإتقان في علوم القرآن" أنَّ بعض السُّور لها أسماء كثيرة، وأظنه ذكر عشرين اسمًا لسورة "الفاتحة"، وذكر أسماءً كثيرة لسورة "الإخلاص".
وكما يقول بعض أهل العلم: أسماء السور فيها شيء من الوحي، والأكثر اجتهادًا.
فقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ»[38]، فسماها باسمها، لكن سورة "الشعراء" وسورة النمل" وسورة "القصص"؛ في الغالب من تسمية الصحابة أو من بعدهم.
وفي بعض المصاحف يسمُّون سورة "فصلت" بسورة "المصابيح" لورود كلمة "مصابيح"، زسورة "غافر" تسمى سورة "المؤمن"، وسورة "التوبة تسمى سورة "براءة"، وسورة "طه" تسمى سورة "موسى".
المقطع الثَّامن: ﴿يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [يس 1- 4].
نفس ما قيل في "طه" يُقال في "يس"؛ بل إنَّ أهلَ العلمِ ذكروا اسم "طه" وقرنوه بــ "يس" فيقولون: "طه ويس" اشتهرا على ألسنةِ كثيرٍ أنَّهما من أسماء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والصَّحيح أنَّ ذلك لم يثبت بإسنادٍ صحيحٍ، وعليه فلا يكونا اسمان؛ بل يُقال فيهما إنَّهما من الحروف المقطَّعة كسائر الحروف المقطَّعة "الر، الم، حم، طس، طسم، ص، ق، كهيعص".
المقطع التَّاسع: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ [الأحقاف: 29].
كتب أدب طلب العلم كثيرة، ويذكرون من آداب طلب العلم أنَّ على طالب العلم أن يكون كذا وكذا، ثم يذكرون أمثالًا من طلاب العلم ومشايخ العلم.
ذكر الله في سورة الأحقاف الجن المؤمنون، وذكرَ شيئًا من آدابهم في طلب العلم، قال تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ﴾ ، توفيقٌ من الله لهم أن يستمعوا للقرآن الكريم، ومن توفيق الله لطالب العلم أن يكون التَّلقِّي الأوَّل له من أعظم مصدر وهو القرآن الكريم من أكبر معلم من البشر وهو الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فإذا رُزق طالب العلم مُعلِّمًا موحِّدًا على بصيرةٍ من أمره ويُعلمه القرآن الكريم والسُّنَّة فهذا الفخرُ والغِبطة.
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ﴾ ، أي: حضره الجميع وما تخلَّف أحدٌ، وهذا دليلٌ على حرص أولئك النَّفر على طلب العلم.
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُو﴾ ، أوصَى بعضهم بعضًا بالإنصات إلى المعلِّم؛ لأنَّ الإنصات للتَّعليم يزيد طالب العلم استحضارًا لِمَا يُقال. فهذه آداب ثلاثة.
قوله: ﴿فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ ، جلسوا حتَّى انتهى المجلس وما قام أحد، ولمَّا قُضيَ المجلس ولَّوا -أي أسرعوا- في تبليغ العلم وما تأخَّروا، فأسرعوا إلى قومهم، وفيه دليل على أنَّ صاحبَ العلم إذا أتقنَ علمًا أو حفظ فائدةً فعليه أن يبدأ بأقرب الناس إليه.
المقطع العاشر: ﴿قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأحقاف: 30].
قوله ﴿قَالُوا يَاقَوْمَنَ﴾ ، فيه التَّحبُّب إلى المدعو بالقرابة أو بالزَّمالَة أو بالجوار، إن دعا أباه قال: "يا أبتِ"، إن دعا أمَّه قال: "يا أمِّ"، إن دعا أخاه قال: "يا أخي"، إن دعا جاره قال: "يا جاري"، إن دعا قريبًا من عشيرته أو أسرته قال: "يا ابن أخي".
قال: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ ، ربطوا اللاحق بالسَّابق، توثيقًا لعرى العلم والإيمان.
قال: ﴿يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ ، يُطمئنون المدعوين بأنَّ ما نخبركم به ليس لقصد مصلحة دنيويَّة، وإنَّما يهديكم إلى أفضل الأمور، إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
{في قوله تعالى ﴿إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ ، لماذا لم يذكروا عيسى -عليه السلام؟}.
يُقال: إنَّ عيسى -عليه السلام- جاء يؤكِّد ما جاء به موسى، وأذكر أنَّني قرأتُ أنَّ معنى "التوراة" البشارة والتَّعليم، وعيسى -عليه السلام- جاء مؤكِّدًا لِمَا سبقَ ومبشِّرًا بما يتبعه وهو محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
المقطع الحادي عشر: ﴿يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأحقاف: 31].
أيضًا من أدبهم قولهم: ﴿يَاقَوْمَنَ﴾ ؛ لأنَّ فيه التَّحبُّ للمدعو، وهذا يذكرنا بنبي الله إبراهيم -عليه السلام- لمَّا دعا أباه فقال: ﴿يا أبت﴾ ، ونوح لمَّا دعا ابنه فقال: ﴿يا بني اركب معن﴾ [هود: 42].
والشاهد هنا قوله: ﴿يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ﴾ ، والنتيجة: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ .
يقول بعض أهل العلم: إنَّ مؤمني الجن لا يدخلون الجنَّة، لكن ينجون من العذاب؛ لأنَّه قال هنا: ﴿وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ ، وهذا القول مردود لقوله تعالى: ﴿لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان﴾ [الرحمن: 56].
المقطع الثاني عشر: ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [سورة الكافرون].
أحبُّ التَّنبيه على آخر آيه في السورة ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ ، بعض الناس إذا اختلف مع صاحبٍ له في رأيٍ أو وجهة نظرٍ ثم أرادا التَّفرُّق قال: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ ، وقد حذَّر أهل العلم من الاحتجاج بهذه الآية عند المتاركةِ والمفارقةِ، وهو أن يختلف اثنان فيقول أحدهم لصاحبه: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ ؛ لأنَّ هذا يلزم منه أنَّ أحد الاثنين على دين غير الآخر، وهذا لا يجوز، ولكن يُقال: لكَ رأيكُ ولي رأيي.
المسألة الأخيرة: حكم الاستشهاد بالقرآن الكريم في كلام النَّاس حتى ولو كان المعنى صحيحًا.
عقد السيوطي رسالةً في "الحاوي" وذكر أقوالًا، والخُلاصة: أنَّ الاستشهاد بالقرآن في الكلام الماجن لا يجوز، وأمَّا الاستشهاد بالقرآن الكريم في نظم العلوم النافعة لا حرج فيه، وأمَّا الاستشهاد بالقرآن في كلام الناس لا مانع منه ولكن لا يكون باستمرار.
والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ ﴿إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبير﴾ »[39]، ولمَّا دخل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خيبر قال: «اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ إنَّا إذَا نَزَلْنَا بسَاحَةِ قَوْمٍ ﴿فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِينَ﴾ »[40]، ولمَّا دخل على عليٍّ وفاطمة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قال: «أَلَا تُصَلِّيَانِ»، فقال علي: "أَنْفُسُنَا بيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا". فخرج -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يضرب فخذه ويقول: «﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلً﴾ »[41]، حتى أنَّ ابن حجر قال: وفيه انتزاع شيء من القرآن الكريم للاستشهاد به إذا دعت الحاجة، وكان المعنى صحيحًا.
ولا يظنُّ أحدٌ أنَّ هذا استحضارٌ منِّي، فقد قرأتُ قبل الحلقة، حتى لا أكون ممَّن يتشبَّع بما لم يُعطَ، فهذه المعلومات قرأتها وقيدتُّها قبل تقديم الحلقة.
{شكر الله لكم معالي الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
{وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-------------------------
[36] أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (12928)، والطبراني في المعجم الأوسط (6319)، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (7/95).
[37] صحيح البخاري (5752).
[38] صحيح مسلم (804).
[39] أخرجه الترمذي (1085)، والبيهقي (13863) باختلاف يسير.
[40] أخرجه البخاري (4200) واللفظ له، ومسلم (1365).
[41] صحيح البخاري (7465)، صحيح مسلم (775).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ