الدرس الثاني عشر
فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء
العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم
فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكَ الله.
{في هذه الحلقة نبدأ -بإذن الله- ما انتهينا عنده في الحلقة الماضية من منتصف
الفصل}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على رسولِ اللهِ، وعلى آلهِ وأصحابِه ومَن اهتدَى
بهداة.
سبقَ أن ذكرنا أنَّ الشَّيخ ابن تيمية عقدَ هذا الفصل في كتابه "الفرقان بين أولياء
الرحمن وأولياء الشيطان"؛ ليردَّ على ملاحدة المتصوِّفة وغلاتِهم، وكذلك ملاحدة
البَاطنيَّة، وكذلك ملاحدة الفلاسِفَة، في زعمهم أنَّ خاتم الأولياء أفضل من
الأنبياء، وردَّ عليهم في زعمهم أنَّ هناك خاتم للأولياء، فهذا ليس بصحيح.
والأولياء هم المؤمنون المتَّقون، ولا يزال المؤمنون موجودن، فإذا توفَّاهم الله
-عزَّ وَجلَّ- في آخر الزَّمان فلا يبقى في الأرض مُسلم، وحينئذٍ ينتهي وجود أهل
الإيمان وهم أولياء الله، أمَّا أنَّه هو خاتم الأولياء فهذا كذب.
فالشَّيخ ردَّ على هؤلاء وبيَّنَ كفرهم وخروجهم عن الإسلام، وأنَّ هذا أمرٌ متَّفقٌ
عليه بين المسلمين، وأنَّك إذا رأيتَ مثل هذه المقالات عرفتَ أنَّ مَن يقولها هو
مِن أولياء الشَّيطان وليسَ مِن أولياء الرحمن، فمَن يزعم أنَّ له طريق إلى الله
غيرَ طريقِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو يزعم أنَّه يتلقَّى علمَ
الحقيقة من غيرِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنَّ الشَّريعة فقط هي
التي تؤخذ من النَّبي أمَّا الحقيقة فتؤخذ من غيره، أو يزعم أنَّ علم الظَّاهر من
النبي وعلم البطان من غيره؛ فهؤلاء كلهم كفَّارٌ.
والشَّيخُ مستمر في هذا الفصل في فَضْحِ هذه المقالات الباطنيَّة الكفريَّة، وبيانِ
مآخذها وأسباب وقوعهم في هذه المقالات الخبيثة، ليُحذِّر المسلمينَ من الوقوعِ في
مثل ما وقعوا فيه.
{قال -رحمه الله: (وَهَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ يَدَّعُونَ أَنَّ الْوِلَايَةَ
أَفْضَلُ مِنْ النُّبُوَّةِ وَيُلَبِّسُونَ عَلَى النَّاسِ فَيَقُولُونَ:
وِلَايَتُهُ أَفْضَلُ مِنْ نُبُوَّتِهِ وَيُنْشِدُونَ:
مَقَامُ النُّبُوَّةِ فِي بَرْزَخٍ ** فُوَيْقَ الرَّسُولِ وَدُونَ الْوَلِيّ
وَيَقُولُونَ نَحْنُ شَارَكْنَاهُ فِي وِلَايَتِهِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِنْ
رِسَالَتِهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ ضَلَالِهِمْ فَإِنَّ وِلَايَةَ مُحَمَّدٍ لَمْ
يُمَاثِلْهُ فِيهَا أَحَدٌ لَا إبْرَاهِيمُ وَلَا مُوسَى فَضْلًا عَنْ أَنْ
يُمَاثِلَهُ هَؤُلَاءِ الْمُلْحِدُونَ.
وَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٍّ وَلِيٌّ فَالرَّسُولُ نَبِيٌّ وَلِيٌّ، وَرِسَالَتُهُ
مُتَضَمِّنَةٌ لِنُبُوَّتِهِ وَنُبُوَّتُهُ مُتَضَمِّنَةٌ لِوِلَايَتِهِ، وَإِذَا
قَدَّرُوا مُجَرَّدَ إنْبَاءِ اللَّهِ إيَّاهُ بِدُونِ وِلَايَتِهِ لِلَّهِ؛
فَهَذَا تَقْدِيرٌ مُمْتَنِعٌ فَإِنَّهُ حَالَ إنْبَائِهِ إيَّاهُ مُمْتَنِعٌ أَنْ
يَكُونَ إلَّا وَلِيًّا لِلَّهِ، وَلَا تَكُونُ مُجَرَّدَةً عَنْ وِلَايَتِهِ
وَلَوْ قُدِّرَتْ مُجَرَّدَةً لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مُمَاثِلًا لِلرَّسُولِ فِي
وِلَايَتِهِ)}.
لا أحدَ أفضل مِن الرَّسول محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا يُمكن لأحد
أن يقول: إنَّه أفضل من الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فإذا قال أحدٌ
من الناس إنَّه أفضل من الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهذا كافر
وملحد، فهؤلاء يدَّعون التَّديُّن ويدَّعون أنَّهم أولياء، وهم يزعمون هذا الزَّعم؛
فهؤلاء لا شكَّ أنَّهم ملاحدةٌ كما قال الشَّيخ.
والشُّبهة التي يوردونها على الجهلة من أمثالهم قولهم: إنَّ النَّبي نبي وهو ولي
أيضًا، ونحن في ولايتنا أكمل مِن ولاية الرسول، وإن كانَ قد فاقَنَا في النبوَّة
فنحن قد فُقْنَاه في الولاية!
ثم يقولون: إنَّ الأولياء خُتموا بخاتَم، وأنا خاتم الأولياء، وخاتم الأولياء أفضل
مِن خاتم الأنبياء، فيلفُّون ويدورون إلى مسألةٍ مُهمَّة، وهي أنَّهم يصلون إلى
الله بغير طريق النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!
فهذا من أعظم ضلالهم، ولهذا قال: (وَيَقُولُونَ نَحْنُ شَارَكْنَاهُ فِي
وِلَايَتِهِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِنْ رِسَالَتِهِ)، فهذا كذب.
ثم وضَّحَ الشَّيخُ أنَّ كلَّ رسولٍ نبيٍّ وليٍّ، يعني: أنَّ الرِّسالة تتضمَّن
النُّبوَّة، والنُّبوَّة تتضمَّن الصَّلاح والتَّقوى والإيمان، فهذه هي الولاية.
وهؤلاء ينشدون هذا البيت:
مَقَامُ النُّبُوَّةِ فِي بَرْزَخٍ ** فُوَيْقَ الرَّسُولِ وَدُونَ الْوَلِيّ
البرزخ: هو المنزلة.
وقولهم: "فُوَيْقَ الرَّسُولِ"، يُفيد أنَّ الرَّسول تحت، والنُّبوة فوق الرسول.
قولهم: "وَدُونَ الْوَلِيّ"، يعني: أنَّ الولي أعلَى شيء.
فصارَ الولي عندهم أعلى، ثم النَّبي، ثم الرَّسول؛ فقد عكسوا الحقيقة، فإنَّ
الرُّسل أفضل من الأنبياء؛ لأنَّ الرسالة أعلى شيء، ثم النبوة ثم الولاية.
{قال -رحمه الله: (وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَقُولُونَ: كَمَا يَقُولُ صَاحِبُ الْفُصُوصِ
ابْنُ عَرَبِيٍّ: "إنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ
الْمَلَكُ الَّذِي يُوحَى بِهِ إلَى الرَّسُولِ")}.
هذا النَّص منقول من كتاب: "الفتوحات المكيَّة" أو "فصوص الحكم"، وهذا النَّصُّ
يبيِّن لك أنَّهم يزعمون أنَّهم يأخذون مِن الله -عزَّ وَجلَّ- مُباشرة، وليس
بالمَلَك ثم الرَّسول، فإنَّ الرَّسول يأخذ من الملك ثم من هذا المصدر -والمعدن هو
المصدر- فهم يقولون: إنا نأخذ من المصدر مباشرة، فهذه من عبارات هذا الشَّخص.
{قال-رحمه الله: (وَذَلِكَ أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا عَقِيدَةَ الْمُتَفَلْسِفَةِ،
ثُمَّ أَخْرَجُوهَا فِي قَالَبِ الْمُكَاشَفَةِ)}.
هذه الجملة اختصار لكلام طويل جدًّا سيذكره الشيخ يُبيِّن لك أنَّ هؤلاء ملاحدة
الفلاسفة، تصوَّفوا وركبوا مذهب ملاحدة الفلاسفة، ثم علم المسلمون أنَّ إلحاد
الفلاسفة غير مقبول؛ فاتوا به للمسلمين في صورةٍ جملية جذَّابة باسم المكاشفَة
والولاية والإمامَة، فزيَّنوه بهذا الشَّكل، وإلا فهي عقيدة المتفلسفة، فهذا هو
خلاصة الكلام الطَّويل الذي سيأتي.
{قال -رحمه الله: (وَذَلِكَ أَنَّ الْمُتَفَلْسِفَةَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ
الْأَفْلَاكَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَهَا عِلَّةٌ تَتَشَبَّهُ بِهَا، كَمَا
يَقُولُهُ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ؛ أَوْ لَهَا مُوجَبٌ بِذَاتِهِ كَمَا يَقُولُهُ
مُتَأَخِّرُوهُمْ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ، وَلَا يَقُولُونَ إنَّهَا لِرَبِّ
خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَلَا
خَلَقَ الْأَشْيَاءَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَلَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ؛
بَلْ إمَّا أَنْ يُنْكِرُوا عِلْمَهُ مُطْلَقًا كَقَوْلِ أَرِسْطُو؛ أَوْ يَقُولُوا
إنَّمَا يَعْلَمُ فِي الْأُمُورِ الْمُتَغَيِّرَةِ كُلِّيَّاتُهَا كَمَا يَقُولُهُ
ابْنُ سِينَا، وَحَقِيقَةُ هَذَا الْقَوْلِ إنْكَارُ عِلْمِهِ بِهَا؛ فَإِنَّ كُلَّ
مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ فَهُوَ مُعَيَّنٌ جُزْئِيٌّ، الْأَفْلَاكُ كُلُّ
مُعَيَّنٍ مِنْهَا جُزْئِيٌّ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَعْيَانِ وَصِفَاتُهَا
وَأَفْعَالُهَا، فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ إلَّا الْكُلِّيَّاتِ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا
مِنْ الْمَوْجُودَاتِ، وَالْكُلِّيَّاتُ إنَّمَا تُوجَدُ كُلِّيَّاتٍ فِي
الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ مَبْسُوطٌ فِي
مَوْضِعٍ آخَرَ فِي "رَدِّ تَعَارُضِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ" وَغَيْرِهِ.
فَإِنَّ كُفْرَ هَؤُلَاءِ أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ بَلْ
وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَإِنَّ جَمِيعَ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ خَلَقَ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنَّهُ خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ بِمَشِيئَتِهِ
وَقُدْرَتِهِ)}.
هذه مُهمٌّ جدًّا أن نعرفه؛ فهؤلاء الفلاسِفَة الملاحدة أخذوا عقيدَتهم ممَّا وُرث
عن أرسطو هذا المشرك الملحد المشهور وأتباعه، وقد سبق ذكره في أوّلِ الكتاب في
الدُّروس المتقدِّمة.
والأفلاك: يعني أنَّ هذه الأكوان من السَّماوات والأرض وكذلك الشَّمس والكواكب؛
يقولون: إنها قديمة ليس لها خالق، أو لها علَّة -يعني وُجدت بعلَّة- ولكن يُنكرون
الخالق، ويُنكرون علم الله -عزَّ وَجلَّ- بها.
وبعضهم يقول: إنَّ الله يعلم الأمور المتغيرة فقط بكليَّاتها وليس بجزئياتها -كما
يقول ابن سينا.
وابن سينا هذا من كبار الفلاسفة المنتسبين للإسلام، وكانَ أبوه يهوديًّا، فجاء ينشر
هذا الكفر بين المسلمين، وكانوا ينتسبون للباطنيَّة القرامطة، فحقيقة ابن عربي
وأمثاله أنَّهم أخذوا مذهب هؤلاء وحاولوا يُحسِّنونه باسم التَّصوُّف، فما كان من
ذلك من أمورٍ علميَّة سلكوا فيها مسلك أرسطو وأفلاطون وأشباههما، وما كان من ذلك من
أمور عمليَّة ويسمُّونها الفلسفة الإشراقيَّة الرُّوحيَّة، فإنَّ الفلسفة مدارس
كثيرة، وكل من هؤلاء عاندوا وعارضوا ما جاء به محمدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وما كان عليه السَّلف الصَّالح،.
ومن المهم أن نعرف أنَّ كفر هؤلاء المسمون هنا أعظم من كفر اليهود والنَّصارى
ومُشركي العرب؛ لأنَّ اليهود والنَّصارى ومُشركي العرب إذا سئلوا مَن خلق السماوات
والأرض؟ قالوا: الله. وإذا سئلوا من خلق المخلوقات؟ قالوا: الله؛ أمَّا هؤلاء
فيقولون: لا!
{قال -رحمه الله: (وَأَرِسْطُو وَنَحْوُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْيُونَانِ
كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ، وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ
الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَلَيْسَ فِي كُتُبِ أَرِسْطُو ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ
ذَلِكَ، وَإِنَّمَا غَالِبُ عُلُومِ الْقَوْمِ الْأُمُورُ الطَّبِيعِيَّةُ،
وَأَمَّا الْأُمُورُ الْإِلَهِيَّةُ فَكُلٌّ مِنْهُمْ فِيهَا قَلِيلُ الصَّوَابِ
كَثِيرُ الْخَطَأِ، وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ
أَعْلَمُ بِالْإِلَهِيَّاتِ مِنْهُمْ بِكَثِيرِ؛ وَلَكِنْ مُتَأَخِّرُوهُمْ كَابْنِ
سِينَا أَرَادُوا أَنْ يُلَفِّقُوا بَيْنَ كَلَامِ أُولَئِكَ وَبَيْنَ مَا جَاءَتْ
بِهِ الرُّسُلُ؛ فَأَخَذُوا أَشْيَاءَ مِنْ أُصُولِ الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ،
وَرَكَّبُوا مَذْهَبًا قَدْ يَعْتَزِي إلَيْهِ مُتَفَلْسِفَةُ أَهْلِ الْمِلَلِ؛
وَفِيهِ مِنْ الْفَسَادِ وَالتَّنَاقُضِ مَا قَدْ نَبَّهْنَا عَلَى بَعْضِهِ فِي
غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ)}.
الشَّيخ له كتب كثيرة، منها كتاب: "نقد المنطق"، وهو كتابٌ عظيمٌ جدًّا ونافع،
ومنها كتاب "درء تعارض العقل والنقل" في عشر مجلدات كبار، وهو كتاب عظيم، نقد فيه
كل الشُّبهات التي يعتمد عليها هؤلاء الفلاسفة المنتسبين للإسلام، واضطره الحديث
والاستطراد في ذلك الكتاب إلى الرَّد حتى على الفلاسفة القدماء، وبيَّن تناقضاتهم.
ويقول الشَّيخ هنا: إنَّ أرسطو وأتباعه من المتفلسفة مِن اليونان مع إلحادهم كانوا
يعبدون الكواكب والأصنام، وقد تقدَّمت الإشارة في بعض الدروس إلى أنَّ أرسطو ليس
كما يظن بعض النَّاس أنَّه مُلحدٌ فقط، بل إنَّه مع إلحاده مشركٌ يعبد الأوثان،
ويزعم تعدد الآلهة حتى أوصلها إلى أربعين إلهًا.
ويقول الشَّيخ: إنَّ غالبَ علم هؤلاء المتفلسفة في الأمور الطَّبيعية، والأمور
الطَّبيعية تنقسم إلى قسمين:
- أمور الرِّياضيَّات والحساب، والأعداد، والهندسة، وعلم الزَّوايا والمثلثات
والمربعات والقياسات.
- علوم طبيعيَّة متعلِّقة بجسم الإنسان، كعلمِ الطِّب وعلمِ الحيوان، وعلمِ
الأشجار، وعلمِ النَّبات.
وكثير من كلامهم فيه أشياء حسنة، ولكن ما يتعلَّق بالغيب وما يتعلَّق بالإلهيَّات
فهم من أخس الناس في هذا المقام، وقليل صوابهم جدًّا جدًّا، ومن سبق أرسطو أحسن منه
حالًا، وأرسطو أشدهم في الكفر والتَّكذيب للرُّسل، حتى إنَّ كفرة اليهود والنَّصارى
بعد التَّحريف والتَّبديل خير من هؤلاء، على ما عند اليهود والنَّصارى من ضلالات.
وابن سينا وهو من مُتأخري الفلاسفة أراد أن يلفِّق بينَ كلام مَن تلقَّى عنهم
الفلسفة وبينَ ما جاءت به الرُّسل، وأخذَ من أصول الجهميَّة ما يناسبه، ومن أصول
المعتزلة ما يُناسبه؛ فهذا توصيفٌ لعقيدتهم إجمالًا.
{قال -رحمه الله: (وَهَؤُلَاءِ لَمَّا رَأَوْا أَمْرَ الرُّسُلِ كَمُوسَى وَعِيسَى
وَمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ بَهَرَ الْعَالَمَ
وَاعْتَرَفُوا بِأَنَّ النَّامُوسَ الَّذِي بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْظَمُ نَامُوسٍ طَرَقَ الْعَالَمَ، وَوَجَدُوا
الْأَنْبِيَاءَ قَدْ ذَكَرُوا الْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ؛ أَرَادُوا أَنْ
يَجْمَعُوا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ أَقْوَالِ سَلَفِهِمْ الْيُونَانِ الَّذِينَ
هُمْ أَبْعَدُ الْخَلْقِ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ
وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَأُولَئِكَ قَدْ أَثْبَتُوا عُقُولًا عَشَرَةً
يُسَمُّونَهَا "الْمُجَرَّدَاتِ وَالْمُفَارَقَاتِ".
وَأَصْلُ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ مُفَارَقَةِ النَّفْسِ لِلْبَدَنِ وَسَمَّوْا
تِلْكَ "الْمُفَارَقَاتِ" لِمُفَارَقَتِهَا الْمَادَّةَ وَتَجَرُّدِهَا عَنْهَا.
وَأَثْبَتُوا الْأَفْلَاكَ لِكُلِّ فَلَكٍ نَفْسًا وَأَكْثَرُهُمْ جَعَلُوهَا
أَعْرَاضًا وَبَعْضُهُمْ جَعَلَهَا جَوَاهِرَ)}.
فهؤلاء انبهروا بما جاء به النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله: (النَّامُوسَ)، يعني: الوحي الذي نزل عليه، فلمَّا طرقَ العالم، عرفوا أن
هذا الشَّيء فوق حدودهم؛ فأخذوا يُحاولون تحريف كل ما جاء في الشَّريعة من معانٍ
غيبيَّة مثل: الملائكة، والجن، واليوم الآخر والمعاد، ومثل: ما أخبر الله -عزَّ
وَجلَّ- به من أخبار يوم القيامة، والجنَّة والنَّار؛ تحريفًا يُناسب مذهبهم
الكفري.
ثم إنهم أثبتوا العقول العشرة، وهذه عقيدة كفريَّة، يقولون: فيه عقل أوَّل، وعنه
صدر العقل الثَّاني، ثم العقل الثَّاني صدر عنه العقل الثَّالث، والرَّابع...،
والخامس...، حتى صدرت العقول العشرة، وهي التي تُحرِّك الأفلاك وتُحرك الكون، وعنها
نتجت المخلوقات، فهم يُشبهون الدَّهريَّة -الذين يقولون لا يوجد خالق- من جهة،
ويُخالفونهم من جهةٍ أخرى، ولكنَّهم ملاحدة، فعقيدتهم كفريَّة، وكلامهم في العقل
الأوَّل والعقل الثَّاني كله كذب وافتراء على الله -عزَّ وَجلَّ.
ويسمُّون هذه العقول التي لا توجد إلَّا في مخيلتهم: المفارقات.
ويسمون ما ينتج عنها من الأفلاك: نفس.
فكأن العقل ذكر والنفس أنثى وتزاوجا؛ فكله إفكٌ مفترًى، وأشياء ينفر منها العقل
السَّليم، فضلًا عن مُصادمتها للقرآن ومُصادمتها للسُّنَّة، ومُصادمتها لجميع ما
جاءت به الرسل، ولهذا فإن عقيدة العقول العشرة موجودة عند بعض الإسماعيليَّة وبعض
الدروز والباطنيَّة، يسمُّون العقل الأول، والعقل الفعَّال، ويستعيذون به، ويلجأون
إليه، والعقل الثاني، والعقل الثالث؛ فكل هذه عقائد مخالفة للإسلام، وتكذيب صريح
للقرآن، فحقيقة عقيدة أرسطو يُعيدونها من جديد، فهي عقيدة أرسطو تمامًا قررَّها ابن
سينا والفارابي وأمثالهم من كفرة الفلاسفة المنتسبين للإسلام، ثم روَّجوها بين
هؤلاء، فلهذا يجب الكفر بما قالوه.
ونقول جميعًا: آمنَّا باللهِ وكفرنا بالجبت والطَّاغوت، قال تعالى: ﴿فَمَنْ
يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ
الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَ﴾ [البقرة:256].
ونقول: نشهد أنَّ لا إله إلَّا الله ونشهد أنَّ محمدًا رسول الله، ونتمسَّك بشريعة
الإسلام وما جاء عن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونؤمن بالقرآن
والسُّنَّة، ونكفر بما عارض القرآن والسُّنَّة.
{قال -رحمه الله: (وَهَذِهِ "الْمُجَرَّدَاتُ" الَّتِي أَثْبَتُوهَا تَرْجِعُ
عِنْدَ التَّحْقِيقِ إلَى أُمُورٍ مَوْجُودَةٍ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي
الْأَعْيَانِ كَمَا أَثْبَتَ أَصْحَابُ أَفْلَاطُونَ "الْأَمْثَالَ الأفلاطونية
الْمُجَرَّدَةَ" أَثْبَتُوا هَيُولَى مُجَرَّدَةً عَنْ الصُّورَةِ، وَمُدَّةً
وَخَلَاءً مُجَرَّدَيْنِ، وَقَدْ اعْتَرَفَ حُذَّاقُهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا
يَتَحَقَّقُ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ؛ فَلَمَّا أَرَادَ هَؤُلَاءِ
الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْهُمْ كَابْنِ سِينَا أَنْ يُثْبِتَ أَمْرَ النُّبُوَّاتِ
عَلَى أُصُولِهِمْ الْفَاسِدَةِ وَزَعَمُوا أَنَّ النُّبُوَّةَ لَهَا خَصَائِصُ
ثَلَاثَةً مَنْ اتَّصَفَ بِهَا فَهُوَ نَبِيٌّ.
الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ لَهُ قُوَّةٌ عِلْمِيَّةٌ يُسَمُّونَهَا الْقُوَّةَ
الْقُدْسِيَّةَ يَنَالُ بِهَا مِنْ الْعِلْمِ بِلَا تَعَلُّمٍ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهُ قُوَّةٌ تَخَيُّلِيَّةٌ تُخَيِّلُ لَهُ مَا يَعْقِلُ
فِي نَفْسِهِ، بِحَيْثُ يَرَى فِي نَفْسِهِ صُوَرًا أَوْ يَسْمَعُ فِي نَفْسِهِ
أَصْوَاتًا كَمَا يَرَاهُ النَّائِمُ وَيَسْمَعُهُ وَلَا يَكُونُ لَهَا وُجُودٌ فِي
الْخَارِجِ وَزَعَمُوا أَنَّ تِلْكَ الصُّوَرَ هِيَ مَلَائِكَةُ اللَّهِ، وَتِلْكَ
الْأَصْوَاتُ هِيَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لَهُ قُوَّةٌ فَعَّالَةٌ يُؤَثِّرُ بِهَا فِي هَيُولَى
الْعَالَمِ، وَجَعَلُوا مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ
وَخَوَارِقِ السَّحَرَةِ هِيَ قُوَى النَّفْسِ، فَأَقَرُّوا مِنْ ذَلِكَ بِمَا
يُوَافِقُ أُصُولَهُمْ دونَ قَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً، ودُونَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ وُجُودَ هَذَ)}.
تقدَّم أن ذكرنا أنَّهم يعتقدون أنَّ الأولياء أفضل من الأنبياء، وذكرنا من الأمثلة
كفرة الفلاسفة، ولهذا فإنَّهم يعتقدون في النَّبي أنَّه مجرد شخص عظيم وذكي، وعنده
قدرة على ثلاث أشياء، وهذا من كفر الفلاسفة!
ولهذا بعض النَّاس يتعجَّب؛ لماذا يُكفِّر العلماء الفلاسفة؟
نقول: هؤلاء الفلاسفة الذين يقولون هذا المقالات لابدَّ أن تتصوَّروا درجة مقالاتهم
في خُبثها ومُناقضتها لدين الإسلام، ومن ذلك أنَّهم يجعلون الرسول بمنزلة الرَّجل
الذَّكي العظيم، المؤثِّر في الناس، فيقولون: هو عنده قوَّة علميَّة، وقوَّة
تخيُّليَّة، وقوَّة فعَّالة يُؤثِّر في هُيُولَى العالم.
ما معنى هَيُولَى؟
هَيُولَى: من ألفاظ الفلاسفة، مثلًا تجد أن الكأس مصنوع من مادة الزُّجاج، وهذه
المادة أخذت من التراب وذُوِّبَت، أو الطوالة المصنوعة من الخشب، أو الحديث؛ هذه
المواد تُسمَّى هَيُولَى، وتحوُّل المادة إلى شكل يُسمَّى صورة عندهم.
وعلى كلٍّ؛ فيقولون: إنَّ الرَّسول عنده قوَّة علميَّة حَدَسيَّة، وعنده قوَّة
تخيُّليَّة، وعنده قوَّة مؤثرة في النَّاس؛ وبهذا صار نبيًّا، ولهذا تجد أنَّ
كثيرًا منهم طلب النُّبوَّة وادَّعى النُّبوَّة، وادَّعى أنَّ عنده هذه الأشياء، ثم
يقولون: إنَّ النبوة مُكتسبة، مثل: الصناعة ومثل: الزراعة!
وكل هذه المقولات كفر عظيم، ولكن رسول الله وخاتم النبيين؛ فكيف تقولون: إنها
مكتسبة! الله -عزَّ وَجلَّ- اصطفى عبده ونبيه محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وتزعمون أنتم أن هذا النبوَّة ليس لها حقيقة!
ومع الأسف فإنَّ الفلاسفة المنتسبين للإسلام نقلوا هذه المقولات الكفريَّة
وروَّجوها، كابن سينا والفرابي وأشباههم.
ومن ضمن الإلحاد الذي عندهم؛ أنَّهم قالوا عن القوَّة التَّخيَّليَّة: إنَّه
يتخيَّل ملائكة، ولم يثبتوا وجود الملائكة، فهذا من إنكار الملائكة، فالملائكة
عندهم هي مجرد تخيُّلات عند النبي.
ومن ضمن الكفر الذي عندهم: القوَّة الفعَّالة.
فيقولون: إنَّ المعجزات هي قوَّة كامِنة في النَّفس، يُمكن لأي واحد أن يصنعها، مثل
السَّحرة ومثل الكهنة، فسووا بينَ ما يقع من السَّحرة والكهنة وما يقع من الرُّسل
-عليهم الصَّلاة والسَّلام.
ولهذا أنكروا قلب العصا حيَّة، وقالوا: إنَّ هذا لا يُمكن، وأنكروا إنشقاق القمر،
وقالوا: إنَّ هذا لا يُمكن؛ لأنَّه لا يُناسب مَذهبهم الكفري، فإذا عرفتَ حجم
الضَّلالة وخطرها وعمقها، وأنها مضادَّة لجميع دين الإسلام؛ بل لجميع ما أرسل الله
به الرُّسل؛ عرفت خطر هذا الفكر الخبيث، وتجد الآن بعضَ النَّاس يحاول أن يروِّج
للفلسفة الإلحاديَّة التي تتعلَّق بالغيبيات والإلهيات، فيروجون لها ويعقدون لها
مجالسًا، ويُشجِّعون الشَّباب والشَّابَّات على الاستماع لكفَرة الملاحدة من هنا
وهناك، فيجب على الجميع معرفة أنَّ هذا مُضادٌّ للإسلام، ومُضادٌّ حتى لمصلحة
البلاد واجتماع الكلمة، فهؤلاء سوسٌ ينخرون في العقائد وفي الولاء وينخرون في الخير
الذي في هذه البلاد وفي غيرها من بلاد المسلمين؛ فيجب مَعرفة خطرهم، وأنَّهم
مُناقضون للقرآن، ومُضادُّونَ للسُّنَّة، ومحاربون لكل ما فيه خير، وإن ادَّعوا
أنَّهم يُصلحون؛ ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون.
{قال -رحمه الله: (وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي مَوَاضِعَ،
وَبَيَّنَّا أَنَّ كَلَامَهُمْ هَذَا من أَفْسَدِ الْكَلَامِ وَأَنَّ هَذَا الَّذِي
جَعَلُوهُ مِنْ الْخَصَائِصِ يَحْصُلُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ لِآحَادِ
الْعَامَّةِ وَلِأَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّتِي
أَخْبَرَتْ بِهَا الرُّسُلُ أَحْيَاءٌ نَاطِقُونَ أَعْظَمُ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ،
وَهُمْ كَثِيرُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلَّا
هُوَ﴾، وَلَيْسُوا عَشْرَةً، وَلَيْسُوا أَعْرَاضًا، لَا سِيَّمَا وَهَؤُلَاءِ
يَزْعُمُونَ أَنَّ الصَّادِرَ الْأَوَّلَ هُوَ "الْعَقْلُ الْأَوَّلُ"، وَعَنْهُ
صَدَرَ كُلُّ مَا دُونَهُ، وَ"الْعَقْلُ الْفَعَّالُ الْعَاشِرُ" رَبُّ كُلِّ مَا
تَحْتَ فَلَكِ الْقَمَرِ.
وَهَذَا كُلُّهُ يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرُّسُلِ،
فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُبْدِعٌ لِكُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ)}.
الملائكة خلقٌ مسخَّر، والخالق الموجد هو الله وحده لا شريك له، وهذه العقول،
والملائكة ليست أعراضًا أو عشرة أو تخيلات؛ فكل هذا من الكفر العظيم والإنكار
والتَّكذيب للقرآن.
{قال -رحمه الهل: (وَهَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ الْعَقْلُ الْمَذْكُورُ فِي
حَدِيثٍ يُرْوَى «أَنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ، فَقَالَ لَهُ:
أَقْبِلْ، فَأَقْبَلَ. فَقَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ، فَقَالَ: وَعِزَّتِي مَا
خَلَقْت خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيَّ مِنْك، فَبِك آخِذُ وَبِك أُعْطِي وَلَك
الثَّوَابُ وَعَلَيْك الْعِقَابُ». وَيُسَمُّونَهُ أَيْضًا "الْقَلَمَ" لِمَا
رُوِيَ «إنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ»، الْحَدِيثَ رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ.
وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرُوهُ فِي الْعَقْلِ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ عِنْدَ أَهْلِ
الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَاتِمٍ البستي والدارقطني
وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمْ.
وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ دَوَاوِينِ الْحَدِيثِ الَّتِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا
وَمَعَ هَذَا فَلَفْظُهُ لَوْ كَانَ ثَابِتًا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ لَفْظَهُ
«أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَقْلَ قَالَ لَهُ - وَيُرْوَى - لَمَّا
خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ قَالَ لَهُ»، فَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ خَاطَبَهُ فِي
أَوَّلِ أَوْقَاتِ خَلْقِهِ؛ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ وَ
"أَوَّلَ" مَنْصُوبٍ عَلَى الظَّرْفِ كَمَا فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ «لَمَّ»،
وَتَمَامُ الْحَدِيثِ: «مَا خَلَقْت خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيَّ مِنْك»، فَهَذَا
يَقْتَضِي أَنَّهُ خَلَقَ قَبْلَهُ غَيْرَهُ ثُمَّ قَالَ: «فَبِك آخُذُ وَبِك
أُعْطِي وَلَك الثَّوَابُ وَعَلَيْك الْعِقَابُ»، فَذَكَرَ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ
مِنْ الْأَعْرَاضِ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ جَمِيعَ جَوَاهِرِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ
وَالسُّفْلِيِّ صَدَرَ عَنْ ذَلِكَ الْعَقْلِ. فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا!)}.
هذا من تلاعب الفلاسفة المنتسبين للإسلام لَمَّا وجدوا حديثًا مكذوبًا مفترًى على
الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا صحَّة له، ولا نجد في كتب الحديث
أصلاً له؛ فظنُّوا أنَّ هذا العقل هو العقل المذكور في كتب الفلاسفة، فأخذوا
يذكرونه، وبيَّن الشيخ حال هذا الحديث، وأنَّه لا يُمكن لأحدٍ أن يقبل مثل هذا
الكذب عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثمَّ ناقشهم الشَّيخ حتى في لفظ الحديث الذي احتجُّوا به، وهو ليس بحديثٍ؛ فردَّ
عليهم فيه.
{قال -رحمه الله: (وَسَبَبُ غَلَطِهِمْ أَنَّ لَفْظَ "الْعَقْلِ" فِي لُغَةِ
الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ هُوَ لَفْظُ الْعَقْلِ فِي لُغَةِ هَؤُلَاءِ الْيُونَانِ،
فَإِنَّ "الْعَقْلَ" فِي لُغَةِ الْمُسْلِمِينَ مَصْدَرُ عَقَلَ يَعْقِلُ عَقْلًا،
كَمَا فِي الْقُرْآنِ ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا
فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾، وقال: ﴿إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ﴾، وقال: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ
يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَ﴾، وَيُرَادُ "بِالْعَقْلِ"
الْغَرِيزَةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِنْسَانِ يَعْقِلُ بِهَا.
وَأَمَّا أُولَئِكَ فَــ "الْعَقْلُ" عِنْدَهُمْ: جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ
كَالْعَاقِلِ، وَلَيْسَ هَذَا مُطَابِقًا لِلُغَةِ الرُّسُلِ وَالْقُرْآنِ)}.
حتى العقل يرفض أن يكون العقل جوهرًا قائمًا بنفسه، هل يوجد الآن في الكون أو في
الهواء أو في السماء شيء اسمه عقل مُستقل؟
هذه هي التَّخيُّلات التي أضرَّت بهم، وأفسدت أمرهم.
{قال -رحمه الله: (وَعَالَمُ الْخَلْقِ عِنْدَهُمْ كَمَا يَذْكُرُهُ أَبُو
حَامِدٍ)}.
أبو حامد الغزالي من ضمن الذين تأثَّروا بالفلسفة ثم تابوا منها، وردَّ عليهم.
{قال: (عَالَمُ الْأَجْسَامِ الْعَقْلُ وَالنُّفُوسُ فَيُسَمِّيهَا عَالَمَ
الْأَمْرِ وَقَدْ يُسَمَّى "الْعَقْلُ" عَالَمَ الْجَبَرُوتِ "وَالنُّفُوسُ"
عَالَمَ الْمَلَكُوتِ؛ وَ "الْأَجْسَامُ" عَالَمَ الْمَلِكِ، وَيَظُنُّ مَنْ لَمْ
يَعْرِفْ لُغَةَ الرَّسول، وَلَمْ يَعْرِفْ مَعْنَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ أَنَّ
مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ ذِكْرِ الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ
وَالْجَبَرُوتِ مُوَافِقٌ لِهَذَا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.
وَهَؤُلَاءِ يُلَبِّسُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تَلْبِيسًا كَثِيرًا،
كَإِطْلَاقِهِمْ أَنَّ "الْفَلَكَ" مُحْدَثٌ - أَيُّ مَعْلُولٍ)}.
يقولون: إنَّ الفَلَكَ مُحدَث، فيظنُّ بعضُ المسلمين أنَّهم يوافقوننا في أنَّ
الفَلَك مخلوق، وهم لا يقصدون أنَّه مخلوق، فهم يريدون معنًى ثانٍ، فالمُحدَث عندهم
ليس كالمحدَث عندك، فهذه من الأغلاط التي نبَّه عليها الشيخ أكثر من مرة هنا، وهي
أنَّ الألفاظ المستخدمة عند المتقدِّمين من فلاسفة اليونان حتى لو تُرجمت فليس
المقصود بها مثلما يقصد العرب والمسلمون بالألفاظ، فيجب أن تعرف مدلولات المصطلحات
عند كلِّ قومٍ حتى تعرف مُرادهم.
{قال: (كَإِطْلَاقِهِمْ أَنَّ "الْفَلَكَ" مُحْدَثٌ - أَيُّ مَعْلُولٍ- مَعَ إنَّهُ
قَدِيمٌ عِنْدَهُمْ وَالْمُحْدَثُ لَا يَكُونُ إلَّا مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ لَيْسَ
فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا فِي لُغَةِ أَحَدٍ أَنَّهُ يُسَمَّى الْقَدِيمُ
الْأَزَلِيُّ مُحْدَثًا، وَاَللَّهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ،
وَكُلُّ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُحْدَثٌ، وَكُلُّ مُحْدَثٍ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ
يَكُنْ؛ لَكِنْ نَاظَرَهُمْ أَهْلُ الْكَلَامِ مِنْ الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ
مُنَاظَرَةً قَاصِرَةً، لَمْ يَعْرِفُوا بِهَا مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ،
وَلَا أَحْكَمُوا فِيهَا قَضَايَا الْعُقُولِ، فَلَا لِلْإِسْلَامِ نَصَرُوا وَلَا
لِلْأَعْدَاءِ كَسَرُوا، وَشَارَكُوا أُولَئِكَ فِي بَعْضِ قَضَايَاهُمْ
الْفَاسِدَةِ وَنَازَعُوهُمْ فِي بَعْضِ الْمَعْقُولَاتِ الصَّحِيحَةِ، فَصَارَ
قُصُورُ هَؤُلَاءِ فِي الْعُلُومِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ مِنْ أَسْبَابِ
قُوَّةِ ضَلَالِ أُولَئِكَ، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ)}.
الرَّد على الملاحدة والفلاسفة الكَفَرة الذين يكذبون الرسل؛ إذا كان الرَّد
بالحجَّة الصَّحيحة الموافقة لِما دلَّ عليه الكتاب والسُّنَّة والعقل الصَّحيح كان
هذا نافعًا، أما إذا استُخدمت طرائق أهل البدع كالجهميَّة والمعتزلة ومَن شابههم؛
فهؤلاء لَمَّا ردُّوا على أولئك الفلاسفة لم يكن ردهم مُتقنًا ولا مُحكمًا، فصار
ملاحدة الفلاسفة يستطيلون ويرونَ أنهم أدق وأحسن من هؤلاء، ولهذا قال الشيخ:
(فَصَارَ قُصُورُ هَؤُلَاءِ فِي الْعُلُومِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ مِنْ
أَسْبَابِ قُوَّةِ ضَلَالِ أُولَئِكَ).
{قال -رحمه الله: (وَهَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ قَدْ يَجْعَلُونَ "جِبْرِيلَ"
هُوَ الْخَيَالُ الَّذِي يَتَشَكَّلُ فِي نَفْسِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْخَيَالُ تَابِعٌ لِلْعَقْلِ، فَجَاءَ الْمَلَاحِدَةُ
الَّذِينَ شَارَكُوا هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةَ الْمُتَفَلْسِفَةَ، وَزَعَمُوا
أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، وَأَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ
أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ عَنْ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ،
كَابْنِ عَرَبِيٍّ صَاحِبِ "الْفُتُوحَاتِ" وَ "الْفُصُوصِ"، فَقَالَ: إنَّهُ
يَأْخُذُ مِنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ الْمَلَكُ الَّذِي يُوحِي بِهِ
إلَى الرَّسُولِ، وَ"الْمَعْدِنُ" عِنْدَهُ هُوَ الْعَقْلُ، وَ"الْمَلَكُ" هُوَ
الْخَيَالُ، وَ"الْخَيَالُ" تَابِعٌ لِلْعَقْلِ، وَهُوَ بِزَعْمِهِ يَأْخُذُ عَنْ
الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْخَيَالِ، وَالرَّسُولُ يَأْخُذُ عَنْ الْخَيَالِ؛ فَلِهَذَا
صَارَ عِنْدَ نَفْسِهِ فَوْقَ النَّبِيِّ، وَلَوْ كَانَ خَاصَّةُ النَّبِيِّ مَا
ذَكَرُوهُ لَمْ يَكُنْ هُوَ مِنْ جِنْسِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فَوْقَهُ،
فَكَيْفَ وَمَا ذَكَرُوهُ يَحْصُلُ لِآحَادِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالنُّبُوَّةُ أَمْرٌ
وَرَاءَ ذَلِكَ)}.
يعني: النُّبوة ليست خيالًا، وجبريل ليس خيالًا، ولكن لَمَّا كان ابن عربي وأمثاله
صدَّقوا الفلاسفة وأعرضوا عن القُرآن ظنُّوا أنَّ الملائكة خيال، وأنَّ جبريل خيال،
وتخيلوا أشياء في أنفسهم فظنوا أنَّهم جبريل، وأنهم يأخذون من المعدن نفسه الذي هو
فوق جبريل -بزعمهم- وخلاصة الكلام أنَّه لَمَّا صدَّقَ كلام الفلاسفة صار يظن في
نفسه أنَّه يأخذ من الله مباشرة! وإنَّما هم تتنزَّل عليهم الشَّياطين كما قال الله
-عزَّ وَجلَّ: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ
عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾، [الشعراء 221، 222].
{قال -رحمه الله: (فَإِنَّ ابْنَ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالَهُ وَإِنْ ادَّعَوْا
أَنَّهُمْ مَنَّ الصُّوفِيَّةِ، فَهُمْ مِنْ صُوفِيَّةِ الْمَلَاحِدَةِ
الْفَلَاسِفَةِ، لَيْسُوا مِنْ صُوفِيَّةِ أَهْلِ الْكَلامِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ
يَكُونُوا مِنْ مَشَايِخِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: كالفضيل بْنِ عِيَاضٍ،
وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني، وَمَعْرُوفٍ الكرخي،
والجنيد بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَأَمْثَالِهِمْ -
رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ)}.
يعطيك الشيخ ابن تيمية وصفًا صحيحًا لابن عربي، وأنَّه من صوفيَّة الملاحدة
الفلاسفة، وليس من صوفيَّة أهل الكلام، فإنَّ أهل الكلام أخف درجة من أهل الإلحاد.
{قال -رحمه الله: (وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ وَصَفَ الْمَلَائِكَةَ
فِي كِتَابِهِ بِصِفَاتِ تُبَايِنُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ *
لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى
وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إنِّي إلَهٌ مِنْ
دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي
شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ
وَيَرْضَى﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ
وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلَا
تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ وَقَالَ تَعَالَى:
﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ
عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا
يَفْتُرُونَ﴾.
وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ جَاءَتْ لِإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ
السَّلَامُ- فِي صُورَةِ الْبَشَرِ، وَأَنَّ الْمَلَكَ تَمَثَّلَ لِمَرْيَمَ
بَشَرًا سَوِيًّا، وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْتِي النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَفِي
صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ وَيَرَاهُمْ النَّاسُ كَذَلِكَ.
وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَنَّهُ ذُو
قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ؛ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَأَنَّ
مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ
وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ ﴿شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ
بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ
أَدْنَى * فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى
* أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ
سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ
مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ
الْكُبْرَى﴾
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- عَنْ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "إنَّهُ لَمْ يَرَ جِبْرِيلَ فِي
صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ مَرَّتَيْنِ"، يَعْنِي الْمَرَّةَ
الْأُولَى بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، وَالنَّزْلَةَ الْأُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ
الْمُنْتَهَى، وَوَصَفَ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي مَوْضِعٍ آخَرَ
بِأَنَّهُ الرُّوحُ الْأَمِينُ، وَأَنَّهُ رُوحُ الْقُدُسِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ
مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي تُبَيِّنُ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ
تَعَالَى الْأَحْيَاءِ الْعُقَلَاءِ، وَأَنَّهُ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لَيْسَ
خَيَالًا فِي نَفْسِ النَّبِيِّ كَمَا زَعَمَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ
الْمُتَفَلْسِفَةُ وَالْمُدَّعُونَ وِلَايَةَ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْ
الْأَنْبِيَاءِ.
وَغَايَةُ حَقِيقَةِ هَؤُلَاءِ إنْكَارُ أُصُولِ الْإِيمَانِ بِأَنْ يُؤْمِنَ
بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ،
وَحَقِيقَةُ أَمْرِهِمْ جَحْدُ الْخَالِقِ، فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا وُجُودَ
الْمَخْلُوقِ هُوَ وُجُودُ الْخَالِقِ، وَقَالُوا: الْوُجُودُ وَاحِدٌ وَلَمْ
يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ وَالْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ، فَإِنَّ
الْمَوْجُودَاتِ تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ، كَمَا تَشْتَرِكُ
الْأَنَاسِيُّ فِي مُسَمَّى الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانَاتُ فِي مُسَمَّى
الْحَيَوَانِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمُشْتَرَكَ الْكُلِّيَّ لَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا
كُلِّيًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ، وَإِلَّا فالحيوانية الْقَائِمَةُ بِهَذَا
الْإِنْسَانِ لَيْسَتْ هِيَ الْحَيَوَانِيَّةُ الْقَائِمَةُ بِالْفَرَسِ، وَوُجُودُ
السَّمَوَاتِ لَيْسَ هُوَ بِعَيْنِهِ وُجُودُ الْإِنْسَانِ، فَوُجُودُ الْخَالِقِ
جَلَّ جَلَالُهُ لَيْسَ هُوَ كَوُجُودِ مَخْلُوقَاتِهِ.
وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ قَوْلُ فِرْعَوْنَ الَّذِي عَطَّلَ الصَّانِعَ، فَإِنَّهُ
لَمْ يَكُنْ مُنْكِرًا هَذَا الْوُجُودَ الْمَشْهُودَ؛ لَكِنْ زَعَمَ أَنَّهُ
مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ لَا صَانِعَ لَهُ وَهَؤُلَاءِ وَافَقُوهُ فِي ذَلِكَ؛ لَكِنْ
زَعَمُوا بِأَنَّهُ هُوَ اللَّهُ فَكَانُوا أَضَلَّ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ
هَذَا هُوَ أَظْهَرُ فَسَادًا مِنْهُمْ، وَلِهَذَا جَعَلُوا عُبَّادَ الْأَصْنَامِ
مَا عَبَدُوا إلَّا اللَّهَ وَقَالُوا: "لَمَّا كَانَ فِرْعَوْنُ فِي مَنْصِبِ
التَّحَكُّمِ صَاحِبَ السَّيْفِ وَإِنْ جَارَ فِي الْعُرْفِ النَّامُوسِي كَذَلِكَ
قَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى - أَيْ وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ أَرْبَابًا
بِنِسْبَةِ مَا فَأَنَا الْأَعْلَى مِنْكُمْ بِمَا أُعْطِيته فِي الظَّاهِرِ مِنْ
الْحُكْمِ فِيكُمْ")}.
هذه مقولة ابن عربي، حتى جعلوا عبَّاد الأصنام ما عبدوا إلَّا الله، ويُدافعون عن
فرعون.
{قال -رحمه الله: (قَالُوا: "وَلَمَّا عَلِمَتْ السَّحَرَةُ صِدْقَ فِرْعَوْنَ
فِيمَا قَالَهُ أَقَرُّوا لَهُ بِذَلِكَ وَقَالُوا: ﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ
إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَ﴾)}.
هنا ابن عربي يصف فرعون بأنه صادق.
{قال: (قَالُوا: فَصَحَّ قَوْلُ فِرْعَوْنَ ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ وَكَانَ
فِرْعَوْنُ عَيْنَ الْحَقِّ")}.
أهذا كلام يقوله مسلم؟!! هل فرعون على الحق؟!!
فهذا كلام لا يقوله إلَّا كافر زنديق، يُحاد الله ورسوله، ويخدع المسلمين.
{قال: (ثُمَّ أَنْكَرُوا حَقِيقَةَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَجَعَلُوا أَهْلَ النَّارِ
يَتَنَعَّمُونَ كَمَا يَتَنَعَّمُ أَهْلُ الْجَنَّةِ، فَصَارُوا كَافِرِينَ
بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، مَعَ
دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ خُلَاصَةُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ مِنْ أَهْلِ وِلَايَةِ
اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ
إنَّمَا يَعْرِفُونَ اللَّهَ مِنْ مِشْكَاتِهِمْ.
وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ إلْحَادِ هَؤُلَاءِ؛ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ
الْكَلَامُ فِي أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ
وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ؛ وَكَانَ هَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ ادِّعَاءً
لِوِلَايَةِ اللَّهِ وَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ وِلَايَةً لِلشَّيْطَانِ
نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ)}.
رحم الله الشيخ وجزاه الله خيرًا على التَّنبيه؛ لأنَّ هذا الأمر عظيم، وكذلك لخَّص
ذلك ابن القيم في إغاثة اللهفان من مصائد الشَّيطان في المجلَّد الثَّاني في ذكر
إضلال الشَّيطان لبني آدم، وذكر بداية الضَّلالات والانحرافات، وذكر ما يتعلَّق
بالفلاسفة.
والحقيقة أنَّ الكلامَ متواصلٌ في فضحِ هؤلاء الملاحدة، ونسألُ الله أن يجزي ابن
تيمية خير الجزاء على ما قام به، وكذلك غيره من علماء الإسلام، وهذا هو الواجب على
طلبة العلم، وهو أن يردُّوا على هؤلاء، وأن يُبيِّنوا أمرهم، والواجب على ولاةِ
الأمر أن يمنعوا هذه المقالات الفاسدة وأربابها، وأن يُعاقبوا أصحابها حتى لا
يُعبَد إلَّا الله وحده لا شريكَ له، ولا يُتَّبَع إلَّا رسوله -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا ينقاد إلَّا إلى شرع الإسلام، ولا يُلبَّس على الناس في
أمر دينهم.
قبل أن نختم هذه المجالس وهذه الدروس؛ نحبُّ أن نُلخِّص ما مضي في هذه الدروس،
وفيما قرأنا من هذا الكتاب، ثمَّ إن يسَّر الله -عزَّ وَجلَّ- نكمل بقيَّة الكتاب
في مجالس أخرى.
كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان؛ ألَّفه شيخ الإسلام ابن تيمية في
مسألةٍ مُهمَّةٍ جدًّا وهي التفريق؛ لأنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- فرَّقَ بينَ هؤلاء
وهؤلاء، ففرق بين المؤمنين والكفار، وأهل الجنَّة وأهل النَّار، واشتمل الكتاب على
عدَّة فصول.
- ذكر الشَّيخ في المقدِّمةِ أصحَّ حديثٍ وردَ في الولاية، وكذلك ذكر الولايات في
هذا الأمر، وما يتعلق بالأبدال والأقطاب والأوتاد، وأنَّ هذه الأسماء لا يثبت منها
شيء إطلاقًا، وأمَّا الأبدال ففيه حديث ضعيفٌ، ولكن لا يُعتمَد عليه.
- ثم ذكر في الفصل الثَّاني: أنَّ الولي قد يكون فيه ذنب أو نفاق أو معصية لا
تُخرجه من الملَّة، فتجتمع الولاية والإيمان، والنفاق والعداوة، ويكون للأرجح
منهما، وأنَّ أولياء الله يتفاضلون.
- ثم ذكر في الفصل الثَّالث والرَّابع: طبقات أولياء الله، وهم: السَّابق بالخيرات،
والمقتصد، والظَّالم لنفسه إذا تاب؛ فإنَّه يلحق بالقسمين.
- ثم ذكر في الفصل الخامس: تفاضل النَّاس في الولاية والعداوة، وأنَّ العذاب لا
يكون إلَّا بعدَ قيام الحجَّة.
- ثم ذكر في الفصل السَّادس: أنَّ الإيمان يكون مُجملًا ويكون مُفصَّلًا، وأنَّ مَن
آمنَ بما بلغه فقد أحسنَ، ولكن ليس مثل مَن علم وتعلَّم وزاد في العمل والإيمان.
- ثم ذكر في الفصل السَّابع: مسألة الإيمان والتَّقوى، وأنَّها شرط في الولاية،
ويخرج بذلك المجنون والصَّبي غير المميز، وكذلك مَن لم تبلغه الدَّعوة؛ فإنَّهم لا
يُمكن أن يوصفوا بأنَّهم أولياء لله -عزَّ وَجلَّ- وردَّ على المتصوفة الذين يجعلون
المجانين والمجاذيب والمولَّهين أولياء.
- ثم ذكر في الفصل الثَّامن: أنَّ أولياء الله ليس لهم لباسٌ خاصٌّ أو وظيفة
خاصَّة، وأنَّهم يُوجدون في أهل القرآن وأهل العلم، وأهل الجهاد في سبيل الله،
ويوجدون أيضًا في أهل التَّجارة، وأهل الصناعة، وأهل الصناعة، وسائر الصِّناعات
المباحة؛ إذا اتَّقوا الله -عزَّ وَجلَّ- وآمنوا وعملوا بشرعه واتَّقوا المحرَّمات،
ثم تطرَّق الشيخ إلى موضوع اسم الصوفيَّة، وأنَّه اسمٌ غير وارد في الكتاب
والسُّنَّة.
- ثم ذكر في الفصل التَّاسع: مسألة العِصمة، وأنَّها ليست شرطًا في الولاية، خلافًا
لِما يظنُّه بعض غلاة الصُّوفيَّة وغُلاة الرَّافضة باعتقاد العصمة في الأئمة
والأولياء.
- ثم ذكر في الفصل العاشر: التَّفريق بين الحقيقة والشَّريعة، وأنه لا وجه له،
وأنَّ هذا ممَّا درجَ عليه بعض الصُّوفيَّة، وردَّ عليهم.
- وفي الفصل الحادي عشر وهو الفصل الأخير الذي قرأناه في هذا الدرس: ذكر أنَّ أفضل
البشر هم الرُّسل والأنبياء، وليس الأولياء أفضل من الأنبياء، وردَّ على ملاحدة
الصُّوفيَّة وملاحدة الباطنيَّة وملاحدة الفلاسفة.
ولا يزال الكلام متوصلًا، ولكن نرجوا الله -سبحانه وتعالى- أن ييسر إكمال القراءة
في مجالس قادمة -إن شاء الله تعالى.
أسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يغفر لشيخ الإسلام ابن تيمية، وأن يرحمه وأن يجزيه عنَّا
وعن المسلمين خير الجزاء، ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجزيكم خيرًا على هذه
الدروس المباركة، وأن يوفِّق جميع المسلمين إلى العلم النَّافع والعمل الصَّالح،
وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا
محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في
موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد
العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم
ورحمةُ اللهِ وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
12803 18
-
16751 9
-
34826 6
-
3050 13
-
3132 12
-
4154 11
-
5557 12