الدرس الثالث

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2561 12
الدرس الثالث

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة الكرام.
{سنستكمل في هذه الحلقة -بإذن الله- ما انتهينا عنده في الدَّرس الماضي}.
الحمدُ لله والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
لِنَربِطَ بينَ هذا الدَّرس والدَّرس الماضي؛ نُذَكِّرُ الإخوة الكرام بما تمَّت قراءته في كتاب "الفُرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" في الفصل المتعلِّق بوجوب التَّفريق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وذكر الأدلة على هذا.
وكان من توابع هذا الفصل المهم، أنَّ الشيخ -رَحَمَهُ اللهُ- ذَكَرَ أنَّه ليس كل مَن ادَّعى أنَّه وليٌّ لله صار كذلك، وَذَكَرَ أنَّ اليهود والنَّصارى والمشركين ادَّعوا مثل ذلك، وأنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- ردَّ عليهم في القُرآن.
ثُمَّ ذكر -رَحَمَهُ اللهُ- أنَّه إذا كان في الكفَّار مَن ادَّعى ذلك وكذَّب الله -عزَّ وَجلَّ- كلامهم ودعواهم، وأبطلَه في القُرآن؛ فكذلك في المنافقين الذين يَقومون بمثل ذلك؛ فيُظهرون الإسلام، ويُقرُّون بالشَّهادتين ظاهرًا، ويقولون: "نشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أنَّ محمدًا رسول الله" ثُمَّ في أَحوالهم وعقائدهم وأقوالهم ما يُناقض دين الإسلام، ومع هذا كلِّه هُم يدَّعون أنَّهم أولياء لله -عزَّ وَجلَّ.
وَذَكَرَ الشَّيخ لهذا أمثلةً، فذكر بعض مَقولات هؤلاء المنافقين، ومنها قول بعضهم عن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّه يُعَدُّ مثل الملوك والزُّعماء الذين ساسوا النَّاس بالرأي الحسن، وأنَّ هذا مِن جَودة عقله، ويقولون: إنَّه عربي! وهذا موجود عندَ بعض البعثيِّين ليس فقط في الاتِّحاديَّة الصُّوفيَّة الذين يقولون باتِّحاد الخالق مع المخلوق؛ بل حتى بعض من ينتسب لحزب البعث الاشتراكي الشيوعي يصف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: إنَّه زعيم عربي، استطاع أن يقود النَّاس وأن يَسُوسَهُم، وهذا من جملة النِّفاق الأكبر المخرج عن الملَّة! لماذا؟
لأنَّه يجب على كلِّ مُؤمنٍ أن يَعتقد أنَّ محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو رسول الله، مُرسلٌ من عند الله -عزَّ وَجلَّ- وأنَّ الله خصَّه بالرِّسالة، ويُؤمن به ظاهرًا وباطنًا، وينقاد للشرع.
ومنهم مَن يقول: إنَّ محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رسول، ولكن أُرسِلَ إلى العربِ فقط، وأمَّا اليهود والنصارى وغير العرب فليس برسولٍ إليهم! وهذا تكذيب للقرآن، وهو كلام بعض المنافقين، وكلام بعض كفرة النَّصارى.
ومنهم من يقولون عن أنفسهم: إنَّهم خاصَّة أولياء الله، وأنَّ الرُّسل قد جاؤوا لعامةِ النَّاس، فهم من الخاصَّة ولا يلزمهم طاعة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وربما يقولون: إنَّ حالهم مع الأنبياء كحال الخضر مع موسى! مع أنَّ الخضر نبيٌ يُوحَى إليه، ولا يُقاس عُموم النَّاس على أنبياء الله، ثُمَّ لو كان أحدٌ من الأنبياء حيٌ لَمَا وَسِعَه إِلَّا اتِّباع النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى الخضر وغيره، ولكنهم كلهم قد ماتوا.
وينبغي أن نعلم أنَّ هذه المقولات هي مَقولات أعداء الله، وليست مَقولات أولياء الله -عزَّ وَجلَّ- فمن مَقولات هَؤلاء المنافقين الذين خرجوا عن الإسلام؛ أنَّهم قالوا: إنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُرسلٌ بالشَّرائع الظَّاهرة، أمَّا الحقائق الباطنة لم يُرسَل بها، وإنَّما نتلقَّاها نحن ونجتهد في تحقيقها، ونأخذها مِنَ العَارفين، دون الرُّجوع إلى سُنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وبعضهم يغلو غلوًّا فاحشًا فيقول: حتى الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يعرف الحقائق الباطنة، ونحن قد حظينا بها!
وهذا لا شكَّ أنَّه من النِّفاق المُخرج من ملَّة الإسلام، فلو ادَّعى أصحابه الولاية فَهُم كاذبون.
ومع هذه المقولات؛ يجب أن نُلحق بهؤلاء أمثالهم ممَّن يُريد نزع الإسلام الصَّافي من صدور الناس وإحلال المذاهب الرَّديَّة، فهناك من الأحزاب التي تنتسب إلى الإسلام مَن اغترَّ بمقولات العلمانيَّة أو الدِّيموقراطيَّة أو الليبراليَّة؛ حتى قال بعضهم مقولاتٍ فاحشةٍ، وأرادَ تحريف النُّصوص الشَّرعيَّة حتى تتوافق مع هذه المذاهب الأرضيَّة البائسة الفاسدة الكاسدة.
فمن ذلك أن بعضهم يقول: الليبراليَّة الغربيَّة هي النَّهج الصَّحيح الذي يجب اتِّباعه.
وبعضهم يقول: إنَّ هذه الليبراليَّة لا تتناقض مع دين الإسلام.
وبعضهم يقول: إنَّ الواجب أن نتخلَّص من أغلال التراث.
وكلمة "التراث" يدخل فيها القرآن والسُّنَّة، وهذه من أثقل الأشياء على المنافقين، وما أشبه حالهم بحال الجهم بن صفوان عدو السُّنَّة والدِّين، الذي أنكرَ أسماء الله، وأنكر صفات الله، وقال بالجبر والإرجاء، وخرج على الأئمة وقاتلهم.
ولمَّا قُرِئَ على الجهم بن صفوان قوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، قال: "وددت أن أَحُكَّها مِنَ المصحف"!
فهم يُعادون القرآن، فهؤلاء أولياء الشيطان.
ومنهم من يقول: الأديان كلها صحيحة، ونحن مع الإنسانيَّة، وكل إنسان حرٌّ يختار طريقه، ولا بأس عليه!
فهذه كلها من المقولات التي تَصْدُر مِنَ المنافقين -كما ذكر الشيخ- ويجب أن يُعرَف هؤلاء، ويُحذَر مِنْ شَرِّهم.
يقول الشَّيخ ابن تيمية في موضع من المواضع: "وَأَمَّا هَؤُلَاءِ: فَيَسْقُونَ النَّاسَ شَرَابَ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ فِي آنِيَةِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَيَلْبَسُونَ ثِيَابَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ مِنْ الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيُظْهِرُونَ كَلَامَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي قَوَالِبِ أَلْفَاظِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُحَقِّقِينَ"[7].
ولهذا فإنَّ بعض الملوك والأمراء والرؤساء قد يَغتر بمقولات هؤلاء التي تنتسب إلى المذاهب العلمانيَّة، أو الشُّيوعيَّة، أو الدِّيموقراطيَّة، ولذا فيجب الحذر كل الحذر من هؤلاء؛ لأنَّ هؤلاء هو سوس الدول، وخراب الأمم، وخراب العمران، وكما أنَّ الخوارج والجماعات التي تنتهج نهجَ العنف جماعات ضالَّة يجب محاربتها؛ فهؤلاء أيضًا أَشر منهم؛ لأنَّهم ينتهجون نهج إفساد العقائد، ونزع العقيدة من المسلم، حتى يبقى المسلم بلا عقيدة ولا انتماء لدينه؛ بل يُريدون ربطه بأعداء الله الكفرة في الشَّرقِ أَو الغَرب.
وهذا الكلام الذي ذكره الشيخ من كون هؤلاء يدَّعون أنَّهم أولياء الله وهم ليسوا كذلك، فيجب الحذر منهم.
وفي درسنا اليوم سوف نقرأ بعض شبهات هؤلاء المتصوفة الغُلاة الذين ضلُّوا وأضلُّوا غَيرهم، ونعرف كيف دخل عليهم الضَّلال؟
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ: إنَّ "أَهْلَ الصُّفَّةِ" كَانُوا مُسْتَغْنِينَ عَنْهُ وَلَمْ يُرْسَلْ إلَيْهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ أَوْحَى إلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فِي الْبَاطِنِ مَا أَوْحَى إلَيْهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فَصَارَ أَهْلُ الصُّفَّةِ بِمَنْزِلَتِهِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ فَرْطِ جَهْلِهِمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ بِمَكَّةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾)}.
قبل ما نبدأ في الرَّدِّ عليهم؛ نوضِّح للإخوة الكرام المراد بهذا النَّص.
قال شيخ الإسلام: (وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ: إنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ).
المعنى: أنَّ بعض غُلاة الصُّوفيَّة إذا قال تلك المقولات الكفريَّة السَّابق ذكرها؛ مثل أن يقول: أنا لا يلزمني اتِّباع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويحتجّ بحجج واهية وفاسدة، ولكننا لابدَّ أن نُجيب عنها حتى لا يبقى التباس على أحد مُطلقًا؛ لأنَّ بعض النَّاس قد يسمع هذا الكلام ويظنه صحيحًا، وهُو لا يَدري!
فما هي حجج هؤلاء الصُّوفيَّة الضَّالين؟
يقولون: (إنَّ "أَهْلَ الصُّفَّةِ" كَانُوا مُسْتَغْنِينَ عَنْهُ).
الصُّفَّة: مثل حُجرة أو مكان في آخر المسجد، كان المهاجرون إذا هاجروا من مكة إلى المدينة إذا كان عندهم مال أخذوا دارًا وسكنوها، وإن لم يكن عندهم مال إمَّا أن يُضَيفَهُم أحد، فإذا لم يجدوا أحدًا لجأوا إلى مَسجد النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكانوا يجلسون في زاويته الشماليَّة.
فالصُّفَّة هي مكان للغُرباء فقط، وليس لهم أسماء خاصَّة، فكان الرَّجل يجلس يومًا أو يومين، ثُمَّ إذا وَجَدَ مَنزلًا أو وجد أحدًا يُضَيفه ذَهَبَ إليه وترك المسجد، فالأصل أنَّ المسجد ليس لسُكنَى النَّاس، وإنَّما المسجد للعبادة وللصَّلاة، ولكن للضَّرورة لا بأس أن يبيت به الرَّجل حتى يجدَ مَنزلًا له.
فضُلَّال الصُّوفيَّة يظنُّونَ ظنونًا فاسدة في آل الصُّفَّة فيظنون أنَّهم يُوحَى إليهم أو أنَّهم مُستغنون عن الرَّسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكل هذا كلام غير صحيح.
ومن ضِمن الشُّبهات أنَّهم يقولون: إنَّ الله أوحى لأهل الصُّفَّة في ليلة الإسراء والمعراج بالأمور الباطنة، وأوحى إلى الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالأمور الظاهرة!
وهذا من فَرَطِ الجهل، وأمر مُضحكٌ للعقلاء؛ لأنَّ ليلة الإسراء والمعراج كانت في مكَّة، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكن قد هاجر بعدُ، ولم يكن بُنيَ المسجد بعد، فهذا يدل على فَرَط جهل هؤلاء وبُعدهم عن المعرفة بالشَّريعة الإسلاميَّة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَأَنَّ الصِّفَةَ لَمْ تَكُنْ إلَّا بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ صُفَّةٌ فِي شَمَالِيِّ مَسْجِدِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنْزِلُ بِهَا الْغُرَبَاءُ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ أَهْلٌ وَأَصْحَابٌ يَنْزِلُونَ عِنْدَهُمْ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يُهَاجِرُونَ إلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَى الْمَدِينَةِ؛ فَمَنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَنْزِلَ فِي مَكَانٍ نَزَلَ بِهِ، وَمَنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ نَزَلَ فِي الْمَسْجِدِ إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ لَهُ مَكَانٌ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ "أَهْلُ الصُّفَّةِ" نَاسًا بِأَعْيَانِهِمْ يُلَازِمُونَ الصُّفَّةَ؛ بَلْ كَانُوا يَقِلُّونَ تَارَةً وَيَكْثُرُونَ أُخْرَى، وَيُقِيمُ الرَّجُلُ بِهَا زَمَانًا ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنْهَا. وَاَلَّذِينَ يَنْزِلُونَ بِهَا مِنْ جِنْسِ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ؛ لَيْسَ لَهُمْ مَزِيَّةٌ فِي عِلْمٍ وَلَا دِينٍ؛ بَلْ فِيهِمْ مَنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَقَتَلَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كالعرنيين الَّذِينَ اجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ -أَيْ اسْتَوْخَمُوهَا- فَأَمَرَ لَهُمْ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِلَقَاحِ –أَيْ: إبِلٍ لَهَا لَبَنٌ- وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا الرَّاعِيَ، وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي طَلَبِهِمْ، فَأُتِيَ بِهِمْ فَأَمَرَ بِقَطْعِ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ وَسُمِّرَتْ أَعْيُنُهُمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ، وَحَدِيثُهُمْ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَفِيهِ أَنَّهُمْ نَزَلُوا الصُّفَّةَ)}.
إذن نزل في الصُّفَّة مَن هو من خيار المؤمنين، ونزل الصُّفَّة مَن هذا شأنه مثل: هؤلاء العُرانيين الذين ارتدُّوا -نسأل الله العافية والسلامة.
فليس نزول الصُّفَّة دليلًا على الولاية، وهذا ما يُؤكِّد فَساد الشُّبهة التي احتجَّ بها غُلاة الصُّوفيَّة، وإنَّما عاقب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العرانيين بهذه العقوبة؛ لأنَّهم فعلوا براعي الإبل هكذا، فجازاهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعاقبهم بمثل ما فعلوا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (فَكَانَ يَنْزِلُهَا مِثْلُ هَؤُلَاءِ، وَنَزَلَهَا مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَهُوَ أَفْضَلُ مَنْ نَزَلَ بِالصُّفَّةِ ثُمَّ انْتَقَلَ عَنْهَا وَنَزَلَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ جَمَعَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي تَارِيخَ مَنْ نَزَلَ الصُّفَّةَ.
وَأَمَّا "الْأَنْصَارُ" فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ)}.
لم يكن الأنصار من أهل الصُّفة لأنهم أهل المدينة، قال الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [الحشر: 9]، فهم تبوؤوا الدَّار، أي: أقاموا وسكنوا في المدينة، وتبوؤوا الإيمان، أي: استقر في قُلوبهم الإيمان -رضي الله عنهم وأرضاهم- فحبُّهم من الإيمان وبُغضهم كفرٌ ونفاق.
إذن؛ الصُّفَّة نزلَ بها مَن هاجرَ من مكَّة إلى المدينة ولم يجد له منزلًا، وغالب مَن كان ينزل الصُّفَّة إنَّما كان ينزل بها أيامًا محدودة، ثم ينتقل إلى دارٍ أو إلى مَن يُضيفه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَكَذَلِكَ أَكَابِرُ الْمُهَاجِرِينَ، كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَغَيْرِهِمْ، لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ)}.
لأنَّهم إنما نزلوا في دورٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.
إذن أكابر الصَّحابة وخيارهم من المهاجرين لم ينزلوا بالصُّفَّة، وجميع الأنصار أيضًا لم ينزلوا؛ إنما نزل الفقراء الذين ليس عندهم مال أو قُدرة على السَّكن، وكان نزولهم بالصُّفَّة مُؤقَّتًا.
ثم أيضًا من الذين نزلوا الصُّفَة فيهم مَن هو متوسِّط في الإيمان، وفيهم مَن ارتدَّ عن الإسلام كالعرانيين.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَقَد رُوِيَ أَنَّهُ بِهَا غُلَامٌ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ : «هَذَا وَاحِدٌ مِنْ السَّبْعَةِ»، وَهَذَا الْحَدِيثُ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي "الْحِلْيَةِ")}.
هذا ممَّا نبَّه عليها الشيخ، ويجب التَّنبيه عليه؛ وهو: خطر الأحاديث الموضوعة على الأمَّة، فهذه الأحاديث المكذوبة التي يَكذبون بها على الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد تنطلي على كثير من الجهلة من المسلمين، فيجب على المسلمين التَّنبُّه للأحاديث، وأن يعرفوا الأحاديث الصَّحيحة والحسَنة، فيأخذوها ويعتمدوا عليها، وأمَّا الأحاديث الضعيفة أو المكذوبة فيجب اجتنابها، ومنها ما احتجَّ به هؤلاء الغُلاة من الصوفيَّة أنَّ غلامًا للمغيرة كان بالصُّفَّة، وأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «هَذَا وَاحِدٌ مِنْ السَّبْعَةِ»، أي: السبعة أقطاب أو الأوتاد أو كذا.
وقال الشيخ عن هذا الحديث: (وَهَذَا الْحَدِيثُ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي "الْحِلْيَةِ").
أبو نعيم -رَحَمَهُ اللهُ- له كتاب اسمه "حلية الأولياء" وترجم فيه لعددٍ كبير من الصَّحابة والتَّابعين ومَن جاء بعدهم، وأبو نعيم لم يشترط في الكتاب الصِّحة ولا الحُسن، بل يروي ما وقع له ويذكره بإسناده، فعلى القارئ أن يعرف أن طريقةَ المتقدِّمين أنَّهم إذا ذكروا الإسناد أنَّهم يجعلون التَّبعة على القارئ أن يتأكَّد من الرِّجال، وهذا إذا كان القارئ من أهل الصَّنعة ومن أهل الحديث، أما العامَّة الذينَ لا يعرفونَ العلل ولا يعرفون الرِّجال فيرجعون للمختصِّين من أهل الحديث، ومَن طلبَ هذا العلمَ ودَرَسَه سيعرف، فمن طلبَ علمَ الحديث ودرسَ علم الأسانيد والرواة، وعرفَ تراجمهم؛ سوف يُدرك جملةً نافعةً من علم الحديث.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَكَذَا كُلُّ حَدِيثٍ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي عِدَّةِ "الْأَوْلِيَاءِ" وَ "الْأَبْدَالِ" وَ "النُّقَبَاءِ" وَ "النُّجَبَاءِ" وَ "الْأَوْتَادِ" وَ "الْأَقْطَابِ" مِثْلُ أَرْبَعَةٍ أَوْ سَبْعَةٍ أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ أَوْ أَرْبَعِينَ أَوْ سَبْعِينَ أَوْ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ أَوْ الْقُطْبَ الْوَاحِدَ؛ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَمْ يَنْطِقْ السَّلَفُ بِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ إلَّا بِلَفْظِ "الْأَبْدَالِ")}.
هذه قاعدة مُهمَّة جدًّا يستفيد منها أهل العلم وطلبة العلم وكل مسلم؛ وهي: أنَّ كلَّ حديثٍ يُروَى عَن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في عددِ الأولياء، وعدد الأبدال، أو النُّقباء، أو الأوتاد، أو الأقطاب، أو النُّجباء؛ أنَّ كلَّ ذلك لم يثبت عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيه شيءٌ.؛ بل كله كذب إِلَّا مَا جَاء في "الأبدال"، ولكن فيه ضعف، ولا يثبت أيضًا.
ويُنبَّه على هذا؛ لأنَّ غلاة الصُّوفيَّة يروجون في أوساطهم ويقولون: البلد الفلاني محمي بأربعة أوتاد، أو له سبعة أقطاب! ويقصدون مثلًا أنَّ فلان بن فلان ولي، أو وتد، أو أنه القطب لهذا الكون -أي أن الكون محروسٌ بهذا الولي- أو أنَّ البلد الفلاني محروس بسبعة أولياء من الشُّرور!
وكل هذا من الخرافات والأكاذيب التي يفترونها، ولا يجوز تصديقها ولا ترويجها.
وأمَّا ما ينسبونه للنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فنعرف هذه القاعدة العلميَّة العظيمة؛ أنَّه كله كذبٌ، إلا ما جاء في "الأبدال" فإن ضعيف لا يثبت.
وانظر إلى التَّحرِّي في العبارة عند الشيخ: (فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَمْ يَنْطِقْ السَّلَفُ بِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ إلَّا بِلَفْظِ "الْأَبْدَالِ"وَرُوِيَ فِيهِمْ حَدِيثُ)، ولكن الحديث ضعيف، ويدلُّ على ضعفه ما تضمَّنه الحديث مِن معلومات سنقرؤوها الآن..
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَرُوِيَ فِيهِمْ حَدِيثُ أَنَّهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا وَأَنَّهُمْ بِالشَّامِ وَهُوَ فِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَهُوَ حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ لَيْسَ بِثَابِتِ)}.
هذا الحديث ليس عندنا في المتن، ولكنه في الحاشية، أورده المحقق، قال: (لفظه في مسند الإمام أحمد: عن علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: "إني سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «الأَبْدَالُ يَكُونُونَ بِالشَّامِ وَهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلا، كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ رَجُلا، يُسْقَى بِهِمُ الْغَيْثُ، وَيُنْتَصَرُ بِهِمْ عَلَى الأَعْدَاءِ، وَيُصْرَفُ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ بِهِمُ الْعَذَابُ»[8]). وهذا الحديث ضعيف، وسنده فيه انقطاع، وهذا لا يثبت عن نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا الكلام.
ولهذا قال الشيخ في المتن: (وَهُوَ فِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَهُوَ حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ لَيْسَ بِثَابِتِ).
وعند أهل الحديث وأهل الاختصاص: التَّفريق بين ما يُقال عنه كذب وموضوع عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبينَ ما يُقال عنه ضعيف، وهذا من دقَّةِ أهل العلم.
ذكر الشَّيخ -رَحَمَهُ اللهُ- من الدَّلائل على عدم صحة هذا الحديث عن نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: (وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَلِيًّا وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَفْضَلُ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَمَنْ مَعَهُ بِالشَّامِ، فَلَا يَكُونُ أَفْضَلَ النَّاسِ فِي عَسْكَرِ مُعَاوِيَةَ دُونَ عَسْكَرِ عَلِيٍّ).
لأنَّ الحديث الضَّعيف هذا يقول: إنَّ الأبدال يكونون بالشَّامِ وهم أربعون رجلًا، فيقول الشَّيخ: معلوم أنَّ الشَّام كان فيها معاوية، وعليٌّ كان في العراق، فلا يُمكن أبدًا أن يكون هؤلاء أفضل من علي، ولا يُمكن أبدًا أن يكون في معسكر معاوية أفضل من معسكر علي؛ بل يكون مَن كان مع علي في الجملة وفي عينِ عليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لا شكَّ أنَّه أفضل من معاوية، فلا يكون معسكر الشَّام أفضل من معسكر علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَقَدْ أَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ : «تَمْرُقُ مَارِقَةٌ مِنْ الدِّينِ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ»، وَهَؤُلَاءِ الْمَارِقُونَ هُمْ الْخَوَارِجُ الحرورية، الَّذِينَ مَرَقُوا لَمَّا حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ، فَقَتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابُهُ، فَدُلَّ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَلَى أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ ; وَكَيْفَ يَكُونُ الْأَبْدَالُ فِي أَدْنَى الْعَسْكَرَيْنِ دُونَ أَعْلَاهُمَا ؟)}.
وهذا ممَّا يؤكِّد عدم صحَّة هذا الحديث عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مدحَ عليًّا فقال: «يَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ»، أي: يقتل المارقة.
وقوله: «تَمْرُقُ مَارِقَةٌ مِنْ الدِّينِ»[9]، يعني: الخوارج، وكما هو معلوم بإجماع العارفين والمسلمين أنَّ الخوارج أوَّلَ ما خرجوا كان خروجهم على عليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فقاتلهم علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ونصره الله عليهم، والحمد لله رب العالمين.
فعُلم أنَّ الذي يقتلهم هو أولى بالحق، والذي قاتلهم وقتلهم هو علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فلا يُمكن أبدًا أن يكون معسكر علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أقل من معسكر معاوية -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- والحديث يقول: إنَّ الأبدال كلهم بالشَّام؛ إذن هذا الحديث لا يثبت عن نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فيكون عدم ثبوت الحديث:
·       من جهة السَّند: لأن فيه انقطاع.
·       ومن جهة المعنى والمتن الذي تضمَّنه الحديث، ففيه نكارة.
إذن نصل إلى النَّتيجة: أنَّه لا يثبت شيء في الأبدال، ولا في الأقطاب، ولا في النُّجباء، ولا في الأوتاد، ولا نحو ذلك من مُصطلحات الصُّوفيَّة، وإنَّما الذي ثبتَ: « لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ»، ومثل قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»[10].
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَكَذَلِكَ مَا يَرْوِيه بَعْضُهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ أَنْشَدَ مُنْشِدَ
قَدْ لَسَعَتْ حَيَّةُ الْهَوَى كَبِدِي** فَلَا طَبِيبَ لَهَا وَلَا رَاقِـي
إلَّا الْحَبِيبُ الَّذِي شُغِفْت بِهِ ** فَعِنْــدَهُ رُقْيَتِي وَتِرْيَاقِي
وَأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَوَاجَدَ حَتَّى سَقَطَتْ الْبُرْدَةُ عَنْ مَنْكِبِهِ؛ فَإِنَّهُ كَذَّبَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ)}.
وهذه من الأكاذيب التي يروجها بعض هؤلاء، أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سمع مُنشدًا يقول هذه الأبيات، وهذا لا شكَّ أنَّه كذبٌ:
قَدْ لَسَعَتْ حَيَّةُ الْهَوَى كَبِدِي** فَلَا طَبِيبَ لَهَا وَلَا رَاقِـي
فهذا يذكر الهوى والعشق، وأنَّه أصاب الكبد في نفسه حتى لم يجد لها طبيبًا ولا راقٍ يُعالجه من أثر لسعةِ الهوى.
قال:
إلَّا الْحَبِيبُ الَّذِي شُغِفْت بِهِ ** فَعِنْــدَهُ رُقْيَتِي وَتِرْيَاقِي
نستغفر الله العظيم! هل هذا يُمكن أن يُقال أمام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!
فزعم هؤلاء الأفَّاكون أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تواجدَ، من الوَجْد، وهو عند الصُّوفيَّة: التَّمايُل والطَّرَب عند سماعِ المُقطَّعات والأناشيد والتَّوشيحات والابتهالات؛ فيميل ويهتز ويسقط على الأرض، فيسمون هذا وجدًا وتواجدًا، وهذا من المصطلحات الموجودة عند الصُّوفيَّة.
وهذا ليس من صفات المؤمنين، ولا من صفات أولياء الله -عزَّ وَجلَّ- فأولياء الله لا يسمعون مثل هذا، ما فيه العشق والهوى والغرام، وإنما يَسمعون القُرآن والسُّنة والعلم النَّافع.
وأحوال أولياء الله عند سماع القرآن: دمع العين، واقشعرار الجلد، ووجل القلب؛ وليس فيها التَّواجد.
فهم يزعمون أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (تَوَاجَدَ حَتَّى سَقَطَتْ الْبُرْدَةُ عَنْ مَنْكِبِهِ)، البردة: ما يُلبس على الكتف.
قال الشيخ: (فَإِنَّهُ كَذَّبَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ).
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَأَكْذَبُ مِنْهُ مَا يَرْوِيه بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ مَزَّقَ ثَوْبَهُ وَأَنَّ جِبْرِيلَ أَخَذَ قِطْعَةً مِنْهُ فَعَلَّقَهَا عَلَى الْعَرْشِ؛ فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يَعْرِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ مِنْ أَظْهَرْ الْأَحَادِيثِ كَذِبًا عَلَيْهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
وهذا يُبيِّنُ لك وقاحتهم تجاه مقام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنَّم يتظاهرون بحبِّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنَّهم أشد الناس عداوةً للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكذبًا عليه وافتراءً عليه، فهؤلاء بلغوا مبلغًا كبيرًا في الوقاحة والتَّنقُّص لمقام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عندما ينسبون له هذه الأشياء المنكرة، فكيف يمزق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثوبه وهو الذي نهى عن شقِّ الجيوب، ونفش الشُّعور؟!
ولهذا يجب على أهلِ الإسلامِ مُحاربة هذه الأفكار وهذه العقائد الفاسدة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَكَذَلِكَ مَا يَرْوُونَهُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ يَتَحَدَّثَانِ وَكُنْت بَيْنَهُمَا كَالزِّنْجِيِّ")}.
المراد بقوله: (الزِّنْجيّ)، أي: الذي لا يعرف اللغة العربيَّة، ويقصد أنَّهما يتكلَّمان برطانةٍ وبلغةٍ لا يفهما، يُشيرون -هؤلاء الكذبة المفترون- إلى أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتكلَّم برموز كما يتكلَّم السَّحرَة، ويقول "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ يَتَحَدَّثَانِ وَكُنْت بَيْنَهُمَا كَالزِّنْجِيِّ"، يعني ما أدري أيشٍ يقولون! وهذا كذب وافتراء، فهؤلاء هم أعداء الله.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَهُوَ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ فِيمَنْ يُقِرُّ بِرِسَالَتِهِ الْعَامَّةِ فِي الظَّاهِرِ مَنْ يَعْتَقِدُ فِي الْبَاطِنِ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ فَيَكُونُ مُنَافِقًا، وَهُوَ يَدَّعِي فِي نَفْسِهِ وَأَمْثَالِهِ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، مَعَ كُفْرِهِمْ فِي الْبَاطِنِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إمَّا عِنَادًا وَإِمَّا جَهْلً)}.
إذن هذا هو الخُلاصة: أنَّ بعض النَّاس يدَّعي أنَّه ولي وهو في الحقيقة عدو من المنافقين.
وسبب وقوعه في هذا النِّفاق وهذه العداوة:
·       إمَّا عِنادٌ: يعني يعرف الحق ولكنه يُعاند.
·       وإمَّا إيغالٌ في الجهلِ: وهذا الجهل غير معذور به، لأنَّه جهل مع التفريط، وإلا لو أنَّ بحث واستقصَى لعرف الحق.
وهؤلاء المنافقون أنواع:
·       منهم غُلاة الصُّوفيَّة.
·       ومنهم مَن ينتسب لدين اليهود والنَّصارى، ويصحِّح دينَهم ويُسوِّغَه.
·       ومنهم مَن يستهين بالعبادات، ويستهين بالفرائض.
·       ومنهم مَن يقول بوحدة الوجود، وأن الخالق والمخلوق شيء واحد.
إِلى آخر الأقوال المتعدِّدَة لصورِ هؤلاء المنافقين.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؛ وَلَكِنْ يَقُولُونَ إنَّمَا أُرْسِلَ إلَى غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ، لِأَنَّهُ أَرْسَلَ إلَيْنَا رُسُلًا قَبْلَهُ، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ كُفَّارٌ مَعَ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ فِي طَائِفَتِهِمْ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، وَإِنَّمَا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِوِلَايَتِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾)}.
بعض النَّصارى العرب يقولون: إنَّ الرسول محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُرسل إلى غير أهل الكتاب، أمَّا أهل الكتاب فلا يلزمهم طاعته واتِّباعه.
ومن الرُّدود السَّهلة القريبة: إذا كان رسولًا فلا يُمكن إلا أن يكون صادقًا، فلا يُمكن أن يختار الله -عزَّ وَجلَّ- للرِّسالة مَن هو كاذب، فإذا أنتم أقررتم بصحَّةِ رسالته إلى غير أهل الكتاب؛ فهذا يعني أنَّكم صدَّقتُم أنَّه صادقٌ ومصدوقٌ، وهو قد أخبر في القرآن وفي السنَّة أنَّه رسولٌ إلى العالمين، فلماذا تكذِّبونه؟! فإن كذَّبتموه بطلَ قولُكم الأوَّل أنَّه رسول إلى هؤلاء دون هؤلاء.
وهنا الشَّيخ -رَحَمَهُ اللهُ- أراد أن يُبيِّن أنَّ الإيمان الموصوف فيه أولياء الله لابدَّ أن يكون بأركانِ الإيمان السِّتَّة، ومن ضمنها الإيمان بالله والملائكة والرُّسل...، إلى آخره.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَلَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ أَنْ يُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيُؤْمِنُ بِكُلِّ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللَّهُ وَكُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.
وَقَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
فَلَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ أَنْ تُؤْمِنَ أَنَّ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ إلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ)}.
هذا فيه بيان ختم النُّبوَّة والرِّسالة بالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفيه بيان عموم الرِّسالة إلى جميع الثَّقلين، وهذان أمران عظيمان تابعان للإيمان بالرسول محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والشَّهادة بأنَّه رسول الله، فلابدَّ من الإيمان بختم النُّبوَّة والرِّسالةَ به، قال تعالى: ﴿وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ [الأحزاب: 40].
ولابدَّ من الإيمان بعموم رسالته، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، وقال: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعً﴾ [الأعراف: 158]، وقال: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ [الأعراف: 157]، وقال تعالى عن عيسى: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي﴾ [الصف: 6]، فهو رسول إلى أهل الأرض كلهم.
ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»[11].
وأرسل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الكتب إلى ملوك الأرض، هرقل، كسرى، والنجاشي، وغيرهم؛ ليدعوهم إلى الإسلام، فرسالته عامَّة -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو خاتم الأنبياء والمرسلين.
ومن الجدير بالذكر ويجب التَّنبيه عليه: أنَّ كثيرًا من غلاة الصُّوفيَّة ادَّعوا النبوَّة، خاصَّة مَن ركبَ منهم مذهب الفلاسفة، فادَّعوا أنَّ النُّبوَّة مكتسبَة وأنَّه يُمكن تحصيلها، ونُقل عن ابن سبعين هذا، وهو من غلاة الصوفية الاتحاديَّة!
قال -رَحَمَهُ اللهُ: (أَنَّ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ إلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ).
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (فَكُلُّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِمَا جَاءَ بِهِ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ ; وَمَنْ آمَنَ بِبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ وَكَفَرَ بِبَعْضِ فَهُوَ كَافِرٌ لَيْسَ بِمُؤْمِنِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمً﴾)}.
ومِن هُنا نعرف أنَّ مَن صحَّحَ دينَ اليهود أو دين النَّصارى فقد كفر؛ قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينً﴾ فربُّ العالمين كفَّرهم في القُرآن، فهؤلاء أمرهم واضح، ومع هذا -أيُّها الإخوة الكرام- هناك مَن يُلبِّس على النَّاس في الصُّحف ويقول: نريد أن نتقارب مع هذه الأديان؛ لأنَّها تُؤدِّي إلى طريقٍ واحدٍ، وكلُّها صحيحة! فيسوِّي بينَ هذه الأديان وبينَ دين الإسلام الحقّ، فهؤلاء لا شكَّ أنَّهم كفَّارٌ، وهذا من طريقة المنافقينَ أيضًا، فإذا أظهروا ذلك صاروا كفَّارًا، وإذا أبطنوه في قلوبهم فَهُم مُنَافِقُون.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَمِنْ الْإِيمَانِ بِهِ: الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ الْوَاسِطَةُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي تَبْلِيغِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ ; فَالْحَلَالُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ لِأَحَدِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ مِنْ غَيْرِ مُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَهُوَ كَافِرٌ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ.
وَأَمَّا خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْخَلْقِ، وَرِزْقُهُ إيَّاهُمْ، وَإِجَابَتُهُ لِدُعَائِهِمْ، وَهِدَايَتُهُ لِقُلُوبِهِمْ، وَنَصْرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ؛ فَهَذَا لِلَّهِ وَحْدَهُ يَفْعَلُهُ بِمَا يَشَاءُ مِنْ الْأَسْبَابِ، لَا يَدْخُلُ فِي مِثْلِ هَذَا وَسَاطَةُ الرُّسُلِ)}.
إذن الإيمان بالرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقتضي أن تؤمن بأنَّه الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ الرِّسالة وتبليغ الشَّريعة، وتبليغ القرآن، وتبليغ الأمر والنَّهي، والوعد والوعيد، والحلال والحرام، (فَالْحَلَالُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ).
هل الرَّسول هو واسطة بينَ اللهِ وبينَ خلقِهِ؟
نقول: هذه المسألة فيها تفصيلٌ، فهذه الكلمة مجملة، وكما قال بعض أهل العلم: هناك واسطة مَن أنكرها كفر، وهناك واسطة مَن أقرَّ بها كفر أيضًا.
المعنى الأوَّل: إذا قلتَ: إنَّه واسطة، أي: أنَّه رسولٌ مُرسلٌ برسالةٍ، يُبلغ الناس القُرآن والسُّنَّة والشَّرع، فهذا حقٌّ نؤمنُ بهِ، فهو واسطةٌ بيننا وبين الله، ولا طريقَ لنا إلى الله إِلَّا عَن طَرِيقه، ولا وصول لنا إلى الجنَّة إِلَّا عَن طَرِيقِه، ولا هِدايةً إِلَّا بهديه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فالحلال ما أحله، والحرام ما حَرَّمَه.
وأمَّا مَن اعتقد أنَّه يستغني عن الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنكرَ هذه الواسطة فقد كفر، فمَن أنكرَ أنَّ الرَّسول واسطةٌ بينَ الله وبينَ خلقه فقد كفرَ بالرِّسالة والنُّبوَّة؛ لأنَّه أنكرها، وهؤلاء هُم الغُلاة مِنَ الصُّوفيَّة الذين يقولون: إنَّ الأولياء يُمكن أن يصلوا إلى الله عن غير طريق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو عن طريق اليهوديَّة أو عن طريق النَّصرانيَّة، أو عن طريق الأديان الأخرى؛ فهؤلاء كفَّار. إذن مَن أنكر هذه الواسطة فقد كفر.
الواسطة بالمعنى الثَّاني: في الدُّعاء وفي اللجوء إلى الله وسؤاله الحاجات، والاستغاثة به؛ فهل هناك واسطة بيننا وبين الله لا يُمكن أن نصل إلى الله إلا عن طريق هذه الواسطة؟
نقول: لا، هذه الواسطة يجب إنكارها، فإذا أردنا أن ندعوا الله -عزَّ وَجلَّ- ندعوه مُباشرة، نقول: يا ربنا أغثنا، ارحمنا، اهدنا، ارزقنا؛ ما نحتاج أن نذهب إلى شيخ أو إلى مخلوق؛ حتى لو كان الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا نحتاج لأن نقول: يا رسول الله أغثنا فنحن في حسبك! لا؛ إنَّما نلجأ إلى الله، فَمَن جَعَلَ واسطةً بين الله وبينَ خلقه في الدُّعاء، وصرف له العبادة فقد كفر.
ولهذا الشيخ هنا فصَّل ووضَّح هذا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (ثُمَّ لَوْ بَلَغَ الرَّجُلُ فِي "الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْعِلْمِ" مَا بَلَغَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ وَلَا وَلِيٍّ لِلَّهِ تَعَالَى،كَالْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَعُبَّادِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَالتُّرْكِ وَالْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ كَانَ مِنْ حُكَمَاءِ الْهِنْدِ وَالتُّرْكِ وَلَهُ عِلْمٌ أَوْ زُهْدٌ وَعِبَادَةٌ فِي دِينِهِ وَلَيْسَ مُؤْمِنًا بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ عَدُوٌّ لِلَّهِ، وَإِنْ ظَنَّ طَائِفَةٌ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ كَمَا كَانَ حُكَمَاءُ الْفَرَسِ مِنْ الْمَجُوسِ كُفَّارًا مَجُوسً)}.
نقف عند الجملة الأخيرة، ونجعلها في الدَّرسِ القَادم؛ لأنَّها مُتصلة بما بعدها، وَقَد لا يَتَّسِع وقت الحلقة لإكمالها، ولكن نُلخِّص ما مضى، فنقول:
هناك مَن يظنُّ أنَّ بعضَ النَّاس من الكفَّار أو المُنَافقين أولياء لله -عزَّ وَجلَّ- والصَّحيح أنَّهم ليسوا كذلك، فالقاعدة الكبيرة التي نفرق بها بين أولياء الله وأولياء الشيطان تقول: إنَّ أولياء الله -عزَّ وَجلَّ- هم المتبعون لمحمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المتمسكون بشرائع الإسلام، فهؤلاء هم أولياء الله، ومَن عاداهم فهم أولياء الشَّيطان.
وسوف نُكمل -إن شاء الله- في الدَّرس القادم، ونسأل الله -عزَّ وَجلَّ- لنا ولكم ولجميع المسلمين العِلم النَّافع والعمل الصالح، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.
--------------------------
[7] كتاب "توحيد الربوبية" لابن تيمية.
[8] رواه أحمد في مسنده 1527 وهو ضعيف.
[9] رواه البخاري (1037)
[10] رواه البخاري (2652) ، ومسلم (2533) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود
[11] رواه مسلم

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك