الدرس السابع

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

3557 12
الدرس السابع

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله، وحيا الله الإخوة الكرام.
{قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَصْلٌ وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ لَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ إلَّا إذَا كَانَ مُؤْمِنًا تَقِيًّا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ*الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ -وَقَدْ تَقَدَّمَ- يَقُولُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ: «وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ» وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا تَقِيًّا حَتَّى يَتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ، فَيَكُونُ مِنْ الْأَبْرَارِ أَهْلِ الْيَمِينِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى يَكُونَ مِنْ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ لَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ لَا يَصِحُّ إيمَانُهُ وَعِبَادَاتُهُ وَإِنْ قَدَرَ أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ، مِثْلُ أَطْفَالِ الْكُفَّارِ وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُمْ لَا يُعَذَّبُونَ حَتَّى يُرْسَلَ إلَيْهِمْ رَسُولٌ؛ فَلَا يَكُونُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ إلَّا إذَا كَانُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، فَمَنْ لَمْ يَتَقَرَّبْ إلَى اللَّهِ لَا بِفِعْلِ الْحَسَنَاتِ وَلَا بِتَرْكِ السَّيِّئَاتِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ.
وَكَذَلِكَ الْمَجَانِينُ وَالْأَطْفَالُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ : عَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ. وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ».
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ عَلَى تَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ، لَكِنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ تَصِحُّ عِبَادَاتُهُ وَيُثَابُ عَلَيْهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
وَأَمَّا الْمَجْنُونُ الَّذِي رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ فَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ عِبَادَاتِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.
وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ إيمَانٌ وَلَا كُفْرٌ وَلَا صَلَاةٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ؛ بَلْ لَا يَصْلُحُ هُوَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُقَلَاءِ لِأُمُورِ الدُّنْيَا كَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ.
فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَزَّازًا وَلَا عَطَّارًا وَلَا حَدَّادًا وَلَا نَجَّارًا وَلَا تَصِحُّ عُقُودُهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَلَا شِرَاؤُهُ وَلَا نِكَاحُهُ وَلَا طَلَاقُهُ وَلَا إقْرَارُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِ؛ بَلْ أَقْوَالُهُ كُلُّهَا لَغْوٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَلَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ؛ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فَإِنَّ لَهُ أَقْوَالًا مُعْتَبَرَةً فِي مَوَاضِعَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَفِي مَوَاضِعَ فِيهَا نِزَاعٌ.
وَإِذَا كَانَ الْمَجْنُونُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِيمَانُ وَلَا التَّقْوَى وَلَا التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ، وَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ، لَا سِيَّمَا أَنْ تَكُونَ حُجَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ، إمَّا مُكَاشَفَةُ سَمْعِهَا مِنْهُ أَوْ نَوْعٌ مِنْ تَصَرُّفٍ مِثْلِ أَنْ يَرَاهُ قَدْ أَشَارَ إلَى وَاحِدٍ فَمَاتَ أَوْ صُرِعَ، فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ لَهُمْ مُكَاشَفَاتٌ وَتَصَرُّفَاتٌ شَيْطَانِيَّةٌ كَالْكُهَّانِ وَالسَّحَرَةِ وَعُبَّادِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، اللهم صلِّ وسلِّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدَى بهداه.
هنا يُبيِّن شيخ الإسلام -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية أنَّ الوليَّ لا يُمكن أن يكون من المجانين أو فاقدي العقل؛ لأنَّ هذه المسألة ضلَّ فيها أناسٌ كثيرون، وظنوا في كثيرٍ من المجانين أو أشباههم الولاية؛ لِمَا رأوا منهم من تصرُّفاتٍ خارقة للعادة، فبيَّن الشيخ -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنَّ هذا غيرُ صحيح، وأنَّه لا يُمكن للمجنون أن يكون وليًّا لله -عز وجل.
وقدَّم الشيخ بمقدمة، وهي أنَّه لا يُمكن لأحدٍ أن يكون وليًّا لله -عزَّ وجلَّ- إلا إذا وُجد فيه الإيمان والتَّقوى، فمعلوم أنَّ الكفار والمنافقين فقدوا الإيمان والتَّقوَى بسبب كُفرهم ونفاقهم، إذن هم لَيسوا أولياء، وكذلك إيمان مَن لا يصح إيمانه؛ فلو قُدِّر أنه صلَّى فلا تصحُّ صلاته، ولو قُدِّرَ أنَّه زكَّى أو صام؛ فلا يَصح منه بسبب فقدِ العقل، فهؤلاء لا يُمكن أن يُوصفوا بأنهم أولياء لله -عزَّ وجلَّ.
وضربَ لذلك أمثلة، فقال: (مِثْلُ أَطْفَالِ الْكُفَّارِ وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، ونَحوهم)، يعني: أهل الفترةِ، والهَرم الخَرِف الذي بلغته الدَّعوة وهو لا يَعقل شيئًا، ونحو هؤلاء؛ فهؤلاء اختُلف فيهم.
قال الشيخ: (وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُمْ لَا يُعَذَّبُونَ حَتَّى يُرْسَلَ إلَيْهِمْ رَسُولٌ)، هذا أحد الأقوال، وهو أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يختبرهم يوم القيامة، فإذا أطاعوا الله -عزَّ وجلَّ- دخلوا الجنَّة، وإذا عصوه دخلوا النار، وقيل فيهم غير ذلك، ولكن على كلِّ حالٍ لا يُمكن أن يكونوا أولياء لله -عزَّ وجلَّ- وهم لم يُؤمنوا ولم يتقوا، فمَن لم يتقرَّب إلى الله بالحسنات والإيمان والتَّقوى وتركِ السَّيئات فليس من أولياء الله،.
وبيَّن الشيخ أنَّه لا يصح أن يُقال في الصَّبي: إنَّه وليٌّ لله -عزَّ وجلَّ- إلا إذا أسلم، وهذا في المميز فقط، إذا كان من أطفال المشركين ثم أسلم فإنَّه يصح إسلامه، كما أنَّه يصح إسلام البالغ بلا إشكال، أمَّا المولود من أبوين مُسلمين وهو مميز فإن عبادته تصح منه ويؤجر عليها وإن كانت لا تجب عليه؛ لأنَّه قد رُفع عنه القلم، فتصح عباداته ويُثاب عليها، وكذلك يصح إسلام الطفل لو كان مميزًا، كأن يكون بين أبوين كافرين ثم يدخل الإسلام، فهذا يُثاب على هذه العبادات، ويُثاب على إسلامه، ولكن وجوب الواجبات وتأكُّدها والمعاقبة على تركها إنَّما يكون بعدَ البلوغ، ولكن على الأبوين التربية له؛ لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرُوا أَوْلادَكُمْ بِالصَّلاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ»[16]، فهذه واجبات على الوالدين لتربية الأولاد.
والمقصود: أنَّ هذا الحديث يدل على رفع القلم -أي: رفع التكليف- فإذا رُفع القلم عن هؤلاء الثلاثة عُلم أنَّ المجانين والمجاذيب والمتولِّهين -كما يُسمونهم- هَؤلاء لا يُمكن أن يكونوا أولياء؛ بل إنَّ الناس لا يأتمنونهم على تجاراتهم ولا على صناعاتهم؛ فلا يصح أن يكون بزَّازًا -يعني: يبيع القماش- ولا عطَّارًا، أي: يبيع الأطياب، ولا حدَّادًا، ولا نجَّارًا، ولا يَصح منه العَقد إذا عقدَ عقدَ بيعٍ أو عقد إجارةٍ أو عقدَ زواج؛ فكل هذا يدلُّ على أنَّهم لا يتعلق بتصرُّفاتهم أحكامٌ شرعيَّة، ولا ثوابٌ ولا عقاب.
أمَّا المميز من الصبيان ففيه أمور تصح منه وتُقبَل كالعبادات، وفيه أمور لابدَّ فيها من إذنِ وليِّه في البيع ونحو ذلك، وفيه أمور فيها خلاف بينَ أهل العلم.
أمَّا المجنون فلا خلاف في أنَّه لا يصح منه شيء إلا بالإيمان والتَّقوى، فإذا رجَع إليه عقله وآمن وثبتَ على إسلامه وإيمانه؛ فإنَّه حينئذٍ يكونُ وليًّا لله -عزَّ وجلَّ- لإيمانه وتقواه، أمَّا إذا كان فاقدًا لعقله فلا يصح منه شيء.
وإنَّا لنتعجَّب أحيانًا من كون هذه المسائل واضحة جدًّا؛ فكيف يذكرها شيخ الإسلام!
والجواب: إنَّ المتصوفة الذين غلَوْ في هذا الباب قد وقعوا في طوام عظيمة، وتقرأ في التَّاريخ عن أحوال بعض الأمراء وبعض الملوك قديمًا على عهد ابن تيمية وبعده، أنَّهم يُقدِّمون هؤلاء المجانين -أو مَن يُظنُّ أنهم مجانين- ويرونهم في بعض التَّصرفات الخارقة للعادة والغريبة، فَيُعطونهم نوعًا منَ التَّقديس، ونوعًا من الزَّنِ والاعتقاد فيهم، وإلى عهدِ الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان فيه أناس من هذا القبيل، تاج، وشمسان؛ كانوا يتركون الصلوات ويفعلون المنكرات، ومع ذلك يعتقدون فيهم أنَّهم أولياء، وأنَّه يُتبرَّك فيهم، وبعضهم يقول: هؤلاء سادة! وبعضهم يقول: هؤلاء فيهم اعتقاد!
فلا تتعجبوا يا إخواني أن هذه الأمور تُبيَّن وتُوضَّح، لمسيس الحاجة إليها؛ ولأنَّ الناس سُرعان ما يرجعون إلى الجهالات، بل حتى في عصر التكنولوجيا -كما يقولون- يوجد مَن يُصدِّق بمثل هذه الخرافات كما نبَّهَ أهل العلم وحذروا مَن الوقوع فيها.
ما حجَّة هؤلاء الخرافيين على تقديس شخصٍ واعتقاد أنَّه ولي؟
يقولون: حصلت منه كرامة!
والكرامة: أمرٌ خارقٌ للعادة، ونحن لا نُوافقهم على تسميتها كرامة؛ بل نقول: إنَّ هذه خوارق للعادات، وهذه الخوارق تقع من الأنبياء، وهي أعظم ما تكون، وتسمى: "معجزات، أو آيات، أو دلائل نبوة"، وتقع من أهل الإيمان والتقوى من الصَّالحين وتسمى: "كرامات"، وتقع من السَّحرة ومن الكهَّان والمشركين والكفار وتسمى: "خوارق شيطانيَّة"؛ فلا حُجَّة فيها، وليست العبرة أنَّه طارَ، أو أنَّه طلبَ أكلًا فوجدَ الأكلَ أمامَه!
وقد حذَّرنا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أن نغتر بمثل هذه الأمور كما في أخبار كثيرة عن الدَّجال، فإنَّ الدَّجالَ كذَّابٌ ويدَّعي الألوهيَّةَ، فحَّذرنا نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الخوارق التي تكون معه، فهذا هو معنى كلام الشيخ: (فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يُعْتَقِدَ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ، لَا سِيَّمَا أَنْ تَكُونَ حُجَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ، إمَّا مُكَاشَفَةُ سَمْعِهَا مِنْهُ أَوْ نَوْعٌ مِنْ تَصَرُّفٍ).
المكاشفَة: أمورٌ معلومات تُكشَف له، وهذا قد يكون بإعانة الجنِّ له أو باستراق السَّمع، فإنَّ الجنَّ قد يُبلِّغونه بشيءٍ يُلقونه على لسانه فيتكلم به -وهو مجنون- فيقول الناس: ما دام أنَّه تكلم بهذا إذن هذا ولي! لا، إذا ألقت الجن عليه الكلمة، وكُشف له عن علم؛ فلا يعني أنَّه وليًّا.
قال الشيخ: (أَوْ نَوْعٌ مِنْ تَصَرُّفٍ)، التَّصرُّف هنا يعني: القدرة الخارقة، مثل: أن يحمل شيئًا ثقيلًا بنفسه لا يحمله إلا عشرة، أو أنَّه يجلس تحت السيارة فتمشي فوقه، أو يأكل مسامير؛ فكل هذه الأفعال تعتبر خوارق شيطانيَّة لا عبرةَ بها، ولا يُلتفت إلى مَن وقعت له، ولذلك يجب الحذر منها؛ لأنَّ مَن يفعلها إمَّا أن يكون من السَّحرَة والكهَّان، أو ممَّن تلبَّسته الشَّياطين، ولهذا فلا يجوز حضور هذه الأشياء ولا المشاركة فيها، ولا تقديس أو تقدير أصحابها؛ بل يجب منعها، والواجب على وُلاة أمور المسلمين منع هؤلاء وزجرهم، وإذا قُدِّرَ أنَّ بعضهم فاقد للعقل فيُمنَع إمَّا بحبسٍ، أو وضعهم في مشفى خاصٍّ بهم، ولا يتركون يعبثون بعقول النَّاس، أو أن يَظن النَّاس فيهم هذه الأشياء، فإنَّ هذا من أسباب انتشار الشِّرك، ومن أسباب تضييع أوامر الله والتَّلاعُب بالصَّلوات، وإضاعَة الواجبات؛ وهذا خلاف الواجب على مَن تولَّى إمامة المسلمين؛ فإنَّ الواجب هو حفظ دين المسلمين ورعاية أمورهم، ومن هذا تولِّي هؤلاء وكف شرِّهم عن المسلمين.
فهذا الشيء الذي يقع مِن الخوارق أو الأشياء الغريبة تقع مِن الكُهَّان والمشركين والسَّحرة وعبَّاد المشركين وأهل الكتاب-كما يقول الشيخ- ولا يجوز أن يُستدلَّ بها على أنَّ الشَّخصَ وليٌّ لله -عزَّ وجلَّ.
نقرأ النَّص مرة ثانية: {(فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِ الشَّخْصِ وَلِيًّا لِلَّهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ وِلَايَةَ اللَّهِ، فَكَيْفَ إذَا عُلِمَ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ وِلَايَةَ اللَّهِ، مِثْلُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَاطِنًا وَظَاهِرًا، بَلْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَتَّبِعُ الشَّرْعَ الظَّاهِرَ دُونَ الْحَقِيقَةِ الْبَاطِنَةِ. أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ غَيْرَ طَرِيقِ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمْ السَّلَامُ.
أَوْ يَقُولُ: إنَّ الْأَنْبِيَاءَ ضَيَّقُوا الطَّرِيقَ أَوْ هُمْ عَلَى قُدْوَةِ الْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُهُ بَعْضُ مَنْ يَدَّعِي الْوِلَايَةَ، فَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ مِنْ الْكُفْرِ مَا يُنَاقِضُ الْإِيمَانَ، فَضْلًا عَنْ وِلَايَةِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَمَنْ احْتَجَّ بِمَا يَصْدُرُ عَنْ أَحَدِهِمْ مِنْ خَرْقِ عَادَةٍ عَلَى وِلَايَتِهِمْ كَانَ أَضَلَّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى)
}.
يعني: أنَّ هؤلاء قد يصدر منهم أقوالًا مُناقضة للدِّين الإسلامي، فهذا يؤكِّد أكثر وأكثر على أنَّهم ليسوا بأولياء؛ بل هم كفَّار، فإذا كان هذا خاتمة أمره ثم فقدَ عقله، فخاتمة أمره أنَّه يقول: إنَّه لا يجب اتِّباع النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو عاقل، ثمَّ جُنَّ بعدَ ذلك وصار يُكرر هذا الكلام وهو مجنون؛ فإنَّ آخر أمره قبل أن يَجِنَّ كان يُكرِّر هذا الكلام الكفري من أنَّه لا يجب اتِّباع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو يقول: نحن نتبعه في الشَّرع الباطن وأنتم تتبعونه في الشَّرع الظاهر؛ لأنَّ بعض الصوفيَّة يقولون: إنَّ هناك شريعة وهناك حقيقة.
فالشَّريعة: هي الصلوات والزَّكاة والصوم والحج.
والحقيقة: هي الأمور الباطنة، يقولون: إنَّها لهم حتى ولو لم يُؤدُّوا الأمور الظَّاهرة.
أو يقولون: إنَّ هناك طريق إلى الله غير طريق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!
ويقولون: أنتم تسيرون على طريق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى يوصلكم إلى الجنة، ولكننا لنا طريق آخر، لا يجب علينا اتباع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسوف نصل إلى الله، ونصل إلى الجنة!
وكل هذه مقولات الزَّنادقة الكفار، وليست من مَقولات أهل الإيمان؛ بل إنَّ هذه المقولات تُناقض الإسلام تمامًا.
قوله: (أَوْ يَقُولُ: إنَّ الْأَنْبِيَاءَ ضَيَّقُوا الطَّرِيقَ) نستغفر الله العظيم!
هذه الكلمة يَقولها بعض الخرافيين وأهل وحدة الوجود، والشيخ ما نقل هذه الكلام إلا لكونها مَوجودة في زمنه، وإلى الآن هناك مَن يتَّهم شريعة الإسلام بمثل هذا، فمن قال هذا الكلام فهو كافر ولا شك؛ لأنه تنقَّصَ أنبياء الله -عزَّ وجلَّ- وتنقَّصَ الأديان التي أنزلها الله، وتنقَّصَ الإسلام الذي هو الدين الخاتم، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَاب يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوت وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلً﴾ [النساء: 51] ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: 85]، فكيف ضيقوا! وبالعكس فإنَّ هذا الدين يُسر كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ»[17].
أو يقولون: (هُمْ عَلَى قُدْوَةِ الْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ)، يعني: عوام النَّاس يتَّبعون الأنبياء، أمَّا نحن الخواص لا يجب علينا أن نتبع الأنبياء.
قال الشيخ: (فَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ مِنْ الْكُفْرِ مَا يُنَاقِضُ الْإِيمَانَ)، يعني أنَّ هذه كلمات كفريَّة تُناقض الإيمان فضلًا عن أن يُدَّعى فيهم أنَّهم أولياء، فلا يُمكن أبدًا.
قال: (فَمَنْ احْتَجَّ بِمَا يَصْدُرُ عَنْ أَحَدِهِمْ مِنْ خَرْقِ عَادَةٍ عَلَى وِلَايَتِهِمْ كَانَ أَضَلَّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى).
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ، فَإِنَّ كَوْنَهُ مَجْنُونًا يُنَاقِضُ أَنْ يَصِحَّ مِنْهُ الْإِيمَانُ وَالْعِبَادَاتُ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي وِلَايَةِ اللَّهِ)}.
إذا كان مجنونًا فلا تصح منه الصلاة؛ لأنَّ مِن شُروط صحة الصلاة العقل والتَّمييز، وكذلك لا تصح منه بقيَّة العبادات، وكذلك الإيمان، فوجود الجنون يُناقض الإيمان والعبادات التي هي شرط الولاية، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [يونس: 63]، فبسبب الجنون زالَ عنه الإيمان وزالت عنه التَّقوى، فلا يكونُ وليًّا حالَ جنونه.
أمَّا قوله: (وَمَنْ كَانَ يَجُنُّ أَحْيَانًا وَيُفِيقُ أَحْيَانً)، ففي حال جنونه غير مُؤاخذ، وفي حالِ إفاقته ننظر إن كان على الإيمان والتقوى فهو مُؤمن ولي، وإن كان مُضيِّعًا فهو عاصٍ، وإن كان كافرًا بالله وبرسوله فهو كافر.
{قال: (إذَا كَانَ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيُؤَدِّي الْفَرَائِضَ وَيَجْتَنِبُ الْمَحَارِمَ ; فَهَذَا إذَا جُنَّ لَمْ يَكُنْ جُنُونُهُ مَانِعًا مِنْ أَنْ يُثِيبَهُ اللَّهُ عَلَى إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ الَّذِي أَتَى بِهِ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ، وَيَكُونُ لَهُ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مَنْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْجُنُونُ بَعْدَ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُهُ وَيَأْجُرُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ، وَلَا يُحْبِطُهُ بِالْجُنُونِ الَّذِي اُبْتُلِيَ بِهِ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ فَعَلَهُ، وَالْقَلَمُ مَرْفُوعٌ عَنْهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ)}.
مَن يَطرأ عليه الجنون يُعتبر كأنَّه طرأ عليه الموت، فلو طرأ عليه الجنون وجلس سنة أو سنتين أو عشر؛ ثم مات وهو مجنون، فهو على حاله، إن كان طُروء الجنون مؤمنًا فهو على الإيمان، كأنَّه طرأ عليه الموت، فإنَّ الله -عزَّ وجلَّ- لا يُحبط إيمانه وتقواه بسبب الجنون.

{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَعَلَى هَذَا فَمَنْ أَظْهَرَ الْوِلَايَةَ وَهُوَ لَا يُؤَدِّي الْفَرَائِضَ وَلَا يَجْتَنِبُ الْمَحَارِمَ؛ بَلْ قَدْ يَأْتِي بِمَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ؛ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ أَنْ يَقُولَ هَذَا وَلِيٌّ لِلَّهِ، فَإِنَّ هَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ مَجْنُونًا، بَلْ كَانَ مُتَوَلِّهًا مِنْ غَيْرِ جُنُونٍ، أَوْ كَانَ يَغِيبُ عَقْلُهُ بِالْجُنُونِ تَارَةً وَيُفِيقُ أُخْرَى، وَهُوَ لَا يَقُومُ بِالْفَرَائِضِ؛ بَلْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَهُوَ كَافِرٌ.
وَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا قَدْ ارْتَفَعَ عَنْهُ الْقَلَمُ؛ فَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَاقَبًا عُقُوبَةَ الْكَافِرِينَ؛ فَلَيْسَ هُوَ مُسْتَحِقًّا لِمَا يَسْتَحِقُّهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)
}.
يعني أنَّ الذي فقدَ العقل وليس عنده إيمان ولا تقوى كما أنَّه ليس عنده كفرٌ ولا فسوق؛ بل هو مجنون، فهذا مرفوع عنه القلم، ولا نقول عنه: إنَّه ولي أبدًا، وإن لم يكن مُعاقب عقوبة الكافرين فأيضًا هو ليس مُستحقًا لثواب المؤمنين -كما تقدم في أهل الفترة ونحوهم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَلَا يَجُوزُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ أَنْ يَعْتَقِدَ فِيهِ أَحَدٌ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ، وَلَكِنْ إنْ كَانَ لَهُ حَالَةٌ فِي إفَاقَتِهِ كَانَ فِيهَا مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ مُتَّقِيًا؛ كَانَ لَهُ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ فِيهِ كُفْرٌ أَوْ نِفَاقٌ أَوْ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْجُنُونُ فَهَذَا فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ مَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَجُنُونُهُ لَا يُحْبِطُ عَنْهُ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ حَالَ إفَاقَتِهِ مِنْ كُفْرٍ أَوْ نِفَاقٍ)}.
يعني: يُعامل بحسب حاله قبل طروء الجنون.
لنفرض مثلًا: أنَّ رجلًا عاش خمسين سنةً وهو عاقل، ثم طرأ عليه الجنون بعد ذلك، لما كان إلى خمسين سنةٍ ماذا كان حاله؟
الحالة الأولى: إن كان مُؤمنًا ثم طرأ عليه الجنون فإنَّه مُثابٌ على إيمانه وتقواه، ويُمكنُ أن يكونَ وليًّا لله قبل طُروء الجنون بسبب إيمانه وتقواه، فيُقال عنه: إنَّه وليّ لأنَّه مُؤمنٌ تقي، ولكن بعد الجنون زالَ عنه التَّكليف، وعند الله في الآخرة يُثاب على إيمانه ولا يحبط عمله؛ لأنَّ الجنون خارج عن إرادته، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبَرَصِ، وَالْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَمِنْ سَيِّئِ الأَسْقَامِ»[18]، فتعوَّذ بالله من الجنون، فهو بلاءٌ قد يُصيب الإنسان -نسأل الله العافية والسلامة لنا ولكم والمسلمين.
الحالة الثانية: إن كان عُمِّر الخمسين وكان آخر أمره كُفرًا ثم فقدَ عقلَه، فإنَّه يكون في الآخرة مُعاقَبًا عُقوبة الكافرين، حتى لو أمضى عشر سنوات وهو مجنون قبل أن يموت، فهذا يُحاسَب على ما خُتم له به قبل فقدِ عقله.
أمَّا إذا كان له حال إفاقة وحال جنون، فبعض أنواع الجنون يُفيق أحيانًا ويرجع إليه عقله، ثم بعدَ يومٍ أو نحوه يفقد عقله -نسأل الله العافية والسلامة- فهذا بحسب حاله في حال إفاقته، إن كان فيها إيمان وتقوى ومحافظة على الصَّلاة والدِّين فهو مأجورٌ مثاب، وإن كان فيها تضييع أو كُفر فهو على حسبِ ذلك، لكن لا يُمكن أبدًا أن نقول إنَّ المجنون أو المتولِّه-كما يُعبِّرونَ- أو المجذوب من الأولياء.
والتَّولُّه: هو التَّحيُّر بسبب الحبِّ أو الخوف.
والمجذوب وهو الذي انجذبَ عقله، فيقولون: فلان من المجاذيب، أو فقراء المجاذيب.
وهذه كلها من عبارات الصُّوفيَّة، فيقولون: فلان من فقراء المتولِّهينَ، والفقير عندهم ليس مَن نَقَصَ مالُه، وإنَّما يريدون الفقير إلى الله، فيصفونه بالتولُّه أو بالتَّحيُّر أو بالجنون، ونحو ذلك، فهذه العبارات غير شرعية، ولا يُستحب أن تُقال، وفي نفس الوقت عرفنا المراد بها، وأنَّ وصف هؤلاء بالولاية غير صحيح، ولا يجوز تسميتهم أولياء بسبب خوارق العادة، ولا نسميها كرامات؛ لأنها وقعت من أناس عصاة أو كفَّار، فلا نغتر بما حصل لهم من خوارق العادات.
فخلاصة هذا الفصل:
أنَّه حتى يوصف المرء أنَّه وليٌّ لله لابدَّ أن يكون على الإيمان والتَّقوى، فمن فقدَ الإيمان والتَّقوى سواء كان من الكفَّار والمنافقين فلا يُمكن أن يكون وليًّا لله، ومَن فقدَ الإيمان والتَّقوى بسبب الجنون وفقد العقل فلا يُمكن أن يكون وليًّا لله، وبالتَّالي عرفنا أنَّ تسمية المجانين والمجاذيب والمتولِّهين وفاقدي العقل بأولياء لله ضلالٌ مبينٌ، فما يقع فيه بعض المتصوفة من تسمية هؤلاء بالأولياء ضلال مبينٌ وإفكٌ عظيمٌ.
وذكر بعضُ المؤرِّخينَ قَصص عن بعض الملوك أنَّه كان يُعظِّم هؤلاء المجانين، ويأتي بعض الصُّوفيَّة ويقول له: هذا له حالٌ مع الله، هذا له كذا..، هذا له كذا...، مع أنَّه لا يُصلِّي ويصدر منه ما يدل على فقد العقل، ولكن لكونه خارقًا للعادة عظَّموه، حتى يقع منه ما يُستقبَح فيرجعون؛ وهذا كلُّه من المخالفَة للإسلام، ومخالفَة لهدي النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واتَّضحَ لنا هذا في هذا الفصل ولله الحمد.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَصْلٌ وَلَيْسَ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ شَيْءٌ يَتَمَيَّزُونَ بِهِ عَنْ النَّاسِ فِي الظَّاهِرِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُبَاحَاتِ، فَلَا يَتَمَيَّزُونَ بِلِبَاسِ دُونَ لِبَاسٍ إذَا كَانَ كِلَاهُمَا مُبَاحًا، وَلَا بِحَلْقِ شَعْرٍ أَوْ تَقْصِيرِهِ أَوْ ظَفْرِهِ إذَا كَانَ مُبَاحًا، كَمَا قِيلَ : كَمْ مِنْ صِدِّيقٍ فِي قَبَاءٍ وَكَمْ مِنْ زِنْدِيقٍ فِي عَبَاءٍ)}.
المراد من هذا الفصل: توضيح أنَّ أولياء الله من أهل التقوى وأهل الإسلام ليس لهم لباس خاص يتميَّزونَ به عن سائر المسلمين، خلافًا لما يعتقده بعض الضلال أنَّه يتميَّز عن النَّاس بلباسٍ مُعيَّن، فهم يلبسونَ ما أباح الله -عزَّ وجلَّ.
وكذلك الشَّعر؛ فلا يقول قائل: إنَّ الأولياء لابدَّ أن يحلقوا رؤوسَهم، ويستمر الحلق معهم، أو أنَّهم يتركوه أو يُقصِّروه على نحوٍ مُعيَّنٍ، أو يجعلونه ضفائر، ويلتزمون هذا بأنَّه شعار للأولياء؛ لا، وإنَّما الأولياء مُتَّبعون للسُّنَّة ومُلتزمون بها، ولا يُخالفون العُرف المباح، قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف:199]، ولهذا قيل: "كَمْ مِنْ صِدِّيقٍ فِي قَبَاءٍ وَكَمْ مِنْ زِنْدِيقٍ فِي عَبَاءٍ".
العباء: لباس خاص يتميَّز به بعضهم، فيظنُّ أنَّه من الأولياء، وهو زنديق.
القباء: هو اللبس الذي يتناوله الناس كلهم، كالجبَّة ونحوها.
ويعني بهذا أنَّ الصَّالح التَّقي الذي يُحبه الله لا يتميز عن الناس بألبسةٍ خاصَّةٍ، وبعض مَن يظن أنَّ هناك ألبسة خاصَّة قد يلبس هذه الملابس الخاصَّة وهو زنديق.
فخلاصة الكلام: أنَّه ليس هناك شكل معيَّن أو شعار مُعيَّن إذا صار الإنسان وليًّا لله لابدَّ أن يلتزمَ به؛ لا، فقد يوجد أهل الإيمان والتَّقوى حتى في ألبسة الفقراء، وألبسة الصنَّاع، فقد يكون ميكانيكي، وقد يكون فلاحًا، وقد يكون نجارًا، وقد يكون حدَّادًا،...، كل الأنواع؛ ولكن إذا قام بالإيمان والتَّقوى وعمل بطاعة الله ورسوله واتَّقى الحرام فهو ولي لله -عزَّ وجلَّ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَلْ يُوجَدُونَ فِي جَمِيعِ أَصْنَافِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الظَّاهِرَةِ وَالْفُجُورِ، فَيُوجَدُونَ فِي أَهْلِ الْقُرْآنِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ، وَيُوجَدُونَ فِي أَهْلِ الْجِهَادِ وَالسَّيْفِ، وَيُوجَدُونَ فِي التُّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ وَالزُّرَّاعِ.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ أَصْنَافَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾.
وَكَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَ أَهْلَ الدِّينِ وَالْعِلْمِ " الْقُرَّاءَ " فَيَدْخُلُ فِيهِمْ الْعُلَمَاءُ وَالنُّسَّاكُ)
}.
يقول: الأولياء يوجدون في جميع أصناف أمة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا لم يكونوا من أهل البدع الظَّاهرة والفجور؛ فهؤلاء أهل إيمان وتقوى، ما نُخصص لهم لباسًا خاصًّا، فلا نقول: إذا أنتَ صرتَ ملتزم بدين الله ومستقيم على طاعة الله، وولي لله؛ فالبس هذا اللبس المعيَّن وهذا اللون المعين؛ لا، فليس هذا في دين الله في شيء، ولكن البس اللبس المباح الذي أحلَّه الله -عزَّ وجلَّ.
وذكر الشيخ أنَّ أهل الإيمان والتَّقوى -أي: الأولياء- يوجدون في أهل القرآن، ويوجدون في أهل العلم، وأهل الجهاد، فيوجدون في الجنود في الجيش، ويوجدون في الدَّارسين وطلبَة العلم، ويوجدون في حفاظ القرآن، وكذلك يوجدون في التُّجار إذا اتقوا الله -عزَّ وجلَّ- واتَّقوا المحارم، فلا يأكلون الربا، ويبتعدون عن الخنا والفجور، فإذا اتقوا الله صاروا أولياء.
وهكذا أصحاب الصِّناعات، والزُّراع والفلاحين، وهكذا رُعاة الغَنم والإبل؛ كلٌّ من أصناف العمل المباحة إذا اتقوا الله -عزَّ وجلَّ- فيها وآمنوا وعملوا بما أمرَ الله؛ فهؤلءا أولياء.
ثم ذكر الآية الكريمة في آخر سورة المزمل: ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ فهؤلاء هم التُّجار. قال: ﴿وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فهؤلاء هُم المجاهدون.
إذن؛ ليس هناك شعارٌ خاصٌّ لمن وفَّقه الله في دينه واستقام على الدين، فليس هناك شعار خاص أو لباس خاص.
أمَّا تسميتهم؛ فكانوا قديمًا في زمن الصَّحابة يُسمون بالقراء؛ لأنهم يقرؤون القرآن كثيرًا ويعلمون ما فيه، ويسمون أيضًا بالعلماء والنُّسَّاك وأهل العلم، ونحو ذلك. فهذه التَّسميَّات لا بأس بها.
وبعض الطُّرق الصُّوفيَّة المنحرفة عندهم بعض الأشخاص في نفس الطريقة يلبس لبسًا مُعيَّنًا، ويلبس العمامة بشكل مُعيَّن، وبعضهم عنده لبسة خاصَّة، فيلبس ثوبًا مُرقَّعًا له ألوان، لون أحمر وأصفر وازرق، فالرُّقَع ظاهرة في هذا الثوب، وليس هذا من الفقر، ولكن هذا المسلك الوخيم المبتدَع وهو أنَّه يظن أنَّ هذا شيءٌ مَشروعٌ، وهؤلاء لاشكَّ أنَّهم أهل ضلال وابتداع.
وعلى كل حال فأهل الإسلام إذا استقاموا على دين الله -عزَّ وجلَّ- وعلى سنة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واتقوا ما حرم الله فإنَّهم أولياء لله، أيًّا كانوا في أي مكانٍ عملوا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ اسْمُ "الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ")}.
الاسم القديم الذي عليه السلف: أهل العلم، أهل الدين، القرَّاء، العلماء، النُّسَّاك؛ فهذه أسماء شرعيَّة.
أمَّا الأسماء التي حدثت فيما بعد كالصُّوفيَّة، فهذا الاسم حدث في سنة مائة وخمسين أو مائة وستين، ثُمَّ انتشر في سنة مائتين وما بعدها، وكان للعلماء موقف من هؤلاء وأغلاطهم قديمًا.
وكان فيهم قديمًا أناس لم تكن عندهم البدع التي جاءت عند المتأخِّرين، ولذلك فإنَّ مُتقدميهم خيرٌ من مُتأخِّريهم، فمتقدموهم في زمنِ الأئمة لم يقعوا في البدع الكبار كما وقع المتأخرون، ولكن طائفة الصُّوفية تنزَّعت وتوزَّعت وتقسَّمت، وزاد بعضهم زيادات كثيرة، وضلالات عظيمة، فهذا ما أوجب بحث "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشَّيطان"، فليس لأهل الإسلام لبسة معيَّنة كما يظن هؤلاء الصوفية، أو شكل معين، أو شعرٌ معين، أو عمامة معينة، فلا يجب أن نُلزم الناس بلبسٍ معينٍ ونقول: البسوا لبسة أهل البلد الفلاني، أو المنطقة الفلانية؛ لا، ولكن البسوا ما أحل الله -عزَّ وجلَّ- وأباح، واتقوا ما حرَّم.
والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إِنَّ اللَّه لا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ و لا إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ»[19]، فالعبرة ليست بشكلك، وكذلك يجب أن يكون الثوب الذي تلبسه مُوافقًا لِمَا جاء في الشَّريعة من الضوابط، مثل: ألا يلبس الرجل حَريرًا، ولا يكون مُسبلًا في ثوبه، ولا يلبس لباس شهرة، فإنَّ هذا محرَّم في الشَّريعة، وفي الحديث: «إنّ للهِ عِبادًا لَو أَقسَمُوا على اللهِ لأَبَرَّهُم» «رُبَّ أَشعَثَ أَغْبرَ ذِي طِمْرَينِ لَو أَقسَمَ على اللهِ لأَبَرَّهُ»، وفي رواية «مَدفُوعٍ بالأبوابِ»، وقال: «طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كانَ فِي السَّاقَة»، فليست العبرة بالمظاهر، ولكن العبرة بموافقة الشَّرع ظاهرًا وباطنًا.
وبدأ الشيخ الآن في موضوع الصُّوفيَّة، وسيُعرِّف بهذه الطَّائفة، ولماذا قيل عنهم صوفيَّة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَاسْمُ "الصُّوفِيَّةِ" هُوَ نِسْبَةٌ إلَى لِبَاسِ الصُّوفِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ)}.
هذا هو القول الصحيح، والأقوال الأخرى أقوال ضعيفة، فسُمِّيَ الصُّوفيَّه بهذا الاسم نسبةً إلى الصُّوف؛ لأنَّ قدماءهم كانوا يَلبسونَ الثياب من الصُّوف، وهذه ثياب قاسية، وكانوا يلبسونها لزهدهم.
ويُشدِّدونَ على أنفسهم، وهذا من الأغلاط، فإنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يُوجب على أمَّته ولم يشرع تخصيص لبس الصوف.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ نِسْبَةٌ إلَى صَفْوَةِ الْفُقَهَاءِ، وَقِيلَ إلَى صُوفَةَ بْنِ أد بْنِ طابخة، قَبِيلَةٌ مِنْ الْعَرَبِ كَانُوا يُعْرَفُونَ بِالنُّسُكِ، وَقِيلَ إلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَقِيلَ إلَى الصَّفَا، وَقِيلَ إلَى الصَّفْوَةِ، وَقِيلَ إلَى الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَهَذِهِ أَقْوَالٌ ضَعِيفَةٌ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقِيلَ: صفي أَوْ صَفَائِيٌّ أَوْ صفوي أَوْ صفي وَلَمْ يَقُلْ صُوفِيٌّ)}.
بيَّنَ لك الشيخ -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنَّ هذه الأقوال ضعيفة، وأنَّ الصَّحيح هو تسميتهم صوفيَّة لأجل لُبس الصُّوف.
أيضًا اسم "الفقراء" اسمٌ حادث، فتسمية الناس الصالحين أو العباد -الذين يشتغلون بالعبادة والزُّهد- بـ "الفقراء" حدث بعد عهد الصحابة والتابعين.
الآن في هذا الزمن ليس مَشهورًا هذا الاسم، ولكن لا يزال المتصوفة يعرفون هذا المصطلح ويُطلقونه على بعض أشخاصهم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَصَارَ أَيْضًا اسْمُ "الْفُقَرَاءِ" يَعْنِي بِهِ أَهْلَ السُّلُوكِ وَهَذَا عُرْفٌ حَادِثٌ وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ أَيُّمَا أَفْضَلُ مُسَمًّى "الصُّوفِيُّ" أَوْ مُسَمَّى "الْفَقِيرِ"؟ وَيَتَنَازَعُونَ أَيْضًا أَيُّمَا أَفْضَلُ: الْغَنِيُّ الشَّاكِرُ أَوْ الْفَقِيرُ الصَّابِرُ؟)}.
سيأتي أن اسم الفقراء ذُكروا في القرآن بأنهم هم الذين يستحقون الزكاة لنقص الأموال عندهم.
وذُكر في الفقراء: المهاجرون من الصحابة الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، فوصفوا بهذا، ومدحهم الله -عزَّ وجلَّ.
فتنازع الناس أيهما أفضل، اسم "الصُّوفي" أو اسم "الفقير" لأنَّ كلا الاسمين حادث وليس مَشروعًا، ولكن لو قيل: إنَّ اسم الفقير وردَ في القرآن والسُّنَّة؛ أمَّا الصُّوفي فليس واردًا لا في القرآن ولا في السُّنَّة، فليس له معنًى صحيح، والمعنى الذي ذكروه أنَّه نسبة إلى لبس الصُّوف غير مُعتبرٍ به شرعًا؛ لأنَّ لبس الصُّوف أمرٌ خاضع لحالة الإنسان الماديَّة ونحو ذلك.
أما التَّنازُع في أفضيلة الغني الشَّاكر والفقير الصابر؛ فهذا نزاع معروف، وسنعرف الراجح فيه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ قَدِيمٌ بَيْنَ الجنيد وَبَيْن أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ عَطَاءٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِيهَا رِوَايَتَانِ، وَالصَّوَابُ فِي هَذَا كُلِّهِ مَا قَالَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيْثُ قَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾.
وَفِي الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ سُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ: «أَتْقَاهُمْ».
قِيلَ لَهُ: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُك فَقَالَ: «يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ يَعْقُوبَ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ إسْحَاقَ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ إبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ». فَقِيلَ لَهُ: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُك. فَقَالَ: «عَنْ مَعَادِنَ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي ؟ النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إذَا فَقِهُو».
فَدَلَّ الْكتَابُ وَالسُّنَّةُ أنَّ أَكْرَمَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ)
}.
إذا قيل أيُّهما أفضل: الغني الشَّاكر أم الفقير الصَّابر؟
فالغني الشَّاكر يُؤدِّي الزَّكاة ويشكر الله دائمًا، والفقير صابر؛ فهؤلاء اختلف العلماء فيهم، فذكر ابن القيم هذه المسألة في عدَّة الصَّابرين ورجَّح أنَّ الأفضل هو الأتقى، ورجَّح ابن تيمية أيضًا وغيره هذا القول، لقوله تعالى: ﴿إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، كما يُقال في العرب والعجم، والأبيض والأسود، ونحو ذلك ﴿إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيِّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ إلَّا بِالتَّقْوَى. كُلُّكُمْ لِآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ».
وَعَنْهُ أَيْضًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ النَّاسُ رَجُلَانِ: مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ».
فَمَنْ كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ أَتْقَى لِلَّهِ فَهُوَ أَكْرَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِذَا اسْتَوَيَا فِي التَّقْوَى اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ)
}.
وانظر إلى سلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيب الرُّومي؛ جماعات من السَّابقين الأولين من المهاجرين قد فاقوا قبائل من العرب، فالعبرة بالتَّقوى والإيمان، فمَن تحقق بها كان أفضل.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلَفْظُ " الْفَقْرِ " فِي الشَّرْعِ يُرَادُ بِهِ الْفَقْرُ مِنْ الْمَالِ وَيُرَادُ بِهِ فَقْرُ الْمَخْلُوقِ إلَى خَالِقِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾ [ ص: 197 ] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِ﴾)}.
إذن قوله تعالى: ﴿إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ﴾ هذا الفقر من المال، والآية الثانية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِ﴾، في فقر المخلوق عند خالقه.
ولعلنا نقف عند هذا الموضع، ونُلخِّص ما سبق:
أنَّنا نؤكِّد كما ذكر الشيخ -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنَّ أولياء الله -عزَّ وجلَّ- ليس لهم لباسٌ خاصٌّ، أو طريقةٌ خاصَّةٌ، أو مَسلكٌ خاصٌّ يتميَّزون به عن النَّاس، بل إنَّ مسلكهم مسلك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والصَّحابة، طريقتهم وحالهم حال المتأسِّي بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا فيه ردٌّ على مَن يظنَّ أنَّ المؤمن أو الولي يتميَّز عن الناس، ولكن إذا تميَّزتَ عن النَّاس يأتيك الرياء، ويأتيك الشيطان إذا لبست لبسًا خاصًّا وصار الناس يُشيرون غليك بالأصابع، فهذا سبب للرياء، فعوَّذ بالله من الرياء وكن متَّبعًا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا تكن مبتدعًا.
هذا ما تيسر في هذا المجلس، ونسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يرزقنا وإياكم وجميع إخواننا المسلمين العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يثبتنا على الإسلام والسُّنَّة، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.
------------------------------
[15] رواه مسلم
[16] أبو داود والحاكم
[17] رواه الديلمي عن عائشة
[18] أبو داود (5493) وأحمد (13004)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 5/ 276، وفي صحيح الجامع الصغير (1281)
[19] متفق عليه

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك