الدرس السادس

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2564 12
الدرس السادس

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة جميعًا.
{سنبتدئ في هذه الحلقة -بإذن الله من فصل: أقسام توجد في أمَّة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَصْلٌ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْلِيَاءَهُ الْمُقْتَصِدِينَ وَالسَّابِقِينَ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ لَكِنَّ هَذِهِ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَاصَّةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾.
وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هُمْ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ بَعْدَ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِحُفَّاظِ الْقُرْآنِ؛ بَلْ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ فَهُوَ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَقَسَّمَهُمْ إلَى:
ظَالِمٍ لِنَفْسِهِ، وَمُقْتَصِدٍ، وَسَابِقٍ؛ بِخِلَافِ الْآيَاتِ الَّتِي فِي الْوَاقِعَةِ وَالْمُطَفِّفِينَ وَالِانْفِطَارِ؛ فَإِنَّهُ دَخَلَ فِيهَا جَمِيعُ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، كَافِرُهُمْ وَمُؤْمِنُهُمْ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ: أَصْحَابُ الذُّنُوبِ الْمُصِرُّونَ عَلَيْهَا. وَالْمُقْتَصِدُ: الْمُؤَدِّي لِلْفَرَائِضِ الْمُجْتَنِبُ لِلْمَحَارِمِ.
وَالسَّابِقُ لِلْخَيْرَاتِ: هُوَ الْمُؤَدِّي لِلْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ كَمَا فِي تِلْكَ الْآيَاتِ)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله رَبَّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرفِ الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد؛ فلا يزال شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- يُبيِّن أنَّ أولياء الله -عزَّ وجلَّ- مراتب، وذكرَ جملةً صالحةً فيما تقدَّم ممَّا يشهد لهذا المعنى من كتاب الله ومن سنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهنا خصَّصَ الحديث عن آيةِ سورةِ فاطر، والتي بيَّنَ الله -عزَّ وجلَّ- فيها أقسام هذه الأمَّة المحمَّديَّة، فقال -سبحانه: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَ﴾، فهذا الاصطفاء للأمَّة المحمَّديَّة، فهي أمَّةٌ مَرحومةٌ.
قال: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، أمَّة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أورثوا الكتاب بعد الأمم السَّابقة، وليس معنى هذا أنَّ المراد بهم هُم حفَّاظ القرآن فقط، ولا شكَّ أنَّ حفظ القُرآن نعمةٌ عظيمةٌ وسببٌ لرحمةِ الله وهدايته، وتوفيقه للعبد، وفوزه بالجنَّة في الآخرة إذا صدق ونصح وأخلص، ولكن كل مَن آمن بالقُرآن فهو ممَّن أُورث الكتاب، فكل من آمن بالقرآن فهو من أهل القرآن حتى ولو لم يحفظه حفظًا كاملًا.
ولهذا قال الشيخ هنا: (وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِحُفَّاظِ الْقُرْآنِ؛ بَلْ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ فَهُوَ مِنْ هَؤُلَاءِ).
ثم قال: (وَقَسَّمَهُمْ)، أي: قسَّم هذه الأمَّة.
قوله: (إلَى: ظَالِمٍ لِنَفْسِهِ، وَمُقْتَصِدٍ، وَسَابِقٍ بِالْخَيْرَات)؛ إذن صارت أمَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيها هذه الأقسام الثَّلاثة، وكما قال الشيخ هنا: (وَهَذَا التَّقْسِيمُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، بخلاف الأمم السَّابقة.
وانظر إلى قوله تعالى في سورة المائدة: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 66]، فذكر القسمين -الأمَّة المقتصدة، وأنَّ كثيرًا منهم أساؤوا- فاشتهر عنهم القسمان، بخلاف أمَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومثل قوله تعالى: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [الأعراف: 159]، ومثل قوله تعالى عن أتباع عيسى: ﴿فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد: 27]، فهذه الآيات تدل على أنَّ الأغلب والأعمَّ فيهم هذان القسمان: المقتصد والظالم لنفسه.
يقول ابن كثير -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- تعليقًا على قوله تعالى: ﴿مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾، قال: "فجعل أعلى مقاماتهم -يعني: أهل الكتاب- الاقتصاد، وهو أوسط مَقامات هذه الأمَّة، وفوق ذلك في هذه الأمَّة رتبة السَّابقين"، كما في هذه الآية ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، وبهذا صارت هذه الأقسام الثلاث من خصائص أمَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا مِن فضل الله -عزَّ وجلَّ- ورحمته بهذه الأمَّة، والحمد لله ربِّ العالمين.
وقد جاءت أحاديثٌ وآثارٌ عن الصَّحابةِ تدلُّ على أنَّ هذه الأقسام في هذه الأمَّة خاصَّة وليست في الأمم السَّابقة، فيكون في الأمم السَّابقة: المقتصد والظَّالم لنفسه، وأمَّا السَّابقين بالخيرات فيكونون هم الأنبياء والرُّسل.
والشيخ محمد بن صالح العثيمين يقول تفسيره: "فكأنَّ بني إسرائيل السَّابق بالخيرات فيهم قليل، بحيث لا يُقام له وزنٌ مِن جِهة العدد، ولا يُذكر في التَّقسيم، وإلا فلا شكَّ أنَّ فيهم سابقٌ بالخيرات، ومنهم مَن أدرك الإسلام وأسلم، مثل: عبد الله بن سلام -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وغيره من اليهود والنَّصارى الذين أدركوا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأسلموا".
عرفنا مزيَّة خاصَّة لهذه الأمَّة، وهي أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- جعلهم ثلاثة أصناف، وكلهم من أهل الرحمة، ولهذا قال تعالى: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَ﴾
يقول أهل العلم: "حُقَّ لِهَذِهِ الْوَاوِ أَنَّ تُكْتَبَ بِمَاءِ الْعَيْنَيْنِ"؛ لأنَّ فيها رحمة من الله أن وعد كل هذه الأقسام بدخول الجنة.
وسيأتي شرح يتعلق بالظَّالم لنفسه، وأنَّه من أهل الوعيد، فهو تحتَ مشيئة الله -عزَّ وجلَّ.
أمَّا الآيات التي في سورة الواقعة، وفي سورة المطففين، وفي سورة الإنسان، وسورة الانفطار، وكذلك في سورة الرحمن؛ ذكر الله -عزَّ وجلَّ- الأمم كلها في الجزاء الأخروي، فيدخل في ذلك المؤمن والكافر.
ففي سورة الواقعة: ذكر السَّابقين وأنَّهم ثُلَّةٌ وأنهم قليل، وذكر أصحاب اليمين وأنَّهم ثُلَّة وأنهم كثير، ثم ذكر أهل النار.
وأما في سورة فاطر: فذكر أنَّ الأقسام الثلاثة يدخلون الجنة: الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات، ثم جاء بعد ذكر هذه الآية القسم الرابع وهم النَّار، فقال: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ *وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ ثم قال: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾ [فاطر: 36]، فصارت الأقسام في سورة فاطر أربعة، الأمة المرحومة ثلاثة أقسام -الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات- والقسم الرابع هم أهل النار من الكفار.
فمن هو الظالم لنفسه؟
قال الشيخ: (فَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ: أَصْحَابُ الذُّنُوبِ الْمُصِرُّونَ عَلَيْهَ)، يعني: لقوا الله -عزَّ وجلَّ- وهم مُصرون على الذنوب، إمَّا ترك بعض الواجبات والتَّفريط فيها، وإمَّا أنَّهم مُصرِّون على بعض الذنوب المحرمات كعقوق الوالدين وقطيعة الرحم، أو النَّميمة، أو شُرب الخمر -والعياذ بالله- ونحو ذلك، فهؤلاء إذا لقوا الله -عزَّ وجلَّ- بهذه الذنوب فهم على خطرٍ عظيمٍ، ولكن لابدَّ أن يكون مآلهم إلى الجنَّة إذا ماتوا على التَّوحيد، فهم تحت مشيئة الله، إن شاء الله عذَّبهم، وإن شاء عفا عنهم، وإن عذَّبهم فإنَّهم لا يُخلَّدون في النار.
قال الشيخ: (وَالْمُقْتَصِدُ: الْمُؤَدِّي لِلْفَرَائِضِ الْمُجْتَنِبُ لِلْمَحَارِمِ)، يعني: هُو لم يستكثر من النَّوافل، ولم يَتَوَقَّ من المكروهات.
قال الشيخ: (وَالسَّابِقُ لِلْخَيْرَاتِ: هُوَ الْمُؤَدِّي لِلْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ كَمَا فِي تِلْكَ الْآيَاتِ).
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ تَوْبَةً صَحِيحَةً لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ السَّابِقِينَ وَالْمُقْتَصِدِينَ)}.
هذا كلام عظيم جدًّا!
أنَّ الإنسان قد يكون ضالًّا لنفسه ثم يمنُّ الله عليه بتوبةٍ نصوحًا، فيَرقَى إلى منزلة المقتصدين أو منزلة السَّابقين، فلا ييأس الإنسان من روحِ الله؛ بل يطمع في رحمته، قال تعالى: ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين: 26]، فهذه الدَّار هي درا مُسابقةٍ إلى الخيرات.
كذلك السَّابق بالخيرات الذي أحسنَ واجتهدَ، لو قُدِّرَ أنَّه هفا هفوة أو زلَّ زلةٍ أو وقع في الذُّنوب؛ فلا ييأس من روح الله، فهو إذا تاب من ذنبه توبة نصوحًا رجعَ إلى حاله، وهو السَّابق بالخيرات أو المقتصد.
فهذا كلام عظيم يجب أن نهتمَّ به (وَمَنْ تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ تَوْبَةً صَحِيحَةً لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ السَّابِقِينَ وَالْمُقْتَصِدِينَ)
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾)}.
الشاهد من هذه الآيات: أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- وصفهم بالمتَّقين، ووصفهم بالمحسنين، وأثنى عليهم، ثم ذكر أنَّهم قد يقع منهم فِعل الفَاحشة أو الظلم لأنفسهم؛ لكنَّهم يُسارعون إلى التَّوبة.
إذن ليس من شأن المؤمن أَلَّا يُذنب مُطلقًا؛ بل المؤمن قد يُذنب ولكنَّه يُسارع إلى التوبة كما في هذه الآيات.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقَوْلُهُ: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَ﴾ مِمَّا يَسْتَدِلُّ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ.
وَأَمَّا دُخُولُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ النَّارَ فَهَذَا مِمَّا تَوَاتَرَتْ بِهِ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا تَوَاتَرَتْ بِخُرُوجِهِمْ مِنْ النَّارِ، وَشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَهْلِ الْكَبَائِر، وَإِخْرَاجِ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ بِشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَشَفَاعَةِ غَيْرِهِ.
فَمَنْ قَالَ: إنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ، وَتَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى أَنَّ السَّابِقِينَ هُمْ الَّذِينَ يَدْخُلُونَهَا، وَأَنَّ الْمُقْتَصِدَ أَوْ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ لَا يَدْخُلُهَا، كَمَا تَأَوَّلَهُ مَنْ تَأَوَّلَهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ؛ فَهُوَ مُقَابَلٌ بِتَأْوِيلِ الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ لَا يَقْطَعُونَ بِدُخُولِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ النَّارَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ قَدْ يَدْخُلُ جَمِيعُهُمْ الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ عَذَابٍ، وَكِلَاهُمَا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلِإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَ)
}.
قوله -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقَوْلُهُ: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَ﴾)، الآية التي في سورة فاطر تدل على أنَّ الأصناف الثلاثة يدخلونها -الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات.
فالظَّالم لنفسه: هو الذي يرتكب الذنوب، ويلقى الله بهذا الحال.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (مِمَّا يَسْتَدِلُّ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ)؛ لأنَّ الله تعالى وَعدهم بدخول جنَّاتِ عدنٍ، فدلَّ هذا على أنَّ الظَّالم لنفسه لو قَدَّرَ الله له أن يُعذِّبَه فإنَّه لا يُخلَّد؛ بل يكون مآله إلى الجنة، ويتحقق فيه وعد الله في قوله: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَ﴾.
ولا يزال الكلام أنَّ هؤلاء الأولياء منهم سابق بالخيرات ومنهم مُقتصد، وقد يقع الواحد من هؤلاء في الظُّلم لنفسه ثمَّ يتوب، ولهذا استطرد الشيخ -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- فقال: (وَأَمَّا دُخُولُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ النَّارَ فَهَذَا مِمَّا تَوَاتَرَتْ بِهِ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، التواتر: يعني الحديث الذي يعتبر قطعيًّا، بلغ حَدَّ التَّواتر أي: رواه الجمع الغفير الذي يُعرَف عدم تواطئهم على الغلط.
قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَهَذَا مِمَّا تَوَاتَرَتْ بِهِ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا تَوَاتَرَتْ بِخُرُوجِهِمْ مِنْ النَّارِ، وَشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَهْلِ الْكَبَائِر، وَإِخْرَاجِ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ بِشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَشَفَاعَةِ غَيْرِهِ).
يعني: ثبت في السُّنَن أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبر أنَّه رآهم في النَّار، وأنَّه يشفع في أُناسٍ من أهل الكبائر، ويُخرَجون من النَّار بشفاعته وشفاعة غيره، وهذا دليل على أنَّ أهل الكبائر يدخل منهم جملةٌ كبيرةٌ النَّار.
ثُم انتقل الشَّيخُ إلى مناقشَة الطَّائفتين الضَّالتين في هذه المسألة: طائفة الخوارج وطائفة المرجئة؛ فقال: (فَمَنْ قَالَ: إنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ، وَتَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى أَنَّ السَّابِقِينَ هُمْ الَّذِينَ يَدْخُلُونَهَا، وَأَنَّ الْمُقْتَصِدَ أَوْ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ لَا يَدْخُلُهَ)، فهذه من ضلالات المعتزلة.
قالوا: إنَّ قوله: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَ﴾ فزعموا أنَّ الضمير في قوله: ﴿يَدْخُلُونَهَ﴾ يعود على آخر قسم فقط وهو السَّابق بالخيرات.
فزعموا أنَّ المقتصد لا يدخل الجنة، وأنَّ الظَّالم لنفسه لا يدخلها؛ حتى يستقيم على أصولهم الباطلة، وهي أنَّ الظالم لنفسه المرتكب للكبائر خالد مخلَّد في النَّار!
والآية تقول: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَ﴾، وهذا مُناقضٌ لأصولهم؛ فأرادوا الاحتيال والتَّحريف لكلام الله -عزَّ وجلَّ.
قال: (وَتَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى أَنَّ السَّابِقِينَ هُمْ الَّذِينَ يَدْخُلُونَهَا، وَأَنَّ الْمُقْتَصِدَ أَوْ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ لَا يَدْخُلُهَا، كَمَا تَأَوَّلَهُ مَنْ تَأَوَّلَهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ)؛ وجواب الكلام مَحذوف مُقدَّر، أي: فهذا تأويلٌ باطلٌ.
ثم ردَّ الشيخ فقال: (فَهُوَ مُقَابَلٌ بِتَأْوِيلِ الْمُرْجِئَةِ)، يعني: نرد على ضلالة المعتزلة ببيان ضلالة الْمُرْجِئَةِ، فإذا اتَّضحَت لك ضلالة المرجئة وضلالة المعتزلة والخوارج عرفتَ أنَّ الصراط المستقيم بينَ هؤلاء، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فهؤلاء غلو في الوعيد، وهؤلاء غلو في الوعد.
ثم أورد قول الْمُرْجِئَةِ فقال: (الَّذِينَ لَا يَقْطَعُونَ بِدُخُولِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ النَّارَ)، يقولون: إنَّ جميع أهل الكبائر لا ندري هل يدخلون النار أولا.
قال: (وَيَزْعُمُونَ أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ قَدْ يَدْخُلُ جَمِيعُهُمْ الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ عَذَابٍ)، وهذا من ضلالات المرجئة، فيقولون إنَّ جميع أهل الكبائر قد يدخلون جميعًا بدون استثناء الجنَّة، ولا يُمكن أن يمسَّهم عذاب.
أمَّا أهل السُّنَّة فيقولون: إنَّ أهل الكبائر قد يدخلون الجنة؛ لأنَّهم تحت المشيئة، وهذا هو الفرق بين أهل السنَّة والمرجئة؛ لأنَّه قد ثبتت النُّصوص أنَّ قومًا من أهل الكبائر وجماعة كبيرة وفئامًا كثيرة رآهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في النار، فكيف نقول: إنَّهم لا يدخلون النار؟!
وهذا من الأقوال المشتهرة -مع الأسف- عند بعض المتأخرين، حتى عند بعض المذهب الأشعري وغيرهم توجد هذه المقالات في كُتبهم، ويقولون هذا القول بعينه!
وسبحان الله! فقد أخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه رأى أكَلَة الرِّبا والزُّناة والزواني في تنورٍ من نارٍ، ورأى الذي نام عن الصَّلاة المفروضَة تُضرَب رأسُه بالحجارة، وأخبر أنَّه يشفع في قومٍ من هذه الأمَّة ليُخرجهم من النار، ثم يُحد الله له حدًّا...؛ في أحاديث مُتواترة، ثم يأتي هؤلاء ويقولون: قد يُغفَر لهم كلُّهم!
هذا غير صحيحٍ، فقد يُغفَر لبعضهم إذا شاء الله -عزَّ وجلَّ- قال تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 116].
ثم ختم الشيخ كلامَه فقال: (وَكِلَاهُمَا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلِإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَ)، يقصد الخوارج والمعتزلة طرف، والمرجئة الطَّرف الثَّاني.
والشيخ سيستنبط من الآيات التي ستأتي ردًّا على الطَّائفتين.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقَدْ دَلَّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الطَّائِفَتَيْنِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: ﴿إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَغْفِرُ مَا دُونَهُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ التَّائِبُ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ؛ لِأَنَّ الشِّرْكَ يَغْفِرُهُ اللَّهُ لِمَنْ تَابَ، وَمَا دُونُ الشِّرْكِ يَغْفِرُهُ اللَّهُ أَيْضًا لِلتَّائِبِ، فَلَا يُعلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ الْمَغْفِرَةَ لِلتَّائِبِينَ قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.
فَهُنَا عَمَّمَ الْمَغْفِرَةَ وَأَطْلَقَهَا فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِلْعَبْدِ أَيَّ ذَنْبٍ تَابَ مِنْهُ، فَمَنْ تَابَ مِنْ الشِّرْكِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، وَمَنْ تَابَ مِنْ الْكَبَائِرِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، وَأَيُّ ذَنْبٍ تَابَ الْعَبْدُ مِنْهُ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ.
فَفِي آيَةِ التَّوْبَةِ عَمَّمَ وَأَطْلَقَ، وَفِي تِلْكَ الْآيَةِ خَصَّصَ وَعَلَّقَ، فَخَصَّ الشِّرْكَ بِأَنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ، وَعَلَّقَ مَا سِوَاهُ عَلَى الْمَشِيئَةِ، وَمِنْ الشِّرْكِ: التَّعْطِيلُ لِلْخَالِقِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يَجْزِمُ بِالْمَغْفِرَةِ لِكُلِّ مُذْنِبٍ. وَنَبَّهَ بِالشِّرْكِ عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ كَتَعْطِيلِ الْخَالِقِ، أَوْ يَجُوزُ أَلَّا يُعَذَّبَ بِذَنْبِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ يَغْفِرُ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ ظَالِمٍ لِنَفْسِهِ مَغْفُورًا لَهُ بِلَا تَوْبَةٍ وَلَا حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ لَمْ يُعَلِّقْ ذَلِكَ بِالْمَشِيئَةِ.
وقَوْله تَعَالَى: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾؛ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَغْفِرُ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، فَبَطَلَ النَّفْيُ وَالْوَقْفُ الْعَامُّ)
}.
إذن هذه الآية الكريمة تدلُّ على فَساد قول الخوارج، ويتبعهم المعتزلة، وكلُّ مَن قال بقولهم من أهل البدع، فكثيرٌ من أهل الضلال والبدع قال بهذا القول، وهو أنَّ الرَّجل إذا ماتَ مُرتكبًا للكبيرة فهو خالدٌ مخلَّدٌ في النَّار، والله -عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، يعني: ما دون الشِّرك، فكيفَ تقولون إنَّه خالدٌ مخلَّدٌ في النَّار، والله -عزَّ وجلَّ- علَّقَ مغفرتَه عليه بمشيئته؟!
فاحتالوا بحيلة ليحرفوا الكلام عن مواضعه، فقالوا: إنَّ هذه الآية في التَّائب ﴿إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، يعني: إذا تاب قبل أن يموت من ذنوبه كلها فهو مغفورٌ له!
نقول: هذا تحريفٌ ومخالفٌ لصريح القرآن، فإنَّ التَّائب لا يُفرَّق فيه بينَ المشرك وغير المشرك، فكلُّ مَن تابَ تابَ الله عليه، فلا يقول الله -عزَّ وجلَّ- للمشرك: إنَّه لا يغفر له ولا يتوب عليه وغير المشرك يتوب عليه، فإذا كان المراد هو التَّوبة فإنَّ الآية العامَّة هي التي تُذكَر في هذا المقام: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]، فالمراد هنا أنَّ الله يغفر الذنوب جميعًا بالتَّوبة، فإذا تَاب العبد؛ غفر الله له ذنوبه، وتشمل الشِّرك فما دونه.
أمَّا آية النساء: ﴿إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، لا يُمكن أن يُقال: إنَّ المراد أنَّ الله يغفر للتائب ممَّا دون الشِّرك ولا يغفر للمشرك؛ بل إنَّ المشرك إذا تابَ تابَ الله عليه، كلُّ مَن تابَ من أيِّ ذنبٍ تابَ الله عليه.
وقوله: ﴿إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ يُراد به إذا مات على ذلك من غير توبة؛ فإنَّنا ننظر:
- إذا مات على الشِّرك فإنَّه لا يُغفَر له.
- وإذا مات على ما دون الشِّرك من الذنوب والمعاصي، مثل: شرب الخمر، أو السَّرقة؛ فإنَّه تحت مشيئة الله، قال تعالى: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾.
فالآية الكريمة ظاهرة وصريحة جدًّا في أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- جعل ما دون الشِّرك من الذُّنوب تحت مشيئته، فلا يُمكن أن نقول: إنَّه يُخلَّد في النَّار، أو إنَّ الله لا يغفر لهم، لأنَّ المخلد في النار لن يغفر الله له.
قال الشيخ: (فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَغْفِرُ مَا دُونَهُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ التَّائِبُ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ)؛ لأنَّ هذا من تحريفاتهم.
قال: (لِأَنَّ الشِّرْكَ يَغْفِرُهُ اللَّهُ لِمَنْ تَابَ، وَمَا دُونُ الشِّرْكِ يَغْفِرُهُ اللَّهُ أَيْضًا لِلتَّائِبِ، فَلَا يُعلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ; وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ الْمَغْفِرَةَ لِلتَّائِبِينَ قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.
فَهُنَا عَمَّمَ الْمَغْفِرَةَ وَأَطْلَقَهَ)
، يعني: سورة الزمر في قوله: ﴿إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعً﴾.
قال: (فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِلْعَبْدِ أَيَّ ذَنْبٍ تَابَ مِنْهُ، فَمَنْ تَابَ مِنْ الشِّرْكِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، وَمَنْ تَابَ مِنْ الْكَبَائِرِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، وَأَيُّ ذَنْبٍ تَابَ الْعَبْدُ مِنْهُ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ.
فَفِي آيَةِ التَّوْبَةِ)
، يعني: سورة الزمر في قوله: ﴿إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعً﴾ هذه هي آية التَّوبة، وليس المقصود من كلام الشيخ سورة التَّوبة.
قال: (عَمَّمَ وَأَطْلَقَ، وَفِي تِلْكَ الْآيَةِ)، أي: في سورة النساء ﴿إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ (خَصَّصَ وَعَلَّقَ)، يعني: خصَّصَ ما دون الشِّرك بالمشيئة. قال: (فَخَصَّ الشِّرْكَ بِأَنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ، وَعَلَّقَ مَا سِوَاهُ)، يعني: ما دونَه (عَلَى الْمَشِيئَةِ).
هنا استطرادٌ للشيخ: (وَنَبَّهَ بِالشِّرْكِ عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ كَتَعْطِيلِ الْخَالِقِ)، يعني: لا تظنَّ الْمُلحد أقلُّ شأنًا من المشرك؛ بل إنَّ الْمُلحد مُشرك وزيادة.
قال: (وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يَجْزِمُ بِالْمَغْفِرَةِ لِكُلِّ مُذْنِبٍ)، يعني: المرجئة هُم من يجزمون بذلك؛ لأن المسالة مُعلَّقة بالمشيئة وليست مُطْلَقة.
قال: (أَوْ يَجُوزُ أَلَّا يُعَذَّبَ بِذَنْبِ)، يعني يقول: يجوز ألا يُعذِّبَ الله أحدًا بذنب، وهذا قول المرجئة.
ثم قال الحجَّة: (فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ يَغْفِرُ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ)، وهذا في قوله تعالى: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾.
قال: (وَلَوْ كَانَ كُلُّ ظَالِمٍ لِنَفْسِهِ مَغْفُورًا لَهُ بِلَا تَوْبَةٍ وَلَا حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ لَمْ يُعَلِّقْ ذَلِكَ بِالْمَشِيئَةِ.
وقَوْله تَعَالَى: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾)
؛ إذن هناك أُناسٌ يغفر الله لهم، وهناك أُناسٌ شاء الله ألَّا يغفر لهم وأن يُعاقبهم، ولكن يُعاقبهم بقدر ذنوبهم، ثم يكون مآلهم إلى الجنَّة، وهذا في أهل التَّوحيد.
ثُمَّ خَتَمَ بقوله: (وقَوْله تَعَالَى: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَغْفِرُ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، فَبَطَلَ النَّفْيُ وَالْوَقْفُ الْعَامُّ).
النَّفي هنا: هو نفي المغفرة الذي صرَّح به المعتزلة وقالوا: لا يُغفر لأهل الكبائر؛ بل هُم خالدون مخلَّدون في النَّار.
والعفو العام: هو مَذهب المرجئة، فيقولون: إنَّ الله سيعفو عن جميع المذنبين مِنَ الكبائر.
فبطل قولهم؛ لأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- قال: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾.
وهذا الكلام -أيُّها الإخوة- كُله يُبيِّن أنَّ أولياء الله -عزَّ وجلَّ- على درجات ومراتب، وليسوا في منزلةٍ واحدةٍ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ، وَالنَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، فَهُمْ مُتَفَاضِلُونَ فِي وِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مُتَفَاضِلِينَ فِي الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ كَانُوا مُتَفَاضِلِينَ فِي عَدَاوَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ.
وَأَصْلُ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى: الْإِيمَانُ بِرُسُلِ اللَّهِ وَجِمَاعُ ذَلِكَ: الْإِيمَانُ بِخَاتَمِ الرُّسُلِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَالْإِيمَانُ بِهِ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَأَصْلُ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ هُوَ: الْكُفْرُ بِالرُّسُلِ وَبِمَا جَاءُوا بِهِ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْكُفْرُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ; فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إلَّا بَعْدَ بُلُوغِ الرِّسَالَةِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولً﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾.
وَقَالَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ النَّارِ: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إنْ أَنْتُمْ إلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ﴾، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِي النَّارِ فَوْجٌ أَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ جَاءَهُمْ النَّذِيرُ فَكَذَّبُوهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُلْقَى فِيهَا فَوْجٌ إلَّا مَنْ كَذَّبَ النَّذِيرَ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي خِطَابِهِ لإبليس: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَمْلَؤُهَا بإبليس وَمَنْ اتَّبَعَهُ؛ فَإِذَا مُلِئَتْ بِهِمْ لَمْ يَدْخُلْهَا غَيْرُهُمْ.
فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ إلَّا مَنْ تَبِعَ الشَّيْطَانَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، فَإِنَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَتَّبِعْ الشَّيْطَانَ وَلَمْ يَكُنْ مُذْنِبًا، وَمَا تَقَدَّمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِالرُّسُلِ)
}.
هذا الفصلُ تمهيدٌ للفصلِ الذي بعدَه، وهو بيانٌ لأصلٍ تقدَّمَ ذكره، وهو أنَّ أولياء الله -عزَّ وجلَّ- هم أهلُ الإيمانِ والتَّقوى، والنَّاس يتفَاضَلون في الإيمان والتَّقوى.
وأصلُ ذلك: هو الإيمانُ بما جاءت بِه الرُّسل، وأعظمُ ذلك هو الإيمان بما جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خاتم الأنبياء والمرسَلين، فصَلَوات الله وسَلامه عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والرُّسل جميعًا، فالإيمان بما جاء به -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يشمل الدِّين كله.
وعكس الإيمان: الكفر والنِّفاق.
فالكفر هو: الرَّدُّ والجَحْدُ والإعراض، والعِناد والاستكبار، وإيباء ما جاء به الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والنِّفاق: أن يُظهر بِلسَانِه الموافَقة، وقلبُه منطوٍ على التَّكذيب والكفر برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإذا وُجِدَ في قلبِ العبدِ الكفرُ والنِّفاقُ فإنَّه لا يُمكن أبدًا أن يكون وليًّا لله -عزَّ وجلَّ، وإذا لم يُوجد الإيمانُ والتَّقوى فلا يُمكن أبدًا أن يكون وليًّا لله -عزَّ وجلَّ.
ثم استطردَ الشَّيخ في بيان أنَّ المستحق للعقوبة في الآخرة وهو مَن كذَّبَ كفرَ، وبلَغَته الرِّسالة، وذكر الآية: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولً﴾، وقوله تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾، فهذا معناه أنَّ الله أرسلَ الرُّسلَ لإقامة الحجَّة وقَطْع العذر.
فلا يقول أحد: لم يبلغني شيء! الحمد لله، الآن نرى في مشَارق الأرض ومغاربها كلٌّ قد سمع بدين الإسلام، فحجَّة الله قامت عليهم.
والواجب على كلِّ أنسيٍّ وجنيٍّ في العالَم أن يسألَ عن الحقِّ ويبحث عنه، فإذا أعرض فإنَّه كافر، وحتى لو لم يُعرِض وبقِيَ على حالِه ولم يدخل في الإسلام فهو كافر أيضًا، ولكن حجَّة الله بلغته، وهو الذي فرَّطَ.
قال: (وَقَالَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ النَّارِ: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إنْ أَنْتُمْ إلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ﴾، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِي النَّارِ فَوْجٌ أَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ جَاءَهُمْ النَّذِيرُ فَكَذَّبُوهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُلْقَى فِيهَا فَوْجٌ إلَّا مَنْ كَذَّبَ النَّذِيرَ).
فهؤلاء الذين بلَغهم أنَّ رسولًا أُرسِلَ وهو محمد بن عبد الله -صَلوات الله وسَلامه عليه- ولم يسألوا ولم يتَّبعوه، فقد جاءَهم النَّذير وأبوا -نسألُ الله العافية والسَّلامة.
ثم قال: (وَقَالَ تَعَالَى فِي خِطَابِهِ لإبليس ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَمْلَؤُهَا بإبليس وَمَنْ اتَّبَعَهُ; فَإِذَا مُلِئَتْ بِهِمْ لَمْ يَدْخُلْهَا غَيْرُهُمْ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ إلَّا مَنْ تَبِعَ الشَّيْطَانَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، فَإِنَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَتَّبِعْ الشَّيْطَانَ وَلَمْ يَكُنْ مُذْنِبًا، وَمَا تَقَدَّمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِالرُّسُلِ).
وقد قَطَعَ الله -عزَّ وجلَّ- المعاذير، فالحمدُ لله أنَّ حجَّة الله قد بلغَت، ولكن قد يوجد مثل الطِّفل الصَّغير مِن أطفالِ الكفَّار يموت، أو الهَرِم، أو المجنون، أو الذي لم تبلغه أي دعوة كالذي يعيش في الأدغال ونحو ذلك؛ فهؤلاء يُقال عنهم أهل الفترة، فهم ليسوا مسلمين، وأصح الأقوال فيهم كما قال أهل العلم أنَّهم يُمتَحَنون يوم القيامة ويُختَبَرون، فمَن أطاعَ الله دخل الجنَّة، ومن عصَاه دخل النَّار.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَصْلٌ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُؤْمِنُ بِالرُّسُلِ إيمَانًا مُجْمَلًا، وَأَمَّا الْإِيمَانُ الْمُفَصَّلُ فَيَكُونُ قَدْ بَلَغَهُ كَثِيرٌ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَلَمْ يَبْلُغْهُ بَعْضُ ذَلِكَ فَيُؤْمِنُ بِمَا بَلَغَهُ عَنْ الرُّسُلِ، وَمَا لَمْ يَبْلُغْهُ لَمْ يَعْرِفْهُ وَلَوْ بَلَغَهُ لَآمَنَ بِهِ، وَلَكِنْ آمَنَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ إيمَانًا مُجْمَلًا فَهَذَا إذَا عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِهِ مَعَ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ، وَمَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْهُ مَعْرِفَتَهُ وَالْإِيمَانُ الْمُفَصَّلُ بِهِ، فَلَا يُعَذِّبُهُ عَلَى تَرْكِهِ; لَكِنْ يَفُوتُهُ مِنْ كَمَالِ وِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ مَا فَاتَهُ مِنْ ذَلِكَ)}.
هذا مِن التَّفاضل بينَ أولياء الله والمؤمنين؛ وهو أنَّ بعض المؤمنين لم يبلغه العلم بسبب بُعده أو بسببٍ مِن الأسباب الأخرى، فيؤمن إيمانًا مجملًا، وهناك مَن يؤمن إيمانًا مفصَّلًا، فيُدرك العلم والأحاديث، ويعرف تَفاصيل الشَّريعة فيعمل بها بما علَّمه الله؛ فهذا أكمل.
والثَّاني الذي آمن إيمانًا مُجملًا سَلِمَ مِن عَذَابِ الله، وله نصيب مِنَ الولاية والتَّقوى والإيمان، ولكنَّه ليس مثل الأوَّل.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَمَنْ عَلِمَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ وَآمَنَ بِهِ إيمَانًا مُفَصَّلًا وَعَمِلَ بِهِ؛ فَهُوَ أَكْمَلُ إيمَانًا وَوِلَايَةً لِلَّهِ مِمَّنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ مُفَصَّلًا وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، وَكِلَاهُمَا وَلِيٌّ لِلَّهِ تَعَالَى)}.
كلاهما وليٌّ ما دام أنَّهما آمنوا واتَّقوا، ولكن تَفاضلوا في العلم والعمل.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَالْجَنَّةُ دَرَجَاتٌ مُتَفَاضِلَةٌ تَفَاضُلًا عَظِيمًا وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ فِي تِلْكَ الدَّرَجَاتِ بِحَسَبِ إيمَانِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ. قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلً﴾، فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ يَمُدُّ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ مِنْ عَطَائِهِ، وَأَنَّ عَطَاءَهُ مَا كَانَ مَحْظُورًا مِنْ بَرٍّ وَلَا فَاجِرٍ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلً﴾.
فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ أَهْلَ الْآخِرَةِ يَتَفَاضَلُونَ فِيهَا أَكْثَرُ مِمَّا يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ دَرَجَاتِهَا أَكْبَرُ مِنْ دَرَجَاتِ الدُّنْيَ)
}.
الشَّاهد قوله تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلً﴾، فكما أنَّ النَّاس في الدُّنيا يتفَاضَلون؛ ففي الآخرة يتفَاضلون تفَاضلًا أكبرَ ممَّا تفاضلوه في الدُّنيا.
قال: (فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ أَهْلَ الْآخِرَةِ يَتَفَاضَلُونَ فِيهَا أَكْثَرُ مِمَّا يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ دَرَجَاتِهَا أَكْبَرُ مِنْ دَرَجَاتِ الدُّنْيَ).
إذن؛ الأولياء يتفَاضَلون تفاضلًا عظيمًا جدًّا في الدُّنيا في أعمالهم، ويتفَاضَلون في الآخرة أكبرَ مِن تفاضلهم في الدُّنيا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقَدْ بَيَّنَ  تَفَاضُلَ أَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ كَتَفَاضُلِ سَائِرِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورً﴾.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك، وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَن، وَإِنْ أَصَابَك شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ».
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَمْرِو بْنِ العاص -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ». وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمً﴾.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾)
}.
هذه المواضع يُبيِّنُ فيها -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنَّ التَّفاضل عظيم جدًّا.
وتتضمَّن هذه النُّصوصُ الشَّرعيَّة بيان أقسام وأنواع المؤمنين، وأنَّهم درجات ومراتب، وعلى أعمالٍ متنوِّعة، فنتدبَّر هذه النُّصوص الآن:
بدأ الشَّيخ بمقدِّمَةٍ حتى يُمهِّدَ، فقال: (وَقَدْ بَيَّنَ تَفَاضُلَ أَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ كَتَفَاضُلِ سَائِرِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ)، ثم ذكر آيات تتعلق بتفضيل بعض الرُّسل على بعضٍ، ولكن كما النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ»، فالتَّفضيل بين الأنبياء ليس للتعصُّبِ أو للتَّنقُّص من بعضهم، وإنَّما لبيان ما أكرمَ الله به بعضهم، وكلُّهم قد أكرمَهم الله بالنُّبوَّة والرِّسالة.
ثم ذكر حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ»، يعني: أنَّ المؤمِنَ القوي في إيمانه خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضَّعيف في إيمانه.
ثم قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ»، فقوي الإيمان فيه خير، وضعيف الإيمان فيه خير.
إذن لا تَحقِر المؤمن إذا كان ناقصًا في العمل ولم يجتهد فيه، أو وقع في بعض التَّقصير.
وفي هذا تنبيه على أنَّ بعض النَّاس يدَّعي أنَّ هؤلاء أولياء، وأنَّ هؤلاء مسلمون وليسوا بأولياء؛ يقول النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ».
ثم قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك، وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَن»، فيه الأمر بالأخذ بالأسباب.
ثم قال: «وَإِنْ أَصَابَك شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»، يجوز «قَدَر» بالتَّخفيف، ويجوز «قدَّرَ» بالتَّشديد، والمشهور «قَدَرُ».
ثم ذكر حديث أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَمْرِو بْنِ العاص -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»، فالقضاة والحكَّام يدخلون في قضيَّة التَّفاضل، وكلَّهم أولياء لله، لأنَّ هذا له أجر وهذا له أجران.
ثم ذكر في الإنفاق قوله اللَّهِ تَعَالَى: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ﴾ هؤلاء الصَّحابة الذين أنفقوا وأسلموا قبل صلح الحديبية.
قال: ﴿أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾، إذن الأولياء وأهل الإيمان يتفاضلون.
ثم ذكر الآية التي فيها ذكر المجاهدين والقاعدين عن الجهاد لعذر فقَالَ تَعَالَى: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾.
ثم ذكر في سورة التَّوبة أهلَ الإيمانِ والهجرةِ والجهاد ِفي سبيلِ الله بأموالهم وأنفسِهم.
ثمَّ ذكرَ أهلَ القيامِ في سورة الزُّمر، فقال: ﴿أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾، يجمعونَ بين الخوفِ والرَّجاء.
ثم ذكر أهل العلم في قوله تَعَالَى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾، فكل من هؤلاء يعتبرون من أولياء الله -عزَّ وجلَّ- على تفاضلٍ بينهم.
نسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يوفقنا وجميع إخواننا المؤمنين لسلوك الصراط المستقيم، ولأن نكون على ما يُحبه الله ويرضاه، ونسأل الله أن يغفر لنا ذنوبنا، وأن يوفقنا للتوبة النَّصوح، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك