الدرس الرابع

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2549 12
الدرس الرابع

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور: فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة الكرام.
 
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
قرأنا -ولله الحمد- جملةً كبيرةً في الفصل الذي عقده شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب "الْفُرْقَانُ بينَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ" في وجوب التَّفريق بينَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، وذكر الأدلَّة من القرآن، وذكرَ من السُّنَّة ما يدلُّ على ذلك.
ثمَّ بيَّنَ أنَّ أولياء الرحمن المعروفين الذين وصفهم -عزَّ وَجلَّ- قد عُرِفُوا بما ميَّزَهم الله به من الإيمان والتَّقوى، ولكن هناك مَن ادَّعى الولاية وهو كاذب، وأكذبه الله -عزَّ وَجلَّ- ككفرة اليهود والنَّصارى والمشركين.
ثم ذكر أنَّ من المنافقينَ في هذه الأمَّة مَن يدَّعي ذلك وهو على نفاقٍ وضلال، وعنده من الأمور المُخرجَة من الملَّة ما ذكره الشَّيخ أمثلةً على ذلك، ثمَّ ذكر بعض الشُّبهات لهؤلاء، مثل: ظنّهم أنَّ الصُّفَّة التي كانت في المسجد النَّبوي كان أهلها الذين يسكنونها على نحوٍ مُعيَّنٍ وأنَّهم كانوا يُوحَى إليهم؛ وكل هذا من الخزعبلات والخُرافات والأكاذيب!
وذكر أيضًا نصوصًا أخرى يحتجُّ بها هؤلاء، وبيَّنَ عدمَ صحَّتها وعدم ثبوتها، وختم هذا الكلام بتلخيصِ أنَّ مَن يُقر رسالة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الظَّاهر قد يكونُ منافقًا، وهذا مثل ما حصلَ من كفرة اليهود والنَّصارى، وكذلك المشركين.
فالمقصود: أنَّ الشيخ بيَّنَ أنَّ أولياء الله -عزَّ وَجلَّ- هم المعروفون باتِّباع الكتاب والسُّنَّة، وبالإيمان بأركان الإيمان السِّتَّة، وباتِّباع الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الظَّاهر وفي الباطن.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ لَوْ بَلَغَ الرَّجُلُ فِي الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْعِلْمِ مَا بَلَغَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ وَلَا وَلِيٍّ لِلَّهِ تَعَالَى، كَالْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَعُبَّادِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالتُّرْكِ وَالْهِنْدِ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ كَانَ مِنْ حُكَمَاءِ الْهِنْدِ وَالتُّرْكِ وَلَهُ عِلْمٌ أَوْ زُهْدٌ وَعِبَادَةٌ فِي دِينِهِ، وَلَيْسَ مُؤْمِنًا بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ؛ فَهُوَ كَافِرٌ عَدُوٌّ لِلَّهِ، وَإِنْ ظَنَّ طَائِفَةٌ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ كَمَا كَانَ حُكَمَاءُ الْفَرَسِ مِنْ الْمَجُوسِ كُفَّارًا مَجُوسً)}.
يقول -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: إنَّه ليس من علامات الولاية أنَّ الرَّجل يقتصر على الزُّهد في الدنيا والانقطاع للتعبُّد، والانشغال بالعلم؛ فإنَّ هذه الأمور لا تكفي، ولابدَّ من اتِّباع الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والإيمان به، فيوجد في كفرة اليهود والنَّصارى مَن هو زاهد في الدُّنيا ومتقشِّف، وعنده أخلاق حسَنة، ويوجد من كفرة الهند، ومشركي العرب، ومشركي التُّرك، وبلاد التُّرك قديما تُطلق على ما وراء النَّهر، فروسيا وما تفرع عنها تسمى تُرك؛ فيوجد في هؤلاء مَن هو مُتزهِّد ومتقشِّف ومتبتِّل ومنقطع للعبادة، وبعضهم لا يأكل من الطَّعام كثيرًا، وربما يصوم الأيام ذوات العدد الكثيرة، حتى أنه لا يشرب، فيتهوَّل بعض الناس من هؤلاء، ويتعجبون من طيبتهم ومن أخلاقهم، ويظنُّونَ أنَّهم على هدًى أو أنَّهم أولياء؛ فبيَّنَ الشَّيخ أنَّ هؤلاء كفَّار ما داموا كذبوا الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يتَّبعوه، ولم يدخلوا في دين الإسلام؛ فهم كفَّارٌ أعداءٌ لله -عزَّ وَجلَّ- حتى لو ظنَّ مَن ظنَّ أنَّهم أولياء.
ولهذا فإنَّ بعض الجهلة من المسلمين يأتي بكلمات لهؤلاء الكَفرة، ويقول: "قال الحكيم فلان...، قال الفيلسوف فلان...، وهذا الفيلسوف له أخلاق وله كذا وكذا..."، ويُحاول أن يُروِّج كلماته وأحواله التي فيها زهد وتقشُّف، ويبهر المتابعين بها، وهذا من جهل وضلال هؤلاء الذين يروِّجون لهؤلاء الكفرة؛ لأنَّ التَّرويج لهؤلاء وجعلهم قادة وزعماء، ودعوة الناس لتخليدهم والتَّأسِّي بهم ضلال مبين، وإفكٌ وافتراء، فهؤلاء الكفار من أهل النار، ولو كان في أخلاقهم طيب أو زهدٌ، أو فيها ما يبهر بعض الناس.
والله -عزَّ وَجلَّ- بيَّنَ أهلَ النَّار من أهل الجنَّة، وبيَّنَ أنَّ مَن أطاع الرَّسول فقد أطاع الله، ومَن عصى الرسول فقد عصى الله، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدً﴾ [الجن: 23]، حتى لو كان في تعامله إحسانٌ؛ فهذا الإحسان وهذه الأخلاق الطِّيبَة يُجازى به في الدُّنيا بما أنعم الله عليه من نعمة البصر والسَّمع، وغير ذلك من النِّعَم.
ولهذا فإنَّ أبا طالب عم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان من أكثر الناس دفاعًا عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو القائل:

وَلَقَــدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِيــــنَ مُحَمَّدٍ ... مِــــنْ خَيْــــرِ أَدْيَانِ البَرِيَّـــــةِ دِينَـــا
لَوْلاَ المَلامَةُ أَو حَذَارُ مَسَبَّـــةٍ ... لَوَجَـدْتَني سَمْحـــًا بِــــذَاكَ مُبِينَـــــــا
فَوَاللَهِ لَــولا أَن أَجيءَ بِسُبّــــَةٍ ... تَجُـرُّ عَلى أَشياخِنـــا في المَحافِـــــلِ
لَكُنّا اتّبَعناهُ عَلـى كُـلِّ حـالَـــةٍ ... مِنَ الدَهرِ جدّاً غَيرَ قَولِ التَهــــــازُلِ
لَقَد عَلِموا أَنَّ اِبنَنا لا مُكَذـــَّبٌ ... لَدَيهــــــــــــم وَلا يُعنى بِقَولِ الأَباطِلِ

فهذا أبو طالب يُبيِّن أنَّهم يعلمون أنَّ محمدًا ليس بمكَذَّب، بل هو صادق، وكان أبو طالب يُدافع عنه، وكان يقول:
واللهِ لن يَصلوا إليكَ بجمعِهمْ ... حتى أُوَسَّدَ في الترابِ دَفينا.
ومع ذلك كلِّه أبى أن يقول: "لا إله إلا الله"! فأخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه في النَّار، وأنَّ له نعلان من نارٍ يغلي منهما دماغه، وهو أخفُّ أهلَ النَّار عذابًا ويرى أنَّه أشدُّهم عذابًا.
فيوجد في الكفَّار مَن له أخلاق وله إحسان، ولكن ما دام أنَّه لم يتَّبع الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهو من أهل النار، وهو عدوٌّ لله -عزَّ وَجلَّ- ولكن التَّعامل مع الكفار عمومًا له أحكام شرعيَّة أخرى، أمَّا فيما يتعلَّق بأنَّه وليٌّ لله فلا! وهؤلاء هم أعداء الله ما دام أنَّهم لم يُسلموا ولم يدخلوا في الإسلام.
قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ حُكَمَاءُ الْيُونَانِ مِثْلُ أَرِسْطُو وَأَمْثَالِهِ، كَانُوا مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَالْكَوَاكِبَ، وَكَانَ أَرِسْطُو قَبْلَ الْمَسِيحِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَ وَزِيرًا لِلْإِسْكَنْدَرِ بْنِ فَيَلْبَس الْمَقْدُونِيِّ، وَهُوَ الَّذِي تُؤَرِّخُ بِهِ تَوَارِيخُ الرُّومِ وَالْيُونَانِ، وَتُؤَرِّخُ بِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ; وَلَيْسَ هَذَا هُوَ ذُو الْقَرْنَيْنِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ كَمَا يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ أَرِسْطُو كَانَ وَزِيرًا لِذِي الْقَرْنَيْنِ، لَمَّا رَأَوْا أَنَّ ذَاكَ اسْمُهُ الْإِسْكَنْدَرُ، وَهَذَا قَدْ يُسَمَّى بِالْإِسْكَنْدَرِ، ظَنُّوا أَنَّ هَذَا ذَاكَ كَمَا يَظُنُّهُ ابْنُ سِينَا وَطَائِفَةٌ مَعَهُ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ; بَلْ هَذَا الْإِسْكَنْدَرُ الْمُشْرِكُ الَّذِي قَدْ كَانَ أَرِسْطُو وَزِيرَهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ ذَاكَ، وَلَمْ يَبْنِ هَذَا السَّدَّ، وَلَا وَصَلَ إلَى بِلَادِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَهَذَا الْإِسْكَنْدَرُ الَّذِي كَانَ أَرِسْطُو مِنْ وُزَرَائِهِ يُؤَرَّخُ لَهُ تَارِيخُ الرُّومِ الْمَعْرُوفِ)}.
يعني أنَّ اليونان عندهم حكماء كما عند عند الهند والتُّرك، ويُسمون الفلاسفة.
وأصل كلمة فلاسفة: "فيلا سوفا"، فيلا: محب. سوفا: الحكمة.
وكل أمَّة من الأمم كالهند والتُّرك والعرب واليونان والرُّوم والحبَشَة، وغيرهم؛ كل أمم الأرض عندهم حُكماء وعقلاء، ففي اليونان يسمون الحكماء "فلاسفة"، مثل: أرسطو طاليس، ويسميه أتباعه "المعلم الأوَّل"، وهو أساس الإلحاد في الفلسفة، فهو كبير الملاحدة.
يقول الشيخ عنه: إنه مشرك يعبد الأصنام ويعبد الكواكب، ويذكر في كتبه أنَّ الآلهة سبعة وأربعون، وكان يعبد الكواكب ويُناجيها، ويطلب منها، ويظنَّ أنَّها هي التي تدبر الكون؛ هذا وهو يدعو إلى المقالات الفاسدة التي فيها تكذيب الرِّسالات، وإنكار الكتب، وإنكار البعث، والقول بقِدَم العالم.
وأهل تلك الدِّيار يسمُّون الملك إذا تولَّى عندهم "الإسكندر"، فهذا وصفٌ وليس اسمًا لشخص، ومن هنا حصل غلطٌ كبيرٌ نبَّه عليه الشَّيخ ابن تيمية، وهو: أنَّهم ظنُّوا أنَّ ذا القرنين -رحمه الله- وهو مَلكٌ صالح ذكره الله -عزَّ وَجلَّ- في سورة الكهف؛ فظنَّ كثير من النَّاس أنَّه الإسكندر المقدوني الذي كان أرسطو وزيرًا له، وبيَّن الشَّيخ أنَّ هذا الظَّن فاسد، وأنَّ أرسطو الفيلسوف كان قبل بعث المسيح عيسى -عليه السلام- بنحو ثلاثمائة سنة، وكان الملك الذي تولَّى الملك في زمن أرسطو الفيلسوف هو الإسكندر بن فليبس المقدوني، وهذا هو الذي تؤرَّخ به تواريخ الرُّوم، وتؤرخ به اليهود والنَّصارى تواريخهم المعروفة.
وذو القرنين أيضًا يُقال له "الإسكندر"؛ لأنَّ كلَّ مَن تولَّى المُلك يُسمَّى الإسكندر عند هؤلاء، كما أنَّ الرُّوم يسمون الملك عندهم قيصر، والفرس يسمونه كسرى، والحبشة يسمونه بالنَّجاشي.
إذن "الإسكندر" وصف وليس اسم، فلما رأوا أنَّ الملك اسمه إسكندر بن فيليبس المقدوني؛ ظنوا أنَّه هو الإسكندر ذو القرنين، وليس هذا هو ذاك، بل بينهما أكثر من ألفي سنة، فإسكندر ذو القرنين -رحمه الله- ملك صالح مؤمن، ذكر الله شأنه في سورة الكف، أمَّا الإسكندر ابن فيلبس المقدوني الذي بنى الإسكندريَّة هذا مشرك وكافر، وكان ارسطو وزيره، أمَّا ذو القرنين فكان مؤمنًا، والإسكندر ابن فيلبس لم يَبْنِ السَّدَّ ولم يصل إلى يأجوج ومأجوج في أقاصي الأرض في المشرق.
والمقصود من هذا: بيان ضلالة أرسطو، وأنَّه لا يُعتد به ولا هو ولا أتباعه أولياء -عزَّ وَجلَّ- بل هم أعداء لله -عزَّ وَجلَّ- وهم رأس الإلحاد، وأعداء الرُّسل والرِّسالات.
فهذا ما يتعلق بهذه الجملة، قال: (وَكَذَلِكَ حُكَمَاءُ الْيُونَانِ مِثْلُ أَرِسْطُو وَأَمْثَالِهِ، كَانُوا مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَالْكَوَاكِبَ)، ومن الأشياء العجيبة أنَّ مَن يُظهر الإلحاد يقع في الشِّرك، وهذا قديمًا وحديثًا، فأوَّل وأعلى وأشهر مُلحد على وجه التَّاريخ هو فرعون، فإنَّ فرعونَ الذي أرسل الله -عزَّ وَجلَّ- موسى إلى بني إسرائيل في زمنه أظهر الإلحاد وقال الله تعالى على لسان: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبً﴾ [غافر 36، 37]، وقال للناس: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: 38]، وقال: ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ﴾ [النازعات: 24].
فهذا المُلحد الذي يُظهر إلحاده وإنكارَه للخالق في نفس المقام كان يعبد غيرَ الله، قال تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ﴾ [الأعراف: 127]، قال المفسرون: كان عنده صنم في السِّرِّ يعبده في بيته.
وهذه المسألة مسألة مهمَّة! وهي أنَّ الملاحدة مشركون، وبعض النَّاس يظنون أنَّ هؤلاء إذا أنكروا الخالق وأظهروا الإلحاد أنَّهم لا يعبدون شيئًا؛ بل يعبدون غيرَ الله، شاؤوا أم أبوا، وجاء في القرآن الكريم: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ [يس 60، 61]، فمن استكبر عن عبادة الله فقد عبدَ الشيطان، وأكثر ما يُبيِّن لك هذا هو حالُ فرعونَ -كما تقدَّم- وحال قلب الإنسان، الذي فيه فقرٌ وافتقار وعبوديَّة، فإذا صرفها إلى الله وافتقر إليه وعبده صارَ موحِّدًا، وإذا لم يصرفها إلى الله صارَ إمَّا مشركًا أو مستكبرًا، والمستكبرُ مشرك أيضًا، ولهذا وصف الله -عزَّ وَجلَّ- فرعون بالشِّرك في مواضع في القرآن.
وهنا موضع من كتاب "العبوديَّة": لشيخ الإسلام ابن تيمية، يقول فيه -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكل من استكبر عَن عبَادَة الله لَا بُد أَن يعبد غَيره)، ثم قال: (عبدا لذَلِك المُرَاد المحبوب إِمَّا المَال وَإِمَّا الجاه وَإِمَّا الصُّور وَإِمَّا مَا يَتَّخِذهُ إِلَهًا من دون الله كَالشَّمْسِ وَالْقَمَر وَالْكَوَاكِب والأوثان)، ثم ذكر حالَ فرعونَ واستكباره وتكذيبه وقال: (وَقد وصف فِرْعَوْن بالشرك فِي قَوْله : ﴿وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ﴾ [127 الْأَعْرَاف]، بل الاستقراء يدل على أَنه كلما كَانَ الرَّجل أعظم استكبارًا عَن عبَادَة الله كَانَ أعظم إشراكًا بِاللَّه لِأَنَّهُ كلما استكبر عَن عبَادَة الله ازْدَادَ فقرا وحاجة إِلَى المُرَاد المحبوب، الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود مَقْصُود الْقلب بِالْقَصْدِ الأول فَيكون مُشْركًا بِمَا استعبده من ذَلِك).
ولما ترى الآن كفرة الملاحدة الذين انتشروا في هذا العصر الحديث؛ إذا أظهروا إلحادهم فهم في الحقيقة يعبدون إمَّا الصُّوَر أو المال، أو يُعظِّمون التَّماثيل والأوثان، وتسمعون عن بعض الطوائف التي تنتسب للهيئات مثل: الأمم المتَّحدة وغيرها ومَن عندهم يونسكو؛ تجدهم حريصين كلَّ الحرصِ على جمع الأصنام، وتفقد كلِّ ما يُعبَد من دون الله، وتعظيمه وحمايته؛ لأنَّهم أعظم النَّاس شركًا، وأغلب الأفكار الأرضيَّة الموجودة اليوم كالعلمانيَّة والليبراليَّة والشُّيوعيَّة والاشتراكيَّة ترجع إلى مفاهيمٍ طرحَها أولئك الغربيُّون أو غيرهم، وترجع أصولها إلى هذا المشرك أرسطو، ولكن هذا المسمَّى بأرسطو جاء كثيرٌ من الفلاسفة وحسَّنوا كلامَه وزيَّنوه، ولكن كلامهم كلهم من أوَّلهم إلى آخرهم لا يستقيم على طريقةٍ واحدةٍ، ولا على قانونٍ واحدٍ، وإنَّما يرجعون إلى أصلٍ واحدٍ وهو الشَّك، ونحن لا نتكلم عن الفلسفة المتعلِّقة بالرِّياضيَّات ولا بالطَّبيعيَّات؛ لأنَّ الفلسفة هي الحكمة -كما تقدَّم- ولكنَّ الفلسفة تدخل في أمورٍ ثلاثة:
- الأمور الرِّياضيَّة، مثل الحساب والجبر، وهذا يُدرَّس وهو علم نافع، وليس مختصًّا بالفلاسفة، ولكنه من الأشياء التي درسوها.
- العلوم الطَّبيعية، مثل الطِّب والفيزياء والكيمياء والأحياء، وعلم أجزاء الجسم، وعلم النبات، وغيره، وهذا علم ليس مختصًّا بهم، وهو ممَّا يدرسونه، وعند بعضهم إتقان قديمًا وحديثًا، ولكن ليس هذا مختصًّا بهم.
وإنَّما الكلام الآن عن الفلسفة في الأمور الغيبية والإلهيَّة، ولهذا فهم متَّفقونَ على الشَّك ونشره، فيقول زعيمهم أرسطو ومَن تبعه: "من أراد الوصول إلى المعارف الإلهية فليَمحُ من قلبه جميع العلوم والاعتقادات، وليَسعَ في إزالتها من قلبه بحسب مقدوره، وليشك في جميع الأشياء، ثم ليكتشف بعقله ورأيه وليبحث".
فهم يأمرونه أن يشك في كل شيءٍ، ويجعلونَ بدايات تكوينه والأدلَّة عن طريقهم، فصار حقيقة الأمر عندهم هو أن ينزعوا الشَّخصَ من معتقداته فيرمونه على معتقداتهم، ولكن احتالوا عليه بأن صوَّروا له أن يشك في الأشياء، ثم يعطونه سمومهم وقوانينهم وقواعدهم في الأمور الغيبية؛ وبالتَّالي فصَلَوه عن الوحي، والوحي هو أصل الهُدَى.
والمتأخِّرون من الملاحدة اليوم والذين تنتشر مقالاتهم في الإنترنت ووسائل التَّواصل وراء كثير منهم اليهود، كما ذكر بعض الباحثين في بحثٍ نُشرَ في مجلة البحوث الإسلاميَّة قديمًا للأستاذ الدكتور عبد الحليم محمود، وهذا البحث ذكر أنَّه ذهب للدِّراسة في فرنسا، وأنَّه بدأ يسمع من هؤلاء في ما يُسمَّى بعلم الاجتماع وعلم الأخلاق أشياء يُريدون أن يعتقد الناس أنَّ الرُّسل والأنبياء ليس عندهم شيء من الله، وليس عندهم رسالة من السَّماء، وإنَّما هم بشرٌ مثلك!
واربط هذا بالكلام الذي قرأناه في الدَّرس الماضي، لمَّا نقل الشَّيخ عن بعض المنافقين أنَّهم قالوا: إنَّ الرَّسول حاله كحال ملكٍ زعيم استطاع أن يسوس النَّاسَ برأيه، وأنَّ النُّبوَّة مكتسبة، وأنَّه فقط تميَّزَ عن الناس بذكائه وعقله وحسنِ تصرُّفه ونحو ذلك.
فقال هذا الباحث: بدأتُ أنظر في الأمر، وإذا بمجموعة من الأساتذة هم يهود!
وفي خلاصة المقال ذكر أنَّهم يُريدون هدم القيَم والأخلاق والدِّين في المجتمعات عمومًا، ليس في مجتمع دونما مجتمع!
ولكننا الآن نراهم يركِّزونَ على بلاد الإسلام بشكلٍ كبيرٍ، وإذا جاء الشَّابُّ أو الشَّابَّةُ أو الغِّرُّ ورأى كميَّة هؤلاء الكتَّاب ورأى التَّرويج في الإنترنت ووسائل التَّواصل؛ انبهرَ وظنَّ أنَّ عندهم شيء، وليسوا بشيءٍ!
فالمتأخِّرون من الملاحدة صَاروا على نهجِ أسلافهم، ومَن نراهم الآن من الملاحدة هم في الحقيقة ممثلون حقيقيُّون عن الفلاسفة الأوائل، وقد حملوا راية الإلحاد، وانتصروا لباطل أرسطو وأتباعه، وإن تحايلوا ومكروا بتغيير بعض العبارات وتزيينها، وكان هناك تأثير لبعض المنحرفين من المدَّعين للإسلام والمُظهرين له، ولهذا فإنَّ ابن القيم في كتابه "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" في المجلد الثَّاني يقول عن الفلاسفة: إنَّ كبارهم الذين كانوا قبل أرسطو هم أحسن منه في تعظيم الرُّسل والشَّرائع، فقال: "وأمَّا أرسطو فكان مشركًا يعبد الأصنام".
فابن تيمية وابن القيم والأئمَّة خَبَروا هذا الرَّجل وأمثاله من كتبه، والدكتور خالد علال أيضًا له بحوث قيمة في نقد هذه الشَّخصيَّة وتتبُّع كلامه.
ونريد أن نصل إلى نتيجة: أنَّ هؤلاء وإن أظهروا الإلحاد إلا أنَّهم مشركون وثنيُّونَ يَعبدون الأصنام، ويعبدون الكواكب، وأنتَ أيُّها الشاب -وأنتِ أيتها الشَّابة- لا تظنَّ أنَّ هذه حريَّة، بل هذا رقٌّ وعبوديَّة للشيطان وأوليائه، فكيف تهرب من عبوديَّة الخالق الذي أوجدكَ من عدمٍ، وعبوديَّة الذي يرزق ويُحيي ويُمين ويُدبر وتذهب إلى هذه المقالات الكاسدة الفاسدة الفاشلة الخاسرة الحاسرة، والتي قد ثبت بطلانها، وقد تبرَّأ منها أصحابها، حتى الأوربيين الذين تقدموا في الصِّناعات والله ما تقدَّموا في هذه الصِّناعات بناءً على هذه المقالات، ولا على النَّهج الليبرالي، ولا على النَّهج العلماني، ولا على النَّهج الفلسفي؛ إنَّما تقدَّموا في الصِّناعات لمَّا أخذوا بمبدأ التَّجربة، فتركوا منهج الاستقراء والاعتماد عليه وحده، وهذا الأمر قد سبقهم إليه المسلمون في كثيرٍ من الأشياء، وهم يعرفون هذا، والمنهج الإسلامي -والحمد لله- لم ياتِ بمعارضة التَّجارب وما ينفع العباد، ولكن أتى بما يُخالف الشَّرع، فيمنعه؛ لأنَّ فيه مضرَّة إمَّا آنيَّة أو لاحقة، وإمَّا ظاهرة أو خفيَّة.
ويقول الشيخ: (فحقيقة ما كان عليه هذا المعلم لأتباعه: الكفر بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله واليوم الآخر، ودرج على أثره أتباعه من الملاحدة، ممن يتستر باتِّباع الرُّسل، وهو منحل من كل ما جاءوا به، وأتباعه يعظمونه فوق ما يعظم به الأنبياء).
وابن تيمية لما ذكر أرسطو هنا ذكره لأنَّ أتباعه ممَّن يدَّعي الإسلام يعظِّمونَه ويجعلونه "المعلَّم الأوَّل".
قال ابن القيم: (وأتباعه يعظمونه فوق ما يعظم به الأنبياء، ويرون عرض ما جاءت به الأنبياء على كلامه فما وافقه منها قلبوه، وما خالفه لم يعبأوا به شيئا، ويسمونه المعلم الأول).
ثم قال: (وقد بين نظَّار الإسلام فساد هذا الميزان وعوجه، وتعويجه للعقول، وتخبيطه للأذهان. وصنفوا فى رده وتهافته كثيرًا، وآخر مَن صنَّف فى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، ألف فى رده وإبطاله كتابين، كبيرًا، وصغيرً)، ولعلَّه يُريد بالكتاب الصَّغير "نقد المنطق"، وقصد بالكتاب الكبير "درء تعارض العقل والنقل"، وكلاهما مطبوع ومتداول.
ثم ذكرَ أنَّهم أهل زندقة وإلحاد، وأحببتُ أنَّ الإخوة الكرام والأخوات يستفيدوا من كلام ابن القيم في إغاثة اللهفان عن هذا المجرم الذي يُعظَّم قديمًا وحديثًا.
والحافظ ابن الصَّلاح[12] من علماء الإسلام الكبار يقول: "الفلسفة أسُّ السَّفهِ والانحلال"، ومراد العلماء بمصطلح الفلسفة: العلم الذي يتكلَّم في الغيبيات والإلاهيات، وليس مرادهم الرياضيات ولا العلوم النَّافعة، ولا العلوم الطَّبيعيَّة، فهذه متَّفقٌ على أنَّه يُستفاد منها -ولله الحمد- ولكن الكلام في الغيب وفي الرسالة وأصل والوجود، والكلام في البعث بعدَ الموت؛ هذا ليس لهؤلاء الجهلة.
قال ابن الصلاح: "الْفَلْسَفَةُ أُسُّ السَّفَهِ وَالِانْحِلَالِ، وَمَادَّةُ الْحَيْرَةِ وَالضَّلَالِ، وَمَثَارُ الزَّيْغِ وَالزَّنْدَقَةِ، وَمَنْ تَفَلْسَفَ، عَمِيَتْ بَصِيرَتُهُ عَنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ الْمُؤَيَّدَةِ بِالْبَرَاهِينِ، وَمَنْ تَلَبَّسَ بِهَا، قَارَنَهُ الْخِذْلَانُ وَالْحِرْمَانُ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ، وَأُظْلِمَ قَلْبُهُ عَنْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
ثم قال مخاطبًا ولاة الأمور في زمنه: "فَالْوَاجِبُ عَلَى السُّلْطَانِ أَعَزَّهُ اللَّهُ أَنْ يَدْفَعَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ شَرَّ هَؤُلَاءِ الْمَشَائِيمِ، وَيُخْرِجَهُمْ مِنَ الْمَدَارِسِ وَيُبْعِدَهُمْ"؛ لأنَّ تدريس الفلسفة بهذا الوجه ضارٌّ بعقائد المسلمين وبأبنائهم وبناتهم.
قال ابن تيمية: (وَلِهَذَا مَا زَالَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ يَذُمُّونَهُ وَيَذُمُّونَ أَهْلَهُ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِهِ، حَتَّى رَأَيْت لِلْمُتَأَخِّرِينَ فُتْيَا فِيهَا خُطُوطُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِ زَمَانِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِيهَا كَلَامٌ عَظِيمٌ فِي تَحْرِيمِهِ وَعُقُوبَةِ أَهْلِهِ).
وأُضيفُ: أنَّ هؤلاء الفلاسفة هم سوسُ الملكِ وسوس الدُّوَل، فهم يُريدون إسقاط الدُّول، حتى أنَّ أحدَ الكبار من الفلاسفة المعاصرينَ يقول: "النظر العقلي المتحرر من كل قيد وسلطة تفرض عليه من الخارج، وقدرته على مُسايرة منطقه إلى أقصى آحاده، وإذاعة آرائه بالغاً ما بلغ وجه التباين بينها وبين أوضاع العرف، وعقائد الدين، ومقتضيات التقاليد، من غير أن تتصدى لمقاومتها أو التنكيل بها سلطة ما".
فهم يُريدون إسقاط الدُّول والمَلَكيَّات، والمناداة بالديموقراطيَّة الوهميَّة.
وأيضًا هناك فتوى للجنة الدَّائمة للبحوث العلميَّة والإفتاء في المملكة العربيَّة السُّعوديَّة، يقول مشايخنا فيها: "لا يجوز تعلُّم القوانين الوضعيَّة لتطبيقها مادامت مخالفة لشرعِ الله، وتجوز دراستها وتعلُّمها لبيانِ ما فيها من دخلٍ وانحرافٍ عن الحقِّ، ولبيانِ ما في الإسلامِ من العدلِ والاستقامة والصَّلاح، وما فيه من غنًى وكفاية لمصالح العباد، ولا يجوز لمسلم أن يدرس الفلسفة والقوانين الوضعيَّة ونحوهما إذا كان لا يقوى عن تمييز حقِّها عن باطلها؛ خشية الفتنة والانحراف عن الصِّراط المستقيم، ويجوز لم يهضمها ويقوَى على فهمها بعدض دراسة الكتاب والسُّنَّة ليُميِّز خبيثها من طيِّبها، وليُحقَّ الحقَّ ويُبطل الباطل ما لم يشغله ذلك عمَّا هو أوجب منه شرعًا.
وبهذا يُعلَم أنَّه لا يجوز تعميم تعليم ذلك في دورِ العلم ومعاهده، بل يكون لمَن تأهَّلَ له من الخواصِّ؛ ليقوموا بواجبهم الإسلامي من نُصرَةِ الحقِّ، ودحضِ الباطل".
إذن الفلاسفة ليسوا أولياء الله، وهؤلاء تكلَّم فيهم العلماء ونقضوهم، وبيَّنوا خطرهم، وهذا المسلم الفاسد لهؤلاء ينعِقُون دائمًا بالتَّقدُّمِ والتَّجديدِ والرُّقيِّ والعصريَّةِ، ونبذِ الماضي، وفي الحقيقة هم يذمُّون الرَّجعيَّة بما فيها الكتاب والسُّنَّة، ويُريدون التَّقدميَّة.
فحقيقة أمرهم هو ردُّ الكتاب والسُّنَّة، والاعتماد على العقل، ثم إنَّ هذا العقل الذي يعتمدون عليه أيُّ عقلٍ!!
ثم يقول بعضهم: نحدد الأمر حسب المصالح!! من الذي يُحدد! فالفاسق شارب الخمر يُريد أن يشرب الخمر ويقول هذا مصلحةٌ لي! والزَّاني -أعزكم الله- يريد الزنا كذلك، وقاطع الطريق يُريد قتل الناس وأخذ اموالهم وسلبها!!
فلا يُمكن أن نركن إلى عقول البشر لتحديدِ مصالحنا؛ بل عندنا كتاب الله وسنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بفهم الصالح وهو الصَّحابة، فهذا هو الميزان القسط العدل، وما لم يرد في الكتاب ولا في السُّنَّة؛ فهناك المصالح المرسلَة، وهنا يأتي دور المصالح لأهل العقل والحكمة من العلماء والنَّاصحين، الذين نظرهم نظرٌ مصلحيٌّ، وليس نظر تشهٍ.
فهذا تعليق على هذا الكلام؛ ليُبيِّن لك أن الفلاسفة ليسوا بأولياء الله، ولا يجوز تقديمهم ولا الاعتماد عليهم، ولا الاغترار ببعض حكمهم وأقوالهم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَفِي أَصْنَافِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمُشْرِكِي الْهِنْدِ وَالتُّرْكِ وَالْيُونَانِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ لَهُ اجْتِهَادٌ فِي الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ ; وَلَكِنْ لَيْسَ بِمُتَّبِعِ لِلرُّسُلِ، وَلَا يُؤْمِنُ بِمَا جَاءُوا بِهِ، وَلَا يُصَدِّقُهُمْ بِمَا أَخْبَرُوا بِهِ،وَلَا يُطِيعُهُمْ فِيمَا أَمَرُوا، فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ وَلَا أَوْلِيَاءٍ لِلَّهِ، وَهَؤُلَاءِ تَقْتَرِنُ بِهِمْ الشَّيَاطِينُ وَتَنْزِلُ عَلَيْهِمْ، فَيُكَاشِفُونَ النَّاسَ بِبَعْضِ الْأُمُورِ، وَلَهُمْ تَصَرُّفَاتٌ خَارِقَةٌ مِنْ جِنْسِ السِّحْرِ، وَهُمْ مِنْ جِنْسِ الْكُهَّانِ وَالسَّحَرَةِ الَّذِينَ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ الشَّيَاطِينُ. قَالَ تَعَالَى : ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ﴾.
وَهَؤُلَاءِ جَمِيعُهُمْ الَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إلَى الْمُكَاشَفَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ؛ إذَا لَمْ يَكُونُوا مُتَّبِعِينَ لِلرُّسُلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكْذِبُوا وَتُكَذِّبَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ مَا هُوَ إثْمٌ وَفُجُورٌ، مِثْلُ نَوْعٍ مِنْ الشِّرْكِ أَوْ الظُّلْمِ أَوْ الْفَوَاحِشِ أَوْ الْغُلُوِّ، أَوْ الْبِدَعِ فِي الْعِبَادَةِ؛ وَلِهَذَا تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمْ الشَّيَاطِينُ وَاقْتَرَنَتْ بِهِمْ، فَصَارُوا مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ لَا مِنْ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾، وَذِكْرُ الرَّحْمَنِ هُوَ: الذِّكْرُ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِثْلُ الْقُرْآنِ فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْقُرْآنِ وَيُصَدِّقْ خَبَرَهُ وَيَعْتَقِدْ وُجُوبَ أَمْرِهِ؛ فَقَدْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَيُقَيِّضُ لَهُ الشَّيْطَانَ فَيَقْتَرِنُ بِهِ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذِكْرَهُ هُوَ آيَاتُهُ الَّتِي أَنْزَلَهَا، وَلِهَذَا لَوْ ذَكَرَ الرَّجُلُ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- دَائِمًا لَيْلًا وَنَهَارًا مَعَ غَايَةِ الزُّهْدِ، وَعَبَدَهُ مُجْتَهِدًا فِي عِبَادَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لِذِكْرِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ -وَهُوَ الْقُرْآنُ- كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ وَلَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ أَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْمِلُهُ فِي الْهَوَاءِ. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ)
}.
قوله: (وَفِي أَصْنَافِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمُشْرِكِي الْهِنْدِ وَالتُّرْكِ وَالْيُونَانِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ لَهُ اجْتِهَادٌ فِي الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ).
المقصود بالعلم هنا: العلم بأمور الدنيا، أو العلم ببعض الحكم والمقولات ونحو ذلك من الزُّهد والعبادة.
قال: (وَلَكِنْ لَيْسَ بِمُتَّبِعِ لِلرُّسُلِ، وَلَا يُؤْمِنُ بِمَا جَاءُوا بِهِ، وَلَا يُصَدِّقُهُمْ بِمَا أَخْبَرُوا بِهِ، وَلَا يُطِيعُهُمْ فِيمَا أَمَرُوا، فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ وَلَا أَوْلِيَاءٍ لِلَّهِ)، فهذا تأكيدٌ للكلام السَّابق.
ثم قال: (وَهَؤُلَاءِ تَقْتَرِنُ بِهِمْ الشَّيَاطِينُ وَتَنْزِلُ عَلَيْهِمْ، فَيُكَاشِفُونَ النَّاسَ بِبَعْضِ الْأُمُورِ، وَلَهُمْ تَصَرُّفَاتٌ خَارِقَةٌ).
يعني: يحصل لهؤلاء أمور خارجة عن قدرة البشر أحيانًا، فلا تغترَّ بها أيُّها المسلم، فقد يقترن بهؤلاء الشَّياطين فيحصل لهم مُكاشَفة، والمراد بالمكاشفة هنا: العلم، مثل: أن يعلمَ شيئًا وقعَ في أرضٍ بعيدة، وليس هناك وسائل وصَّلت له هذه الملعومة، فيكون هذا قد كوشف.
وهذا لا يعني أنَّه وليٌّ؛ لأنَّ الشَّياطين تتنزَّل على بعض النَّاس، قال تعالى: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾.
استنبط الشيخ من الآية: أنَّ الأفَّاك -وهو كثير الكذب- لابدَّ أن يقعَ في إثمٍ وفواحش ومعاصي.
فكونهم يُكاشَفون فهذا من الشَّياطين، وأيضًا التَّصرُّفات الخارقة غير المكاشفات من جنس السِّحر، ومن جنس الكهَّان والسَّحرَة، مثل: أن يحمل شيئًا عظيمًا بنفسه لا يحمله إلى عشرة رجال أو عشرين رجلًا، أو يصبر على تركِ الطَّعامِ والشَّرابِ شهرًا كاملًا، فلا يتحمَّل أحد إلا يوم أو يومين ثم يسقط، فتجد النَّاس يقولون بمثل هذا عن كافر من كفرة الهند مثلًا، ثم يتهوَّلون لذلك ويتعجَّبون!
فهذا ليس بعجيب، فإنَّ هؤلاء قد يحصل لهم من الخوارق، فلا تغتر بهذه الخوارق، وقد بيَّن الله -عزَّ وَجلَّ- ذلك.
ثم قال الشيخ: (وَهَؤُلَاءِ جَمِيعُهُمْ الَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إلَى الْمُكَاشَفَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ).
عرفنا أنَّ المكاشفات: هي أمور لا يعلمها الحاضرون، كأن يهتف الشَّيطان بأذنه، أو يبلغه بشيء، أو تنزل عليه الشَّياطين كالكهَّان فيُخبرونه بخبرٍ؛ فهذا ليس بشيءٍ كما قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{هل يُمكن يا شيخ أن مكاشفة لشخص من باب الفتنة في نفسه؟}.
لا شك؛ فقد يُفتَن هو، والشياطين تحاول أن تضلَّه، فأول الأمر تساعده بشيءٍ مباح، ثم يتعلق بهذه الشياطين فيبدأ يهتف بهم، فتكون فتنة له، فيقولون له مثلًا: سيارة فلان المسروقة في الوادي الفلاني! ويقول أنَّه جاءه كَشف، وقع في قلبي أن السيارة في الوادي، ثم تتوالى الشَّياطين على هذا بنحو هذه الأخبار حتى يتعلَّق قلبه بالشَّياطين، فيكون مفتونًا بهم، ثم يعبدهم من دون الله أو يطيعهم، قال الله في سورة الأنعام: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الْإِنسِ ۖ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الْإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا ۚ قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَ﴾ [الأنعام: 128]، سبحان الله!
حصلت لهم مُتَعٌ في الدنيا من بعضهم إلى بعضٍ، فهذا تمتَّعَ بمعلوماتٍ أو بقدراتٍ خارقة، والجن تمتَّع بأنَّ هذا يعبده من دون الله، أو يُهيد المصحف، أو يسجد له، أو غير ذلك، فقال الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَ﴾.
قال الشيخ: (إذَا لَمْ يَكُونُوا مُتَّبِعِينَ لِلرُّسُلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكْذِبُوا وَتُكَذِّبَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ)، لأنَّ الله قال: ﴿تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾، فلابدَّ أن يحصل منهم كذب. ولهذا لو تتبَّعتَهم لوجدتَّ الكذب في مقالاتهم كثيرًا، ولكن هذا يحتاج إلى تتبُّع.
وقوله: (فَلَا بُدَّ أَنْ يَكْذِبُوا وَتُكَذِّبَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ)، يعني لا يستقيم لهم هذا الشيء؛ بل يحصل لهم مرَّة أو مرتين أو ثلاث، مثل الكهَّان يأتيه الشَّيطان بالكلمة الواحدة سمعها واسترقها ثم يكذب معها تسعة وتسعين كذبة.
قال: (وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ مَا هُوَ إثْمٌ وَفُجُورٌ، مِثْلُ نَوْعٍ مِنْ الشِّرْكِ أَوْ الظُّلْمِ أَوْ الْفَوَاحِشِ أَوْ الْغُلُوِّ، أَوْ الْبِدَعِ فِي الْعِبَادَةِ); وهذا من علامات التَّفريق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
فإذا وجدتَّ عندهم الإثم والفواحش والشِّرك عرفتَ أنَّهم أولياء الشَّيطان، وليسوا أولياء الرحمن، فلا تغتر بهم.
وإلحاق الكلام السَّابق عن الملاحدة الذين يُعظِّمونَ النَّهج الغربي الإلحادي؛ اُنظر إلى ما يُقرِّونه في أنظمتِهم مؤخَّرًا؛ فقد أقرُّوا في أنظمتهم في دولهم رسميًّا عبر وزارة العدل أو المسؤول عن الأنكحة، أنَّ الرَّجل رسميًّا يأتي ويسجل لينكِحَ رجلًا آخرَ، ويكون هذا الرجل بمنزلة الزَّوج والرجل الآخر بمنزلة الزَّوجة، وهذا رسمي عندهم على المحافل!!
ناهيكَ بنظام أنتجَ مثل هذه القاذورات وجعلها أمرًا مُقرًّا أمام الملأ؛ ناهيك بحقارتهم وحقارة أفكارهم، فهؤلاء الذين وصلوا إلى هذه المنزلة هم زُبالة البشر وأراذلهم! ولذي جعلهم هكذا أنَّ عندهم الجدّ والبطش بمن خالفهم، وإلا لولا هذا وهذا لهلكوا.
والشَّيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار النجدية -رحمة الله عليه- قال: "عندهم جدٌّ ولو أنَّ المسلك أعوج، فيكون لهم مفعول". والحمد لله الذي منَّ علينا بالإسلام.
فهؤلاء يشبهون هؤلاء مِن حيث أنَّ عندهم الإثم معلنًا -الرجل ينكح رجلًا ويكتفي به- ويحاول بعض المجرمين ترويج هذه الأشياء في بلدان المسلمين، ويسمُّونَه بالتَّسميات المُخفِّفَة لهذه الجريمة البشعة التي عذَّبَ الله بها قومَ لوطٍ وأهلكهم عن آخرهم بعدَ الشِّرك الذي وقع منهم، ويسمُّونهم "المثليِّين" وهذا ليس اسمهم، بل إن اسمهم الحقيقي الذي يجب أن نسمِّيهم به أنَّ هؤلاء كما قال الله -عزَّ وَجلَّ- أنَّهم أهل الفواحش، لأنَّ هذه فاحشة كبيرة، وهي أعظم من الزنا وهو موجبٌ للقتل، وقتله بطريقة شريعة عن طريق ولاة الأمور، ولكن الشاهد من هذا هو بيان باشعة أحوال هؤلاء.
فالحمد لله الذي فضحَ هذه الأفكار، ولكن أين مَن يتبصَّر، قال تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ [يوسف: 105].
وقد بيَّن الشَّيخُ المراد بالذِّكر في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾، وأنَّه هو القرآن، واستشهد بآيتين أخريين، وهما:
- الآية الأولى: وصف الله -عزَّ وَجلَّ- للقرآن بقول: ﴿وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ﴾.
- الآية الثانية: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكً﴾.
إذن معنى قوله ﴿ذِكْرِي﴾ هو: القرآن، وليس مجرد الذكر الذي هو التسبيح، فهذا له فضل كبير وأجر كبير، وثوابه عظيم.
والفائدة الثانية التي أوردها ابن تيمية هنا: أنَّ الإعراض عن القرآن يُقيِّد لصاحبه شيطانًا، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾.
إذن؛ الذي مع القرآن هو من أولياء الله، والذي يعرض عن القرآن هو من أولياء الشيطان، قال: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾.
ثم قال في ختام الكلام: (وَلِهَذَا لَوْ ذَكَرَ الرَّجُلُ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- دَائِمًا لَيْلًا وَنَهَارً)، كأن يقول: "سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله"، وبعض المتصوفة يذكرون بالذكر المبتدع "الله، الله، الله" أو يقول: "حي، حي، حي"، أو يقول: "هو، هو، هو" الضمير المفرد.
قال الشيخ: (وَلِهَذَا لَوْ ذَكَرَ الرَّجُلُ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- دَائِمًا لَيْلًا وَنَهَارًا مَعَ غَايَةِ الزُّهْدِ، وَعَبَدَهُ مُجْتَهِدًا فِي عِبَادَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لِذِكْرِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ - وَهُوَ الْقُرْآنُ - كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ)، ولا عبرة بهذه الأذكار التي ذكرها ما دام معرضًا عن القرآن.
ثم قال: (وَلَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ أَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ ; فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْمِلُهُ فِي الْهَوَاءِ. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ)، يعني سيأتي ذكر هذا.
والمقصود: أنَّ العلامة الفارقة التي ذكرها من علامات أولياء الله هو اتباع القرآن والعمل به، ومن علامات أولياء الشيطان الإعراض عن القرآن، ولهذا فإنَّ الكفَرة في الأرض هم أولياء للشيطان، لأنَّهم معرضون عن القرآن، وإذا أسلموا صاروا من أولياء الله، لأنَّهم أقبلوا على الإسلام الذي جاء به القرآن.
والحمد لله الذي جعلنا مسلمين، والحمد لله الذي منَّ علينا باتِّباع النبي الكريم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذه المسائل مسائل مهمَّة، وسيأتي تفصيلها أيضًا وتَكرارها في مواضع من هذه الرِّسالَة القيِّمَة "الْفُرْقَانُ بينَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ".
نسأل الله -جلَّ وعلا- أن يثبِّتنا وإيَّاكم على صراطِه المستقيم، والحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.
-----------------------
[12] الْإِمَامُ الْحَافِظُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ الْمُفْتِي صَلَاحِ الدِّينِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ مُوسَى الْكُرْدِيُّ الشَّهْرُزُورِيُّ الْمَوْصِلِيُّ الشَّافِعِيُّ ، صَاحِبُ " عُلُومِ الْحَدِيثِ " .

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك