الدرس الحادي عشر

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2566 12
الدرس الحادي عشر

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
حيَّاكم الله، وأنا أيضًا أرحبُ بكم وبالإخوة الكرام جميعًا.
{نستفتح في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- في كتاب "الفرقانُ بينَ أولياءِ الرحمَنِ وأولياءِ الشيْطانِ"}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله، اللهم صلِّ وسلِّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أمَّا بعدُ؛ فحتى نربط هذا الدَّرسَ بما سبقَ؛ فإنَّ الفصل السَّابق ذكر فيه شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- أنَّ الأولياء ليس من شرطهم أن يكونوا معصومين؛ بل مَن اعتقدَ أنَّ الأولياء معصومون فإنَّه ضالٌّ ومُخطِئ، وذكر في ذلك الفصل الدَّلائل على أنَّ أكابر الصَّحابة وهم أفضل النَّاس بعدَ الأنبياء والرُّسل وبالتَّالي فهم أفضل الأولياء، قد وقع منه الاجتهاد والخطأ.
وبيَّنَ سبب اغترار بعض النَّاس بمَن يسمُّونَهم أولياء هو وجود بعض الخوارق للعادة، ويسمونها كرامة، وذكر الشَّيخ أمثلة مُهمَّة ينبغي للمسلم أن ينتبه لها، وهي أنَّ بعضهم يكون عليه علامات تدلُّ على أنَّه من أولياء وعنده بعض الخوارق العجيبة، فلا يُغتر بذلك، وذكر أمثلةً مُتعدِّدة، مثل: ترك الوضوء وترك الصلاة، وملابسة النَّجاسات، وأكل الحيَّات والعقارب والزَّنابير، وكذلك مُعاشرة الكلاب والسَّكن في المقابر، وكذلك يكون بعضهم ملازمًا للنَّجاسات.
وأمثلة أخرى منها: الاستغاثة بغير الله؛ فكل مَن وقع في هذه الأمور فهو من أولياء الشَّيطان وليس من أولياء الرحمن.
وممَّا ذكره الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- أنَّ بعض الناس يكره سماع القرآن وينفر عنه، ويُقدِّمُ عليه سماع الأغاني والأشعار والقصائد الملحَّنة، ويؤثر ذلك على القرآن، فيُقدِّم مزامير الشَّيطان على كلام الرَّحمن، وهذا علامة على أنَّه من أولياء الشَّيطان، ولهذا نُحذِّر إخواننا المسلمين من الإعراض عن القُرآن الكريم والإقبال على هذه الملاهي التي تُلهي القلب وتضرُّ بالدِّين، قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [لقمان:6]، قال عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "والله الذي لا إله إلَّا هو إنَّ لهوَ الحديث هو الغناء"[24].
وختم الشيخ الفصل السابق بقول: (فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مِنْ هَؤُلَاءِ)، يعني: من المؤمنين (فُرِّقَ بَيْنَ حَالِ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ)، يعني: فرَّقَ بينَ النبي الصَّادق وبين المتنبِّئ الكاذب، وفرَّق بينَ المطيع والعاصي، والمؤمن والكافر، ولا يسوِّ بينَ المسلمين وبين اليهود والنَّصارى إلا كافر مثلهم، فإذا قال: إنَّ المسلمين واليهود والنَّصارى على حق وكلهم على دينٍ واحدٍ، وكلهم طريقهم يوصل إلى الله فهذا من أولياء الشيطان، فالإسلام هو الدِّين الحق، والمسلمون إذا اتَّبعوا الإسلام وتمسَّكوا به نجوا، وأمَّا اليهود والنَّصارى فالواجب عليهم تركُ ما هُم عليه، واتِّباع الرَّسول محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبهذا يسلموا وينجوا، وإلَّا فهُم هالكونَ، أمَّا مَن يَغشُّوا النَّاس فهؤلاء من أولياء الشيطان، عندما يقولون لهم: إنَّ الأديان كلها توصل إلى الله، فهذا علامة الكفر، وعلامة أنَّه من أولياء الشيطان، نسأل الله العافية والسَّلامة.
والفصل الذي سنقرأه الآن يتكلَّم الشيخ فيه عن لفظِ يستخدمه بعض الصُّوفيَّة، وهي كلمة "الحقيقة" و"الشريعة".
يستخدمون لفظ "الحقيقة" في الأمور القلبية والأمور الباطنة الخفيَّة، ويستخدمون لفظ "الشَّريعة" في الأمور الظَّاهرة، مثل: الصَّلاة ونحوها.
وليس الأمر فقط مجرَّد اصطلاح، ولكنَّهم يُريدون التَّخلُّص من التَّكاليف الشَّرعيَّة بدعوَى أنَّهم يقومون بالحقائق الباطنة، فيقولون: نحن أهل الحقيقة، وأنتم أهل الشَّريعة، أنتم عوام، ولكن نحنُ الخاصَّة عندنا الحقيقة!
وهذا كلامٌ غيرُ صحيحٍ، وفي هذا الفصل نقضٌ له.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَصْلٌ وَ"الْحَقِيقَةُ" حَقِيقَةُ الدِّينِ: دِينُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. هِيَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ، وَإِنْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ شِرْعَةٌ وَمِنْهَاجٌ.
فَــ"الشِّرْعَةُ" هِيَ الشَّرِيعَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجً﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾.
وَ "الْمِنْهَاجُ " هُوَ الطَّرِيقُ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدً﴾.
فَالشِّرْعَةُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرِيعَةِ لِلنَّهْرِ، وَالْمِنْهَاجُ هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي يُسْلَكُ فِيهِ، وَالْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ هِيَ حَقِيقَةُ الدِّينِ، وَهِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهِيَ حَقِيقَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ)
}.
إذن؛ "الحقيقة" و"الشريعة" بمعنًى واحدٍ، فالحقيقة: هي غاية الإسلام، وهي أن يُعبَد الله وحده لا شريك له، يُعبَد باللسان وبالأعمال وبالقلب؛ فأقوال اللسان وأعمال الجوارح وما يقوم بالقلب؛ فبهذا يُعبَد الله -سبحانه وتعالى.
ولا يصح أن نقول: إنَّ هناك حقيقة في الباطن وشريعة في الظاهر، فالحقيقة هي الشَّريعة، والشريعة هي الحقيقة، على هذا المصطلح الذي وضعه هؤلاء، فبيَّنَ الشَّيخ من جهة اللفظ أنَّ "الشَّريعة" هي المنهاج الذي يُسلَكُ فيه الطريق، قال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَ﴾ وهذا يشمل الدين كله.
وكذلك يُقال في "الحقيقة": إنَّها الغاية المقصودة، وهي أن يُعبَد اللهُ وحده لا شريك له.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهُوَ أَنْ يَسْتَسْلِمَ الْعَبْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا يَسْتَسْلِمُ لِغَيْرِهِ فَمَنْ اسْتَسْلَمَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ كَانَ مُشْرِكًا، وَاَللَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لِلَّهِ بَلْ اسْتَكْبَرَ عَنْ عِبَادَتِهِ كَانَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾)}.
إذن الإسلام هو: الاستلام لله بالتَّوحيدِ والانقياد له بالطَّاعة، والبراءة من الشِّركِ وأهله.
تستسلم لله أي: تنقاد لدينه ولشرعه، وتتبرَّأ ممَّا سواه، والناس إمَّا مسلم وإمَّا مشرك، وإمَّا مستكبر، والمستكبر داخل في المشرك، ولكن هذا من باب التَّقسيم.
- فالمشرك: استسلم لله ولغيره، يعني: عبدَ اللهَ وعبدَ غيرَه، فلا تنفعه عبادة الله؛ لأنَّه شرَّكَ مع الله غيره.
- أمَّا المستكبر: فهو الذي لم يعبد الله -عزَّ وجَلَّ- واستكبرَ عن عبادة الله، وهذا أخبث، قال تعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ دِينُ الْأَوَّلِينَ والآخرين مِنْ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وقَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ عَامٌّ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.
فَنُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَيَعْقُوبُ وَالْأَسْبَاطُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَالْحَوَارِيُّونَ كُلُّهُمْ دِينُهُمْ الْإِسْلَامُ، الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: ﴿يَا قَوْمِ إنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ﴾ إلَى قَوْلِهِ: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾.
وَقَالَ السَّحَرَةُ: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾)
}.
سحرةُ فرعونَ لَمَّا تابوا إلى الله تعالى توبةً نصوحًا قالوا هذا الكلام وآمنوا، فكانوا في أوَّلِ النَّهارِ سحرةً كفَّارًا فُجَّارًا، وفي آخر النَّهار مُؤمنين أتقياء أبرار من أهل الجنَّة، رضي الله عنهم ورحمهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾.
وَقَالَتْ بلقيس: ﴿وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ﴾.
وَقَالَ الْحَوَارِيُّونَ ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾)
}.
كلُّ هذه الآيات تدل على أنَّ الأنبياء السابقينَ وصفهم الله -عزَّ وجَلَّ- بأنَّهم مُسلمين، فهذا الإسلام بالمعنى العام، وهو طاعة الله -عزَّ وجَلَّ- وطاعة أوامره في ذلك الوقت، ففي كل زمنٍ أرسل الله نبيًّا إلى قومه، فيُؤمن به من هداهم الله -عزَّ وجَلَّ- وهذا يكون إسلامًا منهم -يعني: انقيادًا منهم- فهذا هو الإسلام بالمعنى العام، ولهذا يصحُّ إطلاقُه على مَن كانَ قبلنا.
أمَّا الإسلام بالمعنَى الخاص فهو ما بُعِثَ به محمدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفيه الانقياد بالمعنى العام -الإسلام بالمعنى العام- والإنقياد بالمعنى الخاص وهو الالتزام بالشَّريعة التي جاء بها نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَدِينُ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدٌ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ شَرَائِعُهُمْ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إنَّا مَعْشَرُ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ»، قَالَ تَعَالَى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ﴾.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾.
وقال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم:30])
}.
هذه الآيات الثلاث في المواضع الثلاث؛ في سورة الشورى وسورة المؤمنون وسورة الرُّوم؛ تدلُّ على أنَّ دينَ الأنبياء واحدٌ، ولكن الشَّرائع تختلف، قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجً﴾، فالدِّين واحدٌ، يعني: أنَّ أصول العقيدة وأصول الإيمان مثل أركان الإيمان السِّتَّة، ومثل أصول العبادات، وكذلك القيام بالإحسان وهو كمال العبادات؛ فهذا كله قد اتَّفقت عليه الرُّسل -عليهم الصلاة والسلام- ولكنَّ الشَّرائع تختلف، في صفة الصلاة، في صفة الزكاة، في صفة الصَّوم، وهكذا..
ففي هذا الفصل بيَّنَ فيه -رَحِمَهُ اللهُ- أن "الحقيقة" و"الشريعة واحدة، فالحقيقة هي حقيقة الإسلام، وهي أن يعبد الله وحده لا شريك له.
و"الشَّريعة" هي الشَّرائع التي جاء بها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولا داعي لهذا التَّفريق الذي عند المتصوفة، بأن يُقال إنَّ الحقيقة هي ما في القلب، والشَّريعة هي ما في الظَّاهر، ولكن إذا عبَّر بهذا التَّعبير نردُّ عليهم بهذه الآيات وبهذا التَّفصيل المعروف عندَ أهلِ العلمِ في معنى الشَّريعة والحقيقة لغةً.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَصْلٌ وَقَدْ اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَسَائِرُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا بأنبياء، وَقَدْ رَتَّبَ اللَّهُ عِبَادَهُ السُّعَدَاءَ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَ مَرَاتِبَ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقً﴾.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ» وَأَفْضَلُ الْأُمَمِ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ تَعَالَى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَ﴾.
وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ «أَنْتُمْ تُوَفُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ»، وَأَفْضَلُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَرْنُ الْأَوَّلُ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ». وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ».
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾.
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ: الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلُوا.
وَالْمُرَادُ بِالْفَتْحِ: صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَفَتْحٌ هُوَ قَالَ: «نَعَمْ».
وَأَفْضَلُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ: الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ. وَأَفْضَلُهُمْ: أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْأُمَّةِ وَجَمَاهِيرِهَا، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ دَلَائِلُ بَسَطْنَاهَا فِي "مِنْهَاجِ أَهْلِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي نَقْضِ كَلَامِ أَهْلِ الشِّيعَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ")
}.
هذا الفصل عقده الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- للرَّدِّ على مَن فضَّلَ بعضَ الأولياء على الأنبياء، وهذا الفصل من أطول فصول الكتاب وأهمِّها؛ لأنَّ فيه نقضًا لأصول الصُّوفيَّة الفلاسفة الإلحاديَّة، وقدَّمه بهذه المقدِّمَة مُبيِّنًا الاتفاق والإجماع بينَ أهل الإسلام على أنَّ الأنبياء أفضل، وعبَّر بهذه العبارة (الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا بأنبياء)، واستخدَم الشيخ هذه العبارة لأنَّ الذين سيرد عليهم كابن عربي والطائي المشهور بالقول بوحدة الوجود -وسيأتي ذكره في هذا الفصل عدَّة مرات- وسينقل الشيخ أقواله، وهو يزعم أنَّ الولي أفضل من الرَّسول، وأنَّ الولي والرَّسول اشتركا في الولاية، فالرسول ولي وهذا ولي، ويقول ابن عربي عن نفسه: إنَّ ولايته أفضل من ولاية الرسول!
ومعلومٌ أنَّ الله -عزَّ وجَلَّ- يَصطفي من البشر خُلاصتهم وأفضلهم، قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾ [الحج:75]، فالمصطفون من النَّاس هم أفضل البشر وخيارهم، ولا شكَّ أنَّهم مُطيعين لله -عزَّ وجَلَّ- واختارهم الله للنبوة والرِّسالة.
وهذا الضَّالُّ المُلحد وأمثاله يزعمون أنَّهم بما فيهم من صفات الولاية -وهم كذابون في الحقيقة ومحتلون وعندهم من الضلالات العظيمة ما يُخرجهم من الإسلام- ومع هذا فهو يزعم أنه أفضل من ولاية الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!
فالشيخ استخدم هذه العبارة (الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا بأنبياء)؛ لأجلِ الإشارة إلى هؤلاء الضُّلال.
ثم ذكر الآية الأولى وفيها ترتيب الله -عزَّ وجَلَّ- للسعداء في الجنَّةِ، وأنَّ أوَّلهم النَّبيُّونَ، ثمَّ الصِّدِّيقونَ، ثمَّ الشُّهداء، ثمَّ الصَّالحون، وذكر الحديث في فضلِ أبي بكرٍ، فقال: «مَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ»، رضي الله عن أبي بكر، وهذا الحديث مشهورٌ عند العلماء وفيه مقال، ولكن وردَت أحاديث أصح وأوضح في فضل أبي بكرٍ، مثل قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو كنت متخذًا من أمتي خليلا لتخذت أبا بكر خليل»، والله -عزَّ وجَلَّ- يقول في القرآن: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَ﴾ [التوبة:40]، وفضائل أبي بكرٍ كثيرة جدًّا.
ثم ذكرَ فضلَ الأمَّة المحمَّديَّة، وذكرَ فضلَ الصَّحابَة، وذكرَ فضلَ السَّابقين الأوَّلينَ من المهاجرينَ والأنصار من الصَّحابة، ثم ذكرَ مَن أنفقَ من قبلِ الفتح -يعني: صلح الحديبية- وبيَّنَ أنَّ الصَّواب أنَّ المراد بالفتح ليس فتح مكَّةَ؛ بل هو صُلح الحديبية؛ لأنَّه مُقدِّمَة لفتح مكَّة، فإنَّ النَّاس عرفوا الإسلام، وعرفوا دعوة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد هذا الصُّلح، وهؤلاء الذينَ أسلموا قبل صلح الحديبية أعظمُ درجةً وأفضل عند الله من الذين أسلموا من بعدُ، وكلًّا وعدَ الله الحسنَى.
ثمَّ بيَّنَ فضل أبي بكر وعمر، وأنَّ هذا أمرٌ متَّفقٌ عليه.
فلا يُمكن أبدًا أن يكون هؤلاء الأولياء وهم صحابة كرام أفضل من النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ومن بعدهم من باب أولى.
ونوَّه الشيخ هنا بقوله: (وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ دَلَائِلُ بَسَطْنَاهَا فِي "مِنْهَاجِ أَهْلِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي نَقْضِ كَلَامِ أَهْلِ الشِّيعَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ")، وهذا كتب عظيم جدًّا ونافع، وهو كتاب كبير ردَّ فيه الشيخ على شبهات الرَّافضَة وشبُهات القدريَّة، وهو مطبوعٌ في تسع مجلَّدات، وقد اختصرَه الذَّهبي -رَحِمَهُ اللهُ- واختصرَه الشيخ عبد الله الغنيمان -حفظه الله- وهو كتابٌ مُفيدٌ لطالبِ العلم ولكل مسلم، وذكر فيه فضائل أبي بكر وعمر، وأطالَ النَّفَس، وردَّ على ابن المطهِّر الحلِّي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَبِالْجُمْلَةِ اتَّفَقَتْ طَوَائِفُ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا وَاحِدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ، وَلَا يَكُونُ مِنْ بَعْدِ الصَّحَابَةِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّحَابَةِ)}.
استخدم الشيخ هذا الأسلوب ليُبيِّنَ أنَّ حتَّى الشيعة على ما فيهم من انحرافٍ وضلالٍ مُتَّفقونَ على تفضيلِ عليّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهذا غلطٌ شيعٌ، فأفضل الصَّحابة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ولكن هذا الغلط من الشِّيعَة يُبيِّن لكَ أنَّ غلط ملاحدة الصُّوفيَّة أبعد بكثيرٍ من غلط الرَّافضَة؛ لأنَّ ضُلَّال الرَّافضة يقولون: إنَّ عليًّا أفضل، وبالتَّالي لا يكن أحدٌ أفضل من علي عندهم، فلا يُمكن أن يتصوَّر أحدٌ عندَ الرَّافضة أنَّ أحدًا من الصَّحابة أفضل من علي، وبالتَّالي وصلنا إلى نقطة؛ وهي أنَّ دعوى ابن عربي وأمثاله من ملاحدة الصُّوفيَّة أنَّهم أفضل من الرُّسل هذا أمرٌ لا يُوافق عليه حتَّى مَن هم مشهود لهم بالضَّلال كالرافضة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُهُمْ مَعْرِفَةً بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاتِّبَاعًا لَهُ كَالصَّحَابَةِ الَّذِينَ هُمْ أَكْمَلُ الْأُمَّةِ فِي مَعْرِفَةِ دِينِهِ وَاتِّبَاعِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَكْمَلُ مَعْرِفَةً بِمَا جَاءَ بِهِ وَعَمَلًا بِهِ، فَهُوَ أَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، إذْ كَانَتْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَفْضَلَ الْأُمَمِ وَأَفْضَلُهَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَفْضَلُهُمْ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ غالطة أَنَّ "خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ" أَفْضَلُ الْأَوْلِيَاءِ، قِيَاسًا عَلَى خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ مِنْ الْمَشَايِخِ الْمُتَقَدِّمِينَ بِخَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ؛ إلَّا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، فَإِنَّهُ صَنَّفَ مُصَنَّفًا غَلِطَ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ، ثُمَّ صَارَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَزْعُمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَسْتَفِيدُونَ الْعِلْمَ بِاَللَّهِ مِنْ جِهَتِهِ كَمَا يَزْعُمُ ذَلِكَ ابْنُ عَرَبِيٍّ)
}.
هنا بدأ الشيخ في الرَّدِّ على ضلالات الرافضة.
محمد بن علي الحكيم الترمذي هذا ليس صاحب السُّنَن المشهور "سنن الترمذي" فهي للإمام العالم المحدِّث العلَّامة محمد بن عيسى بن سورة الترمذي أبو عيسى، فهذا إمام في السُّنَّة وإمام في التَّوحيد والعقيدة السَّلفيَّة، وهو تلميذٌ من تلامذة البخاري -رحمهم الله جميعًا.
أمَّا محمد بن علي الحكيم الترمذي فعنده أغلاط، ومن أشنع أغلاطه أشياء نُفيَ عليها، وبعض العلماء تكلم في عقيدته بسببها، ومن ضمن ذلك أنَّه ألَّفَ كتابًا في الأولياء، وزعمَ أنَّ الأولياء لهم خاتم -يعني شخص يختم الأولياء ولا يأتي أحدٌ بعدَه- وأنَّ هذا الخاتم للأولياء أفضل الأولياء، وأخذ هذا من عقله بالقياس، قال: كما أنَّ الأنبياء فيهم خاتم فكذلك الأولياء فيهم خاتَم! وهذا كلامٌ باطلٌ.
المهم؛ هذه البدعة التي ابتدعها هذا الرجل المتقدِّم -توفي سنة ثلاثمائة وعشرين- جاء مَن بعدَه وادَّعَى لنفسه أنَّه خاتَم الأولياء، فكل مَن جاء وأردَ أن يلتف النَّاسُ حوله ويعظِّمونَه زعم في نفسه أو شيخه ومتوبعه أنَّه خاتم الأولياء، وممَّن ادَّعى ذلك ابن عربي.
وزاد هؤلاء طامَّةً أعظم وأخطر (أَنَّ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ)، وزعموا أنَّ خاتم الأولياء تلقَّى عن الله مُباشرةً بخلاف خاتم الأنبياء فإنَّه يتلقَّى عن جبريل عن الله، فقالوا: إنَّ خاتم الأولياء أرقى درجة، وهذا من الكفر العظيم المخرج عن ملة الإسلام، فمن زعم هذا فهو كافرٌ بالله العظيم، ومُتنقِّصٌ للرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومدِّعٍ دعوى كاذبة يعلم الجميع أنَّه كذَّابٌ ومحتالٌ.
والذين ادَّعوا أنَّ خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء طوائف، من ضمنها غُلاة الصُّوفيَّة، والباطنيَّة كالدُّروز والنُّصيْريَّة والأغاخانيَّة، وكفرة الفلاسفة المتنسبين إلى الإسلام، فإنَّهم يرونَ أنَّ الفيلسوف أعلم من الرسول وأرقى من الرَّسول لِمَا عنده من العقل، ويزعمون أنَّ الرَّسول إنَّما يتخيَّل تخيُّلات، وسيأتي نقضَ كلامهم بالتَّفصيل.
وهذه الطَّوائف الخبيثة أجمع علماء المسلمين على كفرهم وخروجهم من ملَّةِ الإسلامِ.
يقول الشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله: "زعم غُلاة الصُّوفيَّة أنَّ جِهة تفضيل الولي على النبي أنَّ النبي يأخذ من الملك، والولي يأخذ بالإيحاء"، وسيأتي كلامه.
ثم قال: "أمَّا الرَّافضَة والإسماعيليَّة؛ فإنَّ الرافضة يزعمون أنَّ أئمَّتهم لهم من المقام ما ليس للأنبياء، ويقول بعض أئمَّتهم: من ضروريَّات مذهبنا أنَّ لأئمِّتنا مَقامًا لا يبلغه ملكٌ مُقرَّبٌ ولا نبيٌّ مُرسلٌ"، صار مقام أئمَّة الرَّافضَة أعلى من مقام الملائكة المقربين وأعلى من الأنبياء والمرسلين، وهذا من تفضيل الولي على النبي عندهم.
وكذلك القرامطة والعبيديُّون والنُّصيريَّة والدُّروز؛ زعموا أنَّ أولياءهم أعظم من الأنبياء، حتى أنَّ الدُّوروز يعبدون شخصًا اسمه الحاكم بأمر الله، أحد حكَّام الدَّولة العبيديَّة -ما يسمونها بالدولة الفاطميَّة- ويقولون: هو إلهنا وخالقنا ومعبودنا!
فهؤلاء وأمثالهم عند جميع علماء الإسلام العارفين أكفر من اليهود والنَّصارى ومشركي العرب.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: "وَغَايَتُهُمْ أَنْ يَكُونُوا فَلَاسِفَةً عَلَى مَذْهَبِ أَرِسْطُو وَأَمْثَالِهِ أَوْ مَجُوسًا، وَقَوْلُهُمْ مُرَكَّبٌ مِنْ قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمَجُوسِ وَيُظْهِرُونَ التَّشَيُّعَ نِفَاقًا".
وقال: "كُفْرُ هَؤُلَاءِ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، بَلْ مَنْ شَكَّ فِي كُفْرِهِمْ فَهُوَ كَافِرٌ مِثْلُهُمْ، لَا هُمْ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ، بَلْ هُمْ الْكَفَرَةُ الضَّالُّونَ فَلَا يُبَاحُ أَكْلُ طَعَامِهِمْ وَتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَتُؤْخَذُ أَمْوَالُهُمْ. فَإِنَّهُمْ زَنَادِقَةٌ مُرْتَدُّونَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ ; بَلْ يُقْتَلُونَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا ; وَيُلْعَنُونَ كَمَا وُصِفُوا، وَلَا يَجُوزُ اسْتِخْدَامُهُمْ لِلْحِرَاسَةِ وَالْبِوَابَةِ وَالْحِفَاظِ". وذكر فيهم كلامًا يرجع فيه طالب العلم إلى مجموع الفتاوى المجلد الخامس والثلاثين صفحة 161.
فهؤلاء الفلاسفة يسلكون هذا المسلك، وسيأتي كلامهم بالتفصيل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (كَمَا يَزْعُمُ ذَلِكَ ابْنُ عَرَبِيٍّ صَاحِبُ "كِتَابِ الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ" وَ "كِتَابِ الْفُصُوصِ")}.
هذان كتابانِ مشهوران لابن عربي، ومع الأسف لازال أولياء هؤلاء الملاحدة المعاصرون يطبعون هذه الكتب وينشرونها، وفي هذه الكتب يُقرر الكفريَّات التي ستأتي بعد قليل -نسأل الله العافية والسلامة.
فهو يزعم أنَّ الله خاطبه بكتابه "الفتوحات المكيَّة" وأنَّ هذا من عند الله! تبًّا له! قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ [الأنعام:93]، فلا أحد أظلم من هذا -نسأل الله العافية والسلامة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَخَالَفَ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ مَعَ مُخَالَفَةِ جَمِيعِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَوْلِيَائِهِ، كَمَا يُقَالُ لِمَنْ قَالَ: فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ تَحْتِهِمْ لَا عَقْلَ وَلَا قُرْآنَ)}.
يقولون: قرأَ قارئٌ الآية الكريمة ﴿فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ [النحل:26]، فقرأها القارئ جهلًا منه وغلطًا (فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ تَحْتِهِمْ)، فالسقف فوق، فكيفَ يخر من تحت؟!
ولهذا يقولون: "لَا عَقْلَ وَلَا قُرْآنَ" يعني: لم تصب العقل ولم تصب القرآن!
فهذا الذي يقول: إنَّ الولي أفضل من الرسول؛ لا عقل له ولا دين معه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ذَلِكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ فِي الزَّمَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ -عَلَيْهِمْ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ- أَفْضَلُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ فَكَيْفَ الْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ؟)}.
يعني: كيف يكون هو أفضل من الأنبياء كلهم كما يزعم هو؟!
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالْأَوْلِيَاءُ إنَّمَا يَسْتَفِيدُونَ مَعْرِفَةَ اللَّهِ مِمَّنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ وَيَدَّعِي أَنَّهُ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ، وَلَيْسَ آخِرُ الْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلَهُمْ، كَمَا أَنَّ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلُهُمْ)}.
كأنَّ الشَّيخ يقول: كيف تزعم يا ابن عربي أنَّ الأنبياء والأولياء كلهم يستفيدون من واحدٍ يأتي بعدهم بأربعمائة سنة أو خمسمائة سنَةٍ، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تُوفي في السَّنة العاشرة من الهجرة، والأنبياء كلهم ماتوا قبله إلا عيسى فإنه رُفع، والأولياء الصالحون بدايةً من الصَّحابة والتابعينَ والأولياء في الأمم السَّابقة؛ كل هَؤلاء يستفيدونَ منك أنتَ يا ابن عربي وأنت في القرن السادس أو الخامس؟!
كلامُ مَن لا عقلَ له ولا دين! سبحان الله؛ هذا كلام منافٍ للعقول السَّليمة.
{قال: (فَإِنَّ فَضْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ». وَقَوْلِهِ: «آتِي بَابَ الْجَنَّةِ فَأَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: بِك أُمِرْت أَنْ لَا أَفْتَحَ لِأَحَدِ قَبْلَك»، وَلَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ رَفَعَ اللَّهُ دَرَجَتَهُ فَوْقَ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ فَكَانَ أَحَقَّهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الدَّلَائِلِ، كُلٌّ مِنْهُمْ يَأْتِيه الْوَحْيُ مِنْ اللَّهِ، لَا سِيَّمَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَكُنْ فِي نُبُوَّتِهِ مُحْتَاجًا إلَى غَيْرِهِ فَلَمْ تَحْتَجْ شَرِيعَتُهُ إلَى سَابِقٍ وَلَا إلَى لَاحِقٍ، بِخِلَافِ الْمَسِيحِ أَحَالَهُمْ فِي أَكْثَرِ الشَّرِيعَةِ عَلَى التَّوْرَاةِ، وَجَاءَ الْمَسِيحُ فَكَمَّلَهَا، وَلِهَذَا كَانَ النَّصَارَى مُحْتَاجِينَ إلَى النُّبُوَّاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْمَسِيحِ، كَالتَّوْرَاةِ وَالزَّبُورِ وَتَمَامِ الْأَرْبَعِ وَعِشْرِينَ نُبُوَّةً.
وَكَانَ الْأُمَمُ قَبْلَنَا مُحْتَاجِينَ إلَى مُحَدَّثِينَ، بِخِلَافِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَاهُمْ بِهِ، فَلَمْ يَحْتَاجُوا مَعَهُ إلَى نَبِيٍّ وَلَا إلَى مُحَدَّثٍ، بَلْ جُمِعَ لَهُ مِنْ الْفَضَائِلِ وَالْمَعَارِفِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا فَرَّقَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، فَكَانَ مَا فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ اللَّهِ بِمَا أَنْزَلَهُ إلَيْهِ وَأَرْسَلَهُ إلَيْهِ لَا بِتَوَسُّطِ بَشَرٍ.
وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَوْلِيَاءِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ إلَّا بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكُلُّ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ هُوَ بِتَوَسُّطِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَذَلِكَ مَنْ بَلَغَهُ رِسَالَةُ رَسُولٍ إلَيْهِ لَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ إلَّا إذَا اتَّبَعَ ذَلِكَ الرَّسُولَ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْهِ)
}.
إذن؛ لا يُمكن أن يكون الإنسان وليًّا لله -عزَّ وجَلَّ- إلَّا باتِّباع الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والإيمان بالرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمَّا أن يقول: أنا لا يلزمني أو أنا أعْلَى؛ فهذا لا يُمكنُ أن يكونَ وليًّا، فهذا بعيد عن الإسلام فضلًا عن الولاية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ لَهُ طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى مُحَمَّدٍ؛ فَهَذَا كَافِرٌ مُلْحِدٌ، وَإِذَا قَالَ: أَنَا مُحْتَاجٌ إلَى مُحَمَّدٍ فِي عِلْمِ الظَّاهِرِ دُونَ عِلْمِ الْبَاطِنِ، أَوْ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ دُونَ عِلْمِ الْحَقِيقَةِ; فَهُوَ شَرٌّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ مُحَمَّدًا رَسُولٌ إلَى الْأُمِّيِّينَ دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ)}.
هذا كله من الكفر العظيم المُخرج من الإسلام، فمَن قال: أنا لا أحتاج إلى الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعندي طريق يُوصلني إلى الله، أو أنا أحتاجه فقط في علم الظَّاهر، أمَّا علم الباطن فلا أحتاجه، أو يقول: أنا أحتاجه في علم الشَّريعة أمَّا علم الحقيقة فلا أحتاجه؛ فهــذا كافر، وليس كافرًا فحسب؛ بل كفره أشد من كفر اليهود والنصارى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنَّ أُولَئِكَ آمَنُوا بِبَعْضِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِ فَكَانُوا كُفَّارًا بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ هَذَا الَّذِي يَقُولُ: إنَّ مُحَمَّدًا بُعِثَ بِعِلْمِ الظَّاهِرِ دُونَ عِلْمِ الْبَاطِنِ آمَنَ بِبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ وَكَفَرَ بِبَعْضِ فَهُوَ كَافِرٌ وَهُوَ أَكْفَرُ مِنْ أُولَئِكَ؛ لِأَنَّ عِلْمَ الْبَاطِنِ الَّذِي هُوَ عِلْمُ إيمَانِ الْقُلُوبِ وَمَعَارِفِهَا وَأَحْوَالِهَا هُوَ عِلْمٌ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنَةِ وَهَذَا أَشْرَفُ مِنْ الْعِلْمِ بِمُجَرَّدِ أَعْمَالِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ.
فَإِذَا ادَّعَى الْمُدَّعِي أَنَّ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنَّمَا عَلِمَ هَذِهِ الْأُمُورَ الظَّاهِرَةَ دُونَ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ; وَأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ هَذِهِ الْحَقَائِقَ عَنْ الْكِتَاب وَالسُّنَّةِ؛ فَقَدْ ادَّعَى أَنَّ بَعْضَ الَّذِي آمَنَ بِهِ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ دُونَ الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَهَذَا شَرٌّ مِمَّنْ يَقُولُ: أُؤْمِنُ بِبَعْضِ وَأَكْفُرُ بِبَعْضِ، وَلَا يَدَّعِي أَنَّ هَذَا الْبَعْضَ الَّذِي آمَنَ بِهِ أَدْنَى الْقِسْمَيْنِ)
}.
يعني: أنَّ اليهود والنَّصارى لَمَّا آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضه كفَّرهم الله -عزَّ وجَلَّ، ولكن لَمَّا كفروا ببعض ما ادَّعوا أنَّ الشَّيءَ الذي آمنوا به أعلَى، أمَّا من يقول أنا أؤمن بالشَّريعة الظَّاهرة وأما الحقائق فلا أؤمن بما جاء عن الرَّسول، وأنا لي طريق خاص أسلكه به من رقائق القلوب، ولا أحتاج إلى الرسول؛ صار هذا كفره أشد من فر اليهود والنصارى من جهة أنَّه كفر ببعض، ومن جهة أنَّه تنقَّصَ الأرشف، لأنَّ الشيخ يقول عن علم حقائق القلوب ومعارفها وأحوالها (أَشْرَفُ مِنْ الْعِلْمِ بِمُجَرَّدِ أَعْمَالِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ)، فصار كفره أشنع من كفر اليهود والنصارى.
وسيواصل الشيخ ردَّه على هؤلاء الملاحدة، وهذا مكان مُناسب للوقوف؛ لأنَّ الدرس القادم يكون الدرس الأخير في هذا الفصل.
ونقول للإخوة الكرام: إنَّ هذه الأقوال التي تسمعونها الآن هي ما يُكرِّره هؤلاء الذين سبق الإشارة إليهم من الباطنيَّة أو غلاة الصُّوفيَّة أو كَفَرة الفلاسفة المنتسبين للإسلام؛ ولهذا يجب الحذر كل الحذر من هذه الأقوال الخبيثة، ومعرفة أنَّ أربابها هُم أولياء للشيطان، وليسوا أولياء للرحمن.
وهؤلاء الذين يُحيون هذه المقالات الخبيثة ويحملون راياتها هم في الحقيقة مناصرون للملاحدة، سائرون على منهج مَن سبقهم في الإلحاد ويُمثِّلونهم، وإن اختلفت الأسماء والأشكال، أو زيد في المقالات ونُقِصَ منها؛ لكن المتقدِّمون من هؤلاء أكثر وضوحًا من هؤلاء المتأخِّرين الذي ضعف شأنهم، ولهذا لا يخاف سنَّة والتَّوحيد من هؤلاء.
لا تَخْشَ كَثْرَتَهُم فَهُمْ هَمَجُ الوَرَى ** وَذُبَابُه أَتَخَافُ مِن ذُبَّانِ
توكَّلْ على اللهِ -سبحانه وتعالى- واثبت على دينِكَ، اثبتْ على الإسلامِ، اثبتْ على القرآنِ، والِ أولياءَ اللهِ، وعادِ أعداءَ اللهِ، أحب في الله، وأبغضْ في اللهِ، واصبرْ على دين الله، وقل: يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك، نسأل الله -جل وعلا- أن يثبتنا على الإسلام وعلى السُّنَّة، وعلى الصِّراط المستقيم، وأن يعيذنا وإيَّاكم وسائر إخواننا المسلمين من الشَّيطان وجنده وأحزابه وأوليائه وأتباعه وذريَّته، وأن يعيذنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطنَ، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك