الدرس الثامن

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2565 12
الدرس الثامن

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ:  الدكتور فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة الكرام.
{نُكمل في هذه الحلقة -بإذن الله- من عند ما انتهينا منه في الحلقة الماضية}.
بسم الله، والحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهداة.
تقدَّمَ في الدَّرسِ الماضي أنَّ الشَّيخَ عقدَ فصلًا يُبيِّنُ فيه أنَّ أولياء الله -عزَّ وَجَلَّ- ليسَ لهم لباسٌ خاصٌّ يتميَّزونَ به عن بقيَّة النَّاس، ولا ضفرٌ لشعرٍ أو حلقٌ له، ولا صفةٌ خاصَّةٌ من جهةِ الألبسةِ والمظاهر، وأنَّ أولياء الله -عزَّ وَجَلَّ- يكونون في القرُّاء والعلماء، ويكونون في المجاهدين، ويكون أيضًا حتَّى في الصُّنَّاع والتُّجار والزُّرَّاع، كالفلَّاح والتَّجار والخيَّاط والحدَّاد والبزَّاز، ونحوهم ممَّن يعمل في هذه الأعمال، إذا اتَّقى الله -عزَّ وَجَلَّ- وقام بما أوجبَ الله -عزَّ وَجَلَّ- عليه؛ فإنَّه يكونُ وليًّا لله -عزَّ وَجَلَّ- وذكر الشَّيخُ الأدلَّة على هذا.
ثم جرَّ الحديثَ إلى اسم الصُّوفيَّة، وأنَّه نسبةٌ إلى لباسِ الصُّوفِ، ثمَّ ذكر تنازع النَّاس في أيُّهما أفضل؛ الفقير الصَّابر أم الغني الشَّاكر، وذكر أنَّ الأفضل هو الأتقَى لله منهما، وهذا هو التَّحقيق.
ثم ذكر الكلام في لفظ "الفقر" فبعض النَّاس يُطلِق لفظ "الفقير" على أهل الصَّلاحِ والتَّقوَى من جهةِ أنَّهم فقراء إلى الله، ويستشعرون هذا المعنى، وبعضهم يقول: إنَّ الأفضل هو لفظ الصُّوفيَّة، ولا شكَّ أنَّ هذا غير صحيحٍ.
وذكر الشَّيخ أنَّ لفظ "فقراء" واردٌ، ولكن له معنيان في الكتاب والسُّنَّة، وهنا يأتي شرحُ هذين المعنيين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَفْظُ " الْفَقْرِ " فِي الشَّرْعِ يُرَادُ بِهِ الْفَقْرُ مِنْ الْمَالِ، وَيُرَادُ بِهِ فَقْرُ الْمَخْلُوقِ إلَى خَالِقِهِ:كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِ﴾، وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ صِنْفَيْنِ مِنْ الْفُقَرَاءِ: أَهْلَ الصَّدَقَاتِ وَأَهْلَ الْفَيْءِ فَقَالَ فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافً﴾، وَقَالَ فِي الصِّنْفِ الثَّانِي -وَهُمْ أَفْضَلُ الصِّنْفَيْنِ: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾.
وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَجَرُوا السَّيِّئَاتِ وَجَاهَدُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ»)
}.
هذا الكلام يُوضِّح أنَّ "الفقر" لفظٌ واردٌ في الكتابِ والسُّنَّة ويُستعمَل على وجهين:
الوجه الأوَّل: الفقر مِن المال: فالفقراء هُم الذينَ ليسَ لهم مالٌ، وشرعَ الله -عزَّ وَجَلَّ- أن يُعطى هؤلاء من الصَّدقات والزَّكوات، فقال تعالى: ﴿إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾.
الوجه الثَّاني: استشعار المخلوقِ حاجته إلى خالقِه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِ﴾، ومنه قول موسى -عليهِ السَّلام: ﴿رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير﴾ [القصص: 24].
فالفقراء الذينَ ليسَ لهم مالٌ يُمدَحون إذا كانوا على التَّعفُّفِ وكانوا على طاعةِ الله، والذينَ يستشعرون بقلوبهم فقرهم وفاقتهم إلى الله -عزَّ وَجَلَّ- فهؤلاء قد أثنَى الله -عزَّ وَجَلَّ- عليهم، قال الشيخ: (وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ صِنْفَيْنِ مِنْ الْفُقَرَاءِ: أَهْلَ الصَّدَقَاتِ وَأَهْلَ الْفَيْءِ)، ثمَّ ذكر الآية في سورة البقرة: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافً﴾، وهذا يدلُّ على فضلهم؛ لأنَّهم يتعفَّفونَ فيظنُّ الذي لا يعرف حالَهم أنَّهم أغنياء، وهذا الذي ينبغي للمسلم إذا افتقرَ؛ فيتعفَّف ويتصبَّر ويسأل الله -عزَّ وَجَلَّ- من فضله حتى يُغنيه الله.
وأمَّا الصِّنف الثَّاني: هم الذينَ مُدِحُوا في سورةِ الحشرِ بالمعنى الثَّاني وليس بالمعنى الأوَّل، ولكن هم أيضًا قد نقصَ عندهم المال، فقال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾.
والمراد بهذه الآية: الذينَ هاجروا مع النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من مكَّة إلى المدينة؛ فهؤلاء هم المعنيُّونَ بهذه الآية، فوصفَهم الله بهذه الصِّفَة، لأنَّهم تركُوا أموالهم وبيوتهم ومساكِنَهم، وتركوا كلَّ ما لديهم، وخرجوا ناصرينَ للدِّين مهاجرين إلى الله ورسوله -رضيَ الله عنهم وأرضاهم- فافتقروا، ولهذا لمَّا نزلوا المدينةَ حثَّ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على إيوائهم ومساعدتهم، وقال الله في مدح الأنصار في الآية التي بعدها: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9].
ثم قالَ في الآية التي بعدها: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر: 10]، وهذه الآية إلى أن تقوم السَّاعَة، فكلُّ مَن اتَّصفَ بهذا الوصف فهو مِن التَّابعين وأتباع التَّابعين، ومن سَارَ على هذا المنهج إلى أن يرِثَ الله الأرضَ ومَن عليها.
ولهذا قال الإمام مالك وجماعة من أهل العلم: "مَنْ سَبَّ أَصْحَابَ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَ فِي قَلْبِه غِلٌّ عَليهم فَلَيسَ لَه نَصيبٌ فِي الْفَيء"[20]؛ لأنَّ قوله تعالى: ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ﴾ [الحشر: 6]، الفيء يعني: الغنائم التي تنتُج عن القتال في سبيل الله والجهاد، وهذا الفيء يُقسَم إلى ثلاثة أصناف:
الصِّنف الأوَّل ذكرهم الله تعالى في قوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ﴾، فاللام هنا للتَّمليك، أي: أن الفيء يُقسَم على هؤلاء.
الصِّنف الثَّاني: ذكره تعالى في قوله: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ﴾.
الصِّنف الثَّالث: ذكره تعالى في قوله: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ﴾ يعني: يكون لهم نصيب في الفيء.
فقال الإمام مالك وغيره من العلماء: "من سبَّ أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكان في قلبه غلٌّ على أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كالرافضة؛ ليس له نصيبٌ في الفيء"؛ لأنَّهم خرجوا بهذا الغل الذي وُجدَ في قلوبهم؛ فليسوا من هؤلاء.
قال الشيخ: (وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَجَرُوا السَّيِّئَاتِ وَجَاهَدُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرً)، يعني: جمعوا بينَ الهجرة والمجاهدة مع قلَّة ذات اليد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وأرضاهم.
فهؤلاء وُصفوا بكونهم فقراء، وهذا وصفُ مدحٍ هنا وثناء، لكن لا يكون هذا الوصف لكلِّ أحدٍ، إنَّما مَن كان على نفس المهنج ونفس طريقة الصَّحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- أمَّا مَن ابتدَعَ وخرجَ عن السُّنَّة فلا يستحق هذا الوصف.
قال الشيخ: (كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ»).
أمَّا لفظ: «فِي طَاعَةِ اللهِ»، هو اللفظ الموافق للفظ الحديث.
بعدما ذكر الشَّيخُ أنَّ لفظ "الفقر" واردٌ في الكتاب والسُّنَّة؛ سينتقل الآن إلى موضوعٍ مهم جدًّا له علاقة وثيقة بموضوع الفصل، وهو أنَّ كثيرًا من هؤلاء المتصوِّفينَ والمتعبِّدينَ والمتنسِّكِينَ تركوا الجهادَ في سبيلِ الله؛ بل ذمُّوا مَن يُجاهد في سبيل الله مِن جنود الإسلام وعساكر المسلمين وتنقَّصوهم، وقالوا: إنَّ الجهاد الأكبر هو جهاد النَّفس، وسيُبيِّن الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- أنَّ أولياء الرحمن لا يُمكن أن يتنقَّصوا ما أحبَّه الله ورسوله وهو الجهاد في سبيلِ الله، ولكن هذا بشروطه وبضوابطه الشَّرعيَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (أَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِيه بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ «رَجَعْنَا مِنْ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ»، فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِأَقْوَالِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَفْعَالِهِ)}.
إذن حديث «رَجَعْنَا مِنْ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ»، حديث كذب على النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا يحلُّ لأحدٍ أن ينسبه إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَّا ليُحذِّر النَّاس، ويقول لهم: هذا كذب على النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا ترووه لا تنقلوه عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنَّه لا أصل له، ومخالفٌ لآيات وأحاديث كثيرة -كما سيأتي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَجِهَادُ الْكُفَّارِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَعْمَالِ ; بَلْ هُوَ أَفْضَلُ مَا تَطَوَّعَ بِهِ الْإِنْسَانُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمً﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾.
وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "كُنْت عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ رَجُلٌ: مَا أُبَالِي أَلَّا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، إلَّا أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ وَقَالَ آخَرُ: مَا أُبَالِي أَنْ أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، إلَّا أَنْ أُعَمِّرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِمَّا ذَكَرْتُمَا فَقَالَ عُمَرُ: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَكِنْ إذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ سَأَلْته فَسَأَلَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ")
}.
أنزلَ الله تعالى قوله ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ﴾، فبيَّنَ الله -عزَّ وَجَلَّ- في هذه الآية الكريمة وفي غيرها أنَّ الجهاد أفضل، وقال -عزَّ وَجَلَّ: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾، فجهاد الكفَّار من أعظَمِ الأعمال؛ بل هو أفضل ما تطوَّع به الإنسان.
وقد اختلفَ العلماء في أفضلِ التَّطوُّع بعدَ الفرائض، ففضَّل بعضهم العلم، وفضَّل بعضهم الجهاد، والحقيقة أنَّ طلب العلم لنصرة الإسلام ونُصرَة سنَّة النَّبي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- والرَّد على مَن يُشكِّك في هذا الدين أو ينشر الشُّبهات هذا من الجهاد في سبيل الله.
وهذه النُّصوص تُبيِّن لك بُطلان ما يظنُّه بعضُّ النَّاس من أنَّ الجهاد الأكبر هو جِهاد النَّفس؛ بل إنَّ الجهاد الأكبر والأفضل عند الله هو جهاد أعداء الله بالقتال في سبيل الله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَ». قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ». قُلْت: ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَوْ اسْتَزَدْته لَزَادَنِي")}.
وهذا صريحٌ في تقديم برِّ الوالدين على الجهادِ في سبيلِ الله، وهذا يُبيِّنُ لك عِظَم حقِّ الوالدين، فبعض مَن لا فقه عنده ولا بصيرة ولا معرفة بالشَّريعة يظنُّ أنَّ الجهاد مقدَّمٌ على برِّ الوالدين، والرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخَّره مع فضله العظيم، فبيَّنَ أنَّ البرَّ مقدَّمٌ، ومع الفضلِ العظيم للجهاد والذي كثُرَت فيه الأحاديث والآيات في فضائله وثوابه العظيم، فلمَّا قدَّم البرَّ علمنا أنَّ فضلَ برّ الوالدين أعظم مِن الجهاد في سبيل الله، ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للرجل الذي جاءه يستأذنه في الجهاد: « أَحَيٌّ وَالِدَاكَ أحدهما أو كلاهما؟». قال: بل كلاهما. قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ»[21]؛ فلابدَّ من تقديم حقِّ الوالدين واستئذانهما أيضًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ -سُئِلَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ: «إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ» قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ «حَجٌّ مَبْرُورٌ».
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلِ يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: «لَا تَسْتَطِيعُهُ أَوْ لَا تُطِيقُهُ»، قَالَ فَأَخْبِرْنِي بِهِ قَالَ: «هَلْ تَسْتَطِيعُ إذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ وَتَقُومَ وَلَا تَفْتُرَ؟»)
}.
الله أكبر!
هل يستطيع أحد أن يصومَ الأيَّامَ كلَّها ولا يُفطر، ويقوم الليل ولا يفتر؟
الجواب: لا يستطيع! فالمجاهد الذي يُجاهد أعداء الله بقتالهم والدِّفاع عن بلاد الإسلام لا شكَّ أنَّه حازَ هذا الأجر وهذا الثَّواب العظيم، ولا أحد يستطيع أن يلحق به، وهذا يُبيِّنُ لك فضل الجهاد، وليس كما يزعم هؤلاء أنَّ الجهاد الأكبر هو مجاهدة النَّفس، لا شكَّ أنَّك يجب عليك أن تُجاهدَ نفسَك، والجهادُ أنواعٌ؛ ولكن أعلى درجاتِه هو جهادُ الكفَّار، وجهادُ الشيطان، وجهادُ المنافقين، وجهادُ النَّفسِ الأمَّارة بالسُّوء، وجهادُ أهل المعاصي أيضًا، ولكن لكلِّ مقامٍ مقالًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَفِي السُّنَنِ عَنْ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ وَصَّاهُ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ؛ اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقِ حَسَنٍ». وَقَالَ: «يَا مُعَاذُ إنِّي لَأُحِبُّك، فَلَا تَدَعُ أَنْ تَقُولَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ: اللَّهُمَّ أَعَنِّي عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك». وَقَالَ لَهُ - وَهُوَ رَدِيفُهُ - «يَا مُعَاذُ: أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟» قُلْت اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «حَقُّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا.أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ ؟» قُلْت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «حَقُّهُمْ عَلَيْهِ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ».
وَقَالَ أَيْضًا لِمُعَاذِ: «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ». وَقَالَ: «يَا مُعَاذُ أَلَا أُخْبِرُك بِأَبْوَابِ الْبِرِّ ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَقِيَامُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ ثُمَّ قَرَأَ ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾» ثُمَّ قَالَ: «يَا مُعَاذُ أَلَا أُخْبِرُك بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ ؟». قُلْت بَلَى. فَقَالَ: «أَمْسِكْ عَلَيْك لِسَانَك هَذَا فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ». قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ فَقَالَ: «ثَكِلَتْك أُمُّك يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ»)
}.
هذه الأحاديث عَن معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كلُّها تدلُّ على أنَّ هذه الأعمال هي أعمال أولياء الرَّحمن، وهي أعمال يُحبُّها الله ورسوله، وأعمالٌ شرعَها الله لعبادِه كلِّهم، فالتَّقوى وإتباع السِّيئة بالحسنة، والخلق الحَسَن، والدُّعاء لله بقول: «اللَّهُمَّ أَعَنِّي عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك»، ومعرفة حق الله -عزَّ وَجَلَّ- وهو الذي قال لمعاذ: «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»، ثم ذكر له الصَّوم وقيام الليل والصَّدقة، وأيضًا إمساك اللسان؛ فكلُّ هذا يُبيِّنُ أنَّ هذه أعمالُ الخيرِ وأعمالُ البرِّ هي أعمالُ عبادِ أولياء الرَّحمن أولياء الله، فلا يجوز أن نُهوِّن بها أو نستخفَّ بها، أو نقول هذه أشياء صغيرة أو نحتقرها، أو نقول إنَّ هذه للعامَّة دون الخاصَّة، فهؤلاء أفضل النَّاس، وهذه هي وصايا النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأصحابه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.
وفي قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمعاذ: «أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟». فقال معاذ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَقُّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئً»، فهذه مسألة عظيمة جدًّا، وهي معرفة حقِّ الله الذي فرضَه على عباده.
ثم قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟»، فهذا حق تكرَّم الله به على عباده فضلًا منه وجودًا وإحسانًا؛ قال: «حَقُّهُمْ عَلَيْهِ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ». نسأل الله أن يجعلنا وإيَّاكم ممَّن حقَّقَ التَّوحيد.
والشَّيخ محمد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ- بنَى عنوان كتابه المشهور العظيم النَّفع "كتاب التَّوحيد الذي هو حق الله على العبيد" من هذا الحديث، لقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَقُّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئً».
وأورد الشَّيخ أربعة أحاديث عن معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ثم ذكر آخرها حديث إمساك اللسان، وأنَّ إمساكه سببٌ للخيرِ، فتساءل معاذ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَكِلَتْك أُمُّك يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ»)، سبحان الله! اللسان هو الحصَّادة التي تحصد يوميًّا كلَّ كلمةِ، سواء غِيبةٍ أو نميمةٍ، أو سبٍّ، أو كذبٍ، إلى آخره؛ فلا يشعر بكثرة هذه الكلمات من كثرة كلامه؛ فكلها تجتمع عليه، فإذا تابَ تاب الله عليه.
والمقصود هنا: أنَّ الشَّيخ خرجَ إلى جانبٍ مُهم غلط فيه أيضًا المتصوفة وغيرهم، وهو موضوع السُّكوت والصَّمت، فاحتاج أن يوضِّح هذا المعنى بما سنقرأه الآن..
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَتَفْسِيرُ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»، فَالتَّكَلُّمُ بِالْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْ السُّكُوتِ عَنْهُ، وَالصَّمْتُ عَنْ الشَّرِّ خَيْرٌ مِنْ التَّكَلُّمِ بِهِ، فَأَمَّا الصَّمْتُ الدَّائِمُ فَبِدْعَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَكَذَلِكَ الِامْتِنَاعُ عَنْ أَكْلِ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَشُرْبِ الْمَاءِ فَذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ الْمَذْمُومَةِ أَيْضًا، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ: «مَا هَذَا؟». فَقَالُوا: أَبُو إسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ فِي الشَّمْسِ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرُوهُ فَلْيَجْلِسْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ»)}.
فهذا مِن الأغلاط -كما تقدَّم- وهو أنَّ بعضَ المتصوِّفة يرى أنَّ الصَّمت مُطلقًا عبادة، فيسكت يومًا أو يومين أو ثلاثة ولا يتكلَّم مع أحدٍ، ولا يجيب أحدًا ولا يردُّ على أحدٍ، ويتديَّن لله بهذا، ويسمُّون هذا الصَّمت الدَّائم، فيقول: أنا ما أقول إلَّا الذكر. وبعضهم يقول: أنا أردُّ بالآيات القرآنيَّة فقط! وهذا كله من البدع المنهي عنها.
أولًا: الكلامُ بالخيرِ مَطلوبٌ، إذا كانَ الكلام واجبًا صارَ كلامه حينئذٍ واجبًا، مثل: الأمر بالمعروف، ومثل: تذكير النَّاس بالخير، ومثل: الرَّد على الوالدين وخدمتهما، والكلام الطيب، وخفض الجناح لهما، ومثل ما يجب على الإنسان ما يقوله تجاه زوجته أو تجاه ولده أو تجاه خادمه، ومثل: ألفاظ عقود البيع والشراء، فهذه واجبة حتى تتم العقود وتصح.
ثانيًا: هناك كلمات ليست بشرٍّ وليست بخيرٍ؛ مثل: الكلام المباح؛ فحينئذٍ نقول: لو سكتَ عن الكلام الذي لا ينفعه فالسُّكوت فيه مصلحةٌ هنا، إذا كان الكلام ليس فيه خيرٌ وليس فيه حسنةٌ ولا فائدةٌ؛ فلو سكت عنه لكان طيبًا.
ثالثًا: التَّكلُّم بالشَّرِّ إثمٌ ومعصيةٌ.
أمَّا أن يقول: أنا أسكتُ مُطلقًا؛ فهذا الصَّمتُ بدعة.
ومثل ذلك: الامتناع عن أكلِ الخبز، وبعضهم لا يأكل اللحم، وبعضهم لا يشرب الماء، وبعضهم لا يتزوَّج ويتبتّل؛ فهذا كله من البدع المذمومة المنهي عنها.
وذكر المؤلف رجلًا في زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كنيته أبو إسرائيل، نذَرَ أن يقف في الشَّمسِ ولا يستظل، ويظنُّ أنَّ هذا يُقرِّبه إلى الله وأنَّ هذا عملٌ طيبٌ، فألزم نفسَه بهذا النَّذر.
وبعض النَّاس يقول: أنا نذرتُ ويجب أن أوفي بنذري!
نقول: لا، انتبه! وانظر إلى حُكِم النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هنا، وهذا الرجل نذرَ أن لا يتكلَّم مع أحدٍ وأن لا يرد على أحد ويتقرَّب لله بهذا، ونذر أن يصوم، فجمع في نذره بين شيئين مَنهيٌ عنهما، وشيء مَشروع وهو الصَّوم.
فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرُوهُ فَلْيَجْلِسْ»؛ لأنَّه نذر أن يقوم في الشَّمس.
وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَتَكَلَّمْ»؛ لأنَّه لا يجوز الامتناع عن الكلام.
ثم قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ»، فنهى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن البدعة وأمر بالسُّنَّة، وميَّز بينهما، وهذا هو الواجب في الفتاوى وفي القضاء؛ فإذا جاءت الأمور فيها جهالات وبدع وفيها شيء من الحق من أجل أن يُفصَل بينهم، فتُردُّ الجهالات إلى السُّنَّة كما قال عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رِجَالًا سَأَلُوا عَنْ عِبَادَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَأَنَّهُمْ تقالوها، فَقَالُوا وَأَيُّنَا مِثْلُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ وَلَا أَنَامُ وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَالُ رِجَالٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ كَذَا وَكَذَا! وَلَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَقُومُ وَأَنَامُ، وَآكُلُ اللَّحْمَ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»، أَيْ سَلَكَ غَيْرَهَا ظَانًّا أَنَّ غَيْرَهَا خَيْرٌ مِنْهَا، فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ بَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ بِذَلِكَ كُلَّ يَوْمِ جُمْعَةٍ)}.
هذه قصَّةٌ عظيمةٌ، فهؤلاء الذي تقالُّوا عبادة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واعتذروا له بأنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد غَفرَ الله له ما تقدَّمَ مِن ذنبِه وما تأخَّرَ، وأمَّا هم فليسوا كحال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وظنُّوا أنَّهم لابدَّ أن يجتهدوا في العبادة، والنَّفس البشريَّة يأتيها أحيانًا مثل هذا الاندفاع والإقبال على العبادة، ويظنُّ الإنسان أنَّه سوف يستمر على هذا، وخاصَّة الشَّباب يأتيهم مثل هذا المعنى، وقد يأتي حتى بعض الكبار الكهول ونحوهم؛ وهذا بيَّنه النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيانًا شافيًا واضحًا لا تعقيب على ما قاله الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أبدًا، فبعض النَّاس يتعقَّب الرِّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا يدل على الزَّيغ، فهذه مسألةٌ خطيرةٌ.
فبعض هؤلاء امتنع من أكل اللحم تعبُّدًا لله، حتى إنَّ بعض المتأخرين من الصُّوفيَّة يقول: "لو أكلت قطعَة لحمٍ قَسَا قلبي كذا وكذا من السِّنين"! أيشٍ هذا! هل قلبك أطهر من قلب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقلب أبي بكرٍ والصَّحابة؟! فهم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- قد أكلوا اللحم، والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أكلَ اللحم، فكيف تمتنع وتتباهى بذلك، أو يأتي أتباعه ويتباهون ويمدحونه بشيءٍ نهى عنه الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!
فدين الإسلام دينٌ وسط، ليس فيه غلو هؤلاء، ولا جفاء هؤلاء، فلا نأكل ما حرَّم الله علينا، بل نأكل ما أباح الله لنا باعتدال، قال تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31].
والثَّاني يقول: أنا أصوم ولا أفطر، وهذا غلط.
والثالث: يقوم الليل ولا يرقد.
والرابع: يمتنع عن الزَّواج.
فنهى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ذلك كلِّه وشدَّدَ فيه، وخطبَ المسلمين على المنبر وقال: «مَا بَالُ رِجَالٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ كَذَا وَكَذَا!».
إذن هذا الأمر يحتاج إلى بيانٍ للنَّاس؛ لأنَّه يأتي لبعض النُّفوسِ مثل هذا الإقبال أو هذا الاندافع والتَّشديد على النَّفس، وهذا ليس من الإسلام في شيء، والدليل على ذلك: قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»، وهذه براءة من الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وسبحان الله! بعضهم يقول: أنا أُصلِّي العشاء، ثم أصفُّ قدماي وأُصلِّي وأُصلِّي وأُصلِّي الليلَ كلَّه حتى يطلع الفجر! وقد يمدح بعضُهم بعضًا فيقول: هذا فلانٌ يُصلِّي الفجرَ بوضوء العشاء كذا وكذا من السَّنوات!
وهذا غلطٌ! حتى لو فعله رجلٌ فيه خيرٌ فقد أخطأ أيضًا وخالفَ السُّنَّة؛ فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصلِّي ويرقد في الليل، فالسُّنَّة أنَّه إذا صار نشيطًا وعنده قُدرةٌ يقوم نصف الليل أو ثلثَه أو سدسه أو يُصلِّي ما تيسَّرَ له، لابدَّ أن يُصلِّي لأنَّ هذا من السُّنَّة، ولكن لو لم يُصلِّ في الليل وقد صلَّى العشاء والفجر فالحمد لله، كما في حديث الأعرابي قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ»[22].
ولكن يأتي عند بعض النَّاس اعتقادٌ أنَّ الصَّلاة طوال الليل وألَّا ينام هو الأكمل! فمن اعتقدَ هذا الاعتقاد أو عمل بهذا فقد خالف السُّنَّةَ.
يقول الشيخ: (أَيْ سَلَكَ غَيْرَهَا ظَانًّا أَنَّ غَيْرَهَا خَيْرٌ مِنْهَا، فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)، لقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَيْسَ مِنِّي»، وأنت يا مسلم وأنتَ تسمع هذا الكلام هل ترضَى أن يقول لك النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنتَ لستَ مني؟! لا شكَّ أنَّه لا يوجد مسلم يرضى بهذا!
فاحذر مِن هذه الأمور التي تجعلك لست من النَّبي في شيء، وهي التَّشدُّد على النَّفس، والتَّكلُّف على النَّفس في العبادة، وهذا معنى قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الخطبة التي يُكررها كلَّ جمعة: «أَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، هديه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في العبادة، وفي الاعتقاد، وفي الأخلاق، وفي الأعمال، وفي الأحكام والقضاء؛ وهديه في كل ما جاء به -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهذا هو الواجب.
إذن؛ عرفنا من خلال هذا الفصل:
Ø   أنَّ أولياء الله -عزَّ وَجَلَّ- أولياء الرحمن ليس لهم علامات يتميَّزونَ بها، أو وظيفة مُعيَّنة، أو مَنصب مُعيَّن، أو لباس مُعيَّنٌ.
Ø   وأنَّ أولياء الله -عزَّ وَجَلَّ- يكونوا في التُّجار، ويكونون في الصُّنَّاع، ويكونون في الزُّراع، ويكونون في المجاهدين، ويكونون في القُرَّاء والعُلماء؛ إذا اتَّقوا الله وعملوا بما أوجبَ الله وتركوا ماحرَّم الله.
Ø   وعرفنا الغلطَ في المسائل التي مرَّت معنا، مثل ما يقع فيه بعض المتصوفة من ترك الكلام، أو التَّهوين من شأن الجهاد في سبيل الله، والاستخفاف به، أو الامتناع من أكل المباح واللبس المباح؛ فهذا ليس من الدين الإسلامي، ومَن فعل هذه الأشياء عرفنا أنَّه خرج عن طريق أولياء الرحمن.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَصْلٌ وَلَيْسَ مَنْ شَرْطِ وَلِيِّ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا لَا يَغْلَطُ وَلَا يُخْطِئُ ; بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ بَعْضُ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ بَعْضُ أُمُورِ الدِّينِ، حَتَّى يَحْسَبَ بَعْضُ الْأُمُورِ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَتَكونُ وَمِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ فِي بَعْضِ الْخَوَارِقِ أَنَّهَا مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَكُونُ مِنْ الشَّيْطَانِ لَبَّسَهَا عَلَيْهِ لِنَقْصِ دَرَجَتِهِ وَلَا يَعْرِفُ أَنَّهَا مِنْ الشَّيْطَانِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ وِلَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى ; فَإِنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- تَجَاوَزَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ- اسْتَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ وَقَالَ: «قَدْ فَعَلْت». فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ قَالَ: دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يَدْخُلْهَا قَبْلَ ذَلِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُولُوا: «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَ»، قَالَ فَأَلْقَى اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَ﴾ إلَى قَوْلِهِ: ﴿أَوْ أَخْطَأْنَ﴾ قَالَ اللَّهُ: «قَدْ فَعَلْت». ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَ﴾ قَالَ: «قَدْ فَعَلْت». ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ قَالَ: «قَدْ فَعَلْت»)
}.
هذا الفصل يُبيِّن فيه -رَحِمَهُ اللهُ- أنَّ الولي ليس بمعصومٍ، وهذا فيه ردٌّ على عقيدةٍ ضالَّة تُوجد عند بعض الفئات الضَّالَّة والفِرَق المنحرفَة، وهو أنَّهم يعتقدونَ أنَّ الولي أو الإمام معصومٌ من الخطأ صغيره وكبيره، وهذا كلامٌ غيرُ صحيحٍ؛ بل إنَّ الولي حقًّا وهو المؤمن التَّقي ليس بمعصومٍ، فكيفَ بمَن يدَّعونَ فيه الولاية وهو ليس بوليٍّ أصلًا، مثل أن يكون من أولياء الشيطان!
ثم فصَّل الشَّيخ في هذا وبيَّن أنَّ المؤمن الذي هو ولي حقًّا قد يكون جاهلًا فتخفَى عليه بعضُ الأحكامِ الشَّرعيَّة، وقد تشتَبِه عليه الأمور، وهذا مِن الجهل أيضًا، ولكن بسببِ وجود بعض الخوارق أو الأشياء الغريبة التي تخرج عن العادة؛ فيظن أنَّها علامات على صحَّة الشَّيء فيُخطِئ.
إذن؛ الولي قد يجهل وقد يُخطِئ، ولكن إذا كانَ مستقيمًا على الإيمان والتَّقوى وعلى السُّنَّة فإنَّ هذا الخطأ الذي وقعَ فيه أو الجهل الذي وقع فيه لا يُخرجه عن السَّنَّة، ولا يُخرجه عن الإيمان، وهو ممَّن وعدَهم الله بالمغفرة، وأوردَ الآيات التي في آخر سورة البقرة، والآية التي في سورة الأحزاب، وهي تدلُّ على أنَّ الخطأ الذي يقع فيه المؤمن أنَّه محل مغفرة الله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَدْ قَالَ تَعَالَى ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَمْرِو بْنِ العاص -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- مَرْفُوعًا أَنَّهُ قَالَ: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»، فَلَمْ يُؤَثِّمْ الْمُجْتَهِدَ الْمُخْطِئَ، بَلْ جَعَلَ لَهُ أَجْرًا عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَجَعَلَ خَطَأَهُ مَغْفُورًا لَهُ، وَلَكِنَّ الْمُجْتَهِدَ الْمُصِيبَ لَهُ أَجْرَانِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ ; وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ وَلِيُّ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يَغْلَطَ لَمْ يَجِبْ عَلَى النَّاسِ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ مَا يَقُولُهُ مَنْ هُوَ وَلِيٌّ لِلَّهِ لِئَلَّا يَكُونَ نَبِيًّا ; بَلْ وَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّ اللَّهِ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى مَا يُلْقَى إلَيْهِ فِي قَلْبِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ، وَعَلَى مَا يَقَعُ لَهُ مِمَّا يَرَاهُ إلْهَامًا وَمُحَادَثَةً وَخِطَابًا مِنْ الْحَقِّ؛ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِضَ ذَلِكَ جَمِيعَهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنْ وَافَقَهُ قَبِلَهُ وَإِنْ خَالَفَهُ لَمْ يَقْبَلْهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَمُوَافِقٌ هُوَ أَمْ مُخَالِفٌ ؟ تَوَقَّفَ فِيهِ)
}.
قوله: (وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَمْرِو بْنِ العاص -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- مَرْفُوعًا أَنَّهُ قَالَ «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»)، إذن الحق واحد ولا يتعدَّد، وبهذا نعرف غلط من يزعم نسبيَّة الحق وأنَّه يتعدَّد، فهذا كلام باطل! قال تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ﴾ [يونس: 32].
وَلَمَّا كان القاضي محلَّ اجتهادٍ لم يُؤثِّم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المجتهد المُخطئ؛ لأنَّه قال: «فَلَهُ أَجْرٌ»، قال الشيخ: (فَلَمْ يُؤَثِّمْ الْمُجْتَهِدَ الْمُخْطِئَ، بَلْ جَعَلَ لَهُ أَجْرًا عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَجَعَلَ خَطَأَهُ مَغْفُورًا لَهُ، وَلَكِنَّ الْمُجْتَهِدَ الْمُصِيبَ لَهُ أَجْرَانِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ)، ولا شكَّ أنَّ المجتهد المصيب أفضل، ولكن لم يخرج المجتهد المخطئ عن ولاية الله، ولكن الذي أصاب أعلى منه درجة؛ لأنَّ الله وفَّقَه؛ ولأنَّه قام بالعلم.
ومن هُنا نصلُ إلى النَّتيجة المهمَّة، وهي: أنَّ ما يقوله وليُّ الله لا يجب قبوله على الإطلاق؛ بل يُعرَض كلامه هلى الكتاب والسُّنَّة، فما وافق الكتاب والسُّنَّة فهو حقٌّ، وما خالف الكتاب والسُّنَّة فهو مردودٌ، ولو قاله مَن هو ليٌّ لله، وذلك حتى لا يُجعَلُ نبيًّا، لأنَّه إذا قلنا إنَّ كل ما قاله وليُّ الله يُقبَل؛ جعلناه بذلك نبيًّا، وهذا لا يُمكن.
وحتى الشَّخص الذي يُقال عنه: إنَّه وليُّ الله -وهو المؤمن التَّقي- لا يجوز له أن يعتمِدَ على ما يُلقَى في قلبه، فلا يقول: أُلقيَ في روعي، أو حسستُ، أو شعرتُ بأن هذا القول أحسن؛ بناء على الشعور النفسي المجرد، أو يقول إني أُلهِمتُ إلهامًا.
نقول: لا؛ لا تعتمد على الإلهام ولا على الشُّعور النَّفسي، ولا على ما يُلقَى في قلبك.
يقول مثلًا: أنا سمعتُ صوتًا، أو هتفَ هاتفٌ في أذني أنَّ هذا هو الصَّواب.
نقول: لا تعتمد على هذه الأشياء إطلاقًا، ولكن المعتمَد عليه هو ما جاء به الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإن كان هذا الكلام موافِقًا لما جاء به الرَّسولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبلناه، وإن كان مخالفًا لِما جاء به الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَددنَاه، ويجب عليك أنتَ أن تردَّهُ، وإذا لم نعلم هذا موافق أو غير موافق لكوننا لم نتضلَّع في العلم فنتوقَّف، ولكن لا نجعل كلام الولي في شعوره وفي أحاسيسه هو الحجَّة!
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ طَرَفَانِ وَوَسَطٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ إذَا اعْتَقَدَ فِي شَخْصٍ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ وَافَقَهُ فِي كُلِّ مَا يَظُنُّ أَنَّهُ حَدَّثَ بِهِ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ، وَسَلَّمَ إلَيْهِ جَمِيعَ مَا يَفْعَلُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ إذَا رَآهُ قَدْ قَالَ أَوْ فَعَلَ مَا لَيْسَ بِمُوَافِقِ لِلشَّرْعِ أَخْرَجَهُ عَنْ وِلَايَةِ اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا، وَخِيَارُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا، وَهُوَ أَنْ لَا يُجْعَلَ مَعْصُومًا وَلَا مَأْثُومًا إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا، فَلَا يُتَّبَعُ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ، وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ وَالْفِسْقِ مَعَ اجْتِهَادِهِ.
وَالْوَاجِبُ عَلَى النَّاسِ: اتِّبَاعُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَمَّا إذَا خَالَفَ قَوْلَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَوَافَقَ قَوْلَ آخَرِينَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ أَنْ يُلْزِمَهُ بِقَوْلِ الْمُخَالِفِ وَيَقُولَ هَذَا خَالَفَ الشَّرْعَ)
}.
هذه المسألة نختم بها هذا الدرس.
النَّاس في هذا المقام يقع فيهم غلو في الطَّرفين، وخيرُ الأمور أوسطها.
الطَّرف الأوَّل: إذا اعتقد أنَّ هذا الشَّخص وليٌّ لله -عزَّ وَجَلَّ- يقول: نقبل كلَّ ما قاله، وكل ما حُدِّثَ به قلبه، ونُسلِّم إليه في كلِّ شيء؛ فيقبله على عَلَّاته وتجاوزاته بزعمِ أنَّه وليٌّ لله، وهذا غلط؛ بل يجب أن يُعرَض كلامه على الكتاب والسُّنَّة، فليس الولي مصدرًا للتَّلقِّي عندنا، فمَن يزعم أنَّ الولي مَعصوم فهذا مخالفٌ للكتاب والسُّنَّة، وستأتي دلائل كثيرة تدل على هذا، وأنَّ أفاضل عباد الله المؤمنين من الصَّحابَة قد غلطوا ونُبِّهوا على غلطهم، فلا يُجعَل الولي محل عصمة؛ لأنَّ هذا مخالفٌ للكتابِ والسُّنَّة.
الطَّرف الثَّاني: مَن إذا رآى الولي المؤمن الصَّالح التَّقي قال قولًا مخالفًا للشَّرع؛ قال: هذا ليسَ بوليٍّ، وليسَ بمؤمنٍ، وأخرجه من ولاية الله بالكليَّة بناء على خطأ أخطأه، ومعلوم أنَّ الخطأ إذا كان صادرًا عن اجتهادٍ فإنَّه مغفورٌ -كما مرَّ معنا في الآيات، فكيف تُخرجه عن ولاية الله! فهذا الصِّنف يتعامل مَع المجتهد المخطئ تعاملًا قاسيًا.
الطَّرف الثَّالث: لا يجعله مَعصومًا، ولا يجعله مَأثومًا إذا كان مُجتهدًا، فإذا أخطأ لا يُؤثِّمَه ولا يُخرجه من ولاية الله، قال الشيخ: (فَلَا يُتَّبَعُ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ، وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ وَالْفِسْقِ مَعَ اجْتِهَادِهِ).
أمَّا إذا كانَ غيرَ مجتهدٍ؛ فإذا ادُّعِيَت فيه الولاية فهو كذَّاب، أو ادُّعِيَت فيه الولاية وهو يتعمَّد مخالفةَ الكتاب والسُّنَّة؛ فهذا ليس بمجتهدٍ، وهذا يُحكَم عليه بمقتضَى ما عمل، فإن كانَ عمِلَ كفرًا، فيُحكَم عليه بالكفر كأن يدَّعي أحدهم أنَّه هو الله -تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا- فيقول: ما في الجُبَّة إلَّا الله. ويقول إنَّه يُصلِّي لنفسِهِ، وأنَّ الصَّلاة له هو! فهذا كله يُحكَم عليه بالكفرِ، لأنَّه أظهر الكفرَ وهذا ليسَ محلَّ اجتهاد.
فالكلام هنا في المؤمن التَّقي إذا صدرَ منه اجتهادٌ في محلِّه وهو من أهل الاجتهاد.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالْوَاجِبُ عَلَى النَّاسِ: اتِّبَاعُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَمَّا إذَا خَالَفَ قَوْلَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَوَافَقَ قَوْلَ آخَرِينَ)، يعني إذا اتَّبع هذا الولي قولَ فقيه دونَ غيره وكانت المسألة فيها خلاف؛ فحينئذٍ لا يُمكن أن نُلزمه بقول مَن خالفَهُ، ونقول إنَّه خالف الشَّرع، لأنَّه محلَّ اجتهادٍ وخلاف بينَ أهل العلم، وهذا إذا لم يظهر الدَّليل، أمَّا غذا إذا ظهرَ الدَّليل ووضح الحق فلا يجوز أن يأخذ بقول فقيه ويترك الدليل.
فنقول: يجب اتِّباع ما جاء في الكتاب والسُّنَّة، ولو قال بعضُ الفقهاء قولًا مخالفًا للكتاب والسنَّة فقد خالف الشَّرع، والواجب على جميع المسلمين أن يتَّبعوا الشَّرع، وإذا ظهر الدَّليل بخلاف قول الفقيه فلا يُتَّبع قول الفقيه، وهذا في الخلاف المتوازن بينَ العلماء، وكلٌّ يتمسَّك بشيءٍ ظهَرَ له، ولم يظهر فيه الدليل الصَّريح الذي يُبيِّن الحق، فلا إنكار في مسائل الاجتهاد، أمَّا المسائل التي ليست محلَّ اجتهادٍ لظهور الدَّليل؛ فإنَّه يُنكرُ على مَن خالفَ الدَّليلَ.
ونقفُ عند هذا الموضع، ونُكمل -إن شاء الله تعالى- في الدرس القادم، ونسأل الله -جلَّ وع!لا- لن!ا ولكم التَّوفيق والسَّداد، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.
---------------------------
[20] شرح النووي على صحيح مسلم
[21] رواه مسلم
[22] رواه مسلم (11)
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك