الدرس الخامس
فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سليمان الفهيد
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء
العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم
معالي الشَّيخ}.
حيَّاكم الله وبارك الله فيكم.
{سنشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- في فصل "صفات المنافقين وأمور الجاهليَّة" من
كتاب "الفُرْقَانُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ"}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله
وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
نحمدُ الله -سبحانه وتعالى- أن جعلنا من أهل الإسلام، ونسأل الله أن يُثبِّتنا
عليه، وقد أمرنا الله -سبحانه وتعالى- في سورة الفاحة أن ندعوه بهذا الدُّعاء:
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 6-7]، فبيَّن أنَّ
الصِّراط الموصل إلى الله الذي يجب طلبه ولزومه والاستقامةَ عليه حتَّى الممات هو
المستقيم الذي عليه النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهو أوَّلُ المنعَم
عليهم، وعليه الصَّحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.
وبيَّن -سبحانه وتعالى- يُخالفُه قسمان:
· الأولى: المغضوب عليهم.
· والثانية: الضالُّون.
وفي هذا إشارة واضحة ودليل صريحٌ على أنَّ العباد ينقسمون إلى:
· أولياء لله -جلَّ وعَلا: وهم المؤمنون المتَّقون المتَّبعون للرَّسول
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المستقيمون على هذا الصِّراط.
· أناسٌ خالفوا هذا الصراط: سواءٌ كانوا من اليهود والنَّصارى، أو مَن
شابَهَهم، فهم إمَّا مغضوب عليهم، عندهم علم ولكنَّهم تركوا الحقَّ عن عنادٍ
واستكبارٍ، أو أنَّهم ضالُّون قد عبدوا الله على جهلٍ.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- في كتاب الفُرقَان فيما
تقدَّم قراءته الأمثلة والأدلَّة والبراهين على التَّفريق بينَ أولياء الرَّحمن
وأولياء الشَّيطان، وذكر جملة صالحةً من العلامات المبيِّنَة لهؤلاء وهؤلاء، حتى لا
يلتبس أمرهم على المسلم، وبيَّنَ النُّصوص الشَّرعيَّة في هذا، وفصَّلَ أحسنَ
تفصيلٍ.
ثم بدأ في هذا الفصل يتكلَّم عن مسألةٍ مُهمَّةٍ، وهي أنَّ أولياء الله -عزَّ
وجلَّ- لا يلزم أن يكونوا على حالٍ واحدةٍ، بل قد يفعلون المعاصي، وقد يقع فيهم
التَّقصير والنَّقص، وقد يقع فيهم النِّفاق الأصغر، فهذا حال المؤمن العاصي الذي
يقع في المعاصي والذُّنوب التي لا تصل إلى حدِّ الشِّركِ الأكبر، ولا تصل إلى حدِّ
الكُفر الأكبر، فيكون فيه أمران:
· الأول: ولايته لله -عزَّ وجلَّ- بفعل الواجبات وترك المحرمات.
· والثاني: ولايته للشيطان بفعله لتلك المعاصي، أو وقوعه في ذلك النِّفاق
الأصغر، أو البدعةِ التي لا تكفره، ونحو ذلك.
فهذا قد يقع من المؤمن، ولا يخرج من الملَّة، فهؤلاء ليسوا بأولياءٍ خُلَّص لله،
وليسوا بأولياء للشيطان خُلَّص؛ بل فيهم ولايةٌ لله -عزَّ وجلَّ- بإيمانهم
وإسلامهم، وفيهم ولايةٌ للشيطانِ بسبب مَعاصيهم، أو نفاقهم الذي لم يُخرجهم من
الملَّة، فيكونُ فيهم شُعبةٌ من الإيمان، وشُعبَةٌ من النِّفاق، المؤلف يتكلَّم هنا
عن هذا الفريق.
{قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصلٌ في صفات المنافقينَ وأمور
الجاهليَّة)}.
هذا العنوان ليسَ من وضع المصنِّف، وكذلك ليس مضمون هذا الفصل ما كُتِبَ في هذا
العنوان، فلعله من اجتهاد الطَّابع.
{قال: (فَصْلٌ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَفِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ
نِفَاقٍ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ
قَالَ «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ
خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إذَا
حَدَّثَ كَذَبَ؛ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا
عَاهَدَ غَدَرَ». وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ
قَالَ : «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً:
أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ
الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ»، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ مَنْ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ هَذِهِ
الْخِصَالِ فَفِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَ)}.
هذا اجتماع الإيمان والنِّفاق، والمراد بالنِّفاق هنا النِّفاق الأصغر، فمن الناس
مَن يقع في هذا، وعلى المؤمن أن يسعى إلى التَّخلُّص من المعاصي والنِّفاق والبدع.
وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ
بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً»، فيه فائدة، وهي: أنَّ الولاية لله -عزَّ وجلَّ-
تتفاضل، ويتفاضل أهلها بحسبِ ما قام بهم من شُعَب الإيمان، فإذا اجتهد في تحقيق
شُعب الإيمان زاد إيمانه، وزادت ولايته لله، وإذا نقصَ نقصَت، فالإيمان يزيد وينقص.
{قال: (وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ -وَهُوَ مِنْ
خِيَارِ الْمُؤْمِنِينَ: «إنَّك امْرُؤٌ فِيك جَاهِلِيَّةٌ». فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ؛ أَعَلَى كِبَرِ سِنِّي؟ قَالَ: «نَعَمْ».
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ
الْجَاهِلِيَّةِ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ،
وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ، وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ». وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ :
إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ». وَفِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ» )}.
أبو ذر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من السَّابقين الأوَّلين من المهاجرين، فهو من خيرة
أهل الإسلام، وقدَّم الله تعالى السَّابقين الأولين من المهاجرين في القرآن،
وبيَّنَ فضلَهم، فأبو ذر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- له فضل عظيم، وهو يوازي في العلم
ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فهو من خيرة الصَّحابة -رضوان الله تعالى عليهم
أجمعين.
فلمَّا قال لغلامه المملوك: يا ابن السَّوداء، لَمَّا غضب عليه، فسبَّه وعيَّره
بأمِّه، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأبي ذر: «إنَّك امْرُؤٌ
فِيك جَاهِلِيَّةٌ». فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَعَلَى كِبَرِ سِنِّي؟ قَالَ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ». ثم قال له -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ،
فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ،
وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ
كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ»، وهذا الحديث في الصحيحين.
والشَّاهد هو: قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّك امْرُؤٌ فِيك
جَاهِلِيَّةٌ»، يعني: خصلَة من خصال الجاهليَّة، وهذا يدل على أنَّ المؤمن قد يقع
فيه هذا الشيء، وهو من أولياء الله، ولكن قد ينقص إيمانه.
وبعد هذا أكرمَ أبو ذرٍّ خادمَه وأحسنَ إليه واعتذر منه، وصار إذا دخل في مجلس
يرونه يُلبس خادمه مثلما يلبس من الثياب الطيبة، حتى كان الناس يتعجَّبون من لُبسِه
لهذا وهو خادم، فكان أبو ذر يُلبسه لباس الأحرار ويُكرمه بعدما وجَّهَه النبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لذلك؛ لأنَّه من خيار الصَّحابة.
وعلى كلِّ حال؛ إذا كان هذا الصَّحابي الجليل قيل فيه هذا، فما بالك بمَن دونه من
الناس؟!
فنحن مُطالبون جميعًا بأنَّنا نتخلَّص مِن هذه الأخطاء، ونستعين بالله -عزَّ وجلَّ-
ونستغفره ونتوب إليه.
وكذلك الحديث الآخر: «أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ»، وفي
رواية: «لا يتركونهن».
قال: «الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ»، يعني: الفخر بالأمجاد التي كانت لقبيلةٍ أو ما
شابه ذلك.
قوله: «وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ»، يعني: يطعنُ في أنسابِ النَّاس.
قال: «وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ»، برفع الصَّوتِ وشَقِّ الجيوب، ونفشِ
الشُّعور، والدُّعاء بدعوة الجاهليَّة.
قال: «وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ»، يعني: نِسبَة السُّقيا -أي المطر- إلى
النُّجوم.
فهذه كلها من أمور الجاهليَّة، ومن قامت به فقد وقعَ في أمرٍ من أمورِ الجاهليَّة،
وكان فيه جاهليَّة.
هل هي جاهليَّةٌ مُطلقَةٌ؟
نقول: لا، هي من جنس الكبائر، فهي كبيرة من كبائر الذنوب، فيستغفر الله ويتوب إلى
الله منها.
أمَّا حديث أبي هريرة في آية المنافق، فهذا مثل: الحديث الأوَّل في صفات المنافق
-نسأل الله العافية والسَّلامة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي
مُلَيْكَةَ قَالَ : أَدْرَكْت ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُلَّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ
اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ
لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ
نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ
لِلْإِيمَانِ﴾، فَقَدْ جَعَلَ هَؤُلَاءِ إلَى الْكُفْرِ أَقْرَبَ مِنْهُمْ
لِلْإِيمَانِ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ مخلِّطون وَكُفْرُهُمْ أَقْوَى وَغَيْرُهُمْ
يَكُونُ مُخَلِّطًا وَإِيمَانُهُ أَقْوَى)}.
يقول: (أَدْرَكْت ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كُلَّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ)، يعني: أنَّهم لا
يُزكُّونَ أنفسَم، وهذا من كمال إيمانهم، وشدَّة خوفهم من الله -عزَّ وجلَّ- وهم
أطهر النَّاس قلوبًا، وأعمقهم علمًا، وأقلُّهم تكلُّفًا، وأقواهم إيمانًا، فهم قدوة
المسلمين، فإذا كان هذا فعل الصَّحابة وحالهم؛ فيجب على بقيَّة المسلمين أن يخافوا
من النِّفاق، ولا يأمنوه على أنفسهم، ويجب على المؤمن أن يكون بينَ الخوف والرجاء،
فإذا خاف الإنسان على نفسه النِّفاق اتَّقاه، وابتعدَ عن أسبابه، واتَّقى الوقوع
فيه، وهذا يؤيِّد المسألة التي سبقت، وهي أنَّ المؤمن الوليَّ لله -عزَّ وجلَّ- قد
يكونُ فيهِ نفاق، فإذا وقع فيه شيءٌ من هذا فلْيتُب إلى الله ولْيستغفر، ولكن
الصَّحابة ليسوا منافقين وليس فيهم نفاق، وإنَّما المراد بالنِّفاق هنا هو يسير
الرِّياء، أو النِّفاق الأصغر الذي يقع فيه المؤمن، مثلما قال النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للصحابة: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ
الْأَصْغَرُ»، قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:
«الرِّيَاءُ»[13]. فهذا هو المراد.
ومع هذا فهم أطهر الناس، وأنقاهم قلبًا، وأبعدهم عن هذا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم
وأرضاهم- ولكن من شدَّةِ خوفهم من الله، ومن شدَّة خشيتهِم لله -عزَّ وجلَّ-
وتعظيمهم لأمره يكون عندهم شدَّة خشية وخوف من هذه الأمور، وأعظمهم وقدوتهم رسول
الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي قال: «أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ
وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً»[14]، فاللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه.
وقال الله -عزَّ وجلَّ- في المنافقين: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ
لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ
نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ
لِلْإِيمَانِ﴾، فجعل الله مَن قالوا هذه المقولة ضعفاء الإيمان، وجعلهم أقربَ
للكفرِ من الإيمان، فدلَّ على أنَّ إيمانهم ضعيف، وهذا الضَّعف سببه النِّفاق
والهوى.
قال الشيخ: (فَعُلِمَ أَنَّهُمْ مخلِّطون وَكُفْرُهُمْ أَقْوَى وَغَيْرُهُمْ
يَكُونُ مُخَلِّطًا وَإِيمَانُهُ أَقْوَى)، يعني: أنَّ هذا يحصل، فمن الناس مَن
يكون إلى الكفرِ أقرب، ومنهم مَن يكون إلى الإيمان أقرب، والناس في هذا يتفاوتون
تفاوتًا عظيمًا.
والمنافقون النَّفاق الأصغر أيضًا يتفاوتون تفاوتًا عظيمًا، فمنهم مَن يكون نفاقه
قليلًا جدًّا فيكون أقرب للإيمان، ومنهم مَن يكون نفاقه الأصغر كثيرًا جدًّا فيكون
أقرب إلى الكفر، فالناس يتفاوتون في الإيمان، ويتفاوتون في هذه الأحوال تفاوتًا
عظيمًا جدًّا، ولهذا فإنَّ المؤمن يسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يقوي إيمانه ويثبته.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِذَا كَانَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ هُمْ
الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ فَبِحَسَبِ إيمَانِ الْعَبْدِ وَتَقْوَاهُ تَكُونُ
وِلَايَتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ كَانَ أَكْمَلَ إيمَانًا وَتَقْوَى كَانَ
أَكْمَلَ وِلَايَةً لِلَّهِ.
فَالنَّاسُ مُتَفَاضِلُونَ فِي وِلَايَةِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- بِحَسَبِ
تَفَاضُلِهِمْ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَكَذَلِكَ يَتَفَاضَلُونَ فِي
عَدَاوَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ تَفَاضُلِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ
أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ
إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾. وَقَالَ
تَعَالَى : ﴿إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾. وَقَالَ تَعَالَى:
﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾. وَقَالَ
تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ
مَرَضً﴾.
فَبَيَّنَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ
قِسْطٌ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ؛ وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ قِسْطٌ
مِنْ عَدَاوَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ كُفْرِهِ وَنِفَاقِهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمَانً﴾. وَقَالَ تَعَالَى:
﴿لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ﴾)}.
هذا خاتمة الفصل، وفيه أنَّ أولياء الله -عزَّ وجلَّ- يتفاوتون بحسبِ إيمانهم
وتقواهم لله -عزَّ وجلَّ.
يقول العلماء: "مَن كان مؤمنًا تقيًّا كان لله وليًّا"، فكل مؤمن ولي، ولكن ليسوا
في منزلةٍ واحدةٍ، كما نقول في الإيمان: إنَّ أهله ليسوا بمنزلةٍ واحدةٍ، فهم
مُتفاضلونَ تفاضلًا عظيمًا، وكلَّما اجتهدَ المؤمن في الطَّاعة والتَّقوى والإيمان
زادَ في الخير، وزادت منزلته عند الله، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13].
وهذا فيه ردٌّ على طائفتين: طائفة الخوارج، وطائفة المرجئة.
وفيه بيان أنَّ الإيمان ليسَ شيئًا واحدًا، وإنَّما الإيمان قولٌ واعتقادٌ وعملٌ؛
وأنَّه يزيد وينقُص، فالمُرجئة يقولون: إنَّه شيءٌ واحدٌ لا يزيد ولا ينقص،
والخوارج يقولون: إنَّ الإيمان شيءٌ واحدٌ إذا زالَ بعضُه زالَ كله، فإذا ارتكبَ
الكبائر أو تركَ الواجبات ولو بعضًا منها كفرَ، وأخرجوه من الملة.
وأهل السنة والجماعة يقولون: إنَّ الإيمان قولٌ باللسانِ، واعتقادٌ بالجنَانِ،
وعملٌ بالجوارحِ والأركانِ، يزيد بالطَاعةِ وينقُص بالعصيانِ، فالإيمان يزداد ويقوى
حتى يبلغ مرتبة الإحسان، ويضعف ضعفًا شديدًا حتى لا يبقى منه شيءٌ -نسأل الله
العافية والسَّلامة.
يقول الشيخ: (وَكَذَلِكَ يَتَفَاضَلُونَ فِي عَدَاوَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ
تَفَاضُلِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ)، كما قلنا في الإيمان إنَّهم يتفاضلون
فكذلك في الكفر والنفاق يتفاوتون، وذكر الأدلة الصَّريحة الدَّالَّة على هذا، مثل
قوله تعالى: ﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾. وَقَالَ تَعَالَى
فِي الْمُنَافِقِينَ: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضً﴾.
فبيَّن -سبحانه وتعالى- أنَّ الشخص الواحد يكون فيه قسطٌ من ولاية الله بحسبِ
إيمانِهِ، ويكون فيه قسطٌ من عداوة الله بحسب كفره ونفاقه.
وخلاصة هذا الفصل: أنَّ أولياء الله -عزَّ وجلَّ- هم المؤمنون، وأنَّهم قد يكون
عندهم نقصٌ بسبب الذنوب والمعاصي، أو النفاق الأصغر، أو البدع الصغرى، ولا يخرجون
من الإسلام، ولا يخرجون من الولاية.
وفي مُقابل هذا نجد أنَّ أولياء الله -عزَّ وجلَّ- يتفاوتون في إيمانهم وتقواهم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَصْلٌ وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ عَلَى طَبَقَتَيْنِ:
سَابِقُونَ مُقَرَّبُونَ، وَأَصْحَابُ يَمِينٍ مُقْتَصِدُونَ. ذَكَرَهُمْ اللَّهُ
فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ
الْوَاقِعَةِ وَآخِرِهَا، وَفِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ؛ وَالْمُطَفِّفِينَ وَفِي
سُورَةِ فَاطِرٍ، فَإِنَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ذَكَرَ فِي الْوَاقِعَةِ
الْقِيَامَةَ الْكُبْرَى فِي أَوَّلِهَا، وَذَكَرَ الْقِيَامَةَ الصُّغْرَى فِي
آخِرِهَا فَقَالَ فِي أَوَّلِهَاك ﴿إذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ
لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا *
وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا * وَكُنْتُمْ
أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ *
وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ
مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ﴾ فَهَذَا تَقْسِيمُ النَّاسِ إذَا
قَامَتْ الْقِيَامَةُ الْكُبْرَى الَّتِي يَجْمَعُ اللَّهُ فِيهَا الْأَوَّلِينَ
والآخرين، كَمَا وَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فِي غَيْرِ
مَوْضِعٍ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ: ﴿فَـلَوْلَ﴾ أَيْ: فَهَلَّا. ﴿إذَا
بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إنْ كُنْتُمْ غَيْرَ
مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ
الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إنْ كَانَ
مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا
إنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ *
وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾.
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ: ﴿إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا
شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا * إنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ
وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا * إنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ
مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا
تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ
مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا
وَأَسِيرًا * إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً
وَلَا شُكُورًا * إنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا *
فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا *
وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرً﴾ الْآيَاتِ.
وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِي سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ فَقَالَ: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ
الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ *
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ *
وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ
آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ
مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ
لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا
الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ كَلَّا إنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي
عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ
الْمُقَرَّبُونَ * إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ
يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ
رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ
الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا
الْمُقَرَّبُونَ﴾)}.
هذا الفصل تابع للفصل السابق في بيان تفاضل أولياء الله -عزَّ وجلَّ- وهم المؤمنون،
فذكر أنَّ أولياء الله -عزَّ وجلَّ- على طبقتين:
· أولًا: السابقون المقربون.
· ثانيًا: أصحاب اليمين المقتصدون.
وذكر أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- بيَّن هاتين الطبقتين في مواضع من القرآن، مثل: سورة
الواقعة، وأورد الشيخ الموضوعين من سورة الواقعة، في أول السورة وآخرها، وأورد
أيضًا الآيات من سورة الإنسان، وكذلك في سورة المطففين، وأمَّا سورة فاطر فقد
أخَّرها للفصل الذي بعدَ هذا؛ لأنَّ سورة فاطر فيها ثلاث طبقات: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ
هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ [فاطر: 32]، فأضاف طبقة "الظَّالم لنفسه" على الطبقتين
السَّابقتين.
والمقصود: أنَّ أمَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ينقسم الناس فيها
إلى ثلاثة أقسام:
· السابقون بالخيرات: وهم أعلى الأولياء.
· المقتصدون: الذين فعلوا الواجبات وتركوا المحرمات.
· الظَّالمون لأنفسهم: وسيذكرهم الشيخ بالتفصيل، وما يُستفاد من هذه
الطَّبقة، وهم الذين تركوا بعض الواجبات، أو فعلوا بعضَ المحرَّمات.
نأخذ الموضع الأوَّل في سورة الواقعة، لَمَّا قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَكُنْتُمْ
أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً﴾، فذكر الله:
· أصحاب الميمنة: وهؤلاء هم المقتصدون أصحاب اليمين.
· وأصحاب المشئمة: وهؤلاء الكفار أهل النار.
· والسابقون: وهم المقرَّبون، وهم أعلى درجة.
وفي آخر السورة قال: ﴿فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ
وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾
فهاتين طبقتين:
· طبقة المقربين.
· وطبقة أصحاب اليمين.
ثم ذكر أهل النار: وهم المكذِّبونَ الضَّالُّونَ. وهذا هو الذي في سورة الواقعة.
أمَّا في سورة الإنسان، فقال تعالى: ﴿إنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ
كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورً﴾، يعني: أنَّ الأبرار في طبقة المقتصدين، وليسوا في
طبقة السَّابقين؛ لأنَّ الله قال في الآية: ﴿يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ
مِزَاجُهَ﴾ يعني: ممزوجة بالكافور وليست صرفًا خالصَة.
ثم قال: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾، يعني: عباد الله يشربونها صرفًا
خالصة، والمقصود بهم هنا السَّابقين المقربين.
ثم ذكر الله -عزَّ وجلَّ- في سورة المطففين الطبقتين: ﴿كَلَّا إنَّ كِتَابَ
الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ﴾، هم المقتصدون.
ثم قال: ﴿يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى
الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ *
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ
فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ﴾، أي: يُمزَج لهم
من عينٍ تُسمَّى: "تسنيم".
ثم قال: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾، إذن المقربون يشربونها خالصةً
صرفًا، ليس فيها خلطٌ، إذن المقربون أعلى من الأبرار.
فهذا بيان طبقة السابقين المقربين، وطبقة أصحاب اليمين المقتصدين.
والآن سيذكر شرح ابن عباس للآيات.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-
وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ قَالُوا: يُمْزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ مَزْجًا
وَيَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا وَهُوَ كَمَا قَالُوا.
فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: ﴿يَشْرَبُ بِهَ﴾ وَلَمْ يَقُلْ: يَشْرَبُ مِنْهَا؛
لِأَنَّهُ ضَمَّنَ ذَلِكَ قَوْلَهُ: يَشْرَبُ يَعْنِي: يُرْوَى بِهَا، فَإِنَّ
الشَّارِبَ قَدْ يَشْرَبُ وَلَا يُرْوَى، فَإِذَا قِيلَ: يَشْرَبُونَ مِنْهَا لَمْ
يَدُلَّ عَلَى الرِّيِّ، فَإِذَا قِيلَ: يَشْرَبُونَ بِهَا كَانَ الْمَعْنَى
يَرْوُونَ بِهَا، فَالْمُقَرَّبُونَ يَرْوُونَ بِهَا فَلَا يَحْتَاجُونَ مَعَهَا
إلَى مَا دُونَهَا؛ فَلِهَذَا يَشْرَبُونَ مِنْهَا صِرْفًا، بِخِلَافِ أَصْحَابِ
الْيَمِينِ؛ فَإِنَّهَا مُزِجَتْ لَهُمْ مَزْجً)}.
إذن أصحاب اليمين الذين مُزِجَت لهم مزجًا أقل في النَّعيم من المقربين؛ لأنَّ
المقربين يشربونها خالصة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ
الْإِنْسَانِ: ﴿كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ
اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرً﴾. فَعِبَادُ اللَّهِ هُمْ الْمُقَرَّبُونَ
الْمَذْكُورُونَ فِي تِلْكَ السُّورَةِ)}.
فالمراد بقوله تعالى: ﴿عِبَادُ اللَّهِ﴾ أي: المقربون.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَهَذَا لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ
فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ
اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى
مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ
مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ
الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا
يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا؛ سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ،
وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ
اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ؛ إلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السِّكِّينَةُ،
وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ؛ وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ
فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ».
رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ.
وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ
الرَّحْمَنُ. ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ».
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الصَّحِيحِ الَّذِي فِي السُّنَنِ «يَقُولُ اللَّهُ
تَعَالَى: أَنَا الرَّحْمَنُ؛ خَلَقْت الرَّحِمَ، وَشَقَقْت لَهَا اسْمًا مِنْ
اسْمِي، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْته وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتّهُ» وَقَالَ: «وَمَنْ
وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ» وَمِثْلُ هَذَا
كَثِيرٌ)}.
يقصد الشَّيخ -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- بهذه النُّصوص أنَّ الجزاء من جنس العمل،
فلمَّا كان حال المقربين في الدُّنيا حالُ اجتهادٍ عظيمٍ في فعل الفرائض وترك
المحرمات، والاسكثار من النوافل؛ وعدم التَّخليط، فلم يخلطوا حياتهم بالمعاصي، ولم
يخلطوا حياتهم بالإضاعة والتَّفريط؛ فصار جزاؤهم في الآخرة أنَّهم يشربون ويروون
بالعينِ دونِ مزجٍ لهم، فما مُزجَت لهم، وصارت خالصَةً صرفًا لهم؛ لأنَّهم اجتهدوا
في الدنيا اجتهادًا عظيمًا بطاعة الله ورسوله، والتَّحقُّق بالإيمان والتَّقوَى،
فصار جزاؤهم من جنسِ العمل، أنَّهم يروون بها خالصة، بخلاف مَن دونهم من المقتصدين
فإنَها تُمزَج لهم، فيشربون من هذه الكؤوس التي فيها الشَّراب الطَّيب، ولكنه ليس
مثل شراب المقربين، وكله خير، ولكن هؤلاء أعلى، ولَمَّا كان هؤلاء في الدنيا أعلى؛
صار جزاؤهم في الآخرة أعلى.
فأراد الشيخ أن يُبيِّن أنَّ هذه القاعدة واضحة في الكتاب والسنَّة، وهي أنَّ
الجزاء مِن جنس العمل، فالجزاء في الآخرة من جنس عملك في الدنيا.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ
كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ»، كُل هذا يدل على أنَّ الجزاء من جنس العمل.
فإذا سترتَ على مسلمٍ ولم تفْضحه ولم تسعَ في نشرِ ضلالاته أو أخطائه؛ بل نصحتَه
وذكَّرتَه بالخيرِ لعلَّه يتوب؛ فإذا تاب في سِترٍ، فلا تفضحه ولا تتبع عوراته، ولا
تتكلَّم في شأنه، فإذا سترته رغم وقوعه في الزَّلَّة؛ فإنَّ الله يسترك في الدنيا
وفي الآخرة، فجزاؤك صارَ من جنس عملك. وهذا فيمن يستحق الستر.
أمَّا إذا أعلنَ البدعة أو شاقَّ بالمعاصي كأن يكون مجاهرًا بها؛ فهذا يجب أن
يُؤخَذ على يده عن طريق وُلاة الأمر، حتى لا يقع الفساد في الأرضَ، كالمحاربين
وقُطَّاع الطُّرقِ ونحوهم، فهؤلاء الذين يجنون هذه الجنايات لا يُستَر عليهم، لقوله
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثً»[15].
فالمراد هنا بيان أنَّ الجزاء من جنس العمل.
وكذلك حديث: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ. ارْحَمُوا مَنْ فِي
الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ»، صارَ الجزاء من جنس العمل، ومثله ما
يتعلَّق بصلة الرَّحم.
لَمَّا قرأنا الآيات الكريمة وفيها أنَّ المقربين يشربونها صرفًا خالصةً كما في
قوله: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾، وكذلك في سورة المطففين: ﴿عَيْنًا
يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾؛ عرفنا أنَّهم كانوا في دنياهم على اجتهادٍ عظيمٍ،
فصار جزاؤهم من جنس عملهم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَوْعَيْنِ:
مُقَرَّبُونَ وَأَصْحَابُ يَمِينٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَمَلَ الْقِسْمَيْنِ فِي حَدِيثِ
الْأَوْلِيَاءِ فَقَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا
فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ، وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ
أَدَاءِ مَا افْتَرَضْته عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ
بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ؛ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي
يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ
بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَ».
فَالْأَبْرَارُ أَصْحَابُ الْيَمِينِ هُمْ الْمُتَقَرِّبُونَ إلَيْهِ
بِالْفَرَائِضِ، يَفْعَلُونَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَيَتْرُكُونَ مَا
حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَلَا يُكَلِّفُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمَنْدُوبَاتِ،
وَلَا الْكَفِّ عَنْ فُضُولِ الْمُبَاحَاتِ.
وَأَمَّا السَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ فَتَقَرَّبُوا إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ
بَعْدَ الْفَرَائِضِ، فَفَعَلُوا الْوَاجِبَاتِ والمستحبات، وَتَرَكُوا
الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ، فَلَمَّا تَقَرَّبُوا إلَيْهِ بِجَمِيعِ مَا
يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَحْبُوبَاتِهِمْ؛ أَحَبَّهُمْ الرَّبُّ حُبًّا تَامًّا
كَمَا قَالَ تَعَالَى : «وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ
حَتَّى أُحِبَّهُ»، يَعْنِي الْحُبَّ الْمُطْلَقَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿اهْدِنَا
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾، أَيّ: أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ
الْإِنْعَامَ الْمُطْلَقَ التَّامَّ الْمَذْكُورَ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَنْ
يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ
وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقً﴾، فَهَؤُلَاءِ الْمُقَرَّبُونَ صَارَتْ الْمُبَاحَاتُ
فِي حَقِّهِمْ طَاعَاتٍ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-
فَكَانَتْ أَعْمَالُهُمْ كُلُّهَا عِبَادَاتٍ لِلَّهِ، فَشَرِبُوا صِرْفًا كَمَا
عَمِلُوا لَهُ صِرْفًا، وَالْمُقْتَصِدُونَ كَانَ فِي أَعْمَالِهِمْ مَا فَعَلُوهُ
لِنُفُوسِهِمْ، فَلَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ، وَلَا يُثَابُونَ عَلَيْهِ؛ فَلَمْ
يَشْرَبُوا صِرْفًا، بَلْ مُزِجَ لَهُمْ مِنْ شَرَابِ الْمُقَرَّبِينَ بِحَسَبِ مَا
مَزَجُوهُ فِي الدُّنْيَ)}.
هذا تأكيدٌ على المعنى السَّابق، وذكر حديث «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّ»، وذكر الله
-عزَّ وجلَّ- في هذا الحديث أنَّ العبد إذا تقرَّبَ إليه بالفرائض فهذا أحب ما يكون
إلى الرَّب -سبحانه وتعالى- فقال: «وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ
أَدَاءِ مَا افْتَرَضْته عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ
بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ»، إذن الأوَّل: فَعَلَ الفرائض وَتَرَكَ
المحرَّمات، وهذا هو المقتصد.
أمَّا الثَّاني: ازداد في النَّوافل، وترك فضول المباحات؛ فهذا أعلى وأكمل،
فاستحقَّ الحب المُطلَق -أي الكامل- وهذا معنى قوله تعالى: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، فالمنعَم عليهم الإنعام الكامل هؤلاء أكمل الناس إيمانًا،
وهؤلاء هم المقرَّبون.
وأمَّا الذين فعلوا الفرائض وتركوا المحرَّمات، وخلَّطوا بفضول المباحات؛ وربَّما
أتوا ببعض المكروهات، فهؤلاء أقل في المنزلة، وإن كانوا محل محبَّةِ الله ومحل
إنعامه.
حتى الظَّالم لنفسه فإنَّه محلٌّ لمحبَّةِ الله لِمَا معه من إسلام وإيمان، ولكنَّه
في نفس المقام محلُّ غضب الله بما معه من معصيةٍ وطغيان لم يُخرجه من الدين.
وهذا التَّكرار من المصنف يُبيِّن فيه -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنَّ الأدلَّة
الشَّرعيَّة دلَّت على تفاضل أولياء الله -عزَّ وجلَّ- وهو تفاضل الموحِّدين
ومراتبهم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَنَظِيرُ هَذَا انْقِسَامُ الْأَنْبِيَاءِ
-عَلَيْهِمْ السَّلَامُ- إلَى عَبْدٍ رَسُولٍ وَنَبِيٍّ مَلِكٍ، وَقَدْ خَيَّرَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ أَنْ
يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا؛ فَاخْتَارَ أَنْ
يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا، فَالنَّبِيُّ الْمَلِكُ مِثْلُ داود وَسُلَيْمَانَ
وَنَحْوِهِمَا -عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى- فِي
قِصَّةِ سُلَيْمَانَ الَّذِي ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا
يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ
الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ
بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا
عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أَيْ أَعْطِ مَنْ شِئْت
وَاحْرِمْ مَنْ شِئْت لَا حِسَابَ عَلَيْك، فَالنَّبِيُّ الْمَلِكُ يَفْعَلُ مَا
فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَيَتْرُكُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَيَتَصَرَّفُ
فِي الْوِلَايَةِ وَالْمَالِ بِمَا يُحِبُّهُ وَيَخْتَارُ مِنْ غَيْرِ إثْمٍ
عَلَيْهِ)}.
يعني أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- ما يُحاسبه على ذلك؛ لأنَّ تقسيم الأموال جعله الله
إلى النَّبي الملك الذي أعطاه الله الملك، وهذا يُبيِّن لك أنَّه توسَّع في هذا
الأمر بما أباح الله -عزَّ وجلَّ- فالله أباحَ له أن يُعطي مَن يشاء ويُمسك عمَّن
يشاء من غير أن يُحاسبه الله -عزَّ وجلَّ.
وسيأتي أنَّ النَّبيَّ الرَّسول أعلى منزلةً من النَّبي الملك، فهذا يُبيِّن لك
أيضًا أنَّ الأنبياء يتفاضلون -عليهم الصَّلاة والسَّلام.
وقد خيَّرَ الله نبينا محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن يكونَ عبدًا
رسولًا وبينَ أن يكونَ نبيًّا ملكًا مثل إخوانه الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-
مثل سليمان وداود، وغيرهم؛ فاختار -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يكون عبدًا
رسولًا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَأَمَّا الْعَبْدُ الرَّسُولُ فَلَا يُعْطِي
أَحَدًا إلَّا بِأَمْرِ رَبِّهِ وَلَا يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَيَحْرِمُ مَنْ
يَشَاءُ، بل يُعطِي مَنْ أمرَه ربُّه بإعطائه، ويُولِّي مَن أمره ربُّه بتوليته،
فأعماله كلها عبادات لله تعالى، كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ- عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه قَالَ: «إنِّي
وَاَللَّهِ لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا إنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ
أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْت»، وَلِهَذَا يُضِيفُ اللَّهُ الْأَمْوَالَ الشَّرْعِيَّةَ
إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ﴾ وقَوْله تَعَالَى ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ
الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾ وقَوْله تَعَالَى ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ﴾)}.
هذه الآيات تدلُّ على أنَّ الرَّسول غير منفردٍ بقَسْمِ هذه الأموال، وكذلك الحديث
الذي قال فيه: «إنِّي وَاَللَّهِ لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا
إنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْت»، فصار النبي الرسول في قَسْم الأموال
والعطاء إنَّما هو بأمر الله -عزَّ وجلَّ- وليس فيما يشاؤوه منفردًا عن ربِّه،
ولهذا فإنَّ إضافة الأموال إلى الله والرسول تدلُّ على هذا المعنى.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلِهَذَا كَانَ أَظْهَرُ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ
أَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ تُصْرَفُ فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِحَسَبِ
اجْتِهَادِ وَلِيِّ الْأَمْرِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ
السَّلَفِ، وَيُذْكَرُ هَذَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد، وَقَدْ قِيلَ فِي الْخُمُسِ
أَنَّهُ يُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةٍ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي
الْمَعْرُوفِ عَنْهُ، وَقِيلَ : عَلَى ثَلَاثَةٍ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ
-رَحِمَهُ اللَّهُ)}.
قوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ﴾.
لله وللرسول قِسمٌ، ولذي القربى قسمٌ ثانٍ، ولليتامى قسمٌ ثالث، وللمساكين قسمٌ
رابعٌ، ولابن السَّبيل قسمٌ خامس؛ فوليُّ الأمر يقسم الغنيمة على خمسةٍ.
وقال أبو حنيفة: يُقَسم على ثلاثة.
فالعلماء اختلفوا في قسم الغنائم، والمقصود هنا هو بيان هذا أنَّ حال الرسول أعلى
وأكمل من حال النَّبي.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الْعَبْدَ الرَّسُولَ
هُوَ أَفْضَلُ مِنْ النَّبِيِّ الْمَلِكِ، كَمَا أَنَّ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
وَعِيسَى وَمُحَمَّدًا -عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَفْضَلُ مِنْ يُوسُفَ
وداود وَسُلَيْمَانَ -عَلَيْهِمْ السَّلَامُ- كَمَا أَنَّ الْمُقَرَّبِينَ
السَّابِقِينَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ الَّذِينَ لَيْسُوا
مُقَرَّبِينَ سَابِقِينَ، فَمَنْ أَدَّى مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَفَعَلَ
مِنْ الْمُبَاحَاتِ مَا يُحِبُّهُ فَهُوَ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَمَنْ كَانَ إنَّمَا
يَفْعَلُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَيَقْصِدُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِمَا
أُبِيحَ لَهُ عَلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ مِنْ أُولَئِكَ)}.
خلاصة الكلام: أنَّ الأنبياء والرُّسل يتفاضلون، وأنَّ منهم من هو عبدٌ رسول، ومنهم
مَن هو نبي ملك -وهو رسول أيضًا- ولكن هذا أعطاه الله الملك، وهذا لم يُعطه الله
-عزَّ وجلَّ- الملك.
وذكر من الأمثلة على الأوَّل: إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد -عليهم الصلاة والسلام-
وهؤلاء أفضل من سليمان وداود ويوسف؛ لأنَّ هؤلاء أعطاهم الله الملك.
قال الشيخ: (كَمَا أَنَّ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَبْرَارِ
أَصْحَابِ الْيَمِينِ)، وكل منهم في الجنة.
قال: (فَمَنْ أَدَّى مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَفَعَلَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ
مَا يُحِبُّهُ)، أي ما يُحبُّه الشَّخص (فَهُوَ مِنْ هَؤُلَاءِ)، يعني من أصحاب
اليمين، وليس من المقربين، لأنَّه فعل المباحات، وتوسَّع فيما تحبه نفسه مما ليس
بمحرَّمٍ.
ثم قال: (وَمَنْ كَانَ إنَّمَا يَفْعَلُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ)، فهذا
حياته كلها لله، يستثمر كل حياته ودقائقه، ولا يريد هوى نفسه، وحتى في المباح
يتجاوز إلى ما يُحبه الله، أو ينوي بالمباح أن يستعين به على طاعة الله.
قال: (وَيَقْصِدُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِمَا أُبِيحَ لَهُ عَلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ
فَهُوَ مِنْ أُولَئِكَ)، يعني من المقربين.
فالمقصود من خلال الكلام السابق: هو تفاضل الأولياء، وتفاضل أهل الإيمان إلى سابقين
مقربين، وإلى أصحاب يمين مقتصدين، وسيأتي في الفصل القادم -بإذن الله- الكلام عن
القسم الثالث وهم الظالمون لأنفسهم من هذه الأمَّة.
نسأل الله -جلَّ وعلا- أن يوفقنا وجميع إخواننا المسلمين لسلوكِ الصراط المستقيم،
وأن يثبتنا على الحق، وألا يُزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب
العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في
موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد
العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم
ورحمةُ اللهِ وبركاته}.
--------------------------
[13] رواه أحمد في "المسند" (5/429) وصححه المحققون في طبعة مؤسسة الرسالة ، وصححه
الألباني في "صحيح الجامع" (1555)
[14] رواه البخاري
سلاسل أخرى للشيخ
-
12803 18
-
16750 9
-
34826 6
-
3050 13
-
3132 12
-
4154 11
-
5557 12