الدرس التاسع

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2550 12
الدرس التاسع

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور فهد بن سليمان الفهيد؛ فأهلًا وسهلًا بكم مفضيلة الشَّيخ}.
الله يحييكم ويُحيي الإخوة جميعًا.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله واصحابه ومَن اعتدى بهداه.
لازلنا نقرأ في هذا الفصل المهم الذي عقده الشَّيخ ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- في كتاب الفرقان، والذي يُبيِّنُ فيه أنَّ أولياء الله -عزَّ وَجَلَّ- لا يُشترط أن يكونوا مَعصومينَ، بل يجوز عليهم الخطأ والغلَط، ويخفَى عليهم بعضُ العِلم، وقد يقَعونَ في المخالفةِ بسببِ النِّسيانِ أو الخطأ أو الذَّنب، وهذا لا يُنقِصُ مِن مِقدارهم إذا كانوا على الشَّريعة، وذكرَ الشَّيخ أدلَّةً على هذا، وذكرَ أنَّ النَّاس في هذا المقام طرفانِ ووسط، فمنهم مَن إذا اعتقدَ في الشَّخص أنَّه وليُّ لله وافقه في كلِّ ما يقول، ومنهم مَن يعتقد أنَّه إذا وقعَ في مخالفةٍ عادَاه وأبغضَهُ حتى ولو كانت المخالفة يَسيرة، ومنهم الوسَط، وهو ألَّا يجعل الوليَّ مَعصومًا، ولا يُجعَل مأثومًا إذا كان مُجتهدًا مُخطئًا، أمَّا إذا كانَ غيرَ مُجتهدٍ مثل: أن يتعمَّد الضَّلالة، وعرفَ الحقَّ وعاندَ؛ فهذا -والعياذ بالله- يُحكم عليه بمقتَضَى ما خالفَ، إن كانَ فسقًا فهو فاسقٌ، وإن كان كُفرًا فهو كافر، بحسبِ ما ارتكبَ من جِناية، فيخرج بذلك عن ولاية الله -عزَّ وَجَلَّ.
وهكذا النَّظر في كلام الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ- إذا اختلفوا في الأدلَّة أو الأقوال، فيُنظَر في هذا بالنَّظر الوسَطِي -كما قال أهل العلم- فيؤخَذ بقولِ مَن يكون معه الدَّليل، ولا يُقلَّدَ الفقيه إذا خالفَ الدَّليلَ، فالإنكارُ يكونُ عند مخالفةِ القُرآنِ والسُّنَّةِ واجبًا، وأمَّا القول بأنَّه لا إنكار في مَسائل الخِلاف فهذا غيرُ دقيقٍ، بل لا إنكار في مسائلِ الاجتهادِ التي يَسُوغ فيها الاجتهاد؛ لأنَّ هذا فيه البيان والتَّوضيح، وكلٌّ يُدلي برأيه وحُجَّته، أمَّا المسائل التي وضحَ فيها الدَّليلُ ووضَحَ فيها حُكمُ الله وحُكم ورسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيجب فيها الإنكار على مَن خالف.
والآن بدأ الشَّيخ -رَحِمَهُ اللهُ- يتكلَّم عن أحد البراهين الكبرى، أنَّ أولياء الله -عزَّ وَجَلَّ- لا يشترط أن يكونوا معصومينَ لا يُخطِئونَ، بل يُرَدُّ عليهم الخطأ، وضربَ مثالًا بمَا أجمعَت الأمَّة على هدايتهِ وولايتهِ وفضلهِ، وهو عمر بن الخطَّاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهو ثاني الخلفاء الرَّاشدين، وهو الفاروق أمير المؤمنين، وهو الخليفة بعد أبي بكر الصِّديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجمعين- ومكانته من رسولِ الله المكانة المعروفة، وسيأتينا الآن النَّظر في بعض المسائل التي غلِطَ فيها -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نبَّهه عليها، وهذا لِنربطَ ما سبقَ بدرسِ اليوم -إن شاء الله.
{قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ مِنْهُمْ» وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ لَمْ أُبْعَثْ فِيكُمْ لَبُعِثَ فِيكُمْ عُمَرُ»، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «إنَّ اللَّهَ ضَرَبَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ» وَفِيهِ: «لَوْ كَانَ نَبِيٌّ بَعْدِي لَكَانَ عُمَرُ»)}.
هذه الأحاديث بعضُها صحيحٌ وبعضُها غيرُ صحيحٍ، ولكن أرادَ المصنِّف -رَحِمَهُ اللهُ- بيان فضل عمر، فقد يتسَاهل بعضُ أهلِ العلم في روايةِ ما ضَعُفَ في باب الفضائلِ من باب الاعتضاد لا مِن باب الاعتماد، فالحديث: «لَوْ لَمْ أُبْعَثْ فِيكُمْ لَبُعِثَ فِيكُمْ عُمَرُ» لا يصح عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد وُجِدَ في إسناده مَن لا يُعتمَد عليه. وكذلك حديث «لَوْ كَانَ نَبِيٌّ بَعْدِي لَكَانَ عُمَرُ»، في سنده مقال، ولكن يقول فيه الترمذي: "حديث حسن غريب".
أمَّا حديث: «قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ مِنْهُمْ»، ففي البخاري ومسلم، وفي الحديث الآخر: «إنَّ اللَّهَ ضَرَبَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ» حديث صحيح في السُّنن.
ومعنى: «محدَّثُون»، أي: مُلهَمون، يعني يُلقَى في قلبهِ وروعهِ معانٍ صحيحةٌ، ويجري على لسانِه الصَّواب من غيرِ قصدٍ، فهذا من فضلِ الله عليه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: "مَا كُنَّا نُبْعِدُ أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ". ثَبَتَ هَذَا عَنْهُ مِنْ رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ )}.
إذن؛ موقف عليٍّ من عمر هو موقف المحبَّة، وليس كما يُصوِّر الرافضة والنَّواصب أعداء الأمَّة في إثارة الأمور بين الصحابة، فإنَّ الصَّحابَة بينهم المودَّة والمحبَّة والألفة كما ترون.
{قال: (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "مَا كَانَ عُمَرُ يَقُولُ فِي شَيْءٍ: إنِّي لَأَرَاهُ كَذَا إلَّا كَانَ كَمَا يَقُولُ". وَعَنْ قَيْسِ بْنِ طَارِقٍ قَالَ: "كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ عُمَرَ يَنْطِقُ عَلَى لِسَانِهِ مَلَكٌ".
وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: "اقْتَرِبُوا مِنْ أَفْوَاهِ الْمُطِيعِينَ وَاسْمَعُوا مِنْهُمْ مَا يَقُولُونَ فَإِنَّهُ تَتَجَلَّى لَهُمْ أُمُورٌ صَادِقَةٌ")
}.
يعني أنَّ الصَّالحين الرَّاسخين في العلم ممَّن أطاعوا الله -عزَّ وَجَلَّ- دائمًا يكون كلامهم طيِّبًا ونافعًا، فالاقتراب مِن مجالسِ أهل العلم الرَّاسخين والاستماع منهم والاستفادة مِن علمهم؛ يُقرِّب المؤمن من الحقِّ ويُبعده عن الباطل؛ فإنَّه تتجلَّى لهم أمور صادقة، يعني: حتى في مواقفهم من بعض الأشخاص أحيانًا قد يلمِسُون منه بعض الكلام أو لحنِ القول فيُنبِّهَه، فتنتفع بتحذيرٍ هذا المؤمن من ذاك الرَّجل، كيفَ عرف أنَّه منحرف أو ضالٌّ وربَّما ذلك المنحرف لم يُصرِّح بشيء؟ ظهرَ ذلك من لحْنِهِ في القولِ، وهذا لِرسُوخه في العلم ولقوَّة الطَّاعة والإيمان يفتح الله عليه، فينتبه لانحراف بعض المنحرفين قبلَ أن يشتهرَ عند النَّاس، وهذا يلمسه طلبة العلم، ويلمسه المقربون من الرَّاسخين مِن أهل العلم، فكلَّما جلسَ طالب العلم عند الرَّاسخين من أهل العلم وجدَ عندهم من الفِطنةِ والتَّنبُّهِ والمعرفةِ بمقاصد الشَّريعة وأحوالِ النَّاس تجاهَ هذا ما يتعجَّب منه، وهذا يُبيِّن لك فضل مجالس العلماء ومجالسة أهل العلم، خصوصًا الذين رسخوا في العلم، ولهذا ينبغي أن تسأل الله -عزَّ وَجَلَّ- وتقول: اللهم ارزقني مجالسة أهل العلم الرَّاسخين، أهل الطَّاعة والتَّقوَى، اللهم ارزقني مصاحبتهم ومجالستهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَذِهِ الْأُمُورُ الصَّادِقَةُ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهَا تَتَجَلَّى لِلْمُطِيعِينَ هِيَ الْأُمُورُ الَّتِي يَكْشِفُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ مُخَاطَبَاتٍ وَمُكَاشَفَاتٍ، فَأَفْضَلُ هَؤُلَاءِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَ)}.
قوله: (فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ مُخَاطَبَاتٍ وَمُكَاشَفَاتٍ)، قصدُ الشَّيخِ بالمخاطبات -والله أعلم: الإلهام، وإلا فليس هناك وحيٌ غير ما أُنزل على النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إطلاقًا، ولكن يأتيه إلهامٌ أحيانًا، أو يُلقَى في قلبه معنًى صحيحٌ، أو تبدو له فكرةٌ صحيحةٌ ومعنًى جديدٌ فيستفيد منه المؤمنون، كأن يكونَ مع الجيش مثلًا فيقول لهم: انزلوا في هذا المكان؛ لأنَّه أفضل، وفي ظنِّي كذا؛ فيفتح الله عليه أحيانًا، لكن لا تكون سليمة على كل حالٍ،.
فالمخاطبات أو ما يُلقَى في قلبِ الإنسان، أو ما يجده الإنسان في نفسِه؛ قد يكون صحيحًا وقد يكون خطأً، ولكن هذا وقعَ للصَّحابة والتَّابعين ولكثيرٍ من أهل الإيمان، لكن لا يُعتمَد عليه ولا يُجعل مرجعًا.
أما المكاشفات: فهي الأمور التي تُكشَف كالعلم، فيُكشَف له أمرٌ غاب عن الحاضرين، مثلما وردَ أنَّ عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: "يا سارية؛ الجبلَ الجبلَ"، فهذا كشفٌ كشفه الله -عزَّ وَجَلَّ- لعمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وللمؤمنين الذين قاتلوا الروم مع سارية -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فقال له عمر: الجأ إلى الجبل وتحصَّن به، فكانوا في القتال فسمعوا صوتًا يقول: "يا سارية، الجبلَ الجبلَ"، فهذا من كرامات الله -عزَّ وَجَلَّ- التي ثَبتت.
وفي القُرآن مَا يدلُّ على ثُبوت الكرامات، كما في قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقً﴾ [آل عمران:37].
وهذا كلُّه ثابتٌ، ولا يعني أنَّ مَن وقعت له هذه الكرامات أنَّه لا يُخطئ؛ بل قد يخطيء ويغلط ويُذنب، فلا يُتَّبَع في كلِّ ما يقوله، وهذا هو المقصود من هذ الفصل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ تَعْيِينُ عُمَرَ بِأَنَّهُ مُحَدَّثٌ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَأَيُّ مُحَدَّثٍ وَمُخَاطَبٍ فُرِضَ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَعُمَرُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَمَعَ هَذَا فَكَانَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَفْعَلُ مَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ، فَيَعْرِضُ مَا يَقَعُ لَهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَارَةً يُوَافِقُهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ فَضَائِلِ عُمَرَ، كَمَا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِمُوَافَقَتِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَتَارَةً يُخَالِفُهُ فَيَرْجِعُ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ)}.
إذن، أيُّ إنسانٍ يُفترَض أنَّه من الصَّالحين بعدَ الصَّحابَة، ويُعتقَد فيه أنَّه وليٌّ، ويُقال: إنَّه يُحدَّث أو يُلهَم أو يسمع هاتفًا أو كذا؛ فعمر خيرٌ منه بالإجماع.
وكان حال عمر أنَّه إذا عرض له في قلبه معنًى؛ فإنَّا لا يعتمد على هذا الشَّيء، بل يعرضه على ما جاء عن رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فالفيصل هو ما جاءَ عن رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فربَّما وافقه الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأيَّدَه على ما قاله وأثنَى عليه، فهذا يعتبر من فضائل عمر أنَّه وافق القرآن والوحي في عدَّة مواضع، وربَّما خالفَه، فيرجع عن ذلك عمر، ولا يستمر على رأيه، ولا يقول: إنَّي قد أُلقيَ في قلبي هذا المعنى وسأستمر!
وفي هذا الرَّد على مَن يدَّعي أنَّ الأولياء يُتَّبعونَ فيما أُلقيَ في قُلوبهم وفيما حُدِّثوا به، فعمر خيرٌ منهم آلاف المرَّات، ولا مُقارنَة بينهم وبينه، ومع ذلك كانَ عمر يرجع إذا تبيَّنَ له أنَّه مخالفٌ للسُّنَّة، كما حصل يوم الحديبية، وسيأتي بالتَّفصيل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (كَمَا رَجَعَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا كَانَ قَدْ رَأَى مُحَارَبَةَ الْمُشْرِكِينَ، وَالْحَدِيثُ مَعْرُوفٌ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ اعْتَمَرَ سَنَةَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ نَحْوُ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَهُمْ الَّذِينَ بَايَعُوهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَكَانَ قَدْ صَالَحَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ مُرَاجَعَةٍ جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ الْعَامِ وَيَعْتَمِرَ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ، وَشَرَطَ لَهُمْ شُرُوطًا فِيهَا نَوْعُ غَضَاضَةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الظَّاهِرِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَم وَأَحْكَمَ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ، وَكَانَ عُمَرُ فِيمَنْ كَرِهَ ذَلِكَ، حَتَّى قَالَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟" قَالَ: «بَلَى» قَالَ: "أَفَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟" قَالَ: «بَلَى». قَالَ: "فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟". فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ نَاصِرِي وَلَسْت أَعْصِيه».
ثُمَّ قَالَ: "أَفَلَمْ تَكُنْ تُحَدِّثُنَا أَنَّا نَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟" قَالَ: «بَلَى. قَالَ: أَقُلْت لَك أَنَّك تَأْتِيه الْعَامَ؟» قَالَ: "لَا" قَالَ: «إنَّك آتِيه وَمَطُوفٌ بِهِ»
فَذَهَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَدَّ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ مِثْلَ جَوَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَمْ يَكُنْ أَبُو بَكْرٍ يَسْمَعُ جَوَابَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَكْمَلَ مُوَافَقَةً لِلَّهِ وَلِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ عُمَرَ، وَعُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: "فَعَمِلْت لِذَلِكَ أَعْمَالًا")
}.
أبو بكر لم يكن يعلم بالمحادَثة والمحاورَة التي جرت بينَ عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعمر تضايق وكذلك كثير من الصَّحابة لِمَا رأوا من الشُّروط القاسية، فكان مِن ضِمن الشُّروط أنَّهم لا يعتمرون في تلك السَّنة ويرجعون إلى المدينة مع أنَّهم أَحرموا من الميقات، ومعهم من الهَدْي ما أرادوا به تعظيم البيت؛ ثم يُقال لهم: ارجعوا وليس هناك عمرة هذا العام! فكان هذا الأمر شديدًا عليهم.
وكان مِن ضِمن الشُّروط: إن ذهب أحد من مكَّة إلى المسلمين ردُّوه إليهم، ولو خرج واحدٌ من المسلمين إلى مكَّة لا يردُّوه إليهم! وكان هذا شديدًا على المسلمين، وفيه نوعُ غضاضةٍ، ومع ذلك وافق النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على هذه الشروط.
ولمَّا فُرغَ من كتابة الكِتَابِ تأثَّر عمر، وجاء أبو جندل، ولهذا سُمِّيَ هذا اليوم بيوم أبي جندل، فأبو جندل صحابي مسلم، وكان محبوس في مكَّة، وأبوه هو سهيل بن عمرو مندوب المشركين الذي صالح النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكن أبو جندل كان مسلمًا، فجاء يرسف في قيوده وزحف حتى وصل ورمى المسلمون فرمَى بنفسه، ونادى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونادى الصَّحابة: كيف تتركوني عند هؤلاء المشركين يعذبونني ويُفتنوني عن ديني!
والصَّحابة تأثَّروا لَمَّا سمعوا هذا، والصَّحابة لا يُبالون بالقتل في سبيل الله والجهاد، ولهذا قال عمر: "فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟"، أخذ يُحاور النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ ذهب إلى أبي بكر يُحاوره، فكانَ جوابُ أبي بكرٍ مُوافقًا لجوابِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع أنَّه لم يسمع ما دارَ بين عمر بن الخطاب وبين النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا يدلُّ على كمالِ أبي بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
والهدفُ مِن إيراد هذه القصَّة العظيمة التي تُعتبر مَليئة بالحِكَم والأحكام: أنَّ الوليَّ قد يغلط، وأنَّ ما يُلقَى في قلبه ليس بعمدةٍ إلَّا إذا وافقَ الكتاب والسُّنَّة مُوافقةً واضحةً، ولا يُجعَل ما يُلقَى في قلبِ الإنسان -ولو قيل إنَّه ولي- عُمدة، فلا يجوز هذا؛ لأنَّ هذا إبطالٌ للدِّينِ، والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ردَّ على عمر أمام المسلمين وبيَّن له أنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الحقِّ وأنَّ الله ناصره، ولم يأخذ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بما قالَه عمر، حتى قال عمر: "فَعَمِلْت لِذَلِكَ أَعْمَالًا".
وهذا يؤسِّسُ لنا قاعدة مهمَّة، وهي أنَّ أولياء الله قد يقعون في الغَلَطِ، ويُلقَى في قلوبهم ما يظنُّون أنَّه صواب وغيرةٌ في الدِّينِ أو زيادة في الطَّاعة أو زيادة في العلم الصَّالح، وهو ليس كذلك!
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَذَلِكَ لَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْكَرَ عُمَرُ مَوْتَهُ أَوَّلًا، فَلَمَّا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّهُ مَاتَ رَجَعَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ)}.
هذه هي المسألة الثَّانية؛ فعمر هنا فاتَ عليهِ وظنَّ أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يَمُت، بل قال: "مَن زعمَ أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد ماتَ ضربتُ عنقَه"، فلمَّا رأى النَّاس أبا بكرٍ أقبلوا عليه وتركوا عمرًا، فخطبَ أبو بكر في النَّاسَ وقال: "أمَّا بعدُ؛ فمَن كان يعبدُ محمدًا فإنَّ محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، ثم تلا قول الله -عزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران:144]"، فرجعَ عمر عمَّا قالَه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَذَلِكَ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ : "كَيْفَ نُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَ»". فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَلَمْ يَقُلْ: «إلَّا بِحَقِّهَ»، فَإِنَّ الزَّكَاةَ مِنْ حَقِّهَا وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَقَاتَلْتهمْ عَلَى مَنْعِهَا".
قَالَ عُمَرُ: "فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ رَأَيْت اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَلِمْت أَنَّهُ الْحَقُّ")
}.
وهذه هي المسألة الثَّالثة، فقد كان عمر يرى أنَّ مانعي الزَّكاة لا يُقاتلون؛ لأنَّهم يقولون: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، لكن بيَّنَ له أبو بكر وبيَّن له الصَّحابَة أنَّ هذا القول لا يكفي؛ لأنَّه لابدَّ أن يُؤدُّوا حقَّه، وَمِنْ حَقه إقامة الصَّلاة وإيتاء الزَّكاة، والإتيان بشرائعِ الإسلام، فالزَّكاة من حقِّ "لا إله إلا الله"، فإذا مَنعوها استوجبَ هذا قتالهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلِهَذَا نَظَائِرُ تُبَيِّنُ تَقَدُّمَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى عُمَرَ، مَعَ أَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مُحَدَّثٌ؛ فَإِنَّ مَرْتَبَةَ الصِّدِّيقِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الْمُحَدَّثِ؛ لِأَنَّ الصِّدِّيقَ يَتَلَقَّى عَنْ الرَّسُولِ الْمَعْصُومِ كُلَّ مَا يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ، وَالْمُحَدَّثُ يَأْخُذُ عَنْ قَلْبِهِ أَشْيَاءَ وَقَلْبُهُ لَيْسَ بِمَعْصُومِ، فَيَحْتَاجُ أَنْ يَعْرِضَهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
هذا هو الفَرق بينَ الصِّديق والمحدَّث، ولا شكَّ أنَّ الصَّحابَة والخلفاء الأربعة كلُّهم موصوفٌ بهذا المعنى، أي: موصوفون أنَّهم بلغوا من التَّصديق غايته، فهم أكمل النَّاس إيمانًا، وأكمل النَّاس قيامًا بشرع الله، وأكمل النَّاس فيما يفتح الله -عزَّ وَجَلَّ- عليهم، ولا أحد يفوقهم، ولكن بعضهم يُميِّزه الله عن البعض، وإلَّا فهم مُشتركون في هذه المعاني اشتراكًا واضحًا، ولكن يتميَّز بعضهم في مثل هذه المواقف العظيمة، فيظهرُ كمالُ بعضهم على بعض، وأكملهم أبو بكر ثُمَّ عُمر ثُمَّ عُثمان ثُمَّ علي؛ وإلَّا فكلٌّ مِنهم فيه من الصِّدِّيقيَّة أبلغها، لكنَّ أبا بكرٍ أعلى، وهكذا فيما يتعلَّق بالمعاني الأخرى، مثل: الإيمان والشَّهادة والصَّلاح والتَّقوَى، ونحو ذلك من أعمال الخير التي يُحبُّها الله ورسوله، فلهم من ذلك النَّصيب الأوفر والحظ الأعظم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وأرضاهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُشَاوِرُ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- وَيُنَاظِرُهُمْ وَيَرْجِعُ إلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَيُنَازِعُونَهُ فِي أَشْيَاءَ فَيَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ وَيَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيُقَرِّرُهُمْ عَلَى مُنَازَعَتِهِ، وَلَا يَقُولُ لَهُمْ: أَنَا مُحَدَّثٌ مُلْهَمٌ مُخَاطَبٌ، فَيَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَقْبَلُوا مِنِّي وَلَا تُعَارِضُونِي!)}.
هذا هو الأمر الرَّابع، فبعدما ذكرَ قصَّة صُلح الحديبية، ثم ذكر قصَّة موت النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإنكار عمر لذلك ثم رجوعه، ثم ذكرَ قصَّة قتالِ مانعي الزَّكاة، ثم ذكر هنا هذا الأمر الرابع وهو كثرة مُشاورة عمر للصَّحابة، وكان له مجلسًا يجعل فيه خِيار المهاجرين والأنصار -رَضِيَ اللهُ عَنْهم وأرضاهم- وكان يدور في هذا المجلس محاورات ومناقشات ويتنازعون في بعض الأمور، ولم يقل عمر: "أَنَا مُحَدَّثٌ مُلْهَمٌ مُخَاطَبٌ، فَيَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَقْبَلُوا مِنِّي وَلَا تُعَارِضُونِي"، أبدًا! وهذا أبينُ دليلٍ على أنَّه إجماع من الصَّحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- على أنَّه لا يُمكن أن يُقال في حق عمر أو غيره مثل هذا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَأَيُّ أَحَدٍ ادَّعَى أَوْ ادَّعَى لَهُ أَصْحَابُهُ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ وَأَنَّهُ مُخَاطَبٌ يَجِبُ عَلَى أَتْبَاعِهِ أَنْ يَقْبَلُوا مِنْهُ كُلَّ مَا يَقُولُهُ وَلَا يُعَارِضُوهُ وَيُسَلِّمُوا لَهُ حَالَهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَهُوَ وَهُمْ مُخْطِئُونَ، وَمِثْلُ هَذَا مِنْ أَضَلِّ النَّاسِ)}.
يعني: بعض النَّاس الآن ينظر في شخصٍ فيراه تدمع عيونه، وبعضهم إذا صلَّى على النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دمعت عيناه، والصَّلاة على النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حقٌّ ودينٌ، وبعض النَّاس إذا مرَّت به آية رقَّ قلبُه ودمعت عينُه؛ فيقال: هذا وليٌّ الله، انظر كيف دمعت عينه لَمَّا ذُكِرَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!
ثم يعتبر أنَّ كلَّ ما يقوله حقٌّ، وتجد هذا الشَّخص الذي حصلَ منه هذا ربَّما يقع في فظائع الأمور عقديًّا وعمليًّا، فإذا اعتقد أنَّه وليٌّ قبل منه كل شيء.
نقول في مثل هذه الحال: (فَهُوَ وَهُمْ مُخْطِئُونَ، وَمِثْلُ هَذَا مِنْ أَضَلِّ النَّاسِ)؛ لأنَّ هذا ليس معيارًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَفْضَلُ مِنْهُ وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُنَازِعُونَهُ فِيمَا يَقُولُهُ وَهُوَ وَهُمْ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهَذَا مِنْ الْفُرُوقِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ)
}.
الأنبياء غير الأولياء، فالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُؤخَذ عنه كل ما قاله أو فعله سنَّة متَّبعة، ولا يجوز معارضَة كلام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا برأي ولا بذوقٍ ولا بوجدٍ ولا بقول فقيهٍ، فقَوْل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فوق كل هذا، لقول الله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ﴾ [النجم:4]، وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينً﴾ [الأحزاب:36]، فلا يجوز مُعارضة سُنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بآراء النَّاس وأقوالهم كائنًا مَن كان؛ لأنَّ هذا دين، وهذا معنى: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله". أمَّا الأولياء فيقع منهم الصَّواب ويقع منهم الخطأ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ -صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ- يَجِبُ لَهُمْ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ مَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ، وَتَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا يَأْمُرُونَ بِهِ؛ بِخِلَافِ الْأَوْلِيَاءِ فَإِنَّهُمْ لَا تَجِب طَاعَتُهُمْ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ وَلَا الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ مَا يُخْبِرُونَ بِهِ؛ بَلْ يُعْرَضُ أَمْرُهُمْ وَخَبَرُهُمْ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَا وَافَقَ الْكِتَاب وَالسُّنَّةَ وَجَبَ قَبُولُهُ، وَمَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ كَانَ مَرْدُودًا، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَكَانَ مُجْتَهِدًا مَعْذُورًا فِيمَا قَالَهُ لَهُ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ، لَكِنَّهُ إذَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ كَانَ مُخْطِئًا وَكَانَ مِنْ الْخَطَإِ الْمَغْفُورِ إذَا كَانَ صَاحِبُهُ قَدْ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾)}.
إذن هنا يُخرج من هذا النَّص من ليسوا مِن أهلِ الاجتهادِ، فيُوجد بعض النَّاس يُدَّعى فيهم ولاية الله وأنَّهم أولياء، والحقيقة أنَّهم فُسَّاقٌ وأهلُ مجونٍ، وبعضهم يُدَّعى فيه أنَّه وليٌّ لله وهو يُشرك بالله، ويعبد غير الله ويستغيث بالأموات، ومن النَّاس مَن يُدَّعى فيه أنَّه ولي لله -عزَّ وَجَلَّ- وهو يُزاول السِّحر والكهانة ويتَّصل بالشَّياطين؛ فهؤلاء أولياء الشَّيطان وليسوا معنا في هذا النِّقاش، وإنَّما الكلام فيمَن هم من أهل الصَّلاح والعلم والتَّقوى والسُّنَّة والاتباع، ومع هذا نقول هم يُخطئون وليسوا معصومين، فإذا اتَّقوا الله ما استطاعوا فإنَّ خطأهم مغفورٌ، وإذا قصَّروا أو فرَّطوا فإنَّه يحصل لهم الإثم والذَّنب، فهذا الكلام في أولياء الله الصَّالحين المتَّقين، فما بالك بمَن ادَّعيَت فيه الولاية وهم ليسوا كذلك!
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَذَا تَفْسِيرُ قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ: "حَقَّ تُقَاتِهِ: أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى وَأَنْ يُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَأَنْ يُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرُ"، أَيْ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَ﴾.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْإِيمَانَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾)
}.
هذه الآيات الثَّلاث في هذه المواضع الثلاثة ذكرَ الله -عزَّ وَجَلَّ- فيها الإيمان بما جاء به الأنبياء من غير تردُّدٍ، يعني: ما جاء به النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نقبله مِن غيرِ تردُّدٍ ومِن غيرِ توقُّفٍ ومن غير بحثٍ، ولا نشكِّك فيه أبدًا؛ بل نقبله بلا ريبٍ وبلا شكٍّ، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُو﴾ [الحجرات:15]، فهذا هو وصف الإيمان؛ لأنَّ ما يقوله النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو وحيٌ من عند الله وغير قابلٍ للتَّشكيك، فيجب قبول قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دونَ توقٌّفٍ ولا مناقشة.
أمَّا الأولياء فلا؛ لأنَّهم يقع منهم الغلط، وأورد الشَّيخ هذا البحث لأنَّك عندما تسمع قوله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة:285]، فيجب عليك أن تتعامل مع القُرآن والسُّنَّة بهذا الواجب الذي فرضَه الله عليك وهو الإيمان والتَّسليم والقبول والانقياد لِمَا أنزله الله -عزَّ وَجَلَّ- من الوحي، فهذه مسألةٌ عظيمةٌ، فإنَّ بعض النَّاس يعرفها إجمالًا لكن عندَ التَّفصيل يقع في الغلط، وبعض الناس يقع منه أشد من الغلط، مثلما يقع من غُلاة الصُّوفيَّة، الذين يُحاول بعضُ النَّاس أن يروِّج لمذهبهم؛ بل وُجدَ من يُدافع عن مَن عُرِفَ عنه القول الكفري كمن يقول عن نفسه المخلوقة أنَّه الله، تعالَى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا!
فترى الآن مَن يُدافع عن هؤلاء الكفَرَة الملاحدة، وتجده يقول: أنتم تُبالغون...!
فهناك مَن يُروِّج لهذه المبادئ، فإذا عرف المؤمن هذه المسألة عرف كيف يُفرق بين أولياء الرَّحمن وأولياء الشَّيطان، وعرفَ أهلَ السُّنَّةِ من أهلِ البدعةِ، وعرفَ أهلَ الإيمان مِن أهلِ الكفرِ، وعرفَ أهل الطَّاعةِ مِن أهلِ المعصيةِ، وهذه المعرفةُ نابعة من الإيمان بما أنزل الله على محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾، وقال: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾، فنحن نؤمن بهم، أمَّا الأولياء فليسوا داخلين في هذا المعنى، فنحن نُحبُّ أولياء الله الصَّالحونَ أهل الإيمان والتَّقوى، ولكن ليسوا بمنزلة أنَّ كلَّ ما يقولونه نؤمنُ به، وإنما إذا قال أولياء الله ما يوافق الكتاب والسُّنَّة فأهلًا ومرحبًا، وإذا قالوا ما يُخالف الكتاب والسُّنَّة فلا يُقبل منهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته مِنْ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مَعْصُومٌ يَسُوغُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ اتِّبَاعُ مَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وهُوَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ)}.
ربَّما تستغرب من هذا الكلام وتقول: إنَّه أمرٌ واضح!
نقول: هذا واضحٌ عندَ مَن آمنَ وعرفَ ودرسَ السُّنَّة وخالطَ أهلَ السُّنَّة، ولكن يوجَد من يُبايع شيخًا على طريقةٍ كالصوفيَّة أو طريقةٍ حزبيَّة، ثم يقولون له: كُنْ بينَ يدي شيخكِ كالميِّتِ بينَ يدي الغَاسلِ، واستَسْلِم لكلِّ ما يقوله شيخُك؛ لأنَّ شيخَك يُلقَى في قلبهِ كذا وكذا؛ ولأنَّه وليٌّ!
فهذا منكرٌ عظيمٌ وباطل، وقد حدَّثني مرَّة أحد الإخوة يقول: كنَّا ونحنُ صغارٌ قبل أن نهتدي إلى السُّنَّة والتَّوحيد، يأتي مدرسٌ لنا وهو صاحب الطريقة ويسموننا مُريدين، ويقول: "قولو: مدَدْ يا سيدي فلان"، فيُعلِّمهم الشِّرك -نسأل الله العافية والسَّلامة- فهذا شيءٌ موجودٌ، ولا نتكلَّم عن شيءٍ انتهى!
يقول الأخ: وكنا صغارٌ ونستجيب له، فمرَّة من المرَّات قلت له: يا شيخ، لِمَ لا نقول مدَدْ يا الله؟ فألقى في قلبي شُبهةً خبيثةً، فقال: أضرب لك مثلًا -وهكذا طريقة المشركين أن يضربوا لله الأمثال- فقال: لو أنَّ عندك راديو على خط كهرباء (110 فولت)، وشبكته على ضغط عالٍ (440 فولت) أو أعلى؛ ماذا يحدث للراديو؟ فقلت: ينفجر أو يحترق.
فقال: هكذا إذا جاءك المدد من الله ينفجر قلبك، فلابدَّ للمدَدِ أن يعطيه الله للأوتادِ، ثمَّ الأوتَادُ يُعطونَه للأقطابِ، ثمَّ الأقطابُ يُعطونَه للأولياءِ، ثمَّ أنت تتوسَّل بالوليِّ وتطلب منه؛ فيعطيكَ ما يُناسبك!
هذا المثل الخبيث وإن كان مُضحكًا ويدل على تفاهة عُقولهم، وسفاهة رأيهم، وأنَّهم مُنغمسون في الشِّرك الأكبر الذي شابهوا فيه كفَّار قريش؛ إلَّا أنَّ فيه ضلالتان كبيرتان:
الأولى: أنَّه قاسَ الخالقَ -سبحانه وتعالى- على الكهرباء المخلوقة، وهذا عينُ التَّمثيل، والله تعالى قال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:11]، وقال: ﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ﴾ [النحل:74]، وقال: ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:4]، وهذه الضلالة موجودة وتتكرَّر عند كلِّ مشرك.
الثانية: أنَّه جعلَ الخالق -تباركَ وتعالى- عاجزًا أن يوصل للعبد ما يُناسب حاله وقلبَه، وجعل المخلوق -الذي هو الولي أو الوتد أو القطب- قادرًا على أن يوصل للمخلوقِ ما يُناسبه، فوصفَ الله بالعجزِ، ووصفَ المخلوقَ بالقدرةِ والكَمَالِ، وهذا يدلُّك على قبحِ الشِّرك، ولهذا فإنَّ الشِّركَ مِن أظلم الظُّلم وأقبحِ القبيح.
ولولا أنَّ الأمر مُشتهرٌ وموجودٌ ما احتجنا إلى هذا البيان، والقرآن أعاد في هذه القضايا لأهمِّيتها وحتى يتعلَّق القلبُ بالله -سبحانه وتعالى- ولا يتعلق بالمخلوقين.
{أحسن الله إليكم..
هذه الشُّبهة أليست هي عين شُبهة المشركين لَمَّا قالوا: ما نعبدهم إلَّا ليقربونا إلى الله زُلفَى؟}.
نعم، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فشبهة المشركين تتكرَّر إلى هذه اللحظة، وهي شبهتان عظيمتان:
- قولهم: ما نعبدهم إلَّا ليقربونا إلى الله زُلفَى.
- وقولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته مِنْ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مَعْصُومٌ يَسُوغُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ اتِّبَاعُ مَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُوَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- ومَنْ خَالَفَ فِي هَذَا فَلَيْسَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ -سُبْحَانَهُ- الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّبَاعِهِمْ ; بَلْ إمَّا أَنْ يَكُونَ كَافِرًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُفْرِطًا فِي الْجَهْلِ.
وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْمَشَايِخِ، كَقَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ الداراني: "إنَّهُ لَيَقَعُ فِي قَلْبِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ فَلَا أَقْبَلُهَا إلَّا بِشَاهِدَيْنِ: الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ".
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الجنيد -رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: "عِلْمُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ الْقُرْآنَ وَيَكْتُبْ الْحَدِيثَ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي عِلْمِنَا". أَوْ قَالَ: "لَا يُقْتَدَى بِهِ".
وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ: "مَنْ أَمَّرَ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا؛ نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ، وَمَنْ أَمَّرَ الْهَوَى عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كَلَامِهِ الْقَدِيمِ: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُو﴾".
 وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنِ نجيد: "كُلُّ وَجْدٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَهُوَ بَاطِلٌ")
}.
هذه النُّقول اتَّفقَ عليها أهل العلم، ومنهم الصَّالحون مِن أهلِ العبادةِ الذين يُعتبرونَ من المتصوِّفة القُدمَاء، ولكنَّهم لم يقعوا في البدعِ التي وقعَ فيها المتأخِّرون؛ بل عُرِفَ عنهم كثرة العبادة، وربَّما جاء عنهم بعضُ الزِّيادة في ذلك والتَّشدُّد، ولكنَّهم في الجملة مِن أهلِ السُّنَّة ومِن أهلِ العلمِ، مثل هؤلاء الذين ذكرَهم الشَّيخ هنا، وإنَّما استشهَدَ بأقوالهم؛ لأنَّ مُتأخري الصُّوفيَّة لازالوا يُعظِّمونهم، ويتَّخذونَهم شيوخًا لهم، فأتَى بكلامٍ مِن كلامِ هؤلاءِ الصَّالحينَ فيه ردٌّ على تصرُّفات المتصوِّفة المتأخِّرين، فهذا هو السَّبب لإيراد أقوال هؤلاء.
قال الشَّيخ: مَن خالفَ الكتاب والسُّنَّة إمَّا أن يكونَ كافرًا مُتعمِّدًا، وهو مَن يقول القول الكفري، وإمَّا أن يكونَ مُفرطًا في الجهلِ.
ثم ذكر الشَّيخ قول الدَّاراني، وهو عبد الرحمن بن أحمد الدَّارني أبو سليمان، تُوفي سنة مائتين وخمسة عشر، يقول: "إنَّهُ لَيَقَعُ فِي قَلْبِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ فَلَا أَقْبَلُهَا إلَّا بِشَاهِدَيْنِ: الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ".
النُّكتة: يعني الخاطرة، أو المعنى الطَّريف المفيد النَّافع الذي شذَّ عن المعاني الثَّانية، وهي الشيء البديع والجميل، ومع ذلك لا يُعتمد على هذا الشيء.
وقوله: "مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ"، يعني مِن أهلِ العبادةِ.
وهذه العبارات كانوا يُطلقونها في بدايات التَّصوُّف ولم يكن هناكَ التَّشكُّل الكامِل كما حدَثَ بعدَ ذلك.
قال: "فَلَا أَقْبَلُهَا إلَّا بِشَاهِدَيْنِ: الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ"، يعني: لا يُمرِّر تلك الخواطر أو المعاني التي تقع في قلبه إلا بموافقة الكتاب والسُّنَّة؛ وقد أحسنَ في هذا -رَحِمَهُ اللهُ.
كذلك يقول الجُنيْد، وانظر إلى عبارته؛ لأنَّ هذه العبارات بداية التَّصوُّف، ولكن لم يكونوا على البدع المشهورة، بل إنَّ هؤلاء عُرفوا بالعبادة والسُّلوك وزيادة الزُّهد والتَّعبُّد، فيقول: "عِلْمُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ الْقُرْآنَ وَيَكْتُبْ الْحَدِيثَ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي عِلْمِنَا". أَوْ قَالَ: "لَا يُقْتَدَى بِهِ"؛ وصدقَ.
وهكذا أَبُو عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ يقول كلامًا عظيمًا وجيدًا، فيقول: "مَنْ أَمَّرَ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا"، وهذا يحتاج مجاهدة في أن تقرأ السُّنَّة وتتعلَّمها، سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الصَّلاة، في الأذانِ، في الوضوءِ، في الغَسلِ، في النَّومِ، وفي كلِّ شيءٍ، فتجعل السُّنَّة هي الآمر عليك.
قال: "نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ"، يعني: سُدِّدَ وصارَ كلامُه موافقًا للسَّنَّة.
قال: "وَمَنْ أَمَّرَ الْهَوَى عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا"، يعني: أعرَض عن السُّنَّ وصارَ يتَّبع هواه. قال: "نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ"؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كَلَامِهِ: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُو﴾".
في بعض النُّسخ قال أبو عثمان: "لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كَلَامِهِ الْقَديم"، وفي النُّسخة التي حققها الدكتور عبد الرحمن بن عبد الكريم اليحيى -جزاه الله خيرًا- وهي رسالة مُعتمدة، قال: "هذه لم تَرِدْ في المراجعِ، ولهذا لمْ أُثْبتها في النَّصِّ"، يعني قوله: "الْقَديم" وهكذا قال أهل العلم: إنَّ هذه العبارة غير صحيحة.
ووصفه لكلام الله تعالى بالقديم غلط؛ لأنَّ القرآنَ لا يوصَف بهذا، فالله -عزَّ وَجَلَّ- تكلَّم بالقرآن، والله تعالى مَوصوفٌ بالكلام، فهو يتكلَّم متى شاءَ، كيفَ شاء، فجنسُ الكلام قديمٌ ولكن آحادَه تحدث بمشيئة الله واختياره، فهذه العبارة مُخالفة للعقيدة، وفيها خطأ، وموافقة لعقيدة الأشعريَّة.
ثم ذكر قول أَبي عَمْرِو بْنِ نجيد: "كُلُّ وَجْدٍ"، الوجد هو المعنى الذي يجده في قلبه ويرتاح له.
قال: "لَا يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَهُوَ بَاطِلٌ"، أي: لا تعتمد على ما ارتاح له قلبك، وإنَّما لابدَّ أن يشهد الكتاب والسُّنَّة لهذا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَغْلَطُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَيَظُنُّ فِي شَخْصٍ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ، وَيَظُنُّ أَنَّ وَلِيَّ اللَّهِ يَقْبَلُ مِنْهُ كُلَّ مَا يَقُولُهُ، وَيُسَلِّمُ إلَيْهِ كُلَّ مَا يَقُولُهُ، وَيُسَلِّمُ إلَيْهِ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ وَإِنْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّ،ةَ فَيُوَافِقُ ذَلِكَ الشَّخْصُ لَهُ، وَيُخَالِفُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ تَصْدِيقَهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَطَاعَتَهُ فِيمَا أَمَرَ وَجَعَلَهُ الْفَارِقَ بَيْن أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ، وَبَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَبَيْنَ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ، فَمَنْ اتَّبَعَهُ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ، وَجُنْدِهِ الْمُفْلِحِينَ، وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَمَنْ لَمْ يَتْبَعْهُ كَانَ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ الْخَاسِرِينَ الْمُجْرِمِينَ، فَتَجُرُّهُ مُخَالَفَةُ الرَّسُولِ، وَمُوَافَقَةُ ذَلِكَ الشَّخْصِ أَوَّلًا إلَى الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالِ، وَآخِرًا إلَى الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ)}.
يقول الشَّيخ: إنَّ الذين يغلطونَ في هذا المقامِ حقيقةً يبدؤون أولًا بالبدعَةِ، ثم إذا استمرُّوا واستمرُّوا ربَّما وقعوا في الكفرِ، وهذا موجودٌ بكثرة في هؤلاء المنحرفين، فأوَّل الأمر يُظن أنَّ هذا ولي، كأن يراه يبكي أو يرى له بعض الأعمال الطَّيِّبَة، ثم يوافقه حتى لو خالفَ الكتاب والسُّنَّة، فإذا خالفَ الكتاب والسُّنَّة استمرَّ معه في المخالَفة.
ويقول الشَّيخ: إنَّ الله -عزَّ وَجَلَّ- قد فرضَ عليك اتِّباع النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وليس اتِّباع هذا، والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو الذي فرض عليك الله -عزَّ وَجَلَّ- تصديقَه وليس هذا، وهو -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الفارق بينَ أهل الجنَّةِ وأهلِ النَّارِ، فمَن اتَّبعَه دخلَ الجنَّة، ومَن عصاه دخلَ النَّار.
قال الشيخ: (فَتَجُرُّهُ مُخَالَفَةُ الرَّسُولِ، وَمُوَافَقَةُ ذَلِكَ الشَّخْصِ أَوَّلًا إلَى الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالِ، وَآخِرًا إلَى الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ)، وسيذكر الشيخ الأدلَّة على هذا، ونجعلها في الدرس القادم -إن شاء الله تعالى.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يثبِّتنا على الإيمانِ وعلى الإسلامِ وعلى سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنَّه سميعٌ مجيبُ الدُّعاء، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك