{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
حياكم الله يا شيخ عبد الرحمن.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من باب التَّجوُّز في القول وترك التَّكلُّفِ والتَّنطُّع.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي أُمَامَة -رضي اللَّه عنه- مَرْفُوعًا: «الحيَاءُ وَالعِيُّ شُعْبَتان مِنَ الإِيمَان، وَالبَذَاءُ والبَيَانُ شُعْبَتان مِنَ النِّفاق». رواه الترمذي)}.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
قد شرعنا في الحلقة السابقة في بيان هذه الصفات وذكرنا أنَّ أوَّل هذه الصفات التي أخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنها من صفات أهل اللإيمان؛ هو الحيــاء.
وقدَّمنا أنَّ هذا الخلق الكريم جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه قال: «الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ» ، وقال: «الحَياءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» أو «الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ»، فذكرنا أنَّ الحياء خُلقٌ يبعث صاحبه على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في دين الحق، فالحياء دائمًا آثاره حميدة، وفيما يظهر للنَّاس أنَّه يمنع من تحصيل الحق، ويمنع من المطالبة بالحقوق، والصَّواب على خلاف ما يفهمه الناس، فالحياء خيرٌ كلُّه، والمطالبة بالحقِّ وما شاكل ذلك ليس موضعه الحياء؛ لأنَّ الإنسان مطلوبٌ منه أن يدفع عن نفسه الشَّرِّ ويُحصل الخير، وهذا غير خلق الحياء؛ فالحياء هذا خلق يلازم الإنسان، والله -عزَّ وجل- يُفطر النُّفوس على هذا الخلق، فيكون هذا من فضل الله -عزَّ وجل.
الخلق الثاني الذي ذكره النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذا الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي: العِيُّ.
وقدَّمنا أنَّه في عُرف النَّاس يُعَدُّ من الصِّفات المذمومة، والعِيُّ هنا بكسر العين، والأصل في العِيِّ أن يُقال فيه: عِيٌّ عن الكلام، أي: العجز عن الكلام، ولكن هذا غير مُراد في الحديث النبوي؛ لأنَّ العِيِّ بمعنى العجز عن الكلام أمر مذموم، وهو من الآفات التي تصيب اللسان، فقد يعجز عن الإفصاح عن مكنونات نفسه، وهذا بخلاف المقصود في حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا يُمكن، وإنما المراد بالعِيِّ في الحديث: السكوت عمَّا فيه إثمٌ، أو يوصف بالعِيِّ لكونه يحترزُ في كلامه عن الكلام القبيح، ويتورَّع عن الخوض في فضول الكلام؛ فيظنُّ الظَّانُّ أنَّ به عيٌّ وعجز، وما به ذاك، وإنما أسكتتهم خشية الله والخوف منه -عزَّ وجل- كما في أثر ابن عباس.
وقيل: العِيُّ هو قلَّة الكلام وعدم التوسع فيه، وإنما يكتفي في الكلام ما يُحتاج إليه، وعلى كل حالٍ هو بهذا المعنى من علامات الإيمان، ولهذا فإنَّ من آداب أهل الإيمان ومن الأمور التي يُحمَد فيها الإنسان ترك فضول الكلام؛ لأنَّ الكلام والخوض مظنة الوقوع في المحذور، والذي يحترز في كلامه لا شكَّ أنَّ ذلك باعثه الإيمان، كما أنَّ الحياء مَبعثه الإيمان؛ فكذلك العِيُّ، فظاهره أنَّه به عي وليس به عي؛ فهذه من صفات أهل الإيمان، أو من شُعَب الإيمان، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شُعْبَتان مِنَ الإِيمَان».
أمَّا الصِّفتان المذمومتان على لسان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهما:
الصفة الأولى: البذاء، وهو فُحش الكلام، وهو بخلاف الحياء، فلا يتنزَّه في كلامه عن الألفاظ التي يَستحي أهل الحياء عن ذكرها، فهو لعَّانٌ طعَّانٌ همَّازٌ؛ فهذه صفات النِّفاق، وليست صفات أهل الإيمان، وعند وجود هذه الخصلة يحتاج الإنسان أن يراجع نفسه، ولهذا فإنّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَدَعَهُ أَوْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ» ، تجد النَّاس يتقونه لأنه بذيء اللسان، لا يُكلَّم ولا يُخاصَم ولا يُحاوَر ولا يُناقَش لأنَّه بذيء اللسان، فهذه من صفات النفاق، وهذا مكروه عند الناس، فيقولوا اتركوه ودعوه فإنَّك إن تكلَّمتَ معه سمعتَ منه ما يسوؤك؛ لأنَّه لا يتحرَّز في الكلام ولا يُفرِّق بين ما يُقال في المجلس العام والمجلس الخاص؛ فيُتَّقى لأنَّ هذا مِن علامات النِّفاق، وينبغي للمسلم أن يتنزَّه عن هذه الصِّفة المذمومة.
الصفة الثانية: البيـــان، وهو التَّملُّق والتَّنطُّع وإظهار الفصاحة في الكلام، والتَّشبُّع بما لم يُعطَ، وإظهار العلو على الناس في كلامه، واستخدام المهجور من الكلام لأجل أن يُشار إليه بالبنان ويُلتفت إليه، وقلنا: إنَّ أهل الإيمان كلامهم على وجه السَّماحة والبساطة يفهمه كل أحد، ولهذا فإن الله -عزَّ وجل- ذكر من صفات أهل النفاق أنهم يُعنون بزخرفة كلامهم، وبإسماع قولهم لمن يخاطبونه، قال الله -عزَّ وجل- عنهم: ﴿وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ [المنافقون:4]، فلهم عناية بالفصاحة، والمطلوب هو الحد الذي يحصل به فَهم الكلام، يفهمه أواسط النَّاس، أمَّا أن يتعالى الإنسان على النَّاسِ بفصاحته وباستخدامه للمهجور من الكلام فهذا لا يليق، ولهذا فإنَّ الوعَّاظ والخطباء ومُوجهي النَّاس عليهم أن يُخاطبوا الناس بالبسيط من الكلام الذي يفهمه كل أحدٍ.
{ذكرتم أحسن الله إليكم، أنَّ البذاء هو من يُتَّقَى ويُخشَى بسبب فُحشه في كلامه، وهذا يعده بعض الناس مفخرة، أنَّه سليط اللسان، فهل من توجيه لهذا؟}.
حينما يحتكم الناس إلى أهوائهم وإلى أذهانهم يحصل هناك تغير في المفاهيم، فقد يُرى أبطل الباطل أنه هو الحق، بحسب فساد الناس وأوضاع الناس، وليس الحجَّة في أفعال الناس ولا عندهم ما يزكو وما لا يزكو؛ فالحجَّة في خطاب من لا ينطق عن الهوى، وأخلاق النبوة، فالبذاء مذموم، وينبغي للناس أن يتجنبوا الفحش من الكلام والبذاء، ومن استحكمت فيه هذه الخصلة فعليه أن يُراجع نفسه، لأن هذا خلق مذموم لا ينبغي لأهل الإيمان أن يكونوا عليه، ولهذا تجد الشباب يصدرون اللعان والسباب؛ فهذا فحش الكلام وبذاءة، وهذا من علامات النفاق، فكيف أن الإنسان مؤمن بالله -عزَّ وجل- ويرى في نفسه صفة من صفات النفاق ولا يتخلص منها! فيتقي الله -عزَّ وجل- ويراجع نفسه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وعن أبي ثعلبة -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم قال: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ والْمُتَفَيْهِقُونَ». رواه البيهقي في شعبِ الإِيمانِ، والترمذي نحوه عن جابرٍ -رضي اللَّه عنه)}.
هذا حديث حسن، وهو حديث عظيم، وأفاد أنَّ منازل أهل الإيمان بحسب أعمالهم وأخلاقهم، ولهذا لابدَّ أن يُعلم أن الجنَّة منازل، وأنَّ أصحاب الجنة يتراءون مَنازل الجنة كما يتراءى أحدكم الكوكب الدري في الأفق الغابر، منازل عظيمة، وأعلى الناس منزلة هو النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهو سيد ولد آدم، وهو أعلى الناس، ولهذا جاء في دعاء المؤمن بعد الأذان: «اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلاةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي وَعَدْتَهُ» ، أمَّا لفظ: «والدَّرَجَة الرَّفِيعَة» فضعيفة، ولكن معناها صحيح، ولا شك أنَّ الدرجة الرفيعة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هي المنزلة العالية في الجنَّة.
وفي الحديث: الثناء على حُسْن الْخُلُقِ، وجاءت أحاديثٌ كثيرةٌ في بيان أنَّ حُسْن الْخُلُقِ عملٌ صالحٌ يُثقَّل به الميزان، فقد يكون الإنسان قليل العمل من جهة التَّعبُّد، ما عنده كثير صلاة، ولا كثير صيام، ولا كثير صدقة، إنَّما هو من أواسط النَّاس، فحُسْنُ الْخُلُقِ قد يبلغ به منزلة من هو كثير العبادة، ويدلُّك على ذلك أحاديث عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ومنها الحديث الذي رواه أبو داود «مَا مِنْ شَيءٍ أَثْقَلُ في ميزَانِ المُؤمِنِ يَومَ القِيامة مِنْ حُسْنِ الخُلُقِ» .
إذن حُسْنُ الْخُلُقِ شيءٌ مَعنويٌ يتصف به الإنسان يَقْلِبْه الله -عزَّ وجل- يوم القيامة عَرضًا فيكون ثقيلًا جدًّا في الميزان، وهذا يدلك على أهمية حُسْن الْخُلُقِ، وعلى أنَّ حُسْن الْخُلُقِ من العمل الصالح الذي قد يغفل عنه فئامٌ من النَّاس، تجد أنَّ الوعاظ وأهل الخير يحرصون على العمل الصَّالح، يستكثرون من الصيام والصَّلاة، والأعمال الصالحة، وأعمال البر، وهذا حسنٌ، ولكن هُناك عمل قد يغفل عنه الإنسان، وهو عملٌ يسيرٌ وسهلٌ على مَن يسَّر الله تعالى له ووفقه الله -عزَّ وجل- له، وهو حُسْنُ الْخُلُقِ.
وجاء في حُسْن الْخُلُقِ تعريف جميل جدًّا عن الحسن البصري، يقول: "حُسْنُ الْخُلُقِ بَذْلُ الْمَعْرُوفِ، وَكَفُّ الْأَذَى وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ".
والإنسان لا يشعر أنه بحسن خلقه يُدرك منزلة مَن يُكثر من الصَّلاة والصِّيام والزَّكاة، وله أعمال كثيرةٌ جدًّا، ولهذا جاء في حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَات قَائِمِ اللَّيْلِ صَائِمِ النَّهَارِ» ، فهو ما عنده كثير عبادة، ولكنه يُدرك، إذن هو عمل يسير ولكنَّه في الميزان ثقيل، وجاء عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيان أنَّ الإنسان الفقيه من عباد الله -عزَّ وجل- مَن يحرص على أن يُثقل ميزانه بالعمل الصالح، وجاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قوله: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ» .
كذلك مما ينبغي أن يحرص عليه الإنسان أن يُعوِّد نفسَه على حُسْنُ الْخُلُقِ في قوله وفي عمله، وفي تعامله مع الناس، فيتحلَّى بحُسْن الْخُلُقِ، فيسأل العبدُ ربَّه أن يبلغه هذه المنزلة، وأن يُجاهد نفسه على هذا، فالأمر يحتاج مجاهدة، ويحتاج تأسٍّ بهؤلاء الذين يُرى فيهم حُسْنُ الْخُلُقِ، وهو يسير على مَن يسَّره الله -عزَّ وجل- عليه.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ والْمُتَفَيْهِقُونَ»، فسيء الخلق بعيد من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم القيامة.
ثُمَّ ذكر بعضًا من صفات مَن هُم مُتَّصفين بسوءِ الخلق، فقال: «الثَّرْثَارُونَ»، وهم الذين يُكثرون من الكلام تكلُّفًا، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ» ، بعض الناس عنده هوسٌ بقيل وقال، وعنده هوس بمتابعة أخبار الناس، وفضول كبير جدًّا في تتبُّع أحوال الناس وقيل وقال، فهذه آفة، وهؤلاء هم الثَّرثارون.
ثم ذكر صفة أخرى فقال: «وَالْمُتَشَدِّقُونَ»، ذكر شراح الحديث أنَّ التَّشدُّق هو التَّوسع في الكلام من غير احتياط ولا احتراز، ويصدق هذا على المتطاول على النَّاسِ بكلامه.
قال: «والْمُتَفَيْهِقُونَ»، هم المتكلفون في كلامهم، من يدَّعي التَّفقُّه والتَّوسُّع على وجه الكبر والاستعلاء على الناس، واستخدام المهجور والوحشي من الألفاظ ليُظهر أنه فصيحٌ وبليغ، وهذا قد يقع فيه فئام من الناس -نسأل الله السالمة.
وتأمل -يا رعاك الله- هذه التوجيهات النَّبوية مِن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التي تذم آفات اللسان، فكلها في اللسان، الثرثرة، التشدق، التفيهق، كلها مصدرها اللسان، ولهذا نقل عن السلف: "مَا عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ شَيْءٌ أَحْوَجَ إِلَى طُولِ سِجْنٍ مِنْ لِسَانٍ" .
والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا قال له معاذ: "وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟" قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَكِلَتْك أُمُّك وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أَوْ قَالَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ- إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!» ، وهذا يتوافق مع التَّوجيهات السابقة.
وروى البزار من حديث أبي ذر أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «عَلَيْكَ بِحُسْنِ الْخُلُقِ وَطُولِ الصَّمْتِ ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا تَجَمَّلَ الْخَلائِقُ بِمِثْلِهِمَ» ، الصمت وعدم كثرة الكلام، وترك كل هذه الآفات؛ فالإنسان يحتاج إلى أن يكون صموتًا، الآن في هذا الزمن ما في صمت، كل الواقع الآن من شبكات التواصل تدعو الناس إلى الكلام، وكم وقع في النَّاس من المشاكل بسبب الكلام.
{بل إنَّ مواقع التواصل تُجَرِّئ النَّاس على الكلام، يعني: لو كان في مجلس لحسب لهذا الكلام الذي يقوله}.
نعم صحيح، ولهذا كان يُقال: رُبَّ كلمة قالت لصاحبها دعني! وهذا يصدق على شبكات التواصل، وهذا الحدث الآن تجده من بعض الناس ممن ابتلي بالشهرة وظنَّ أنَّه يملك توجيه الأمَّة صار لابد له من تعليق على حدثٍ، فيُعلِّق على كل حدث! وهذا يُسمونه في العرف الحاضر الشجاعة الأدبية، يعني: أنَّ شبكات التواصل أعطت الناس ما يسمى بالشجاعة الأدبية، ولكن هي شجاعة غير حقيقية، فهو عنده شجاعة ولكن لا يستطيع أن ينطق بها إلا من خلال الكواليس ومن خلال هذه الشبكات، وبعد أحداث حدثت ولازالت تحدث تجد في شبكات التواصل -خاصة فيما يتعلق بتويتر وما شاكل ذلك- بعض الناس يغردون تغريدات، ثم بعد فترة يسحبونها!
فالإنسان عليه أن يتأمَّل، ربَّما يقول كلمة ولا يعقل مآلها حتى الآن في الجروبات تجد أنَّ كل حدث يُعلَّق عليه، وتحدث خصومات ومناقشات، فالناس بحاجة إلى الصمت وإلى السكوت، وإلى أن ينشروا الحق والخير، ويتركوا هذه المخاصمات والمناقشات، فإن هذا مما ابتليت به الأمَّة الآن للأسف! وأنا لستُ بمكثرٍ من هذه الجروبات، ولكن أرى أن الناس يتشكُّون منها، فالإنسان ينتبه لمثل هذه الأمور ويحرص عليها، ويتخلق بالأخلاق الحسنة.
{إذا كان الإنسان يخشى من ملاحقة قانونية جراء كتابة تغريدة أو ما شابه؛ فكيف بهذا الكلام الذي يتكلمه سيكون هناك محاسبة أمام الله -عزَّ وجل!}.
وهناك قضايا منظورة في المحاكم بسبب رسائل واتس آب، وهناك قضايا منظورة في المحاكم بسبب تغريدة في تويتر، وناس يقضون أحكامًا في هذا.
إذن؛ الإنسان بحاجة إلى الصَّمت والسكوت، فمن صمتَ نجا، وسبحان الله! هذا مرض، تجد فئام من الناس ابتلي بأنه لا بد أن يكون له حديث على كل حدثٍ، وهذا ليس بصحيح، فالأمور تُرجَع إلى أهلها، والإنسان دائمًا يراجع نفسه فيما يكتب، يكتب الشيء ثم يُعيد النظر ويتأمل حتى يستوعب دراسة أثر هذا الكلام، ثم يكتب.
{ويتأمل الإنسان حادثة الإفك التي حصلت لأم المؤمنين عائشة، ما تكلم من الصحابة إلا ثلاثة..}.
قال تعالى: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ﴾، التَّلقي هذا يعني: قيل وقال، ونقل كذا...، فسبحان الله! فالإسلام آدابه عظيمة، ولكن مَن يتخلق بهذه الآداب، فإن فيها سلامة الدين والدنيا!
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُوصيك بأن تكون متأنٍّ فيما تقول وما تفعل، وكون النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحذِّرُكَ أنَّ من أسباب دخول النار حصائد الألسنة، فكيف تسمح لنفسك بمثل هذا؟! وإذا كان الناس يؤاخذونك ويعاتبونك على كلمة وربما تتراجع عنها وتسحبها؛ فكيفَ بربِّ العالمين؟!
والغريب يا شيخ؛ أنك في عافية ما لم يُدوَّن ما كتبت، الآن ما تكتبه في ظل الحفظ المعلوماتي مكتوبٌ عليك، تموت والنَّاس سيقرؤونه؛ أليس هذا يدعوك لأن تكون على حرص ألا تكتب إلا ما يرضي الله -عزَّ وجل- في الآخرة، وما يكون عندك ثقيل في الميزان، أو تسكت، اتَّهم رأيك يا أخي، والله المستعان.
وهذه الأحاديث العظيمة التي ذكر فيها «الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ والْمُتَفَيْهِقُونَ» كلها تصدق على واقع هذا الزَّمن والله المستعان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ قَوْمٌ يَأْكُلُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ كَمَا تَأْكُلُ الْبَقَرَةُ بِأَلْسِنَتِهَ». رَوَاهُ أَحْمَدُ وأبو داود والترمذي.
وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه- مرفوعا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الْبَلِيغَ مِنْ الرِّجَالِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ الْبَقَرَةُ» رواه الترمذي وأبو داود)}.
الحديث الأول عن سعد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إسناده صحيح، وحديث عبد الله بن عمرو فيه ضعف، ولكن يشهد له الحديث الذي قبله.
وتحت الحديث الأول مسائل:
- في الحديث إخبار من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بشرطٍ من أشراط الساعة وعلامة من علاماتها، ووقع ما أخبر به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هي من دلائل نبوته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأشراط الساعة -كما تقدم- منها أشراط صغرى ومنها أشراط كبرى، وهذه من أشراط الساعة الصغرى.
والحديث فيه صورة من صور التشبيه البليغ، وتشبيه الإنسان بأفعال الحيوانات؛ فهؤلاء الذين يتكلمون ويأكلون بألسنتهم فهم يأكلون بألسنتهم كما تأكل البقرة العلف بلسانها، ولا شكَّ أن التشبيه بليغ، فأكل البقرة للعلف ظاهرٌ لكل أحدٍ من وجهين:
الوجه الأول: أنَّه مما يُستقذَر، فإذا رأيتَ البقرة وهي تأكل تستقذر طريقة أكلها، فهذا على وجه الذَّمِّ لفعلهم شبَّهم الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بطريقة أكل البقرة.
الوجه الثاني: أنهم يتكلمون ليأكلوا شيئًا من المال لكلامهم، فهم يتكلمون لأجل النوال، كما أنَّ البقرة تأكل بلسانها فهم يأكلون بألسنتهم.
الوجه الثالث: أنَّ البقرة تأكل بلسانها بخلاف الحيوانات كالبعير مثلًا، أمَّا البقرة فلا تأكل العلف إلا بلفه بلسانها.
الوجه الرابع: أنَّ البقرة لا تميز فيما تأكله، بل هي تأكل كل ما وقعت عليه، فحال هؤلاء لأجل أنهم لا يُميِّزون في كلامهم فهم يتكلمون ليأكلون كما تأكل البقرة كل شيء.
فهذه أوصاف عظيمة من النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن أبلغ ما يكون التشبيه والكلام.
وفي الحديث مسألة مهمَّة: أنَّه قد جاءت عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عدَّة أحاديث فيها خطر الكلام لأجل عرض الدنيا، منها أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في وعيده قال: «وَإنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمةِ مِنْ سَخَطِ اللَّه» وفي بعض الروايات: «لا يُلْقي لهَا بَالًا يهِوي بهَا في النَّار سبعين خريفً» ، يعني: سبعين سنة يُحبس الإنسان في النَّار بسبب كلمة، وهذا يدلك على أنَّه ينبغي للإنسان أن يتبصَّر بالكلام الذي يخرجُ بينَ شفتيه، ويجعله في الميزان حتى لا يقع، ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَخْرُجَ قَوْمٌ يَأْكُلُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ»، فهم يتكلمون لأجل النَّوال، ويسمون هذا بأسماء لا تغير الحقائق، فينبغي للإنسان أن يعرف هذا، وأن يقدر أمانة هذه الكلمة ومسؤوليَّة هذه الكلمة، يحسب لها حساب، ولينظر فيما يقدم، وليعلم أنَّه مُؤاخذ بما تَكَلَّم به.
ومن المسائل التي ذكرت في هذا الحديث: إثبات صفة من الصفات الفعلية لله -عزَّ وجل- وهي أنَّ الله -عزَّ وجل- يُحب ويُبغض، وصفة الحب والبغض من الصفات المتعلقة بمشيئته -سبحانه وتعالى- وحبُّه وبغضه -سبحانه وتعالى- ليس كحب المبغضين ولا كبغض المخلوقين، فصفة البُغض من صفاته -سبحانه وتعالى- التي لا مُماثلة فيها بوجهٍ مِنَ الوُجوه، فإذا كان هذا الأمر مما يُبغضه الله -عزَّ وجل- ولذا ينبغي للمسلم أن يتجنَّب هذا الخلق الرذيل.
{أحسن الله إليكم شيخنا..
التَّكسُّب باللسان مَقصورٌ على مَن يشتغل بالعلم الشرعي؟ أو كل من يتكسَّب بلسانه من الشعراء؟}.
لا شكَّ أنَّه إذا وقع في المحظور ومدح الشَّين وَذَمَّ الزَّين والكذب؛ فلا شكَّ أنَّه يصدق فيه هذا الوصف، فالكلمة لها مسؤوليَّة، فينبغي للإنسان أَلَّا يمدح من لا يستحق المديح، ويُغيِّر الواقع، ويُبالغ في المديح؛ لأنَّ الأنسان مؤاخذٌ بما يفعل، فعليه أن يعتبر وأن يحذر غاية الحذر من مثل هذه الأمور.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَعَلَّمَ صَرْفَ الْكَلامِ لِيَسْبِيَ بِهِ قُلُوبَ الرِّجَالِ أَوِ النَّاسِ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلا عَدْل» رواه أبو داود)}.
الحديث فيه ضعفٌ، ولكن الأحاديث التي قبله تشهد إلى معناه.
قوله: «صَرْفَ الْكَلامِ»، يعني: تصاريف الكلام والتَّعمُّق فيه لأجل أن يُؤثر في النَّاس ويصرف وجوه النَّاس إليه، فهو تعلَّم للتَّأثير؛ لأنه قال: «لِيَسْبِيَ بِهِ قُلُوبَ الرِّجَالِ أَوِ النَّاسِ»، فدلَّ على أنَّ هذا التَّعلُّم لهدف، وهذا الهدف مذموم؛ لأنَّه يُراد به التأثير في النَّاس لا لأجل أن يؤثر في الناس لاتباع الحق، وإنَّما ليكون مُؤثرًا في النَّاس في تغيير أفكارهم وآرائهم والتَّكسُّب بذلك، لأنَّه مؤثِّر.
قال: «لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلا عَدْل».
الصرف في كلام أهل العلم وعند شرَّاح الحديث: هو النَّافلة.
والعدل: هو الفريضة.
يعني: لا يقبل الله تعالى منه عملًا، وهذا أورده المصنِّف -رَحِمَهُ اللهُ- للدلالة على أهميَّة الإخلاص في التَّعلُّم والتَّعليم والتَّوجيه، وعلى طالب العلم أن يكون على حذرٍ من هذه الآفات المهلكة، فالآن بعض الناس يتعلم الخطابة ويتعلم العبارات لأجل أن يُؤثر في الناس ليُستخدَم في تسويق صنعة أو سلعة أو ما شاكل ذلك للتَّأكُّل، ولا يهمُّه مُوافقة الحق، كما تعرف الآن من التَّسويق والدِّعايات؛ كل هذه لأجل عرض الدنيا، ومُشتمل على الكذب وعلى الدَّجل، وسيطرة الحياة المادية على الناس حتى صاروا يَطلبون هذه الأمور، وهذه -نسأل الله العافية- من الآفات ومن المهلكات التي عمَّت وطمَّت، وألفها الناس حتى صاروا لا يُنكرونها، وهذه أخلاق مذمومة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وعن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: «كَانَ كَلامُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلاماً فَصْلا يفْهَمُهُ كُلُّ مَن يَسْمَعُهُ»، وقالت: «كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ»، وقالت: «لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ». روى أبو داود بعضه)}.
هذه الأحاديث التي أوردها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- الإمام محمد بن عبد الوهاب إنما أرادها لأجل أن يتخلق بها طالب العلم، لأن طالب العلم أسوته في خطابه وفي تعليمه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب:21]، فالأسوة في النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا يستدعي الحديث عن صفات النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الكلام، وهديه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الكلام، ومن أجمل المؤلفات التي ألفت في هدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كتاب ابن قيم الجوزية المسمى "زاد المعاد في هدي خير العباد" فهذا من أنفع الكتب، ويسميه أهل العلم الهدي النبوي، وألفه الإمام ابن القيم في سفره، وهو كتاب عظيم النَّفع.
ومما ذكره الإمام ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ تَعالى- صفة كلام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن أعظمها وهي من خصائص كلامه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا يُمكن أن يكون لغيره، وهذا ليس موضع أسوة؛ لأنَّ هذا مما ختصَّ به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه أوتي جوامع الكلم، يعني: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتكلم بالكلام القليل عظيم النفع، وهذا من عظيم البلاغة؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُبلِّغ، ولهذا أعطاه الله -عزَّ وجل- هذه الخاصيَّة.
ومما يذكره أهل العلم في جوامع الكلم الذي أوتيه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال في البحر: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» ، فهذه العبارة تشمل عن معانٍ عظيمة جدًّا.
ومما ذكر في كلام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه كان يُحدِّثُ حديثًا لو عدَّه العادُّ لأحصاه، تقول عائشة: «لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ»، وفي بعض الروايات «كَانَ يُعيدُ الكَلام ثَلاثًا؛ ليُعقل عنه»؛ لأنَّه مُبلِّغ.
ومن صفات كلامه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه كان يتكلم بكلامٍ فصلٍ، يعني: لا يُوالي بين كلامه؛ بل يفصل بينه ليُفهَم عنه، ولهذا إذا فصل المتكلم في كلامه كان ذلك أوعى وأبلغ في الانتفاع، وفي الحفظ والسماع.
ومن صفات كلامه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قول عائشة: «لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ»، وهذه الصفات لكلامه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تبعث على الإنسان أن يقرُب من هذه الصفات وإن كانت من خصائصه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيُعنَى بالإيجاز، ولهذا الإمام المصنِّف قال: (باب التجوز في الكلام)، يعني: الإيجاز في كلامه؛ لأنَّ مهمَّة طالب العلم التعليم، فيكون في خطبته وفي وعظه كما قالت عائشة: "إذا وعظتَ فأوجِز"، وقال علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "خير الكلام ما قلَّ ودلَّ ولم يُطَلْ فيُمَلْ".
وتستغرب أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ»، يعني: من علامة فقه الرجل أن يكون قصير الخطبة طويل الصلاة.
وأنا أدعو الخطباء أن يعنوا بهدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأن يتخلقوا بأخلاق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الإيجاز في الخطبة؛ لأن هذا أنفع ما يكون للناس، وأن تكون الخطبة مشتملة على الآثار والأحاديث النبوية، وهذا الذي كنَّا نعرفه من مشايخنا، ولو نظرتَ في خطب أئمة الدعوة وخطب المشايخ تجد أنها موجزة، وما نقل عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سنته في خطبته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يوجز، وكان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقرأ بالأعلى والغاشية، والجمعة والمافقون، والجمعة والغاشية؛ فهذا طول صلاة، فعلى الخطباء أن يتمثَّلوا بهذا الهدي النبيو.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.