الدرس السادس

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

3327 12
الدرس السادس

أصول الإيمان (2)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله يا شيخ عبد الرحمن، نسأل الله لنا ولكم التَّوفيق والعلم النَّافع والعمل الصَّالح.
{نشرعُ في هذه الحلقة -بإذن الله- من كتاب "أصول الإيمان" للإمام الشَّيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- عند قوله: (وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أنَّه قَالَ: "كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَبِسَتْكُمْ فِتْنَةٌ، يَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَهْرَمُ الْكَبِيرُ، وَتُتَخَّذُ سُنَّةٌ مُبْتَدَعَةٌ يَجْرِي عَلَيْهَا النَّاسُ، فَإِذَا غُيِّرَ مِنْهَا شَيْءٌ، قِيلَ: قَدْ غُيِّرَتِ السُّنَّةُ"، قِيلَ: مَتَى ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: "إِذَا كَثُرَ قُرَّاؤُكُمْ وَقَلَّ فُقَهَاؤُكُمْ، وَكَثُرَ أُمَرَاؤُكُمْ وَقَلَّ أُمَنَاؤُكُمْ، وَالْتُمِسَتِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ، وَتُفُقِّهَ لِغَيْرِ الدِّينِ". رواه الدارِمي)}.
هذا الأثر عن ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- موقوفًا عليه، وهو صحيح الإسناد عن ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وهذا الأثر لا يُقال من جهة الرأي؛ لأنَّ فيه إخبارٌ بأمارات السَّاعةِ، فهو في مجمله له حكم الرفع من وجه، وهو يحكي واقع النقص الذي يجري على الأمَّة المحمَّديَّة، وأنَّ الفتن تقع على هذه الأمَّة أفرادًا وجماعاتٍ، وقد وقعَ ما أخبر به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وشاهد الصَّحابة -رضوان الله عليهم- دلائل ذلك، وهذه من دلائل نبوَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن علامات النُّبوَّة أنَّه يُخبر بالمغيَّبات التي يراها الناس وتقع.
وسبق حديث البخاري في الكلام عليه عرضًا حينما شكى الناس ظلم الحجَّاج في زمن أنس بن مالك –رضي الله عنه- فقال لهم: «اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ»؛ سمعته من نبيِّكم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
فهذا الأثر يدل على واقع النَّقص في الأمَّة، وأنَّ الأمَّة في مجموعها لا يزال النَّقص يتتابع فيها.
وهذا الأثر كذلك يصف الحالة التي سيكون الناس عليها حينما تتغيَّر الأحوال، فقال: "كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَبِسَتْكُمْ فِتْنَةٌ، يَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَهْرَمُ الْكَبِيرُ"، والمقصود: أنَّ زمنَ الفتنة يطول على الأمَّة، وهذه الفتنة متنوِّعة تصيب النَّاس في تصوراتهم وفي عقائدهم، وفي سلوكهم؛ فلطول زمنِ الفتنةِ وحصول الإلف من النَّاس لها وعدم إنكارها يكون المُنكر هو إنكار هذا الزلل وهذا الغلط ومخالفة السُّنَّة، مثل البدع التي يألفها الناس، ويتَّخذونها سنَّة؛ وهي على غير هَدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا هو حال أهل الغربة في كل زمانٍ ومكانٍ؛ أنَّهم يكونون غرباء لتمسُّكهم بالسُّنَّة.
ولهذا لما سُئل عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عن زمانها ومكانها؛ متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟
لم يذكر الزَّمان، وإنَّما ذكرَ أوصاف حال النَّاس في هذه الفتنة؛ لأنَّ وقوع هذه الفتن وهذه التَّغيُّرات، واختلاط الأمور على الناس، واستبدال السنَّة بالبدعة مرتبطٌ بحال أهل الإسلام والإيمان، ولهذا قال: "إِذَا كَثُرَ قُرَّاؤُكُمْ وَقَلَّ فُقَهَاؤُكُمْ، وَكَثُرَ أُمَرَاؤُكُمْ وَقَلَّ أُمَنَاؤُكُمْ، وَالْتُمِسَتِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ، وَتُفُقِّهَ لِغَيْرِ الدِّينِ".
ففي هذا الأثر: كثرة القراءة وشيوعها، وكثرة القُراء ليست على وجه المديح، وإنَّما لكون كثرة القراءة هذه لا بدَّ أن يصحبها الفقه والعلم، ولكن مجرَّد القراءة لا تعني شيئا، ولهذا قال: "وَقَلَّ فُقَهَاؤُكُمْ"، أي: الفقهاء بدين الله -عزَّ وجلَّ- وبالحلال والحرام وبالواجب والمحرم، وبما هو أولى، وبخير الخيرين وشر الشَّرين، فهؤلاء هُم الفُقهاء.
وكذلك تضعف الأمانة في واقع النَّاس، وتُطلَب الدُّنيا بأعمال الآخرة، فيُتعلَّم علم الشَّريعة لا لأجل تعليم النَّاس ونفع النَّاس، ولا لأجل الثَّواب والأجر؛ وإنَّما لأجل حُبِّ الرِّياسات وحبِّ التَّصدُّر، وحب الظُّهور وحب العلو على النَّاس؛ وكلُّها معانٍ مذمومة في طلب العلم ونفع النَّاس، وقد وقع في أزمنةٍ مختلفة، وفي زماننا هذا جملة من هذه الصِّفات، هذا الزَّمان الذي يشهد انتشار التَّعلُّم والقراءة، فكثُرَ القراء، وقَلَّ الفقهاء، أي: أهل البصيرة وأهل العلم الشَّرعي والفهم للشَّريعة، وقلَّتهم إشعارٌ بقربِ خراب هذا العالم وقيام السَّاعة؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث الآخر الذي رواه البُخاري أشار إلى أنَّ قلَّة العلماء والفقهاء من علامات فساد النَّاس وقيام السَّاعة؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ»، أي: العلم بالشَّريعة والفقه في الشريعة، قال: «انْتِزاعًا يَنْتَزِعُهُ مِن الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاء حَتَّى إِذا لم يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَيُسْأَلُوا، فأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّو»، وهذا واقع، وقد يقع في أحوال الأمَّة، وهو التَّصدُّر للفتوى لمَن ليس أهلًا ، والتَّكلُّم في أمرِ العقائد والدِّين والتَّشكيك في الثَّوابت من قِبَلِ هؤلاء الذين يُصدَّرون للأمَّة، ويصير الناس إليهم يردون ويُصدرون؛ فهذا من علامات الخطر على الأمَّة.
ولهذا فكلما كثُرَ أهل العلم وانتشرَ خيرهم؛ فهذا من علامات الضَّمانات وبقاء الأمَّة وسلامتها؛ لأنَّ سلامة الأمَّة مرهونٌ بوجود العلماء؛ لأنَّ العلماء هم الهُداة، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حدَّثنا بقصَّة مَن قتلَ تسعًا وتسعين نفسًا؛ وهذا يدلُّ على فضل العالم، قال صلى الله عليه وسلم: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟»، وهذا الرَّاهبُ قد يكونُ قارئًا وليس بعالمٍ، والرَّاهب عابد؛ «فَقَالَ: لَا. فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ»، فالعالم أفتاه وأرشدَه.
وهكذا الأفراد والمجتمعات بحاجة إلى العلماء؛ لأنَّهم هم الهُداة الذينَ يُبلِّغونَ كلام الله -عزَّ وجلَّ- وفقَ فهم الصَّحابة والتَّابعين، يُبلِّغون كلام الله -عزَّ وجلَّ- وكلام رسوله، وهم الضَّمان للأمَّة؛ لأنَّهم -بإذن الله- صمَّام أمن للبلد، كلما كثُرَ العلماء وكلما كان أهل الحل والعقد يردون إليهم ويصدرون عن آرائهم في أمور الدين وأمور كثيرة؛ كلما كان هذا ضمانٌ للأمَّة، فلزوم غرز العلماء هذا ممَّا جاءت به السُّنَّة النَّبويَّة، وجاءت الوصايا من قِبَلِ الصَّحابة والتَّابعين على هذا النَّهج، ولهذا أشار في الحديث وقال: "وَكَثُرَ أُمَرَاؤُكُمْ وَقَلَّ أُمَنَاؤُكُمْ"، فهذا واقع النَّاس إلا مَن رحم الله -عزَّ وجلَّ- في المجتمعات!
فالأمانة قليلة، وكما مرَّ معنا في الحديث قول النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةُ»، وجاء في بعض الروايات: «أَنَّ الأَمانَةَ نَزَلَتْ في جَذْرِ قُلوبِ الرِّجالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ»، فدلَّ على أنَّ الأمانة من الدين، وإذا ضعفت هذه الأمانة وقلَّت وفُقِدَ الأمين -كما هو حال الناس الآن- فإنَّ هذه علامات الفتنة.
قال: "وَالْتُمِسَتِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ، وَتُفُقِّهَ لِغَيْرِ الدِّينِ"، أي: شيوع المال، فالآن المال كثير، ولكن البركة قليلة، والناس كأنَّهم لا يجدون قوت يومهم! وكأنَّهم في حالِ نهمٍ عظيمٍ!
فتجد قطيعة الأرحام، والبغي، والظلم، والكذب، واليمين الغموس؛ كلها لأجل دراهم معدودة، وهذه من العلامات الخطيرة التي إذا وقعت في الأمَّة فهي علامة على أنَّ هذه الأمَّة مهدَّدة بالعقوبة العاجلة والزَّوال -نسأل الله السَّلامة والعافية.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ، قَالَ: قَالَ لِي عُمَرُ: "هَلْ تَعْرِفُ مَا يَهْدِمُ الْإِسْلَامَ؟" قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: "يَهْدِمُهُ زَلَّةُ الْعَالِمِ، وَجِدَالُ الْمُنَافِقِ بِالْكِتَابِ وَحُكْمُ الْأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ" رواه الدارمي أيض) }.
هذا الأثر صحيح عن عمر.
وموضوع هذا الأثر: أورده الإمام المجدد -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- لبيان ما يكون به هدم الدِّين في قلوب النَّاس؛ لأنَّ الدِّين إذا هُدم في قلوب الناس دلَّ على أنَّ أحوالهم الدِّينيَّة صارت عُرضَة لشَّتاتِ وظهور البدعة وكثرة الهرج، إلى غير ذلك؛ وإلا فالدِّين محفوظٌ من جهةِ أصله بحفظ الله -عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ الله قد تكفَّل بحفظه وحفظ كتابه، فقال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر:9].
وتحت هذا الأثر مسائل لابدَّ أن نُبيِّنها:
قول عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ("يهدِمه زلة العالِم")، أي: يهدم الدين زلة العالم.
ما المراد بزلَّة العالم؟ هل المراد ألا يكون من العالم خطأ؟ أو أنَّه خطأ في مسائل مُعيَّنة؟
المقصود بزلَّة العالم: هي خطؤه وغلطه في أصول الدين وقواعده، أمَّا فروع المسائل والفقهيات والفرعيَّات؛ فالخطأ فيها مغفور؛ لأنَّه من موارد الاجتهاد، كأن يرى أنَّ هذا مكروهٌ أو مُحرَّمٌ في المسائل التي يسوغ فيها الخلاف، فالكلام على الخلاف أو الخطأ في أصول الدين فيما يتعلق بتوحيد الله -عزَّ وجلَّ- في ربوبيَّته وأسمائه وصفاته وهذه المسائل الثَّابتة التي لا يسوغ فيها الخلاف، فإذا انحرف العالم وقال برأيه، وتبعَه فئامٌ من النَّاس على هذا الخطأ؛ قيل إنَّ هذا من أسباب ما يقع به هدم الدِّين في قلوب الناس.
وقيل: زلَّة العالِم زلَّة العالَم؛ ولهذا فإنَّ عبد الله بن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهو من فُقَهاء الصَّحابة قال: "ويلٌ للأتباع من عثرات العالم"؛ لأنَّ العالم متبوع، فإذا عثر تبعه في عثرته فئامٌ من النَّاس.
ومن قواعد الشَّريعة أنَّ العالم إذا أخطأَ في أصول الدِّين فإنَّه لا يُتابَع على ذلك، وإن كان ما قاله -أو غلط فيه- مغفورٌ له إذا كان من اجتهاد، أو شذَّ في فرعٍ من أصول الدَّين، أمَّا في الأصول فإنَّه يُبدَّع إذا قامَت عليهِ الحُجَّة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وليس لأحدٍ أن يتبع زلَّات العلماء، كما ليس له أن يتكلم في أهل العلم الإيمان إلا بما هم له أهل"، يعني: واجب الأدب ممَّن كانت له سابقة في العلم، وإذا عُلِمَ منه إرادة الخير والثبات على السُّنَّة، فقد يقع في فرعيَّات المسائل، فخطأه مغفورٌ إن كان قد قال ذلك باجتهاد، كما وقع في مسائل مُتعدِّدَة من التَّابعين، وممَّن جاء بعدهم، فإذا وقعَ الخطأ في فرعٍ لأصلٍ فإنَّه مغفورٌ له ولا يُتابَع عليه؛ لأنَّه ليس له العصمة.
المقصود: أنَّ زلَّة العالم لا يُتابَعُ عليها، وأنَّ المراد بهذه الزَّلَّة الخطأ في مسائل أصول الدِّين دون فرعيَّات المسائل، حتى يُفهَم هذا على وجهه.
ثم قال في الأثر: ("وَجِدَالُ الْمُنَافِقِ بِالْكِتَابِ") ، مصطلح "منافق" هذا هو الاسم الشَّرعي الذي جاء في النُّصوص، وهذا يشمل كل مَن يُشكِّك في ثوابت الدِّين، أو مَن يعتقد أنَّ الإسلام قد ولَّى زمانه، أو يعتقد أنَّ الأفكار الغربيَّة هي السَّبيل لنهضة الأمَّة؛ فهؤلاء يدخلون في هذا المسمَّى؛ لأنَّ هذا من علامات النِّفاق، ولأجل أن يُشكِّك المنافق النَّاس في أمور دينهم أو ليهدم الدِّين في قلوب النَّاس؛ فإنَّه يعمَد إلى كلام الله -عزَّ وجلَّ- فيضرب بعضَه ببعض، والهدف هو تشكيك النَّاس؛ لأنَّ عُمدة أهل النِّفاق والريب هو اتِّباع المتشابه والإعراض عن المُحكَم كما قال الله -عزَّ وجلَّ- في وصفهم، فقال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ [آل عمران:7]، أي أنَّ الذين في قلوبهم الضلال والمرض، أو الانحراف والشكّ؛ ابتغاء فتنة النَّاس في دينهم، وهذا هو جدال المنافق بالكتاب، فأعداء الدِّين كلهم على هذا النَّحو، من اليهود والنًّصارَى ومَن عاونهم وناصرهم، فكلهم يرجعون إلى دواوين الإسلام، وإلى كتاب الله وسنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإلى البخاري ومسلم -كما يفعل بعض المستشرقين في دراساتهم- لأجلِ صَرفِ النَّاس عن هذا الدِّينِ القويم، ويقع من بعض النَّاس تلقُّف لهذه الأفكار ومن ثَمَّ استجابة لهم؛ لأنَّ الله أخبرنا أنَّ أهلَ النِّفاق والشَّكِّ والرَّيب يُوجد في الأمَّة مَن يستمع لمقالتهم، قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ [التوبة:47] ، فدلَّ على أنَّ هؤلاء المنافقين في الأمَّة مَن يسمع لهم، وهذا السَّماع يُسبِّب الشَّك وهدم الدِّين في قلبه -نسأل الله السَّلامَة والعَافية.
فهؤلاء هم أهل النِّفاق، ومَن عادى الدِّين من اليهود والنَّصارى، وهنا عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- نصَّ على المنافق؛ لأنَّه أشدُّ خطرًا؛ ولأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- حذرنا من المنافقين فقال: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ [المنافقون:4]؛ لأنَّهم في دائرة الأمَّة المسلمة، ويتكلمون بألسنتنا، ويلبسون لباسنا، ويزعمون أنَّهم مُريدون للخيرِ، ومُريدون للإصلاح، فشعاراتهم برَّاقَة، وحديثهم له قبول، ومناظرهم حسَنة، قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [المنافقون:4]، فأوصاف المنافقين محل دراسة وتأمُّل، ولهذا جاء التَّحذير من قِبَل النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من النِّفاق ومن أهله، ومن ذلك تحذير الصَّحابة -رضوان الله عليهم- فيما يحصل به هدم الدِّين، فذكرَ أولًا زلَّة العالم، وأنَّه لا يُتابَع عليها، وذكر جدال المنافق بالكتاب.
ثم ذكر ممَّا يهدم الدِّين في قلوب النَّاس، قال: ("وَحُكْمُ الْأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ")، ومَن كانت لهم الإمامة والسُّلطَة، وتاريخ الإسلام موجود بشخصيات كثيرة جدًّا حصل منها تشكيك النَّاس في دينهم، حينما يُقبِل النَّاس على الدُّنيا، ويُبارزون الله -عزَّ وجلَّ- بالمعاصِي يبتليهم الله -عزَّ وجلَّ- بأئمة وحكَّام مُضلين، فيحكمونهم ويتسلطونَ عليهم في أمرِ دينهم، وذلك بحملهم على الفجور والمعاصي، وإشاعة البدع فيهم -نسأل الله السلامة والعافية- وهذا وقع في تاريخ الأمَّة ولا يزال، فيكون في ذلك هدم الإسلام في قُلوبهم، وما زال التاريخ يشهد بشخصيات كذلك، كمَن يتولَّى على بعض البلدان الإسلاميَّة، كالدولة العُبيديَّة التي تُسمَّي نفسها زورًا: "الفاطميَّة" وغيرهم من الشَّخصيات التي كان في حكمها سبب لهدمِ الدِّين -نسأل الله السَّلامَة والعافية من هذه الأمور.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعَنْ حُذَيْفَة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: "كُلُّ عِبَادَةٍ لَمْ يَتَعَبَّدْهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا تَعَبَّدُوهَا فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَدَعْ لِلْآخِرِ مَقَالًا ، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ ، وَخُذُوا بِطَرِيقِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ". رواه أبو داود)}.
الأثر بهذا اللفظ ليس في سنن أبي داود، وإنَّما الذي في سنن أبي داود بلفظٍ آخر وهو: "يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ، اسْتَقِيمُوا فَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا".
وموضوع الأثر الذي بهذا اللفظ أو بذاك؛ واحد، وهو التَّمسُّك بأمرِ السُّنَّة في التَّعبُّد وعدم التَّجاوز، فأصحاب محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هم نقلةُ هذا الدِّين، فكل عبادةٍ لم يفعلها الصَّحابَة -رضوان الله عليهم- فلا ريب أنَّها إحداثٌ في الدِّين، وقد جاء النَّص من المعصوم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّ الإحداث مذموم ومردود، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث عائشة المتَّفق على صحَّته: «مَنْ أَحْدَثَ فِيْ أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»؛ ولأنَّ الدين ليس بحاجةٍ إلى تكميل ما فيه، فهو كاملٌ بذاته وبه تشريعاته، فالله -عزَّ وجلَّ- قال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينً﴾ [المائدة:3].
فواجب الأمَّة أن تقف حيثُ وقف الصَّحابة -رضوان الله عليهم- وهذا يُشير إلى أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبر أنَّ الفرقَة النَّاجية هي ما وافق الصَّحابَة في تعبُّدهم؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً، ما أنا عليه اليوم وأصحابي»، فالنَّجاة في لزوم هدي الصَّحابة -رضوان الله عليهم- في التَّعبُّد، ولهذا فإنَّ إجماع الصَّحابة في مسألةٍ حُجَّة، فينبغي أن يُعتَنَى بهذا ويُفهَم هذا لمَن أرادَ النَّجاة من الابتداع في دين الله -عزَّ وجلَّ- فإذا حصَلَ من أحدٍ أن أظهرَ عبادة أو أظهرَ شيئًا سُئِلَ: هل فعلها الصَّحابة -رضوان الله عليهم؟ حتى يُعلَم من قرائن الأحوال أنَّها إحداثٌ في دين الله -عزَّ وجلَّ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعن عَبدُ اللهِ بنُ مَسعُودٍ -رضي اللهُ عنه- قَالَ: "مَنْ كَانَ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ، فإنَّ الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفتنةُ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانُوا أفْضَلَ هَذِهِ الأُمَّةِ، أَبَّرَهَا قُلُوبًا، وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا، وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلإقامةِ دِينِهِ، فَاعرِفُوا لَهُم فَضلَهُم وَاتَّبِعُوهُم عَلَى آثَارِهِم وَتَمَسَّكُوا بِمَا استَطَعتُم مِن أَخلَاقِهِم وَسِيَرِهِم فَإِنَّهُم كَانُوا عَلَى الهُدَى المُستَقِيمِ"، رواه رَزِيْنٌ)}.
هذا الأثر فيه ضعفٌ ولكن معناه صحيح وبليغ.
موضوع الأثر: أنَّ الاقتداء في العمل والاتباع الموافق للسُّنَّة هو بالميِّتِ دون الحي، فإنَّ "الحي لا تؤمَن عليه الفتنَة" ، كما قال ابن مسعود، والفتنة هنا: هي المتغيرات.
فخير مَن يُقتَدى بهم هم الصَّحابة -رضوان الله عليهم- وهم قد ماتوا، فهم الذين عاصروا التَّنزيل، وشاهدوا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجاهدوا معه وماتوا على ذلك، ولهذا أشار ابن مسعود إلى ذلك بوصفهم بهذه الأوصاف البليغة، وهم أصحاب القلوب البرَّة، وأهلُ السَّماحة الاعتدال، فهذه وصيَّةٌ عظيمةٌ من صحابي جليل -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من فقهاء الصَّحابة، وبلزوم هذه الوصيَّة يُعرَف السُّنِّي من البدعي ممَّن يُعنَى بآثارِ الصَّحابةِ وسلوكهم وأقوالهم، فإذا كان على هذا النَّحوِ فاعلَم أنَّ الله أراد به خيرًا، وهذا ما أوصى به عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فقال: ("فَاعرِفُوا لَهُم فَضلَهُم وَاتَّبِعُوهُم عَلَى آثَارِهِم وَتَمَسَّكُوا بِمَا استَطَعتُم مِن أَخلَاقِهِم وَسِيَرِهِم")؛ لأنَّ الصَّحابَة -رضوان الله عليهم- في سِيَرِهم وفي أقوالهم أعمالهم الموافقة للسُّنَّة لا شكَّ أنَّها موضع اقتداء، وهذا ما يسميه علماء التَّربية بــ "القدوة"، فهؤلاء أهل القدوَة، فإذا أردتَّ أن تقتدي فاقتدي بالرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبصحابته -رضوان الله عليهم- لأنَّهم كانوا هُم أهل الاقتداء بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهم أهل الهُدَى المستقيم، فالزم طريقتهم ومنهجهم في الاعتقاد وفي الفقه وفي السُّلوك حتى تحصل لك النَّجاة من الفتن والمتغيرات -نسأل الله السلامة والعافية منها.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَوْمًا يَتَدَارَءُونَ بِالقُرْآَنِ، فَقَالَ: "إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا، ضَرَبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّمَا نزل كِتَابُ اللَّهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَلا تَضْرِبُوا بَعْضَهُ بَعْضًا، مَا عَلِمْتُمْ مِنْهُ فَقُولُوا، وَمَا لا ، فَكِلُوهُ إِلَى عَالِمِهِ". رواه أحمد وابن ماجه)}.
هذا الحديث مشهور، وحكم أهل العلم على سنده بأنَّه حسنٌ.
وقوله: ("يَتَدَارَءُونَ بِالقُرْآَنِ")، يعني: التَّخاصم والتَّرافع بالقُرآن، والمراء في القرآن قد بيَّنه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأنَّه ضربُ الكتاب بعضه ببعض.
والمراء في القرآن مذموم، وقد بدأ المراء في القرآن في عهد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قصَّة عمر مع هذا الرَّجل الذي قال لعمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "كيف تقرأها وأنا سمعتها من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على نحو خلاف ذلك"، أي: من جهة القراءة؛ لأنَّ القرآن أُنزِلَ على سبعةِ أحرفٍ، وكان هذا من التيسير للأمَّة حتى جمع عثمان بن عفان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الأمَّة على حرفٍ واحدٍ، والقراءات العشر من ضمن الحرف الواحد الذي جمعهم عليه، فكان هذا من الأسباب التي نهى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأجلها عن المراء في القرآن.
ويدخل في المراء في القرآن حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ» ، أي: كفرٌ أصغر، وهو: المجادلة والخصام الذي يتضمَّن الشَّك في ذلك.
وأصل المراء في القرآن فيه نقض التَّسليم لله -عزَّ وجلَّ، فينبغي أن يُصَان كتاب الله -عزَّ وجلَّ- عن أن يكون فيه مراء وجدال، وأن يقول: قال الله كذا...، ويُعارضه الثَّاني على وجه الدال والمراء، وإنَّما الذي ينبغي هو تصديق الكتاب بكلِّ مافيه، وما يستشكله المكلَّف عليه أن يبحث عن تفسيره في كلام أهل العلم، أمَّا أن ذاكَ ينزَع بآية وذاكَ ينزَع بآية فهذا ممَّا جاء الذَّم فيه عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وممَّا بينه الحديث: أنَّ المطلوب هو ردُّ المتشابه إلى المُحكَم، فالمتشابَه إمَّا أن يُفسَّر بردِّه للمُحكَم فيُعلَم وجه الإشكال ويُزال، كأن يُشكل في معنى آيتين بمخالفة إحدهما للأخرى، فيُكشَف هذا بتفسير أهل العلم وكلامهم، وللعلماء في تفاسيرهم أجوبة كثيرة جدًّا، وبعض العلماء المعاصرين ألَّفَ مؤلَّفًا فيما يُشكِل من ذلك وهو: "دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب" للشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى رحمةً واسعة.
فالمطلوب: أنَّ المتشابه إمَّا ان يُفسَّر، أو يؤمَن به ويُفوَّض إلى عالمه، فقد لا يكون عند الإنسان جوابًا لهذا المتشابه، وربما سبق معنا في الدروس السابقة ما يتعلق بالجواب المجمَل والجواب المفصَّل عن المتشابه، فهذا الحديث يدل على هذا الأصل الذي ذكرناه في هذا المعنى.
{شيخنا، أحسن الله إليك، قد يرد سؤال، هل يكون المتشابه في الأحكام الشَّرعية، فبعضهم يبحث عن مسببات الحكم، ويُحاول أن يجد علَّة أو حِكمَة من الحكم الشَّرعي، فعلى سبيل المثال تجدهم يبحثون عن علَّة قطع يد السَّارق؛ فهل هذا يدخل في المراء في القرآن؟}.
ذكر أهل العلم في مباحث الأصول أنَّ الأصل في الأحكام الشَّرعيَّة هو التَّعبُّد، وإذا ظهرَت الحكمَة للمكلَّف فهي ممَّا يُذكر ولكن لا يُجزَم به؛ لأنَّ الأصل في الأحكام الشَّرعيَّة هو التَّعبُّد؛ ولأنَّ الاستغراق في البحث عن الحكم قد يُفهَم منه مُنافاة التسليم لله -عزَّ وجلَّ- لأنَّ الإسلام كما هو معروف هو الاستسلام لله بالتَّوحيد، والانقياد له بالطَّاعة، والبراءة من الشِّرك وأهله.
فلابدَّ أن يعرف أهل الإسلام ومَن يدخل في هذا الدِّين أنَّ الإسلام قائم على الاستسلام، وهذا الاستسلام لا يعني إلغاء العقل، ولكن لا يتعمَّق في بحث مسائل العلل بعقله المجرَّد دون أثرٍ ودونَ إمامٍ متَّبَع في هذه المسائل؛ ولأنَّ هذا التَّسلسل قد يُدخل الإنسان في دوَّامة من هذه الأسئلة التي قد لا يجد فيها جوابًا؛ لأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- هو العليم الخبير.
فلو قيل: ما الحكمة من صلاة الظهر أربع والمغرب ثلاث؟! فيصير ديدنُ الإنسان في بيان الأحكام التَّعليل! فينبغي أن يُربَّى النَّاس على أنَّ الأصل هو التَّسليم لله -عزَّ وجلَّ.
وتذكرون القاعدة التي ذكرناها في مسائل الأسماء والصِّفات وما يتعلق بأنَّ التَّسليم عند أهل السَّنَّة يُنافي التَّسليم عند غيرهم من العقائد المحرَّفَة كما هو عند اليهوديَّة والنَّصرانيَّة؛ فمبحث التَّسليم لديهم مختَلف؛ لأنَّ عندهم التسليم هو إلغاء العقل، وإنَّما عند أهل السُّنَّة أنَّ التَّسليم لا يلغي العقل؛ بل يُعطي العقل حظَّه في النَّظر والاعتبار، وقد أمر الله -عزَّ وجلَّ- بالاعتبار فقال: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأبْصَارِ﴾ [الحشر:2].
وكما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- القاعدة بأنَّ الشَّريعة والنُّصوص تأتي بما تُحار به العقول لا بما تُحيلُ العقول"، يعني: أنَّ التسليم بمعنى الإحالة، وإلا فإنَّ العقل له اعتبار في الشَّريعة، والباحث عن دقائق هذه الحِكَم ينبغي أن يُربَّى النَّاس على التَّسليم لله -عزَّ وجلَّ- وأنَّ هذا تعبُّدٌ وطاعة، فلو فتحت هذا الباب لماذا نفعل كذا؟...، لماذا نفعل كذا؟...؛ فهذا من مداخل الشَّيطان على قلب العبد.
{بعض الناس يا شيخ قد يفهم الحكمة، ولكن عموم الناس الأصل فيهم التسليم وقد لا يفهم الحكمة؟.
نعم، فإنَّ الدين قائم على التَّسليم، وَصَدَّق بما جاء به الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من القُرآن والسُّنَّة قامت عليه البراهين، فهذا ثابت، ودلائل النُّبوَّة تدل على أنَّ كل ما جاء عن الله وعن رسوله حق، فإذا ثبت لك أنَّه حقٌّ فلماذا تسأل عن تفاصيله؟!
فإنَّ هذه التعليلات قد يُفهم منها أنَّها تُنافي التَّسليم، وينبغي لأهل الإيمان أن يكونوا حريصين على سلامة قُلوبهم من هذه الأمور، ومن التَّسلسل في هذه المسائل.
{(بَابُ التَّحريضِ عَلَى طَلَبِ العِلْم وَكَيفيةِ الطَّلبِ.
وفيه حديث "الصحيحين" في فتنة القبر «أن المؤمن يقول: جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالهُدَى، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا، وأمَّا المعذب يقول: لاَ أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ»)
!
مناسبة هذا الباب لما قبله: لعلَّ الشَّيخ لمَّا ذكرَ الإيمان بالقرآن والإيمان بالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ناسبَ أن يذكر السَّبيل القويم لتلك المعرفة، فلا سبيلَ ولا طريقَ إلا بطلبِ العلمِ النَّافع، فمن حُسنِ تصنيفِ الإمام المجدِّد -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنَّه دمجَ بين هذا وبين ذاك، فهو الآن يُريد أن يُبيِّنَ سبيلَ طلبِ العلم، والأمور التي ينبغي لطالبِ العلم أن يُراعيها حتى يُحصِّل العلم النَّافع؛ لأنَّ العلم منه ما هو نافعٌ ومنه ما ليس بنافع، فالعلم هو ما جاء عن الله وعن رسوله بفهم الصَّحابة -رضوان الله عليهم- والتَّابعين، وأمَّا ما عداه فإنَّه علمٌ وبالٌ على صاحبه، وإنَّما يورثه الشَّك والحيرة، أو يصده عن السبيل المستقيم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فيه حديث الصَّحيحين في فتنة القَبْرِ أنَّ الْمُنَعَّم يَقُولُ: «جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالهُدَى، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا، وأمَّا المعذب يقول: لاَ أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ»)}.
هذه إشارة من الشَّيخ -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- لسؤالات القبر، فالمؤمن يُجيب بهذه الإجابة، فدلَّ على أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جاء بالبيانات، والبينات: جمعُ بيِّنة، وهي الحجَّة والواضحة.
قال: (بالبينات والهدى)، فدلَّ على أنَّ الطريق إلى العلم النَّافع إنَّما يكون بما جاء عن الله، وبما جاء عن رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وفيهما عن معاوية -رضي اللَّه عنه- أنَّ رسولَ اللَّه -صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم- قال: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»)}.
هنا إشارة من الشَّيخ -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- إلى أنَّ الفقه في الدِّين مطلوب، وأنَّه من إرادة الخير لله -عزَّ وجلَّ- للعبد توفيقه للفقه في الدِّين.
الفقه في الدِّين: هو الفَهم، ومعرفةُ طُرقِ استِنبَاطِ الأحكَامِ من الأدلَّةِ الشَّرعيَّةِ، والعِلم بقواعد الإسلام العِظَام، وبأصول الإسلام وثوابته، والعلمُ بالحلالِ والحرامِ.
والفقه يشمل: فقه الأصول وفقه الفروع، وكله من الفقه في الدِّين، ولهذا فإنَّ الإمام أبا حنيفة سمَّى كتابه في الاعتقاد: "الفقه الأكبر"، فدلَّ على أنَّه من الفقه.
ودلَّ الحديث على أنَّ مَن أرادَ الله به خيرًا رزقه الله -عزَّ وجلَّ- الفقه في الدين، ولابدَّ مه التَّفقُّه في الدِّين من العمل بهذا الفقه، ولا سبيل لهذا الفقه إلا بطريق العلم، وهو أوَّل الواجبات على المكلف، وهو أن يعلم قبل أن يعمل، ولهذا أشار الله -عزَّ وجلَّ- إلى ذلك فقال: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد: 19]، وقال الإمام البخاري -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: "باب العِلْمِ قَبْلَ القَولِ والعَمَل"، وهذا يدلُّك على أهميَّة العلم في الإسلام، وأنَّه مِن الأمورِ التي ينبغي أن يُعنَى بها طالب العلم، بل إنَّ الله -عزَّ وجلَّ- فرَّقَ بينَ الذين يعلمون والذين لا يعلمون، فقال: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9]، ففضَّلَ الله أهل العلم ورغَّبَ فيه، ودين الإسلام يحثُّ ويحضُّ على العلمِ والتَّعلُّم.
والواجب على المسلمين جميعًا التَّعلُّم والتَّفقُّه في الدِّين، وطريق ذلك بتعلُّم ما في الكتاب والسُّنَّة، ولهذا فمن عجز عن ذلك فإنَّه يسأل أهل العلم، قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، وذلك حتى يؤدِّي ما كلَّفَه الله -عزَّ وجلَّ- على الواجه الذي يرضاه -سبحانه وتعالى.
ومن العلم ما هو فرضُ عينٍ، ومن العلم ما هو فرضُ كفايةٍ، فمثلًا علمُ العبد والأَمَة المؤمنة بأمر الصَّلاة وأصول الدِّين من الواجب، فلا يُمكن للإنسان أن يصلِّي حتى يتعلَّم، ولهذا فإنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمَّا رأى المُسيء صلاته قال له: «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ»، ولم يعلم المسلمون كيف صلَّى رسول الله أو كيف حجَّ إلا بالتَّعلُّم، فلابدَّ للإنسان أن يتعلَّم، فيتعلَّم المؤمن والمؤمن ما يُؤدِّي به ما فرضه الله -عزَّ وجلَّ- عليه من الفرائض، ويتعلَّم ما نهى الله عنه حتى ينتهي عن المحرمات على وجه الإجمال.
ومسائل فروض الأعيان يسميها بعض العلماء "ما لا يسع المكلف جهله"، والشَّيخ ابن باز -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- ألف رسالة ماتعة ولطيفة وصغيرة سمَّاها "الدُّروس المهمَّة لعامَّة الأمَّة"، وفيها جملة من هذا العلم العيني على الإنسان، فلابدَّ إذن من التَّعلُّم والتَّفقُّه في دينِ الله -عزَّ وجلَّ- حتى يحصل للإنسان أن يؤدِّي هذه العبادات وهذه الشَّعائر على النَّحوِ الذي يرضاه الله -عزَّ وجلَّ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وفيهما عن أبي موسى -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَثَل مَا بعَثني اللَّه بِهِ منَ الْهُدَى والْعلْمِ كَمَثَلَ غَيْثٍ أَصَاب أَرْضاً فكَانَتْ طَائِفَةٌ طَيبَةٌ، قبِلَتِ الْمَاءَ فأَنْبَتتِ الْكلأَ والْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمسكَتِ الماءَ، فَنَفَعَ اللَّه بِهَا النَّاس فَشَربُوا مِنْهَا وسَقَوْا وَزَرَعَوا. وأَصَابَ طَائِفَةٌ مِنْهَا أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينَ اللَّه، وَنَفَعَه بمَا بعَثَنِي اللَّه بِهِ، فَعَلِمَ وعَلَّمَ، وَمثلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذلِكَ رَأْساً وِلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ»)}.
هذا الحديث مُخرَّج في الصَّحيحين -البخاري ومسلم- من حديث أبي موسى الأشعري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فيه مثلٌ ضَرَبَه النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ومن هدي النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه يضرب الأمثال، والأمثال النَّبويَّة صُنِّفَت فيها مصنَّفات، وضرب المثل من طرق التَّعلُّم، بل من أحسن الوسائل في فهم العلم وثباته، ولهذا كان النَّبي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يستخدمها ويذكرها في أحاديثه، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ؛ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِن الزَّرْعِ, تُفِيئُهَا الرِّيحُ تَصْرَعُهَا مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى حَتَّى تَهِيجَ»، وأحاديث كثيرة جدًّا في الأمثال النَّبويَّة.
كذلك القرآن فيه ذكر الأمثال، وأمثال القرآن مُتعددة، فذكر الله -عزَّ وجلَّ- أمثال كثيرة جدًّا، ومن المناسب أن نذكر المثل الذي ذكره الله -عزَّ وجلَّ- عن اليهود في حمل العلم؛ لأنَّه مناسب لهذا الحديث، قال الله -عزَّ وجلَّ- عن اليهود: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارً﴾ [الجمعة: 5]، شبَّه اللهُ -عزَّ وجلَّ- اليهودَ بالحمارِ الذي يكون عليه كتبٌ وهو لا يفقهها ولا يعرف ما فيها، لأنَّهم حُمِّلوا هذه التَّوارة وحَمَلُوها وحَفِظُوها، ولكنهم لم يعملوا بها ولم يتفقَّهوا فيها؛ بل أدخلوا التَّحريفَ والتَّغييرَ فيها، فصَاروا لهم مثلَ السَّوءِ، وهو الحمار الذي يحملُ الكتبَ ولا ينتفع بها -نسأل الله السلامة والعافية.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك