الدرس العاشر

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

3327 12
الدرس العاشر

أصول الإيمان (2)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله يا شيخ عبد الرحمن.
{ما زلنا في باب: (التَّشديدِ في طَلَبِ العِلمِ للمِرَاءِ والجِدَالِ).
قال المؤلِّف -رَحِمَهُ اللهُ: (وعن ابنِ عباسٍ -رضي اللَّه عنهما- قال لقومٍ سمِعهم يتمارون في الدينِ: "أمَا علِمتم أنَّ لله عبادًا أسكتتهم خشيةُ اللَّه مِن غيرِ صممٍ ولا بكمٍ، وإنَّهم لهم العلماء والفصحاء والطُّلقاء والنُّبلاء؛ العلماء بأيامِ اللَّهِ، غيرَ أنَّهم إذا تذكَّروا عظمة اللَّه طاشَت عقولهم وانكسرتْ قلوبهم، وانقطعت ألسنتهم، حتى إِذا استفاقوا مِن ذلك تسَارعوا إلى اللَّهِ بالأعمالِ الزَّاكية، يعدُّونَ أنفسَهم مع المفرِّطين، وإنَّهم لأكياس أقوياء، ومع الضَّالين والخطائِين وإنَّهم لأبرار برءاء، ألا إِنَّهم لا يستكثِرون له الكثير، ولا يرضون له بالقليلِ، ولا يُدِلون عليه بأعمالهم، حيث ما لقيتهم مهتمون مشفِقون، وجِلون خائفون". رواه أبو نعيمٍ.
قال الحسن: وسمِع قومًا يتجادلون: "هؤلاءِ قوم ملُّوا العبادة، وخف عليهِم القول، وقل ورعهم فتكلموا")
}.
هذا الأثر فيه ضعف، وليس هذا ثابتًا عن ابن عبَّاس، ولكنَّه مُتضمِّنٌ لمعانٍ صحيحة ينبغي أن يتخلَّقَ بها طالب العلم.
وهذا الأثر يدلُّ على أنَّ العِلم منه ما هو نافعٌ، ومنه ما ليسَ بنافعٍ، وجاء من تعوُّذات النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ» ، وجاء كذلك في الأثر: «وَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ» ، وهو العلم الذي يكون حُجَّة على صاحبه، فليس المقصود بالعلم هو جمعُ المعلومات والمعرفة دونَ علمٍ ولا أثرٍ، فعلى طالب العلم أن يحرص كل الحرص في طلب العلم أن يحقِّقَ النيَّة الخالِصَة لله -عزَّ وَجَلَّ- في طلبه للعلم، فقد جاء الوعيد الشَّديد فيمَن طلبَ العلم لينالَ به عرضًا من الدُّنيا، فإنَّه لا يجد رائحة الجنَّة، فهذا وعيدٌ شديد، فانقلب تحصيله وبالًا عليه.
وفي هذا الأثر: ذكرُ آثارٍ لهذا العلم النَّافع، فالعلم النَّافع له آثارٌ حتى يعرف الإنسان من نفسِه أنَّه يُحصِّل علمًا نافعًا، وإذا لم تظهر هذه الآثار فعليه أن يُراجع نفسه في طلبه للعلم.
أوَّلُ هذه الآثار التي ذكرها السَّلف، ومنهم ابن عباس وغيره مِن أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والتَّابعين والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ؛ أنَّ العلم النَّافع يحمل صاحبَه على الهربِ من الدُّنيا، فكلما ازدادَ العبد تحصيلًا للعلم ازدادَ عُزوفًا عَن الدُّنيا، وأعظم شهوات الدُّنيا في العِلم حبُّ الرئاسة والشُّهرةِ، وحب أن يُمدَح، والتَّباعد عن ذلك يعد من علامات انتفاع طالب العلم بعلمه، والله -عزَّ وَجَلَّ- يقول: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص:83].
ولنا أُسوةٌ حَسنةٌ في أئمَّة السَّلف -رَحِمَهُم اللهُ- فمِن حِرصهم العظيم على تركِ الولايات، وهروبهم من الرئاسات، ومن ذلك هُروبهم من القضاء، ومن كراهيتهم بأن يُمدَحوا، ومن كراهيتهم للشُّهرةِ والظُّهورِ على النَّاس، ها هو الإمام الشَّافعي كان يقول: "وَدِدْتُ أَنَّ الْخَلْقَ يَتَعَلَّمُونَ هَذَا الْعِلْمَ، وَلا يُنْسَبُ إِلَيَّ مِنْهُ شَيْءٌ" ، انظروا إلى آثار العلم! وما كان ذلك منه -رَحِمَهُ اللهُ- إلَّا ببركةِ النِّيَّة الصَّالحة.
وكان الإمام أحمد يقول: "طوبى لمن أخملَ الله ذكرَه" ، وفي عُرف هذا الزَّمان صارت الشُّهرة مطلبًا، وحبُّ الظَّهورِ والمخالفةِ ومبدأ خالف تُذكَر؛ ما كان موجودًا في عُرف السَّلف.
وكان الإمام أحمد يقول: "إنِّي ابتُليتُ بالشُّهرةِ"، لوقوفه أمام الجهميَّة المعتزلة في مسألةِ القول بخلق القرآن، ولهذا لَمَّا أظهرَ الله به السَّنَّةَ صارَ الناس يرحلونَ إليه مِن المشارقِ والمغاربِ لطلبِ العلم؛ ولأن يتعلَّموا عقيدة السَّلف.
وكان -رَحِمَهُ اللهُ- يمشي في السُّوق فإذا رأى أحدًا يَكتُب عنه شيئًا ينهاه ويأمره أن يمحو ما كتبَ، وهذا ما كان منه -رَحِمَهُ اللهُ- إلَّا لعظيم الإخلاص الذي وقعَ في قلبه، فينهى من يَكتُب عنه ومع ذلك كتبوا مسائل الإمام أحمد من رواية أبي هانئ ورواية عبد الله، وهي موجودة إلى يومنا، وهي المسائل التي حلف عليها أحمد، مع أنَّه كان ينهى أن يُكتَب عنه، وهذا ببركة الإخلاص الذي كان موجودًا عنده -رَحِمَهُ اللهُ.
من علامات العلم النافع: أنَّ العلمَ يَعقبُه العمل، فإذا رأى طالب العلم أنَّه يزداد من العمل فليعلَم أنَّه مُنتفعٌ بعلمه، وإذا رأى مِن نفسِه أنَّه يتباعَد فعليه أن يُراجع نفسَه، وأن يُراجع نيَّتَه.
كذلك من علامات العلم النَّافع -كما قال ابن عباس: إنَّهم أهلُ الخشية لله -عزَّ وَجَلَّ- وقد أشارَ الله إلى ذلك في قوله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر:28]، فالعلم ثمرته الخشية، ورأسُ العلمِ الخَشيَة، وإنَّما يُرادُ العلم لذلك، وأوَّلُ علمٍ يُرفَع -كما نُقل عن السَّلف- هو الخشوع.
ولَمَّا تُكلِّمَ في مَعروفٍ في مجلس الإمام أحمد ولُمِزَ بقلَّةِ العلمِ؛ قال الإمام أحمد: "معروف الكرخي معه رأسُ العلم، الخشية" ، فإنَّما يُراد العِلَم لأجل الخشية.
من علامات العلم النَّافع: أنَّ صاحبَه لا يتكبَّر على الخلقِ، ويعودُ على نفسِه بإساءة الظَّنِّ.
وقد جاء في الأثر: (أسكتتهم الخشيَة، وانكسرت قلوبهم، يعدُّونَ أنفسَهم من المفرِّطين وإنَّهم لأكياسٌ أقوياء، ومع الضَّالِّينَ والخطَّائين وإنَّهم لأبرارٌ برءاء)، فهؤلاء عرفوا عظيمَ حقِّ الله -عزَّ وَجَلَّ- وإذا عرفَ الإنسانُ فضلَ اللهِ عليه عادَ على نفسِه باللَّومِ، فإنَّه عاجزٌ عن شكرِ نِعَمهِ -سبحانه وتعالى- وليعلم أنَّه مَهمَا عَمِلَ فإنَّه مُقصِّرٌ في حقِّ ربِّه وما أولاه من النِّعَم التي يعجز الإنسان عن شكر نعمه -سبحانه وتعالى.
فإساءةٌ الظَّنِّ بالنفس منهجٌ للسَّلفِ، ولا يرونَ أنفسَهم شيئًا، وكان بعضُ السَّلفِ يقول: "لو كان للذُّنوب رائحة ما قرُبَ منِّي أحدٌ"، وهذا لا يقولونَه تكثُّرًا، وإنَّما يقولونه لِمَا يجدونه في قلوبهم من التَّقصير في حق الله -عزَّ وَجَلَّ-، وهذا من علامات العِلم النَّافع.
ومن علاماتِ العلم النَّافع: ترك الجدالِ والمراءِ مع النَّاس فيما لا فائدة فيه، قال: (وإنَّهم لهم العلماء والفصحاء والطُّلقاء والنُّبلاء)، فدلَّ على أنَّهم أهلُ الفصَاحةِ والعلمِ، ولكن أسكتَتهم خشية الله -عزَّ وَجَلَّ- فكانت هذه الآثار الحميدة لهم، وكانَ هذا الأثر منهم على النَّاس؛ فمَا أحوج المجتمع لهذه النَّماذج مِن العُلماء، هؤلاء الذين يصنَعون التَّاريخ ويُعيدون للأمَّةِ أمجادها، فالأمَّة الآن لحقها من الضَّعفِ والهوانِ وتكالب الأمم عليها والناس يحتاجون إلى علماء يسوسونهم، ويقومون بالحقِّ الذي يجب لهم، نسأل الله أن يُحيي ما اندرسَ من السُّنن ومن الخير في أمَّة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الأثر الذي بعده هو قول الحسن البصري، وهو في باب ذمِّ الجدال، والحسن البصري له أقوال وآثار وحِكَم ينقلها الوعَّاظ والخطباء لعظيمِ نفعها، ولهذا كانَ بعضُ السَّلفِ يقول عن كلام الحسن البصري: "إنَّ كلام الحسن يُشبه كلام الأنبياء"، وهو خريج مدرسة أمَّهات المؤمنين وبيت النُّبوَّة، وفي زمن الحسن ظهرَ أهلُ الأهواء، فظهرت المعتزلة فيما نقله أهل المقالات، وهم أتباع واصل بن عطاء وعمرو بين عبيد، وكانوا في أوَّلِ أمرهم يتتلمذون على الحسن، ثم اعتزلوا حلقة الحسن البصري، وذكرَ أهلُ المقالات أنَّ سببَ تسمية المعتزلة بذلك؛ لأنَّهم اعتزلوا مجلسَ الحسن البصري بسببِ مسألة الفاسق الملِّي، وأنَّ مُرتكب الكبيرة له حُكمٌ عندهم، فهم يُخالفون عقيدة أهل السُّنَّة.
وقول الحسن عظيم النَّفع، وهذا القول مِن أبلغِ ما يكونُ من الكلام، والكشف لحالِ النَّاس مع العلم، يقول: (هؤلاءِ قوم ملُّوا العبادة)، وهذا يدلُّ على أنَّ المراد الأوَّل للعلم هو العمل، لا المجادلَة والمخاصمَة، وهذا الكلام المنقول عن الحسن فيه كشف لحالةٍ نفسيَّة وآفَة نفسيَّة تصيب طالبَ العلم، وهذا الدَّاء يدخلُ عليه من حيثُ لا يشعر، وبيَّنَ أنَّ الدَّاء الذي يُصيب طالب العلم هو أن يملَّ العمل، وهذا مِن أدواء النُّفوس؛ فينصرف عن العمل، ويتعلَّق بالمجادلَةِ والمناظرةِ؛ لأنَّ الجدال والمناظرة أخفُّ على النَّفس مِن العمل، فلهذا يتعلَّق به، وهذا يدلُّك على نَهي السَّلف عن الجدالِ والمناظرةِ؛ ولأنَّ المناظرات والمجادلات والمناقشات فيما لا فائدة فيه سبب لتقلُّب القلب كما ذكرنا في الأثر عن عمر بن عبد العزيز؛ ولأنَّ الشُّبهات خطَّافة، وإنَّما سُمِّيَ القلب قلبًا لتقلُّبه، وفي الحديث الذي رواه ابن ماجه بإسنادٍ حسنٍ: عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْقَلْبِ مَثَلُ الرِّيشَةِ تُقَلِّبُهَا الرِّيَاحُ بِفَلاةٍ» ، فالقلوب تتقلَّب وتتحرَّك، قال: «ولا أثبت للقلب من العمل»، يعني: ليس ثَمَّ شيءٌ يُثبِّت القلب مثل العمل، بخلاف القول والكلام فإنَّه خفيف على النَّفس.
وهذا مِن أحسنِ الوصَايا التي أوردَها المصنِّف -رَحِمَهُ اللهُ- في باب طلبِ العلم، فإذا أراد طالبُ العلم أن يُثبِّتَ العلم الذي لديه فعليه بالعملِ، ومِن العمل: تعلُّم العلمِ النَّافع، ومدارسَة القرآن، ومدارسة سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والعملِ بما جاء فيهما؛ لأنَّه بالعملِ يثبت العلم، وبدون عملٍ يكون هذا العلم حُجَّة على الإنسان، والنَّاس ينظرون إلى طالب العلم، وإلى أثر هذا العلم عليه، فإذا لم يظهر هذا الأثر عليه كأن يُزهِّد النَّاس في الدُّنيا وهو أوَّل المسابقين للأبواب الدُّنيا والحريصين عليها؛ فيجدون أنَّ الأثر ضعيفٌ، ولا شكَّ أنَّ مواعظَه لا تكون مُؤثِّرَة؛ لأنَّ النَّاسَ لهم عيونٌ ولهم بصيرةٌ، فهم ينظرون إلى قولك، إن رأوا أنَّ قولَ الواعظ وطالب العلم والموجِّه يُوافق عمله ازدادوا يقينًا بما عنده، فهو يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر وهو لا يُخالف ذلك!!
وجاء في الحديث في الصَّحيحين: «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ بِهِ أَقْتَابُهُ، فَيَدُورُ بِهَا فِي النَّارِ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ مَا لَكَ؟ مَا أَصَابَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَقَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ»، وهذا يدلُّكَ على أنَّهم مِن أوائل مَن تُسعَّر بهم نار جهنَّم، وأنَّ الله -عزَّ وَجَلَّ- يفضحهم على رؤوسِ الخَلائقِ.
إذن؛ هذه آثار العلم، وهذه علامات العلم النَّافع لمَن أراد أن يعرفَ مِن نفسِهِ أنَّه مُنتفعٌ بعلمه، وإلَّا فحسنُ الكلامِ والظُّهورِ والرئاساتِ والشُّهرَةِ قد تكونُ من حظِّ الدُّنيا الذي يعطيه الله -عزَّ وَجَلَّ- مَن يشاء، ولكن الأثر الباقي هو أنَّ هذه الأمور إنَّما هي من الدُّنيا، وهي أمور وقتيَّة، ولو نظرتَ في تاريخ الأمَّة وجدت أنَّ مَن لهم بصمة مؤثرة في تاريخ الأمَّة هم أهل الخشية وأهل العلم النَّافع، وأمَّا ما عداهم فمهما حصلَ لهم من رئاسات فإنَّما هي سنوات ثم يُنسَى ويُنسى الأثر الذي قاله وتكلمه.
ولمَّا قيل للإمام مالك -رَحِمَهُ اللهُ: إنَّ فلانًا أَلَّفَ كتابًا ليُنافِس الموطَّأ، قال: "مَا كَانَ للهِ يَبْقَى"؛ فدائمًا ما كان لله -عزَّ وَجَلَّ- فإنَّه يبقى، وما كانَ لغيرهِ فلا يبقى، ولو بقيَ فإنَّه لا ينفع.
وانظر إلى بركة النِّيَّة الصَّالحة في المؤلَّفات، فمثلًا النَّووي -رَحِمَهُ اللهُ- توفي وهو لم يبلغ السَّبعة والأربعين سنة، ومع ذلك فله مُؤلَّفات نافعة عظيم، كالأذكار للنووي، ورياض الصَّالحين.
ويذكر مشايخنا أن مِن بركة النِّيَّة الصَّالحة مُؤلَّف "رياض الصَّالحين" للإمام النَّووي، فهو -والله أعلم- كانت نيَّته عظيمة صالحة، فهذا الكتاب نفعَ الله به المسلمين مِن سنوات طويلة جدًّا، وهو عُمدةٌ لأهلِ الإسلامِ، ولهذا فإنَّ الإنسان لا يستقل مِن العمل شيئًا، فالإمام النَّووي -رَحِمَهُ اللهُ- في وجود البخاري ومسلم ودواوين السُّنَّة أراد أن ينفع العباد وأن ينفع عوام المسلمين بكتاب "رياض الصَّالحين" وهو على اسمه، وخاصَّة في هذا الزَّمان وهذه البلاد من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وفيما بعد في المائة سنة الماضية صارَ أئمة المساجد يقرؤون "رياض الصالحين" بعدَ صلاة العصر، وهذا من بركة هذه النِّيَّة الصَّالحة، ومن المتأخرين مَن عمد إلى شرحه مثل: الشيخ ابن عثيمين -رَحِمَهُ اللهُ- وهو مُسجل ومكتوب ومطبوع، ومن البشرى لطلَّاب العلم أنَّ شرح "رياض الصَّالحين" والذي شرح بعد صلاة العصر، وهو شرحٌ موفَّق، ومن توفيق الله -عزَّ وَجَلَّ- مؤسَّسة العنود طبعت هذا الشَّرح في أربع مجلَّدات، وهو شرح نفيس جدًّا، فرحمَ الله الشيخ وأجزل له المثوبة.
فكتاب "رياض الصَّالحين" من بركة النِّيَّة الصَّالحة، ولهذا فإنَّ طالب العلم يسأل الله الإخلاص؛ لأنَّ الإخلاص هو الذي يجعل العمل الصَّغير كبيرًا، نسأل الله الإخلاص والتَّوفيق.
{أحسن الله إليكم يا شيخنا..
ذكرتم أنَّ من أحسنِ ما يُبِّت العلم هو العمل به، كيف يجمع الإنسان بينَ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، خاصَّة ما ذكرتم من الحديث: «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ بِهِ أَقْتَابُهُ.... »، وبينَ أنَّه أحيانًا يَرى منكرًا يُريد إنكاره، وهو أصلًا واقعٌ في هذا المنكر، أو يُريد الأمرَ بالمعروفِ أو تذكيرًا بالخيرِ وهو ما يتَّسمُ فيه كثيرٌ ممَّا يأمرُ به؛ فكيف الجمع بينهما؟}.
الجمعُ بينهما أن نقول: إنَّ الحالةَ مُنفصلةٌ، قال أهل العلم: إنَّ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر واجب على كلِّ مُسلم حسب القدرة بالمراتب المعلومة المذكورة في حديث النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا: إنَّ على مَن كانَ مُتلبِّسًا بالمنكرِ أن يُنكِرَ المنكرَ، فثَمَّ انفصالٌ، فكون الإنسان لا يُنكر المنكَر فهذا لا يعني أنَّه يقع فيه، فيقول: كيف أنا واقعٌ فيه وأنهى عنه! إذن أنا مُتناقض!
نقول: لا، المطلوب منك أن تنهى عن المنكر؛ لأنَّ النَّهي عن المنكر هو من إنكارك على نفسك ومن التَّخلُّص من هذا المنكر؛ لأنَّ الإنسان يُصيبه الألم النَّفسي حينما يُنكر المنكر على النَّاس، فيدلُّ على أنَّه كارهٌ له، ويسأل الله العافية منه، بخلاف ما إذا سكتَ عن هذا وقال أنا واقع في المنكر؛ فهذا مِن حيلِ الشَّيطانِ، بخلاف ذاك الذي كان يأمرُ ومتعمِّدًا لِما يفعله من المنكر، فكان يأمرهم لأجلِ حظوظ الدُّنيا، وقد استمرأ قلبه هذا المنكر، وإنَّما كان يفعل ذلك مصانعة ولحظوظ الدُّنيا كما يفعل بعض الناس من جعل بعض الأمور وظيفة له للتَّحصيل وما شاكلَ ذلك، وقلبه منعقدٌ على استمراء هذه المنكرات، ففرقٌ بينَ وذاك، هذا مُبتلًى بالمنكر فيسأل الله العافية ويستتر، وذاك أَلِفَ قلبُه هذه المنكرات والمعاصي، فكان يُصانع النَّاس مجردَ مصانعة؛ فبينهما اختلافٌ كبيرٌ جدًّا، وذكر أهل العلم هذه المسألة في مراتب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر.
{أحسن الله إليكم يا شيخنا..
هل يتبيَّن ممَّا سبق دراسته أنَّ مَن يُواقع المعاصي لا يُطلَق عليه اسم عالم حتى وإن كان عنده مَعلومات معرفة؟}.
ينبغي للنَّاس أن يفرِّقوا بين مَن يكون عنده المعرفة والعلم، فهذا عنده علم بالحِجَاج والمناقشَة، وهذا العلم وبالٌ عليه، ولهذا فإنَّ علماء السُّوء والضَّلال قد يكون عندهم علوم في الشَّريعة، وقد يكونوا يحفظون كلام الله -عزَّ وَجَلَّ- بل ويحفظون سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويُزيِّنونَ للنَّاس البَاطل والبدع والضَّلالات؛ فهؤلاء عُلماء السُّوء الذين يصرفونَ النَّاس عن الحقِّ، فهؤلاء عِلمهم وبالٌ عليهم، وهم يُعَدُّون مِن أسبابِ الضَّلالِ؛ لأنَّهم يُزيِّنونَ للنَّاس الباطلَ، ولا يزالُ في الأمَّةِ من هؤلاء، ولعلَّ قصَّة باعوراء تأتي، وما جاء من قول الله -عزَّ وَجَلَّ: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ﴾ [الأعراف:175]، فمعنى قوله: ﴿أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ﴾ يعني: طلبَ الدُّنيا، ولا يزالُ في أهل الإسلام مَن يُصانع ومَن يقول الباطل وهو يعلم أنَّه باطلٌ ولكن لأجل عَرضٍ من الدنيا -نسأل الله السلامة والعافية- فهذه فتن للقلوب، قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت:2]، وما زالت الأمَّة تُفتَن، والتَّاريخُ حافلٌ بفتنٍ وقعَت في الأمَّة في دينها ودنياها، ومن أبرزِ الفتنِ ما مرَّ معنا من فتنة القول بخلق القرآن.
وقال الإمام أحمد: "لا تقع الفتنة وما زالت القلوب مُنكرة لها"، يعني: إذا كانت القلوب مُنكِرَةٌ للفتنة فلن تعمَّ؛ ولكن إذا ألفَت القلوب هذه الفتنة فهذه مُصيبة!
وإذا كانَ النَّاسُ يهربون من الأمراض والعلل؛ فإنهم يحتاجون إلى أن يهربوا من هذه الفتن ومن القولِ على الله بغير علمٍ، ومِن طلب الرئاسات، وطلبِ عرضِ الدُّنيا لأجلِ كلمة تُملَى عليه ليقولها وينال بها درجةً أو منزلةً؛ فهذا إثمُه -والعياذ بالله- عظيمٌ -نسأل الله السَّلامة والعافية- فإنَّ العافية لا يعدلها شيء! ولهذا يُشرَع للمسلمِ أن يسأل الله العافية، لأنَّه قد يُبتلَى.
{ما الذي يُنصَح به تجاه ما يُسمَع مِن هذه الأخبار وهذه القصص في الفتن؟}.
لا شكَّ أنَّ طالبَ العلمِ عليه أن يقرأ سِيَر السَّلف؛ لأنَّها مِن أسباب الثَّبات، وعليه أن يقرأ كلامَ الله -عزَّ وَجَلَّ- ويخلو معه ويعرض نفسَه على هذا الكتاب؛ لأنَّ القلوب تمرَض، ولا شفاء لأمراض القلوب إلَّا بعرضها على كلام الله -عزَّ وَجَلَّ-؛ لأنَّ مَن لا يقرأ القرآن بتدبُّرٍ ولا يقرأ هذا الوحي ليُشفَى به من أمراض القلوب؛ حصلت له الفتن، والآن ناسٌ كثُر تعرِف وتنكر ولكنَّهم مرضَى قلوب، ولو صُدِّرُ وأُعلِنَ شأنَّهم فإنَّهم مرضَى قلوب إمَّا بحبِّ الدُّنيا أو بحب الرئاسة والظُّهور، أو حب أن يصنع لنفسه شهرةً؛ فهذه أمراض إذا لم يُعالجها تفتك في قلبه، والدنيا زائلةٌ وليس لها أي قيمَة، ولا تساوي شيئًا!
وإنَّما يُرادُ هذا العلم لأجلِ الآخرة، فمَن أرادَه لدنيا فقد خابَ وخسِرَ، وإنَّما يُراد لِمَا عند الله -عزَّ وَجَلَّ- وطالب العلم لابدَّ أن يكونَ عليه أثر هذا العلم، في مجتمعه ونفسِه وفي عبادته وصلاحه، وتستغرب أنَّ تجدَ أهل الصَّلاح وأهل الخير متأخرين في ميادين الخير.
وأضرب له مثالًا: التَّبكير لصلاةِ الجمعة؛ فيقبُح بطلاب العلمِ وأهلِ الخير أن تجدهم يأتون بعدَ حضور الإمام، وإذا انتُقِضَ على عوامِّ المسلمين أنَّهم يتأخَّرون، فكيف يتأخَّر طالب العلم عن خطبةِ الجُمُعة، ويكون هذا ديدنه!
وصلاة الجماعة التي هي ميزانٌ عظيمٌ؛ فيُرى طالب العلم من المتأخرين عن صلاة الجماعة! فهذا يحتاج مراجعة؛ لأنَّ ما عنده علَّة، فالعلم إنَّما يُراد للعمل، فكيف تكون طالبَ علمٍ وتدرس حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتعلم النَّاس صلاة الجماعة والتَّبكير لصلاة الجماعة وأنتَ من المتخلِّفين عنها!!
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (مهتمون مشفِقون، وجِلون خائفون)، فهل مَن يتَّصف بعكس هذه الصِّفات ليس من أهل العلم حتى لو كان عالمًا؟}.
لا شكَّ؛ إنَّما يُراد العلم للخشيةِ، وهذا علمه علم اللسان، وعلم القلب هو الخَشية، فإنَّ العلم علمان كما ذكر العلماء:
 علم اللسان: وهو حجَّةٌ عليك.
 وعلم الخشية.
وكلَّما ازددتَّ مِن العلم لم يكن نافعًا لك إلَّا إذا ازددت مِن الخشيَةِ لله -عزَّ وَجَلَّ- وإذا لم تزدَدْ من الخشيَةِ فهذا وبالٌ عليك وحجَّةٌ عليك، وذكرنا أنَّ علماء الضَّلال يصرفونَ النَّاس عن الحقِّ والتَّوحيدِ بسببِ هذه الأمور -نسأل الله السَّلامة والعافية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (باب التجوز في القول وترك التكلف والتنطع
وعن أبي أمامة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مرفوعا: «الحيَاءُ وَالعِيُّ شُعْبَتان مِنَ الإيمان، وَالبَذَاءُ والبَيَان شُعْبَتان مِنَ النِّفاق». رواه الترمذي)
}.
هذا الباب هو آخر بابٍ في الكتاب، وحاجة طالب العلم لطلب العلم حاجة ماسَّة، وهو في تعليم العلم يحتاج إلى هذا الأدب، وقد بُعثَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالحنيفيَّة السَّمحةِ، وسماحة الإسلام تَبعَثُ على هذه الخصال التي ذكرها المؤلِّف -رَحِمَهُ اللهُ- في هذا الحديث الذي رواه الإمام الترمذي في جامعه، وذكر فيه صفات أهل الإيمان، ومن صفاتهم: الحَياءُ والعيُّ.
نُبيِّنُ هذه الصِّفات فنقول: هذه صفات ممدوحة، ولكن في ظاهرها مذمومَة عند عامَّة النَّاس، ولكن جاء الوحي وهو ماجاء عن رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى مدحَ هذه الصِّفات، والبيان أن ما يبعث على هذه الصفات ما وقر من الإيمان في القلب، وهذا يدلُّكَ على أنَّ الإسلام جاء بمكارم الأخلاق، وأنَّ بعض الصِّفات قد تكون في أذهان النَّاس مذمومة كما هذه الصفات، وهي على خلاف ذلك.
الصفة الأولى وهي من علامات الإيمان: ما جاء في الحديث «وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ».
والحياء ممَّا تواتر عن الأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام- الوصيَّة به، فقد جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما رواه البخاري من حديث عقبة بن عمرو الأنصاري: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت»، وهذا على سبيل الوعيد والتَّحير، مثل قول الله -عزَّ وَجَلَّ: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف:29]، فهذا وعيدٌ، وبعضُ الناس يفهم هذه الآية على غير وجهها، على أنَّه حريَّة التَّديُّن لا على وجه الوعيد، وهذا الحديث من هذا الباب، أي: إن لم تستحِ فاصنَع ما تشاء؛ لأنَّكَ مجزيٌّ به.
وجاء عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه قال: «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» أو «الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ»؛ ولهذا فإنَّ عمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لمَّا جاءه بعضُ أصحابه فقالوا: حدَّثنا عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فحدَّثهم بهذا الحديث «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» أو «الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ»، وهو في صحيح مسلم؛ فقال بعضُ مَن حضرَ: يا أبا نجيد إنَّنا نجد في بعض الحكمة -يعني: الكتب السابقة والثقافات الأخرى، وهذا يبدو أنه قارئ- قال: إنَّ من الحياء من هو سَكينةٌ ووقارٌ، ومنه ما هو ضعفٌ؛ والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ»، فغضب عمران وقال: "أراني أحدِّثكَ عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتُراجع فيه؟!".
وجاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه رأى شخصًا يعظُ أخاه في الحياء، كأنَّه يلومه على الحياء، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ».
وأحسن ما قيل في تعريف الحياء: الحياء خُلقٌ يبعثُ صاحبَه على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حقِّ ذي الحق.
فالحياء يبعثُ الإنسان على اجتناب القبائح، فيستحي من الناس، ويستحي أن يُرى بهذا؛ فيحمله الحياء على الخير وعلى لزوم الحق.
ولعلَّنا -إن شاء الله- نُكمل الصفة الثانية وهي صفة العِيِّ في الدرس القادم.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك