الدرس الثامن

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

3327 12
الدرس الثامن

أصول الإيمان (2)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ: الدكتور فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله يا شيخ عبد الرحمن.
{ما زلنا في كتاب أصول الإيمان في أحاديث تابعةِ لباب التَّحريضِ على طلبِ العلم.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وعَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي الدَّرْدَاءِ، فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ: إِنِّي جِئْتُكَ مِنْ مَدِينَةِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِحَدِيثٍ بَلَغَنِي، أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا جِئْتُ لِحَاجَةٍ، قَالَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ». رواه أحمد والدارِمي وأبو داود والترمذي وابن ماجه)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأُصلِّي وأُسلِّم على المبعوث رحمةً للعالمين.
وبعدُ؛ فأسأل الله -سبحانه وتعالى- لنا ولكم العلم النَّافع والعمل الصَّالح، وأن يرزقنا العملَ بما علمنَا، وأن يجعل العِلم حُجَّةً لنا لا حُجَّةً علينا.
هذا الحديث العظيم إسناده صحيح كما ترونَ من رواية أهل السُّنن له.
وموضوع هذا الحديث وفائدته كما أورده المصنف: لبيان فضلِ طَلبِ العلمِ.
وهذا الحديث اشتملَ على فضائل لطالبِ العلم، وكما تبيَّن مِن خلال هذا الحديث أنَّ السَّائل لأبي الدَّرداء -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الذي قد صحِبَ ورحلَ إلى دمشق، وجاءه هذا الرَّجل من المدينة إلى دمشق، وهي مسيرة شهرين بسير الإبل، ولا شكَّ أنَّ تلك مَسيرة طويلة، ولكن الرِّحلة في طلب العلم سُنَّة مَأثورة عن أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي الحديثِ -كما ذكرتُ- فضائل عظيمة لطلبِ العلم وللتَّعلُّم، وهذه بشرى لكل مَن طلب العلم وحرص على أن يحضر دُروس العلم وأن يَستفيد، وأن يُقيِّدَ هذا العلم، وأن يُتابع فيه، ومن ذلك مثل هذه الأكاديمية المباركة، فإنَّا نرجوا -إن شاء الله تعالى- إذا صلُحَت النِّيَّة أنَّها مجالس عِلم، وَمِنْ طَلَب العِلم الذي له نَفْعٌ مُتعدٍّ في حقِّ طلَّاب هذا العلم.
مِن فضائل طلب العلم الواردة في هذا الحديث: أنَّ طريق الجنَّة عن طريق طلب العلم سهل الوصول، ولهذا جاء في الحديث «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ»، وفي رواية: «سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ».
وكذلك الملائكة تحضر حلقات العلم، وذنبُ طالب العلم مَغفور في طلبه للعلم وفي تحصيله له؛ لأنَّ الملائكة تستغفر له.
ومن فضائل العلم: أنَّ نفعه متعدٍّ، ولهذا فإنَّ الحيتان في الماء تستغفر له، ولا شكَّ أنَّ ذلك أدعى لمغفرة ذنبه.
ومن فضائله: أنَّ فضلَ العالمِ وطالبِ العِلمِ على العابدِ فضلٌ عظيم، كالقمر في الإضاءة والنَّفع؛ لأنَّه يُشعُّ على مَن حولَه بالخيرِ، ولهذا شرَّفَ الله -عزَّ وَجَلَّ- طلَّاب العِلم والعُلماء بأنَّهم هم ورثة الأنبياء، ونصيبُ طالب العلم في تحصيله لا شكَّ أنَّه هو النَّصيبُ الوافر، وقد جاء في الحديث: «فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ».
ولا ينبغي لطالب العلم أن يُسيء الظَّنَّ في طلب العلم؛ بل عليه أن يعلم أنَّه في فضيلةٍ عظيمةٍ كما قال السَّلف: "اغدُ عالمًا أو متعلمًا، ولا تكن الثَّالث فتهلك".
فكلُّ هذه فضائلٌ عظيمة في طلب العلم.
{أحسن الله إليكم يا شيخ.
قوله: «وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ»، هل وضع الملائكة لأجنحتها على سبيل المجاز أو على سبيل الحقيقة؟}.
هو حقيقة، ووضع الملائكة لأجنحتها عُلِّلَ في الحديث بقوله: «رِضً»، أي: على وجه الرضا بما يصنع، وقيل: إنَّ الملائكة تنزل على حِلَقِ العلم، وهذا هو المقصود بوضع أجنحتها، فتستقر في تلك الحلق، فما ظنُّكَ بحلقٍ تعمُرها الملائكة! فلا شكَّ أنَّها حِلَقٌ مباركة مغفورٌ لأصحابها إذا صلُحَت نيَّاتهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مرفُوعًا أنَّ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ المُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَ». رواه الترمذي - وقال: غريب - وابن ماجه)}.
طرق هذا الحديث أكثرها ضعيفة، ولا يقوَى هذا الحديث لأن يكون حسنًا، فهو لا يخرج عن دائرة الضَّعيف.
وأفاد هذا الحديث: أنَّ المؤمن أولى بالحكمةِ من غيره.
وقيل في تعريف الحكمة: أنَّها وضع الشَّيء في موضعه.
وقيل: هي وضع الأمور في مواضعها الموافِقَة للغايات المحمودةِ منها.
ولا شكَّ ولا ريبَ أنَّ أعلى الحكمة ما وُجدَ في سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنَّ أقوالَه وأفعالَه مُتوافقةٌ مع الحكمَةِ من كلِّ وجهٍ، ثم يتلُو ذلك هَدْيُ أصحابِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلهذا أوردَ المؤلف هذا الحديث من جهةِ أنَّ سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تُعَدُّ مِنَ الحِكمَةِ وأنَّ المؤمن أولى بها مِن غيره، وهكذا ينبغي أن يكون طالب العلم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "إِنَّ الْفَقِيهَ حَقَّ الْفَقِيهِ، مَنْ لَمْ يُقَنِّطْ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ، وَلَمْ يُؤَمِّنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَمْ يَدَعْ الْقُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، إِنَّهُ لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَا عِلْمَ فِيهَا، وَلَا عِلْمٍ لَا فَهْمَ فِيهِ، وَلَا قِرَاءَةٍ لَا تَدَبُّرَ فِيهَا")}.
هذا الأثر الموقوف على عليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في سنده انقطاع، ولكن معناه صحيحٌ.
والفقيه: هو الذي يَفهم مُراد الله ومُراد رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولهذا فإنَّ الفقيه الذي يَفهم مُراد الله ومُراد رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يكون خطابه خطاب الشَّارع؛ فالفقيه هو الذي يملك توجيه المجتمع ووعظهم وإرشادهم؛ لابدَّ أن يكون في وعظهم وإرشادهم وتعليمهم بينَ الرَّجاءِ والخوفِ، وهذا هو الخطاب الشَّرعيِّ المطلوب الذي وردت النُّصوص به، قال الله -عزَّ وَجَلَّ: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾ [الحجر: 49]، فلاحظ -يا رعاكَ الله- أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- جمعَ بينَ التَّخويف والرَّجاء.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمَعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ»، رواه البخاري ومسلم.
إذن يكون الخطاب بينَ الخوفِ والرَّجاء، فيكون خائفٌ وراجٍ، وهذا هو دينُ الله -عزَّ وَجَلَّ- لأنَّ الخوف والرجاء من أركان العبادة، فإنَّ أركان العبادة ثلاثة: المحبَّة والخوف والرَّجاء.
وكما ذكر ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ- أنَّ الخوف والرجاء كالجناحين للطائر، والمحبَّة هي رأسُ ذلك الطَّائر، ودينُ الله بينَ الخوف والرَّجاء، قال الله -عزَّ وَجَلَّ- عن أصفيائه وأوليائه: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورً﴾ [الإسراء: 57]، يعني: هُم يَرجون الرَّحمةَ ويخافونَ العذاب، ولهذا فإنَّ الطَّائفة التي تُغلِّب جانبَ الرَّجاء طائفة ضالَّة وهي المرجئة، والطَّائفة التي تغلِّب جانب الخوف في خطابها فهذه كذلك طائفةٌ ضالَّةٌ عن منهج أهل السُّنَّة وهم الخوارج.
وأمَّا أهل السُّنَّة في مقام العبوديَّة هم أهل الوسط، ووسطيَّتهم إنَّما جاءت لموافقتهم النَّص الشَّرعي، فهم بينَ الخوفِ والرَّجاء، كما أنَّ الخوفَ مُستلزمٌ للرَّجاء، والرَّجاء مُستلزمٌ للخوفِ، فالرجاء في مَوضعه حسنٌ مع العمل، فلا يُمكن للإنسان أن يكونَ راجيًا ربَّه وهو لم يعمل، والخوف في موضعه حسنٌ مع التَّقصيرِ والذَّنب، فيكون الإنسان خائفًا، ولابدَّ من الجمعِ بينهما؛ لأنَّ المؤمن لا ينفكُّ عن الذَّنب، ولا ينفكُّ عن العمل بالطَّاعة، ولكن يكون بينَ الخوف والرَّجاء، وإن كان في حال الصِّحَّة يُغلِّب جانب الخوف -كما ذكر أهل العلم- ولكن لا يُغلِّب هذا الجانب حتى يقطعه عن العمل؛ لأنَّه إذا غلَّبه التَّغليب الغالي وقع في القنوط من رحمةِ الله، ولكن يُغلِّب التَّغليب الذي يحدُوه إلى السَّيرِ في طريقه إلى الله -عزَّ وَجَلَّ- فإنَّ النَّفس في حالِ الصِّحَّةِ والسَّلامَة تحتاج لأن يكون جانب الخوف أغلب من جانب الرَّجاء، حتى يكون منه العمل.
وذكر أهل العلم أنَّه يُغلِّب جانب الرَّجاء في موضعٍ آخر وهو: حال قُربِ الأجل ونزول الموت لنصوصٍ واردة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منها: قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» .
ومن حسن الظَّنِّ بالرَّبِّ أن يُغلِّب جانب الرَّجاء إذا كان الإنسان في حالِ قربِ الأجل، لما وردَ في الحديث القدسي أنَّ الله -عزَّ وَجَلَّ- يقول: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ» ، فلا يظنَّ الإنسان بربِّه إلَّا خيرًا، ولهذا نُقلَ عن بعضِ السَّلفِ أنَّهم في حالِ الاحتضار وإحساسهم بِقُربِ الأجل ونزول الموت فكانوا يُستحبون أن تُقرَأ عليهم أحاديث الرَّجاء الواردة عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى يَغلب عليهم الرَّجاء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ جَاءَهُ الْمَوْتُ وَهُوَ يَطْلُبُ الْعِلْمَ لِيُحْيِيَ بِهِ الْإِسْلَامَ، فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّينَ دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ». رواهما الدارِمِي)}.
هذا الأثر ضعيف، وهو من مراسيل الحسَن، وفي إسناده إلى الحسن مجاهيل، وكما ترى قد خرَّجه الدَّارمي وغيره، وفيه التَّرغيبُ في طلب العلم، ولكنَّ هذا الأثر لا يصح عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والفضل الذي فيه يُتوقَّف في ثبوته على ثبوتِ هذا الحديث، وكما رأيتَ فهو لا يثبت عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكن يَرويه أهلُ العلم ويَذكرونه في كُتب الفضائل، وفي الصَّحيح من الأحاديث غُنيةٌ عنه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بابُ قبضِ العلمِ.
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا أَوَانُ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لا يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ». رواه الترمذِي.
عَنْ زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ: ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، فَقَالَ: «ذَاكَ عِنْدَ أَوَانِ ذَهَابِ الْعِلْمِ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ؟ وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَنُقْرِئُهُ أَبْنَاءَنَا، وَيُقْرِئُهُ أَبْنَاؤُنَا أَبْنَاءَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ زِيَادُ، إِنْ كُنْتُ لَأَرَاكَ مِنْ أَفْقَهِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ، أَوَلَيْسَ هَذِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ، وَالْإِنْجِيلَ، لَا يَعْمَلُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا فِيهِمَ». رواه أحمد وابن ماجه)
}.
هذا الحديثان إسنادهما صحيحٌ عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصحَّحهما جمعٌ من أهل العلم.
والحديثان فيهما مسائل مهمَّة:
المسألة الأولى: أنَّ المصنِّف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- عقدَ هذا الباب وسمَّاه: "بابُ قبضِ العلمِ" من باب التَّرغيب في طلب العلم، وأن يكون طالب العلم على حِرصٍ في تحصيله وتعلُّمه قبل أن يُقبض؛ لأنَّ قبض العلم أمر غيبي لا نعلم متى يقع، ولا زال النَّاس في أواخر الزَّمان، فالعلم قد يُقبض، وقد يجري على الإنسان وهو حي أن يقبض العلم وهو يرى ذلك، ولهذا ينبغي أن يكون طالب العلم على حرصٍ في تحصيله.
المسألة الثانية: وردت أحاديث غير هذين الحديثين في بيان أن العلم يُقبَض، وأنَّ ذلك من علامات السَّاعة الصُّغرَى، فقد جاء عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي رواه البخاري ومسلم وقد مرَّ معنا قبل ذلك: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمِ انْتِزاعًا يَنْتَزِعُهُ مِن الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاء حَتَّى إِذا لم يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَيُسْأَلُوا، فأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّو».
إذن هذا الحديث يدل على ما رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو صريحٌ في أنَّ العلم يُقبَض.
المسألة الثالثة: من علامات فسادِ الزَّمان أنَّ العلماء يُقبَضون، وهذا يُفيد طالب العلم في معرفة الفرق بينَ العالم وبينَ القارئ؛ لأنَّه ليس كل قارئ أو مُتكلِّم أو مُتحدِّث أو خَطيب يكون عَالمًا؛ فالعالم نوعٌ آخر غير القُرَّاء والفُصَحاء وأهل البيان والأدب، فقد يكثر القُرَّاء، ولكن العلماء هُم الفقهاء، العالمون بمرادِ الله ومرادِ رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهم أهلُ خشيته، وهم المتابعون لِمَا جاء عن الله وجاء عن رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الآخذين بسنَّته قولًا وعملًا.
المسألة الرابعة: أنَّ أوَّلَ قبض العِلم يكون بموت العلماء، وآخر أوان قبضِ العلم أنَّه يُقبَض بقبضِ القرآن؛ لأنَّه صحَّ عن ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وموقوفًا عليه -ومثله لا يُقال بالرَّأي- أنَّه قال: "وَلَيُنْتَزَعَنَّ الْقُرْآنُ مِنْ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، يُسْرَى عَلَيْهِ لَيْلا، فَيُذْهَبُ بِهِ مِنْ أَجْوَافِ الرِّجَالِ، فَلا يَبْقَى مِنْهُ شَيءٌ"، وورد في الأحاديث كذلك: «يَقُولُونَ: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَنَحْنُ نَقُولُهَ»
{أحسن الله إليك..
قوله: «أَوَلَيْسَ هَذِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ، وَالْإِنْجِيلَ، لَا يَعْمَلُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا فِيهِمَ»، هل يدلُّ على أن ترك العَمل بالعلم من قبض العلم؟}.
لا شكَّ! فقد وردَ في الآثار أنَّ أوَّلَ عِلمٍ يُقبَض هو: الخَشية، ونُقل ذلك عن جَمْعٍ من أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَوقوفًا عليهم، فدلَّ على أنَّ مِن العِلم ثَمَّ شيءٌ ظاهر وَثَمَّ شيءٌ باطنٌ وهو الخشية، ولهذا كان السَّلف -رَحِمَهُم اللهُ- يَرون أنَّ رأسَ العلم هو الخشية، ولهذا لَمَّا تُكلِّم في مَعْرُوفُ الْكَرْخِيُّ في مجلس الإمام أحمد بن جنبل -رَحِمَهُ اللهُ- إمام أهل السنَّة، قال: "رأسُ العلم الخشية" .
وقد قدَّمنا فيما سبق أنَّ العُلماء هُم الآخذين بِسُنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قولًا وعملًا، فلابدَّ من العمل، وهؤلاء لَمَّا ذكر النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اليهود والنَّصارى ذكرَ أنَّهم رُفع عنهم العلم؛ لأنَّهم لم يعملوا به، فما فائدة العلم إذا لم يكن يُصاحبه العمل؟!
وهذا يُفيد طالب العلم أنَّ العمل بالعلم تثبيتًا له، فمَن لم يعمل بما علم فهذا يعني أنَّ عِلمَه سيزول مِن قَلبه، فلابدَّ من العِلم والعمل، والعِلم سابقٌ عَن العمل، وكما نُقل في بعض الآثار التي ذكرها الخطيب البغدادي في بيان فَضل العلم في رسالته عن علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "وَالْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلاَّ ارْتَحَلَ عَنْهُ".
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وَقَبْضُهُ أَنْ يُذْهَبَ بِأَصْحَابِهِ، عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَتَى يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ أَوْ يُفْتَقَرُ إِلَى مَا عِنْدَهُ، إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَقْوَامًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ فَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّبَدُّعَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّعَمُّقَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ" رواه الدارِميُّ بنحوِهِ)}.
هذا الأثر عن ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أثرٌ بليغ، ولكن في سنده انقطاع، وهذا الانقطاع لا يضر، فالأثر مُرسلٌ صالحٌ وله وشاهدٌ يقوَى به أنَّه منقولٌ عن عبد الله بن مسعودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وفي الأثر مسائل:
المسألة الأولى: أشارَ في الأثرِ إلى قبضِ العلم، وقد تقدَّمَ الكلامُ على هذه المسألة، وأنَّ العلم يُقبَض، وأنَّه يمرُّ بمراحل:
المرحلة الأولى: قبض العلماء.
والمرحلة الأخيرة: خاتمة قبضه هي رفع القرآن.
المسألة الثَّانية: أنَّ طالب العلم في طلبه قد يرَى في حينٍ من الأحيان استغناء النَّاس عنه بتوافر العلماء، لكنَّ العُلماء تجري عليهم أقدار الله -عزَّ وَجَلَّ- فلا يُسيء الظَّن بما عنده من العلم؛ لأنَّه قد يُحتَاج إليه، وهذا وَقَعَ لبعض أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو عبد الله بن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
المسألة الثالثة: في الأثر عظيم الموعظة لطلَّاب العلم، وكون المطلوب منه هو تحصيل العلم وجمعه والعمل به، وقد لا يكون له في أوَّلِ أمره حاجة، ثم يُحتَاج إليه.
قال عبد الله بن عبَّاس وكان من صغار الصَّحابة كما لا يخفى: "قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ يَا فُلانُ هَلُمَّ فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّهُمْ الْيَوْمَ كَثِيرٌ، فَقَالَ: وَا عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَتَرَى النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إِلَيْكَ وَفِي النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ تَرَى، فَتَرَكَ ذَلِكَ"، ثم ذكر ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قصَّة طلبه للعلم فقال: "وَأَقْبَلْتُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فَإِنْ كَانَ لَيَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عَنِ الرَّجُلِ فَآتِيهِ وَهُوَ قَائِلٌ، فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ، فَتَسْفِي الرِّيحُ عَلَى وَجْهِي التُّرَابَ".
ثم قال ابن عباس: "فَبَقِيَ الرَّجُلُ حَتَّى رَآنِي وَقَدْ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيَّ"، وهذا حدث في مدَّةٍ وجيزة، فقد توفي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكان عمر ابن عباس اثنا عشرة سنة، فما مكث إلا قليلًا حتَّى حصَّلَ العلم واحتاجَ النَّاس إليه، ولهذا كان عمر بن الخطَّاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُقدِّم ابن عباس ويجعله مع كبار الصَّحابة من أشياخ بدرٍ مَعَ صِغر سنَّه، وأظهر عُمر -رضي الله عنه- أمامهم قدرته وفهمه وتحصيله للعلم.
فيقول الأنصاري: "كَانَ هَذَا الْفَتَى أَعْقَلَ مِنِّي"، وكان كلاهما لم يتجاوز مرحلة الشَّباب، ولكن ابن عباس حصَّلَ العلم وصَحِبَ أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأخذَ عنهم العلم، لأنَّ العلم والتَّعلُّم وحفظ الأحاديث ربَّما يزول من جهة العلم إذا لم يؤخَذ عنه، وابن عباس أخذَ العلم وجمعه من حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن غيره من المسائل والفنون ممَّا يتعلق بالفتيا وما نُقل عن أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
المسألة الرابعة: قوله: "إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَقْوَامًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ" فيه التَّحذير لطالب العلم، وأنَّه لا يغتر بالشِّعارات؛ بل لابدَّ أن ينظر في مَضامين تلك الشِّعارات هل هي حقٌّ أم باطل؟
وفي الأثر: أنَّ الظَّاهر قد يُخالف الباطن؛ فينبغي للإنسانِ أن ينتبه لمثل هذه المزالق، ولهذا قال: "يَدْعُونَكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ"، فواضح أنَّ الظَّاهر هُو الدَّعوة إلى كِتابِ الله، وفي حقيقة الأمر نَبَذُوه وَرَاء ظُهُورِهِم.
المسألة الخامسة: أنَّ وصايا عبد الله بن مسعود وصايا عظيمة:
أول هذه الوصايا، قوله: "عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ"، أي: عليكم بطلب العلم وتحصيله.
ثانيها: قوله: "وَإِيَّاكُمْ وَالتَّبَدُّعَ"، أي: الابتداع في دين الله -عزَّ وَجَلَّ.
ثالثها: قوله: "وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ"، والتَّنطُّع هو التَّكلُّف، وقد جاء النَّهي عنه في حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه قال: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» ، وأهل التَّنطُّع هم أهل الغلو في العبادة والدِّين، وهذا يصدُق على طائفةٍ خرجَت في عهدِ أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهم الخوارج، لأنَّهم أهلُ تنطُّعٍ وأهلُ تعمُّقٍ، وهذا التَّنطُّع وهذا التَّعمُّق عندهم واضحٌ، وقد سألت امرأةٌ عائشةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْها- فقالت: "مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ وَلاَ تَقْضِي الصَّلاَةَ؟ فَقالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟"، والخوارج يرونَ أنَّ المرأة إذا حاضت فإنَّها تقضي الصَّلاة كما تقضي الصَّوم، وهذا مَظهرٌ مِن مَظَاهِر الغلو عندهم.
رابع الوصايا: قوله: "وَإِيَّاكُمْ وَالتَّعَمُّقَ" والتَّعمُّق هو المبالغة والتَّجاوز، وهو في معنَى التَّنطُّع، ولعلَّ التَّعمُّق أشدُّ من التَّنطُّع وإن كان في معناه، فهم في مرحلةٌ متقدِّمَة في التَّنطُّع.
خامس الوصايا: قوله: "وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ"، العتيق يعني: القديم، وهو: الأمر الأوَّل الذي كانَ عليه السَّلف والصَّحابة قبلَ وقوع المحدَثات والبدَع، ولهذا في قصَّة عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مع الحِلَق ذكر قوله: "عَلَيْكُم بِمَا مَاتَ عَلَيه أَصْحَابُ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهم عليه متوافرون" ؛ لأنه لازال يحدث النَّقص والإحداث.
فممَّا جاء الحثُّ عليه هو لُزوم الأمر العتيق، أي: الأمر العتيق من الدِّين، وهذا يصدُق على ما كان عليه النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والصَّحابَة، وهذا هو هَدي الفرقة النَّاجية المنصورة، أنَّه لَمَّا سُئل النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عنها قال: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي».
{قوله: "إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَقْوَامًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ" لو ذكرتم لنا يا شيخ مَظاهر بعض أهل البدع؛ لأنَّه يكثر في هذا الزَّمان مَن يزعم أنَّه على الكتاب والسُّنَّة؛ بل يزعمون أنَّهم مِن أهل السُّنَّة والجماعة}.
لا شكَّ أنَّ أهلَ الباطلِ الذين يُروِّجونَ لباطلهم أنَّهم يُزيِّنونَ هذا الباطل بشيءٍ من الحقِّ كما قال الله -عزَّ وَجَلَّ: ﴿زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورً﴾ فهم يزخرفون هذا بالدَّعوة بالشِّعارات البرَّاقةِ -كما قد أسلفنا- فكلُّ طائفةٍ لا تُظهِر المعارضَةِ لكتاب الله ولا لسُنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكن تزعم أنَّهم أنصارُ الله وأنَّهم حزبُ اللهِ، وأنَّهم القائمون بشريعةِ اللهِ، ومَن لا علمَ عندَع يغترُّ!
فعلى طالب العلم أن يعرف ويُميِّز، والميزان الذي توزَن به أقوال الناس وأفعالهم هو الوحي، وهو ما جاء عن الله وجاء عن رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بفهمِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ، فهذا ميزانٌ دقيقٌ نستطيع أن نُميِّز به بينَ كلِّ دعوةٍ وأخرى فنعلم أنَّ هذه على الحقِّ وتلك على الباطل، ولكن المطلوب من طلاب العلم أن يستَظهِروا من هذا الخير ومن هذا الوحي حفظًا لكلام الله، وتدبُّرًا لمعانيه، وحفظًا لسُنَّةِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتدبُّرًا لمعاني ما جاء فيها من الحكمَة، ومعرفَة لِمَا كان عليه الصَّحابةِ، ولما كان عليه هدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فبه يُميِّز الإنسان، ويردَّ الباطل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَن عبد اللَّه بن عمر قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَقُول: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمِ انْتِزاعًا يَنْتَزِعُهُ مِن الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاء حَتَّى إِذا لم يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَيُسْأَلُوا،فأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّو»)}.
سبق الكلام عن مَضامن هذا الحديث في أحاديث سابقة، وأفاد هذا الحديث أنَّ قبضَ العلمِ يكون بقبضِ مَن يحمله وهم العُلماء، وأفاد أنَّ النَّاس بحاجة إلى مَن يُرشدهم ويدلهم، فإذا قُبضَ العلماء يحتاج النَّاس إلى هُداة؛ لأنَّ العلماء هم الهُداة، كأنَّ النَّاس يسيرون في طريقٍ ويسترشدون بالهُدَاة، فالعلماء هُم الهُداة، فإذا قُبِضَ العلماء احتاج النَّاس إلى هؤلاء الهُداة؛ لأنَّه إذا لم يوجد عالم اتَّخذَ النَّاس مَن ليس أهلًا في العلم، ويُتَّخذُ رأسًا، والرأسُ هو الذي يُصدَر عن قولِهِ وعن رأيه؛ فلهذا يصدرون عن هؤلاء الجُهَّال، ولا شكَّ أنَّ هؤلاء لم يتعلَّموا العلم، فسيجيبون ويتكلَّمونَ بما يُخالف ما جاء عن الله وما جاء عن رسوله!
وهذا يُفيدك خطر اتَّخاذ النَّاس مَن ليس أهلًا للفتوى مُفتيًا وهاديًا، ويدلُّك على أنَّ العامَّة قد يَقعون فريسةً لهؤلاء، فإنَّهم هُداة ضلالةٍ وليسوا هُداة رشاد، فإنَّهم سيتكلَّمون ويقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم كما قال الإمام أحمد، وهذا بسبب الضَّلال، ولهذا قال: «فَضَلُّو»؛ لأنَّهم أفتوا بغير علمٍ «وَأَضَلُّو» لأنَّهم أرشدوهم إلى غيرِ الطَّريقِ.
ولهذا فإنَّكَ تسمع في هذا الزَّمان أشياء منكرة من الفتاوى ومن مخالفةِ الإجماع بدعوى الوسطيَّة وبدعوى شعارات برَّاقةٍ، فعليكَ أن تكونَ على ذكرٍ من هذا الحديث الوارد عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي لا ينطق عن الهوَى، وهو من دلائل نبوَّته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يَبْقَى مِنَ الإِسْلامِ إِلا اسْمُهُ، وَلا يَبْقَى مِنَ الْقُرْآنِ إِلا رَسْمُهُ، مَسَاجِدُهُمْ عَامِرَةٌ، وَهِيَ خَرَابٌ مِنَ الْهُدَى، عُلَمَاؤُهُمْ أَشَرُّ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، مِنْ عِنْدِهِمْ تَخْرُجُ الْفِتْنَةُ، وَفِيهِمْ تَعُودُ» رواه البيهقِي في شعبِ الإيمانِ)}.
هذا الحديث لا يصحُّ رفعه إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكن الشيخ ابن باز -رَحِمَهُ اللهُ- قال: "معناه صحيح، فإنَّ الأمور في آخر الزَّمان تتغيَّر، ولا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ومن القرآن إلا رسمه؛ لأنَّهم لا يعملونَ به، ثمَّ يُرفَع إذا لم يبقَ إلا رسمه كما جاء أثر عبد الله بن مسعود.
وفي هذا الحديث قال: «مَسَاجِدُهُمْ عَامِرَةٌ»، وهذا يصدق على طوائف من أهل البدع، أحدثوا في بيوت الله -عزَّ وَجَلَّ- البدع، فلم يعمروها بالقرآن ولا بالصَّلاة ولا بالذِّكر الشَّرعي، وإنَّما عمروها بالذِّكر البدعي وبالرَّقصِ في بيوت الله -عزَّ وَجَلَّ- بزعمهم أنَّ قُربَةٌ إلى الله -عزَّ وَجَلَّ.
وكذلك يصدق في قوله: «مَسَاجِدُهُمْ عَامِرَةٌ» بناء المساجد على القبور، فهي عامرةٌ بالشِّركِ، والواجب أن تكون عامرةً بالتَّوحيدٍ كما أمرَ الله -عزَّ وَجَلَّ- بذلك في قوله: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدً﴾ [الجن: 18]، ولهذا فإنَّ طُرُق الصُّوفيَّة مساجدهم عامرة بالرَّقص في بيوت الله -عزَّ وَجَلَّ- ويحسبون أنَّ ذلك من ذكرِ الله، وهكذا طوائف من أهل البدع الذين يعمرون مساجدهم بالشِّرك وبدعاءِ غير الله -عزَّ وَجَلَّ- ولا شكَّ إنَّها إذا كانت هذه حالتها فهي خرابٌ من الهُدَى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (باب التشديد في طلب العلم للمراء والجدال.
عن كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَنْ طَلَبَ العِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ العُلَمَاءَ أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ»)
}.
هذا الباب فيه أهمِّيَّة باب النِّيَّة في طلب العلم، وذكر هذا الحديث عن كعبِ بن مالك وإسناده حسنٌ.
وهذا يدعو إلى سؤال: بماذا تكون النِّيَّة الصَّالحة؟
وقد يسأل سائل: أنا أطلب العلم، فكيف لي أن أنوي الخير وأن أنوي نيَّةً صالحة؟
النِّيَّة تكون بأمور:
أولًا: أن ينوي طالب العلم بطلبه للعلم أن يعبد الله تعالى على علم؛ لأنَّ العبادة بغير علمٍ طريقةٌ غير مُرضيَّة، قال الله -عزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: 108]، فالدُّعاء إلى بصيرةٍ هو الدُّعاء بعلمٍ، والدَّعوة إلى الله -عزَّ وَجَلَّ- بعلمٍ، وهكذا.
ثانيًا: أنَّ طالب العلم يتعبَّد الله تَعالى بطلبه للعلم، لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما تقدَّم قال: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغي فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ».
ثالثًا: أنَّ طالب العلم يطلب العلم ليورثَه خشيةَ الله -عزَّ وَجَلَّ- لأنَّ الخشيَةَ بحسبِ العلم، ولهذا يتفاوت النَّاس في خشيتهم بحسبِ علمهم، فمَن كانَ باللهِ أعرف وأعلم كانَ لله أخشَى، والله -عزَّ وَجَلَّ- ذكر هذا في مُحكم كتابه حينما قال: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28].
رابعًا: أنَّ طالب العلم يوي بطلب العلم أن يرفع الجهل عن نفسه؛ لأنَّ الإنسان لا ينفك عن الجهل، وقد أخرجه الله -عزَّ وَجَلَّ- لا يعلم شيئًا، قال -عزَّ وَجَلَّ: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾ [النحل: 78]، فالإنسان يحتاج لأن يتعلَّم، والله -عزَّ وَجَلَّ- فضَّل أهل العلم فقال: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9]، وهذا فضيلة لطالب العلم.
وممَّا يُذكَر في هذا المجال: أنَّ الإمام أحمد سُئِلَ عن النِّيَّة في طلب العلم فقال: "أنْ تَنْويِ رَفْعَ الْجَهلَ عَنْ نَفْسِك"، وقال في موضع آخر: "العِلمُ لَا يَعْدِلهُ شَيٌء لِمَنْ صَحَّت نيَّته".
وفي الحديث: تحذير من خطرِ طلبِ العلم لحظوظ الدُّنيا، وذكر في الحديث ثلاث نيَّاتٍ فاسدَة، أو ثلاثَ آفاتٍ قد تَعرِض لطالب العلم:
 الآفة الأولى: أن يطلب العلم لمجارة العلماء على وجه التَّباهي به عليهم.
 الآفة الثَّانية: مماراة السُّفهاء، يعني مجادلة السُّفهاء من النَّاس والظُّهور عليهم بعلمه.
 الآفة الثَّالثة: أن يريد طالب العلم صرفَ وجوه النَّاس إليه ليُقال عالم، ولا شكَّ أنَّ هذه أخطار تتهدَّد طالب العلم.
ولهذا فإنَّ أوَّل ما يُقضى به بينَ الخلائق كما جاء عند الإمام مسلم من حديث أبي هريرة «وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ إِنَّكَ عَالِمٌ، وَقَدْ قِيلَ. وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ»، نسأل الله السَّلامة والعافية!
كذلك في حديث آخر عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ: يَا فُلانُ! مَا لَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى. قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ» .
وهذا يدلُّ دلالة عظيمة على أنَّ طالبَ العلمِ بحاجةٍ إلى النِّيَّة الصَّالحةِ، وأن يحذَرَ من هذه النِّيَّة الفاسدة، وأنَّه بحاجة إلى العمل بما علمَ، حتى يورثَه الله -عزَّ وَجَلَّ- علم ما لم يعلم.
ونسأل الله لنا ولكم وللإخوة والأخوات من المشاهدين والمشاهدات العلم النَّافع والعمل الصَّالح، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك