الدرس الثاني عشر

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

3327 12
الدرس الثاني عشر

أصول الإيمان (2)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكَ الله يا شيخ عبد الرحمن.
{لازلنا في أحاديثَ تابعةٍ لبابِ "التَّجوُّزِ في القولِ وتركِ التَّكلُّفِ والتَّنطُّعِ".
قال المؤلِّف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أنَّ رسول اللَّه -صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم- قال: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْعَبدَ أُعْطِيَ زُهْدًا فِي الدُّنْيَا، وَقِلَّةَ مَنْطِقٍ، فَاقْتَرِبُوا مِنْهُ، فَإِنَّهُ يُلَقَّى الْحِكْمَةَ». رواه البيهقِي في شعبِ الإيمانِ)}.
بسم الله، الحمدُ للهِ، وأشهدُ ألَّا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله، وصفيُّه من خَلقِهِ، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
وبعد؛ فنسأل الله -سبحانه وتعالى- للجميع العِلم النَّافع والعمل الصَّالح، وأن يُوفِّقنا إلى الانتفاع بهذا العلم.
هذا الحديث في سنده ضعفٌ، ولكن له شواهد من أحاديث أُخر تدلُّ على معنَى هذا الحديث.
وهذا الحديث يُفيد أنَّ مَن زَهَد في الدُّنيا، وظَهَرَ زهدُه في قلَّة مَنطقه وتباعده عن الدُّنيا؛ فإنَّ من آثارِ هذا على قلبه أنه يُوفَّق للسَّداد والصَّوابِ والحكمةِ، وهذا من الآثار المباركة في الزُّهد في الدُّنيا، فإنَّ الطَّامع في الدُّنيا لا يُوفق للحكمة ولا للسَّداد؛ لأنَّ مُراده دنيوي، فهو يطلب عرضًا من الدُّنيا فهو قد أخلدَ إلى الأرض، بخلاف الزَّاهد فيها المقبل على ربِّه، ولهذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى- إذا أشكلت عليه مسألة من المسائل يُكثر من الاستغفار؛ لعلمه -رَحِمَهُ اللهُ- أنَّ ما يحول بين الوصول إلى الصَّواب والإصابة هو هذه الذُّنوب التي قد تمنع من تحقيق الصَّواب.
كذلك يشهد لهذا الحديث الذي رواه أبو هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ما رواه الترمذي -وفيه ضعف أيضًا- قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ عزَّ وجَلَّ» ، ولهذا لو نظرتَ في كلامِ أهلِ العلم وفي عباراتهم لوجدتَّ أنَّهم يوفَّقون بالكلامِ القليل إلى الكلام النَّافع الذي ينتفع به النَّاس، وهذا مرَّ معنا في كلام الحسن البصري -رَحِمَهُ اللهُ- لما نقل مِن أنَّ كلامه يشبه كلام الأنبياء، ومن هذه المشكاة؛ فإن العبد إذا أقبل على ربِّه وتجافى عن دار الغرور؛ فإنه يُلقَى الحكمة ويُوفَّق للصَّواب، وتكون مواعظُه نافعة، ومصنَّفاته نافعة، أحاديثه نافعة، بخلاف مَن كان يطلب الدُّنيا؛ فإنَّ مواعظه لا ينتفع النَّاس بها، وعلومه لا يكون لها أثر، واعتبِرْ بعلماء الإسلام من المتقدِّمين المعاصرين ومِن المتأخِّرين، وانظرْ كيف أنَّ العالم ببركة علمه وزهده يُوفَّق للصَّواب، وينتفع النَّاس بمقالاته وبكتِبِهِ وبعلومِهِ، وهذا هو الواجب.
إذن؛ مدارُ الأمورِ على ما في القلبِ، فإنَّ العبدَ إذا أقبلَ على الله تعالى فإنَّه يُوفَّق للسَّداد والصَّواب، وإنَّما يُراد هذا العلم لِمَا يُبتغى به وجه الله -عزَّ وجَلَّ- فمَن ابتغى به عرضَ الدُّنيا فإنَّه لا يُفلِح ولا يوفَّق ولا يُسدَّد، وهو وبالٌ عليه وحجَّةٌ عليه يوم القيامة، فلابدَّ أن يكون هناك تلازم بينَ العلمِ والعملِ، وأن يكونَ أثرُ العلم في قلبِ العبدِ.
وأمَّا إذا صارَ هذا العلم يستخدمه لمماراة السُّفهاء ومباهاة العلماء، أو لصَرفِ وجوه النَّاس إليه؛ فإنَّه لا يُوفَّق إلى خيرٍ، ولا ينتفع النَّاس بمواعظه ولا بعلومه، وليست العبرة بكثرة المحفوظ ولا بالتَّباهي ولا بالتَّباهي بسردِ الحديث والتَّطاول على النَّاس بالحفظِ والفَصَاحةِ وغريبِ الألفاظِ؛ بل إنَّ العلمَ إذا ما خرجَ من قلبٍ خاشعٍ ووافقَ الحقَّ والصَّواب، والعلم فقهٌ في شريعة الله -عزَّ وجَلَّ- فربَّما يتكلَّم العالم بكلمات بسيطةٍ، ولكن بكلماته البسيطة ينفع الله بها وتُطفئ فتن، والعالم يصنع التاريخ، ووجود العلماء الخاشعين الرَّاسخين في العلم سببٌ من أسباب الأمان للأمَّة، فهذا هو صمَّام الأمان للأممِ وللشُّعوبِ وللبلدان وللمجتمعات.
ولهذا فإنَّ الواجب على حكَّام المسلمينَ وعلى طلَّاب العلم أن يعنوا بالعلمِ وبالعلماء، وبتوقيرِ العلماء، والاستماعِ إلى نصائحهم وتوجيهاتهم؛ فإنَّهم إن كانوا من أهل العلم المخلصين فإنَّهم لا يريدون إلا وجه الله -عزَّ وجَلَّ- ونصائحهم مُباركة، وهم موفَّقون، وكما قيل: إذا أقبلت الفتنة فلا يعرفها إلَّا العلماء؛ فهم أهلُ البصائر، والله -عزَّ وجَلَّ- أعطاهم من الحفظ لكلامه ولسنَّة نبيِّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما يستطيعونَ به أن يميِّزوا بين الحقِّ والباطل، ولهذا فإنَّ تسفيه علماء أهل السنَّة وأهل الخشية، وتسفيه آرائهم، ولمزهم بالألقاب أنهم لا يعرفون ما يصير في هذا العالم؛ فهذا تجهيلٌ لهم، وهم ليسوا بأهلِ جهلٍ؛ بل هم أهل علم؛ لأنَّ مِن قرأ القرآنَ وعلِمَ السُّنَّة استطاع أن يعرفَ كيف تُدار الأمور، والعالم يكون عنده من الفهم والسِّياسَة الشَّرعيَّة والإحاطة بالأمور كلها ممَّا هو موجودٌ في كتابِ الله -عزَّ وجَلَّ- وفي سنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{أحسن الله لكم يا شيخنا..
ذكرتم أنَّه ينبغي توقير العلماء واحترامهم، ولكن بعضهم يقول: إنَّ هؤلاء العلماء بشر يُصيبون ويُخطئون؛ وقد يفهم البعض أن توقيرهم واحترامهم هو رفعٌ لهم فوق منزلتهم}.
التَّوقير والاحترام والصُّدور عن رأي العلماء يختلف عن هذا؛ لأنَّ كل أمَّة لها قادة، ومن بزوغ فجر الإسلام إلى يومنا هذا يقود الدول المسلمة الأمراء والعلماء، ولهذا جاء في تفسير قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [النساء:59]، أنَّ أولي الأمر: العلماء والأمراء؛ لأن الأمراء يُدبرون سياسة الناس، والعلماء يسوسون النَّاس في أمورِ دينهم، فثَمَّ تلازمٌ بينَ الإمارةِ وبينَ العلمِ، إذا حصلَ انفصالٌ بينَ الأمراءِ والعلماءِ فهذا انفصالٌ لأمنِ الدَّولةِ وحقيقتها، والحمد لله فإنَّ دول المسلمين ما زالت على هذا النَّحو، فأهلُ العلمِ هم الذين يسوسون النَّاس، وهم أخبرُ وأعلمُ بمصالحِ المجتمعِ وما يُحقِّق الصَّالحَ، وهم أهلُ البصائرِ.
ولو نظرتَ فيما ينزلُ على النَّاس مِن نوازلٍ، ثَمَّ أمورٌ مُعيَّنة يكون للعلماء فيها فتوى وموقف قد يُستَغرَب منها، تجد أنَّ فتاواهم موجودة، ثم بعدَ سنوات إذا نظرتَ للأمرِ بكليَّةٍ وشموليَّةٍ وجدتَّ أنَّ فتاوى أهل العلم كانت مِن أسباب الأمانِ، وأنَّ اتَّخاذ هذا القرار لاعتبارٍ معيَّنٍ لا يصبُّ في مصلحة الدَّولة ولا في سياسة الرَّعية، إذن العلماء هم أهل البصائر، ولهذا فهم يسوسون أمرَ الناس في دينهم، والأمراء يسوسون أمرَ الناس في دنياهم، وثَمَّ تلازمٌ بينَ الدِّين والدُّنيا، ما في فصل في الإسلام بينَ الدِّين والدُّنيا، وهذا الفصل موجود عند العلمانيَّة، أمَّا عند المسلمين ففيه تلازم بين الدِّين والدُّنيا، فالدُّول الإسلاميَّة عليها أن تصدر عن علمائها، وأن تأخذ برأي العلماء، لأنَّ هذا -بإذن الله- سبب لتجنيب الأمَّة الفتن والاختلاف والشِّقاق، وأعداء المسلمين لا يريدون بهذه الأمَّة خير، هم يريدون التشكيك في العلماء، ويريدون النِّزاع بين السُّلطة السِّياسيَّة والسُّلطة الدِّنيَّة -إن صحَّت العبارة- حتى يختلف الرأي، فأهل العلم يحرصون على جمع الكلمة، لأنَّهم يعرفون أنَّه من ثوابت الدِّين لزوم الجماعة، فهذا يدلُّ عليه الأحاديث والنصوص المتكاثرة في هذا الجانب.
{قال في الحديث «وَقِلَّةَ مَنْطِقٍ، فَاقْتَرِبُوا مِنْه»، هل نأخذ بمفهوم المخالفة أنَّ من يتفَاحَص يبتعد عنه؟}.
ذكرت النُّصوص أنَّ الإنسان لا يتكلَّم إلَّا فيما يُحتَاج إليه، وذكرنا هدي النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الكلام، ولا شكَّ أنَّ كثرة الكلامِ وفضولهِ ممَّا لا ينبغي، حتى في الفتوى تجد العلماء لهم مصنَّفات في آداب الفتوى والاستفتاء، فالمفتي عليه أن يُفتي العامِّي بما يُحقِّق إفادَته في الجواز، يسأله هل يجوز أو لا يجوز، فيُخبره أنَّ هذا لا يجوز، ويُخبره إجمالًا بالدَّليل؛ لأنَّ العامِّي لا يحتاج التَّفصيلِ، فهذا هو منهجُ أهلِ العلمِ في فتاواهم، بخلاف مقام الدَّرس والتَّعليم لطلاب العلم، وذلك حتى ينتفع الناس، فكثرة الكلام -كما مرَّ معنا في الأحاديث- مما جاء ذمُّه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: ( وعن بريدة - رضي اللَّه عنه- قال: سمعت رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم يقول: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا، وَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ جَهْلًا ، وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حكْمًا، وَإِنَّ مِنَ الْقَوْلِ عِيَال»)}.
الجزء الأول من الحديث «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرً»، أخرجه البخاري في كتاب الطِّبِّ، وأمَّا تمام الحديث بهذه الرواية ففيها ضعفٌ.
ولعلَّنا نقفُ وقفاتٍ مع هذه العبارات التي وردت عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أولًا حديث البخاري: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرً»، سبب ورود الحديث -كما جاء في البخاري- أنَّه قَدِمَ رجلانِ من المشرق فخطبا، فعجب الناس لبيانهما، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرً».
والمقصود بالسحر هنا: أنَّ البيان والبلاغة يفعل كفعل السِّحر في تصريف العقول والعدول بها من رأيٍ إلى رأيٍ، وهذا من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على وجه الإخبار لا على وجه المدح ولا على وجه الذَّمِّ، ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ» ، ولهذا قد يكون الإنسان صاحب الحق ضعيف المنطق، وليس عنده قدرة على الإفصاح، فيحتاج إلى أن ينتبه إلى هذا الأمر، فإذا كنتَ ليس عندك بيانٌ في الخصام وخصمُك أقوى منك في البيان -لا في الحجَّة- فقد يكون عندك حجَّة ولكن ما عندك بيان؛ فعليك أن تستعين بآخر، والله -عزَّ وجَلَّ- قال عن النساء: ﴿أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾ [الزخرف:18]، وهذه سنَّة كونيَّة، فلا تغترَّ أنَّ بعض النساء الآن ربما صرن يُقلدنَ الرجال في المواجهات والكلام، ولكن فطرة المرأة أنَّها لا تُبين في الخصام، ولهذا إذا وقعت مشكلة فإنها تحتاج إلى الرجل، حتى في الدول التي تنتخب النساء تعرف هذا الأمر، فقد يكون فيه شذوذات ولكن العادة المطَّردة لا تتغير، فينبغي أن يُنتبه لهذا.
وهل يُفهم من الحديث أنَّ فيه ذمٌّ للبيان؟
الظَّاهر أنَّ هذا من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إخبارٌ كما ذكرنا، أنَّ البيان والبلاغة سببٌ لاستمالة قلوب الناس، فإذا وُضع في موضعه فهو حسنٌ، وإلَّا فهو مذمومٌ، وهذا مثل قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيً» ، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ»، فهذا إخبارٌ، فهذا من جملة أحاديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التي تبيِّن أنَّ الناس يحتاجون إلى أن يتعلموا البيان حتى يُؤثِّروا في النَّاس، فيتعلَّم القدرة على الإلقاء، والقدرة على الإفصاح لِمَا عنده من الحق، حتى يعلو الحقُّ على الباطلِ بهذه النيَّة.
ولعلَّ هذا يلفت أنظارنا إلى ما يُفعل الآن من البيان، فإن الإعلام الآن من البيان، فصار الإعلام الآن من الأسلحة المؤثِّرة في الأمم وفي المجتمعات، بل إنَّ الصِّراع بين القوى المختلفة يقوم على الإعلام، ولهذا صدق النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في وصفه بالسِّحر؛ لأنَّك تجد الإعلام في قضيَّة مُعيَّنة يقلبها رأسًا على عقب، ويجعل الباطل حقًّا والحق باطلًا بسبب هذا البيان، فهذه هي صناعة الإعلام، وهذا خطرٌ على المسلمين، وخطرٌ على أهلِ الحق، وعلى النَّاسِ أن ينتبهوا إلى الإعلام؛ لأنَّه سلاحٌ عظيم، وهو الآن مُتاح على المسلمين أن يستقوا منه قدر المستطاع، فعلى طلاب العلم وعامَّة المسلمين والدُّعاة أن ينتبهوا إلى مسألة الإعلام، وأن يكون هذا الإعلام نافذ، وأن يتعلموا هذه الأسلحة لإظهار الحقِّ.
فهذا تحذير لطالب العلم، أنَّ عليه أن يعمل بعلمه، وأن يكون هذا العلم حُجَّة له لا عليه، حتى لا يكون له مَثل هذا السوء.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حكْمً»، فمازال النَّاس يحفظون مِن أشعار الحِكَمِ، ويستشهدون بذلك، وهذا هو الشعر النَّافع، أمَّا شعر الهجاء وشعر المفاخرة بعادات الجاهليَّة فهذا شِعرٌ مذمومٌ لا يستفيد منه صاحبه، ولهذا فإنَّ الإنسان الذي يُعطيه الله -عزَّ وجَلَّ- القدرة على نظمِ الشِّعر فليعلم أنَّ هذه هبةٌ من الله -عزَّ وجَلَّ- وعليه أن يستخدمها في نفعِ النَّاس؛ فإنَّ النَّاسَ ينتفعون بهذه الحِكَم، وما زال النَّاس يحفظون مِن شعرِ الحكمةِ ويتداولونه.
على سيبل المثال: مِن العلماء الذين لهم سبقٌ في الشِّعر الإمام الشَّافعي -رَحِمَهُ اللهُ- وما زال النَّاس يتداولون أبياتَ الشَّافعي، وهي من علِمِه الذي ينفع؛ لأنَّه من شعر الحكمة.
ثم قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّ مِنَ الْقَوْلِ عِيَال»، يعني: بعض القول قد يكون لا فائدة فيه، وهو أن تُلقي المقال على مَن لا ينتفع به، أو من لا يُريد الاستماع إليه، وهذا يصدق على بعض الناس الذي يتكلَّم في مواضع لا يحسُن فيها الكلام ولا الوعظ ولا التوجيه؛ فلكلِّ مقامٍ مقال، فينبغي أن يُراعي المتكلِّم أحوال النَّاس فيما يتكلَّم، وهل قوله سيكون له نفع وإفادة وإصابة، وإلَّا يُعرض عنه، فإنَّ من القول عيالًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وعن عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنه- أنَّه قَالَ يومًا وقامَ رجلٌ فأكثرَ القولَ فقال عمرو: لَوْ قَصَدَ في قَوْلِهِ لكَانَ خيرًا له؛ سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم- يقول: «لَقَدْ رَأَيْتُ -أَوْ أُمِرْتُ- أَنْ أَتَجَوَّزَ فِي الْقَوْلِ، فَإِنَّ الْجَوَازَ هُوَ خَيْرٌ». رواهما أبو داود)}.
الحديث فيه ضعفٌ، ويدلُّ على أصلٍ مُهمٍّ، وهو الإجمال والتَّجوُّز في المواعظ والكلام والحديث، فإنَّ الجواز خيرٌ للناس جميعًا وخيرٌ للسَّامعين، ومرَّ معنا في الحديث «إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ» ، وجاء عن جابر بن سمرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: "كُنْتُ أُصَلِّي مَعَ النبيِّ ﷺ الصَّلَوَاتِ، فَكَانَتْ صلاتُهُ قَصداً وخُطْبَتُه قَصْدًا" ، فكان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقتصد، وعن جابر قال: "كان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يُطيل الموعظة يوم الجمعة، إنما هن كلمات يسيرات"، وجاء عن ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كان يتخولنا بالموعظة خشية السَّآمة علينا".
وهذا توجيهٌ ختم به المصنف -رَحِمَهُ اللهُ- كتاب أصول الإيمان لبيان أنَّ الناس يحتاجون إلى الموعظة والبيان، فإنَّ من البيان لسحرًا، ويحتاجون إلى التَّجوُّز، فالإنسان لا ينبغي له أن يُطيل في الكلام والتفصيل، بل يتجوَّز قي ذلك، وحتى الآن العلوم المتعلقة بمسألة التأثير مثل الإعلام وما شاكل ذلك يرون أنَّ التَّجوُّز هو أنفع ما يكون؛ بل يرون أنَّ الملقي إذا تكلَّم أو خطبَ خطبةً أو أراد أن يُبيِّن فإنَّ السَّامعين يستمعونَ له وينصتون له في عشر دقائق، فإذا تجاوز العشر دقائق فإنَّ السَّامعين يحصل لهم الملل والسَّآمة وعدم الانتباه، فينبغي لأهلِ العلمِ ولأهلِ الخيرِ ولمَن أولاهم الله -عزَّ وجَلَّ- البيانَ والكلامَ أن يتجوَّزوا.
والنَّاس الآن يحتاجون إلى التَّجوُّز في الكلام في اللقاءات، والاقتصاد في الكلام وعدم الإطالة، فنحن في زمان يتأثر فيه النَّاس بالكلام المختصر والبليغ في مواعظهم، ولهذا فعلى إمام المسجد أو مَن يُريد موعظة النَّاس أن يقتصِدَ في كلامِه حتى يكونَ الكلامُ نافعًا، وهذا مِن سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو التَّجوُّز في الكلام وعدم الإطالة.
وقد ذكرنا أثر علي بن طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "خير الكلام ما قلَّ ودلَّ ولم يُطل فيمل".
إذن الكلامُ الطَّويلُ مملٌّ ولا ينفع، فعلى مَن له عناية بمثل هذا الأمر أن ينتبه لهذه المقاصد، والبلاغة ليست في كثرة الكلام ولا في التَّفصيل، حتى في أحاديث النَّاس تجد بعضهم إذا أراد أن يشرح قضيَّة يُطيل الكلام فيسأم الناس حديثَه لأنه يطيل، وطبيعة النفس ما تريد الإطالة؛ بل تريد الاختصار في كل العلوم، فالاقتصاد أنفع في كلِّ الأمور، والإطالة مذمومة، ولهذا فإنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن الإطالة حتى في الصلاة، فلمَّا أطل معاذ بن جبل في صلاة العشاء على الناس؛ قال له: «أفتان أنت يا معاذ؟!»، وهذا يدلُّ على أنَّ من طبيعة النَّفس البشريَّة أنها تحب الاقتصار والاختصار، وهكذا ينبغي لأهل العلم ولطلاب العلم والمعلمين والمعلمات أن يعنوا بالاقتصاد والتَّجوُّز، وهذا من مُراعاة أحوال الناس؛ لأنَّ الإسلام جاء بمراعاة أحوال السَّامعين، ومُراعاة المجتمع الذي يُحيطُ بك، فهو دين الرَّحمة، ألا ترى أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا سمع بكاء الصَّبي في صلاته تجوَّزَ -أي: اختصر- فكيف يكون الإنسان في محفلٍ ويُطلب منه كلمة؛ فيُلقي كلمة طويلة، وبعض الأحيان يأخذ عشرين دقيقة، وهو يُراد منه خطاب مختصر!
فإذا أردتَّ أن تنفع فاختصر، وإذا أردتَّ أن يكونَ له أثر في نفوس السَّامعين فانتقِ من الألفاظ أحسنها واختصر، واضبط الوقت ولا تتوسَّع، فإذا طُلبَ منك البيان فلا تتوسَّع، وكُنْ مقتصدًا على الوقت الذي حُدِّدَ واختصر قدرَ الإمكان، حتى يكون لكلامك النَّفع، واعلم أنَّك مهما كانَ عندكَ من الكلام ومن المعلومات وإرادة الخير للناس؛ فإنَّهم يُحبُّون الاقتصاد، ولا يُحبُّونَ التَّطويل، حتَّى لطلاب العلم فالاقتصاد والاختصار مطلوب، وجاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا.
فهذا أمرُ اللهِ، وأمرُ رسولهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذه سُنن أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا دينُ الإسلام، فعلى النَّاس جميعًا أن يحرصوا كلَّ الحرص على مثلِ هذه المعاني.
ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا للعم النافع والعمل الصَّالح، وهذا أوان ختم هذا الباب، وختم هذا الكتاب؛ فنحمد الله -عزَّ وجَلَّ- أن يسَّرَ تمامَ هذا الشَّرح، ونسأل الله أن يجعله حجَّةً لنا لا حجَّةً علينا، وأن ينفع به مَن شاهده، وأن يجعله ذخرًا لنا إلى يومِ الدِّين، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد.
{وفي ختامِ هذا الفصل أسأل الله أن يجزيكم خير الجزاء شيخنا على ما قدَّمتموه، وأن يكتبه في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك