الدرس الثالث

فضيلة الشيخ د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

1398 12
الدرس الثالث

أصول الإيمان (2)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله يا شيخ.

{نستفتح في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الإمام محمد بن عبد الوهاب -رَحَمَهُ اللهُ- في كتاب "أصول الإيمان" (باب تحريضه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على لزوم السنة والترغيب في ذلك وترك البِدعِ والتفرقِ والاخْتلافِ والتحذيرِ من ذلك)}.
بسم الله، والحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
تكلَّمنا في المحاضرة السَّابقة عمَّا يتعلَّق بالعنوان، وأنَّه في غاية الأهميَّة، وبيَّنَّا معنى السُّنَّة، ومُراد المؤلِّف -رَحَمَهُ اللهُ- بالسُّنَّة، وتوقَّفنا على بعض المسائل المتعلِّقة بهذا العنوان، والتي يحسُن أن نذكرَها، وأن نُبيِّنَ مُفردات الشَّيخ -رَحَمَهُ اللهُ تعالى- فيها؛ لأنَّها توضِّح ما سوفَ يستدلُّ به -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالى- من الآيات والأحاديث.
وَلَمَّا تكلمنا عن السُّنَّة؛ لَزِم من ذلك أن نتكلَّم عن البدعة؛ لأنَّ الشيخ قال: (وترك البِدعِ).
البدعة لغة: مادة "بدع" هي الاختراع على غيرِ مثالٍ سابقٍ.
قال الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [البقرة: 117]، أي: مَن اخترعهما وفطرهما وأنشأهما على غيرِ مِثالٍ سابقٍ، فكل مَن أحدثَ شيئًا على غير مِثالٍ يَسبقه سُميَ بدعة من جهة اللغة.
أمَّا البدعة اصطلاحًا -أو المعنى الشَّرعي لها- فقد عُرِّفَت بتعاريف مُتعدِّدَة، ولعلَّ أجمع هذه التَّعاريف: أنَّها طريقةٌ في الدِّين يُضاهَى بها الطَّريقة الشَّرعيَّة، بغرض التَّعبُّد لله تَعالى.
وقد ذكر الله -عزَّ وَجلَّ- أصل هذه البدع في مَواضع مِن كتابه، ومن أجمل ما يُذكر في هذا ما قاله الله -عزَّ وَجلَّ- عَن أهلِ الكتابِ وعن النَّصارى: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ [الحديد: 27]؛ فدلَّ على أنَّ الابتداع في الدِّين هو الإحداث.
وهذا يجرُّنا إلى المسألة التي بعدها، وهي: أنَّ بعضَ مَن زيَّنَ لهم الشَّيطان الوقوع في البدع يزعمون أنَّ البدع منها ما هو حسنٌ ومنها ما هو سيئ، فالحسن منها مَقبول، والسَّيئ منها مردود، ويُشبِّهونَ على النَّاس بقول عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- لما جمع النَّاسَ في صلاة التَّراويح على إمامٍ واحدٍ؛ فلمَّا رأى اجتماعهم قال: "نِعْمَ البِدْعَةُ هَذِهِ" .
أو يُشبِّهونَ على النَّاس بقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئً» .
ولأهل العلم طريقة في الجواب المجمل والجواب المفصَّل؛ وهو ما سار عليه الشيخ -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- في رسالته المشهورة بــ "كشف الشُّبهات" في الرَّد على شُبهات مَن يَقعون في الشِّرك ويُزينونه للنَّاس بأن ثمَّ جوابٌ مُجمل وثَمَّ جَواب مُفصَّل.
فالجواب المجمل لكثيرٍ من الشُّبهات أن نقول: إنَّ عُمدةَ أهل الهواء وأهل البدع هو الاستدلال بالمتشابه -ولابدَّ لطالب العلم أن يكون على ذكرٍ وفَهم لهذا المعنى- كما ذكر الله تعالى عنهم ووصفهم، فقال -عزَّ وَجلَّ- كما في سورة آل عمران: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَ﴾ [آل عمران: 7]. وكما ورد في مسلم: «إِذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ» .
فهذا هو الجواب المجمل عن هذه الشُّبهة، وتبعٌ لذلك أنَّ الإنسان لابدَّ أن يستمسك بهذا الجواب إذا لم يعرف الرَّد بالتَّفصيل على الشُّبهة.
والمُحكم في هذا -وقد قرَّرناه- في مسائل مُتعدِّدة: أنَّ البدعة مَردودة؛ لأنَّ الله قال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينً﴾ [المائدة: 3]، فدلَّ على أنَّ الدِّين كامل لا يحتاج إلى مَن يُكمله بهذه المحدَثات.
ويدلُّ على ذلك قول النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما روت عائشة عنه، وهو مُخرَّج في الصَّحيحين: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» ، فهذه مُحكمات.
وقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في خطبته: «وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ»، وَ"كُلُّ" مِن ألفاظ العموم، فدلَّ على أنَّ البدع في الأصل مَذمومة، وأنها مَردودة.
فهذا هو الجواب المُجمَل الذي يُردُّ به على أهل البدع الذين يزعمون أنَّ البدع منها ما هو حسنٌ ومنها ما هو سيئٌ.
وأمَّا في الجواب المفصل على هؤلاء فنقول:
قول عمر -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: "نِعْمَ البِدْعَةُ هَذِهِ" يُريد بها البدعة مِن جهة اللُّغة، ويدلُّك هذا على أنَّ التَّراويح ليست بِدعة في الدِّين؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلَّاها يومًا أو يومين أو ثلاثة -كما نُقل- ثم تركَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك، فكان يُقرِّهم على فِعلها في المساجد، ثُمَّ ترك ذلك -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد جاء ذلك مُصرَّحًا به في الأحاديث خشيةَ أن تُفرَض على أمَّتهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رحمةً بهم، فلمَّا زالَ المقتضِي صلَّاها الصَّحابةُ -رضوان الله عليهم- في عهدِ أبي بكرٍ وفي عهدِ عمر -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما- ولكن عُمر جمعهم على إمامٍ واحدٍ، وقد قد كانوا يُصلُّون أفرادًا.
فظهر لك أنَّ هذه ليست بدعة، فقول عُمر يُراد به المعنى اللغوي للبدعة، وحاشاه -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- أن يبتدع في دين الله -عزَّ وَجلَّ ما ليس منه.
وأمَّا حديث « مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً...»، فالحديث له مُناسبة توضِّحه وتُبيِّن المراد منه، وهو أنَّ أُناسًا من الأعراب جاؤوا إلى المدينة وقد لحقتهم الفاقة والجوع، فحثَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أصحابه على الصَّدقة عليهم، فحصلَ مِن بعضِ النَّاس أن تباطؤوا في الجُود والعطاءِ لهم، فجاء رجلٌ من الأنصارِ بِصُرَّةٍ من وَرِق -أي: فضة- ثُمَّ لَمَّا رآه النَّاس تتابعوا بالصَّدقة، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مقالته تلك.
وأيضًا ظهر للإنسان أنَّ هذه الأمور التي يُشبِّهون بها ليس لها حظٌّ، ولكن هذه طريقة أهل الأهواء والبدع أنهم يُشبِّهون على النَّاس بهذه البدع.
المسألة التَّالية التي تتعلَّق بالعنوان الذي ذكرَه المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- مِن جهة معنى التَّفرُّق والاختلاف؛ لأنَّ الشَّيخ -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- قال في العنوان: (وترك البِدعِ والتفرقِ والاخْتلافِ).
نقول: تحذير الله -عزَّ وَجلَّ- من الافتراق في الدِّين جاء في نُصوصٍ مُتعدِّدَة، فقال الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ [آل عمران: 105]، يُخبرنا الله -عزَّ وَجلَّ- عن الأمم السَّابقة.
وقال -عزَّ وَجلَّ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُو﴾ [آل عمران: 103]، وقال: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153]؛ فدلَّ على أنَّ ثَمَّ افتراق واختلاف يحدث في دين الله -عزَّ وَجلَّ- وهذه سُنَّة كونيَّة أخبر الله تعالى بها، فلابدَّ من وقوعها؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وافْتَرَقَتْ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَستَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً؛ كلها في النار إلا واحدة» ، فدلَّ على أنَّ ثَمَّ افتراق، وقلنا: إن هذه سُنَّة كونيَّة لكونها قدر الله -عزَّ وَجلَّ.
أمَّا السُّنَّة الشَّرعيَّة فقد أمرتنا بالالتزام بالاجتماع، قال الله تعالى مُحذِّرًا من هذا السبيل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 159]، فدلَّ على أنَّ الواجب هو لُزوم الصِّراط المستقيم، الذي يسأله المسلم في كلِّ ركعةٍ من ركعات الصَّلوات، ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 6].
وهذا المعنى أشار إليه الإمام أحمد إمام أهل السُّنَّة في مُقدمة كتابه "الرَّد على الزَّنادقة والجهميَّة" حينما وفهم فقال: "عقدوا ألْوِية البدعة، وأطلقوا عقال الفتْنة، فهم مُختلفون في الكتاب، مُخالفون للكتاب، مُجمعون على مفارَقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بِغَيْر علْم، يتكلَّمون بالمُتشابه من الكلام، ويخدعون جُهَّال النَّاس بما يشبهون عليْهم، فنعوذ بالله من فِتَن المُضلِّين"، فهم يُخرجون هذه الأمور من جراب المتشابه، ويتركون المُحكَم، ولهذا فإنَّ عبارة الإمام أحمد بليغة جدًّا "ويخدعون جُهَّال الناس بما يُشبهون عليهم"، من هذه الشُّبَة التي تملأ الفضائيات وتملأ حياة الناس وشبكات التَّواصل؛ فهذه كله من التَّشبيه.
فهؤلاء مُفارقون لجماعة الدين التي أمرنا الله -عزَّ وَجلَّ- بلزومها، وأخبر أنها من أسباب السَّلامة والنَّجاة من النَّار، قال الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرً﴾ [النساء: 115]، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمرنا بلزم جماعة الدين، فقال: «عليكم بالجماعة -أي جماعة الدين- فإن يد الله مع الجماعة» .
وقال الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿شَرَعَ لَكُمْ﴾ أي: يا أمة محمد. ﴿مِنَ الدِّينِ﴾، أي: من الاعتقاد. ﴿مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: 13]، فأهلُ الجماعة هم أهل السُّنَّة والجماعة الذين لزموا سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في العقيدة والعمل، وهذه عقيدة الأئمَّة الأربعة، وعقيدة السَّلف الصَّالح، فمَن أراد الهداية إلى الصِّراط المستقيم عليه أن يلزمَ طريقَتَهم ومنهَجَهم حتى يكون له هذا الاهتداء.
ولهذا فإنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حذَّرنا من الخروج عن هذه الجادَّة، والمؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- سيورد الآيات في ذلك، والتي تُبيِّن هذا المنهج القويم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقول اللَّه تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرً﴾)}.
هذه الآية أصل كبير في التَّأسِّي بالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أقوالِهِ وأفعالِهِ وأحوالِهِ، واستدلَّ الأصوليُّون بهذه الآية على الاحتجاج بأفعالِ الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنَّ الأصل أنَّ أمَّته يتأسَّون به في الأحكام، إِلَّا مَا دلَّ الدَّليلُ على اختصاصِه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مَسائل مَعدودة، ويُصرِّح النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بها، أو يُصرِّح الله -عزَّ وَجلَّ- بها، كما في تجاوز عددِ الأربعة في النِّكاح، فقال تعالى: ﴿خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأحزاب: 50]، في أنَّ المرأة قد تهب نفسها للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهي خصائص مُعيَّنة ذكرها أهل العلم وصنَّفوا فيها المصنَّفات.
إذن هذه الآية تُبيِّن أنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- أمرنا أن نلزمَ وأن نتأسَّى بالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وما عدا النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهو ليسَ بمعصومٍ، والأسوة في النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكلها مُتعلقة بمسائل سنذكرها -إن شاء الله.
{قال: (﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ الآية [الأنعام: 159])}.
هذه الآية تُبيِّن أنَّ الله أمرنا كأمَّة كَمَا أَمَرَ الأُمَمَ السَّابقة بالاجتماع في الدِّين، ونهى عن التَّفرَّق، وهذا يصدُق على اليهود والنَّصارى الذين تفرقوا في دينهم، وكان تفرقهم مِن حينِ أن بُعثَ فيهم الأنبياء، ولا يَزالون مُختلفين، ولا يزالون مُتفرِّقينَ إلى قيام السَّاعة، والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بريء من هذه الطَّريقة، وحذَّر أمَّتَه من سلوكِ هذا المَسلَك -أي: الاختلاف في الدِّين- وأن يتحزَّب الإنسان على غيرِ هُدًى وعلى غيرِ ما اجتمع عليه أهل الإسلام وأهل السنَّة والجماعة، وعلى غير عقيدةٍ مُرضيَّة، وهذه هي الجماعة التي أُمرَ النَّاس بلزومها والاجتماع عليها، وأمَّا ما عداها فكما بَيَّنَ الله -عزَّ وَجلَّ- "شيعٌ وأحزابٌ" والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بريء منهم.
{(وقوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ الآية [الشورى: 13])}.
إذن وصية الله -عزَّ وَجلَّ- للأنبياء والرُّسل واحدة من لدُن نوح -عليه الصَّلاة والسَّلام- وهو أوَّل الرسل إلى نبينا محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهي إقامة الدِّين وترك التَّفرُّق فيه، ولهذا فإنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- جعل دين الإسلام أفضل الأديان، وناسخُ الأديان التي قبله، قال الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85]، وهو ما شرعه الله لنبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن ذلك الاجتماع في العقيدة الواحدة، والاجتماع في الشَّعائر التي لا تكمل إِلَّا بالاجتماع، فهذا من الاجتماع على الدِّين، كالصَّلوات الخمس، والحجِّ والصِّيام؛ فهذا يدلُّ على أنَّ إظهار هذه الشَّرائع من الاجتماع على الدِّين.
ومن الاجتماع على الدِّين أيضًا: الاجتماع على العقيدة الواحدة، فلا يُمكن أن تجمع النَّاس على غير الاعتقاد الصَّحيح؛ لأنَّه إذا جُمِعَ النَّاس على غير هذا الاعتقاد حصل لهم التَّفرُّق؛ لأنَّ الاعتقاد الصَّحيح يأمر الناس بالاجتماع، وينهاهم عن الاختلاف والتَّفرُّق، وأمَّا الاعتقاد المخالف لما جاء عن الله وما جاء عن رسوله؛ فهو يحمل في مضامينه التَّفرُّق، لأنَّ المرجعيَّة والرَّد فيه إلى أهواء الناس، وأمَّا الرَّدُّ في منهج أهل الإيمان ومنهج أهل السنة والجماعة إلى مَا يكون به الاهتداء، وما تحقَّقَت فيه السَّلامة والعصمة، قال الله -عزَّ وَجلَّ: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: 59]، وقال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُو﴾ [آل عمران: 103]، فالرَّدُّ في منهج أهل الإيمان يكون إلى كتاب الله، وإلى سُنَّةِ رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وِفقَ فهم الصَّحابة والتَّابعين، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين، إذا هذا المنهج واضحُ المعاني.
وهناك مسائل متعلقة بهذا:
ما الجماعة التي أُمرَ النَّاس بالالتزام بها؟
لسائل أن يَسال: أريد أن ألزم سبيل المؤمنين، أريد أن ألزم جماعة الدِّين، أريد أن ألزم الجماعة التي تسلك الصِّراط المستقيم! فكلٌّ يدَّعي أنَّه هو الجماعة وأنَّه هو حِزب الله؛ فهل لهذه الجماعة معالم؟ هل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيَّنَها وجلَّاها؟ أم أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تركها غير واضحة؟
بلا شكٍّ أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيَّنها؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تركنا على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيَّن البيان، فلا يُمكن أن يكون هذا الصِّراط المستقيم وهذه الجماعة مجهولة أو خفيَّة؛ لأنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- قال: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾ [الأنعام: 153]، فأمرنا الله باتِّباع منهجٍ واحدٍ وطريقٍ واحدٍ، وجماعةٍ واحدةٍ -لا جماعات- ولهذا لا يُمكن أن يكون المسلمين جماعات؛ بل يلزم أن يكونوا جماعة واحدة في الدِّين.
إذن جماعة الدِّين: هي الاجتماع على العقيدة، وعلى أصولِ الإيمان، وعلى أركان الإيمان، والشَّيخ -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- كتب هذه الرسالة في "أصول الإيمان"؛ فهذا الدِّين هو دين الأنبياء جميعًا، وهذا الدين اجتمعت عليه الرُّسل.
ومن فَضل الله على أهل الإيمان الذين لزموا جماعة الدِّين أن يعرفوا أنَّ ما هُم عليه من الاعتقاد هو اعتقاد الأنبياء من لدُن آدم إلى نبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهذا اعتقاد عيسى واعتقاد موسى، واعتقاد محمد -عليهم الصلاة والسلام.
فأنت تأخذ بهذا الاعتقاد؛ لأنَّ هذا الدِّين اجتمعت عليه الأمم؛ فالأخذ بأصول الاعتقاد هو اجتماع على الدِّين.
هل الجماعة واحدة أم جماعات؟
الله -عزَّ وَجلَّ- حذَّرَ من هذه التَّفرقة، فقال: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: 13]، وقال: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾ [الأنعام: 153]، فدلَّ على أنَّها جماعة واحدة، وإن تباعدت في الزَّمان، وإن تعدَّدت أقطارها، فهي جماعة واحدة التي أخذت بالاعتقاد الصَّحيح، ولا يُمكن أن تكون جماعتين، وهي الجماعة التي تأخذ بمنهج الصَّحابة والتَّابعين، لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما سأله الصَّحابة عن الجماعة؛ قالوا: مَن هُم يا رسول الله؟ قال: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» . ووردت في روايات متعددة، فجلَّاها النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فمَن أراد أن يلزم الجماعة فعليه أن يلزم ما كان عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والصَّحابة، فهي ليس لها قطر واحد؛ فقد تكون في أقطار مُتعددة، فجماعة الدِّين هُم جماعة أهل السُّنة.
وهذه الجماعة هي الطائفة المنصورة من جهة الحجَّة والبُرهان، فلا يُمكن أن يُدالَ عليها من جهة الحجَّة والبُرهان، فظهورها في كل زمانٍ ومكان؛ لأنَّها تنزع إلى الوحيين -الكتاب والسنة- وتفهمهما بفهم الصَّحابة والتَّابعين، فكان لهم هذا الظُّهور، وهذا من رحمة الله -عزَّ وَجلَّ- أنَّ الحقَّ باقٍ فيها، ولن يُدالَ عليه، ولهذا قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ» ، فهم لا يَزالونَ مَنصورون، قال: «لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ»، دلَّ على أنَّ ثَمَّ مُخذِّل وثمَّ مخالف إلى القيام الساعة، وقد جاءت الأحاديث مصرِّحة «إِلى قُرب قيام الساعة»، حينما يبعث الله -عزَّ وَجلَّ- ريحًا تقبضُ أرواحَ المؤمنين، فلا تقوم السَّاعة إلا على شرار الخلق.
إذن هذه الطائفة منصورة بالحجَّة والبرهان، وقد تكون منصورة بالتَّمكين، ولكن نصرها المتحقِّق في كل زمانٍ ومكانٍ بالحجَّة والبرهان.
ولا يعني وصفها بأنَّها ناجية أنَّ ثَمَّ جماعتان؛ بل هي جماعة واحدة، ولكن وصفها بأنها منصورة إنما يكون في الدُّنيا، ووصفها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأنها ناجية؛ لأنَّ أهل العلم في كتب الملل والنِّحَل والفِرَق يصفون الفِرَق المخالفة بالفرق الوعيديَّة؛ لأنَّها متوعَّدة بالنار؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «كلها في النار»، فهي فرق وعيدية
ويُقال الفرقة الوعيدية: الفرقة الناجية، فوصفها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذلك فقال: «كلها في النار إلا واحدة».
هل لها مسميات؟
ليس لها اسم، فهي في كل زمان قد تأخذ اسمًا، والأسماء لا تُغيِّر الحقائق، فهم أهل الحديث، وأهل الأثر، والسَّلفيون، والغرباء، والنُّزَّاع من القبائل؛ أمَّا الألقاب التي يُلقيها من ناوأ السُّنَّة فهي كثيرة، فكان المعتزلة يُسمونهم: "حشوية، نوابت، حوامل أسفار"، إلى غير ذلك، ولا يزالون...، ولهذا يقول أبو قلابة الجرمي -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- وهو من فُقهاء التَّابعين: "يا أهل السنة لا تهولكم الألقاب"؛ لأنَّ الألقاب لا تُغير الحقائق، فلا تنفر من الألقاب، وانظر إلى ما تحت هذه الألقاب، فإذا كان حقٌّ ومنهج قويم على طريقة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والصَّحابة؛ فالزم هذا الطريق حتى تتحقق لك النَّجاة.
هل ثَمَّ وصفٌ لجماعة الدين؟
مِنَ الْمُهم عند أهل العلم أنَّ النُّصوص تُستقَرأ وتُفهم وتُجمع بعضها إلى بعضٍ؛ فقد جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لُزوم جماعة الدين -أي: في الاعتقاد- وجاء بلزوم جماعة الأبدان، ولهذا نقول: إنَّنا أُمرنا بلزوم جماعة الدين ولزوم جماعة الأبدان.
ما هي جماعة الأبدان؟
هذا سؤال مُهم جدًّا!: هي الجماعة المسلمة التي يتولى عليها حاكم مسلم وإن تعدَّدت أقطارها، فدلَّ على أنَّ الجماعة المسلمة يُمكن أن تتباعد، كما هو واقع المسلمين في يومنا هذا، فكل حَاكم مُسلم يتولى على بلدٍ فهي جماعة للمسلمين، ويجب على أهل البلد أن يسمعوا ويُطيعوا لهذا الإمام في المعروف -كما هي دلالة النُّصوص.
قد يسأل سائل ويقول: أليس المطلوب من المسلمين أن يكونوا على إمام واحدٍ؟
نقول: نعم، يجب أن يجتمع المسلمون على إمام واحدٍ، ولكن لو قُدِّرَ أنَّه لم يحصل هذا؛ فجاز تعدُّد الأئمَّة، فيكون لكلِّ بلدٍ إمام، وهذا صرَّح به أهل العلم، بل حكوا الإجماع على جواز تعدُّد الأئمة، وأن أحكامهم نافذة، وأنه يُسمَع ويُطاع لهم في المعروف.
وهذا له دلالة تاريخيَّة، فبعد سقوط الدولة الأمويَّة في العراق، قامت الدولة العباسة -كما هو معلوم- ثم بعد أكثر من أربع سنوات قامت الدولة الأمويَّة في الأندلس على يد عبد عبد الرحمن بن هشام بن عبد الملك، المسمى بعبد الرحمن الداخل، والذي يُلقَّب بــ"صقر قريش"، فقامت الدولة الأموية في الأندلس، وصارت دولته من عام 138من الهجرة، ولم يقل أحد من أهل العلم أنه لا يجوز إلا طاعة إمام واحد وهو الإمام الخليفة العباسي، وحكى الاتفاق على هذا الشَّوكاني وغيره من أهل العلم، وقيل: إنه قبل زمان الإمام أحمد، وذكر الإمام أحمد الاتفاق على هذا. فهذه هي الجماعة المرادة، وهي المراد بقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَة، وَخَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، فَمَاتَ فَمِيتَتَهُ جَاهِلِية».
فهذه هي جماعة الأبدان، إذن إذا تولى الحاكم المسلم على جماعة فيلزم أهل تلك البلد السمع والطاعة له، ولا يُمكن أن تكون جماعة أبدان مسلمة إلا بإمامةٍ، كما هو مُقرَّرٌ وصرَّحَ به أهل العلم، ونُقل عن الصَّحابة، ولا إمامة إلا بسمعٍ وطاعةٍ.
فالخلاصة ممَّا تقدَّمَ: أنَّ النُّصوص تأمر بلزوم جماعة الدِّين تارةً، وتأمر تارةً بلزوم جماعة الأبدان، وقد يتحقق في الدَّولة المسلمة أن تكون هي جماعة الدِّين وجماعة الأبدان، فيجتمع فيها ذلك، ولا شكَّ أنَّ لزوم هذه الجماعة آكد، وقد يتخلَّف عنها هذا الوصف، فلله الأمر من قبل ومن بعد، والنَّاس في إقبال وإدبار لمثل هذه الأمور، وقد يتخلَّف عنها وصف جماعة الدِّين، كأن تكون الدولة على غير اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة، ومع ذلك يلزم رعيَّة تلك البلد السَّمع والطَّاعة في المعروف، ولا يجوز لهم الخروج على إمامهم -كما هو مُقرر عند أهل العلم.
كذلك من المسائل المهمَّة المتعلِّقة بهذه الآيات: لابدَّ أن يَعلم المسلم أنَّ السُّنَّة مُلازمة للجماعة، فتعرف أنَّ اجتماع الناس لا يكون إلا بالسُّنَّة، وأنَّ البدعة مُلازمة للفرقة، فإذا أردنا أن نجمع الناس؛ فعلينا أن نجمعهم على السنَّة والاعتقاد الصَّحيح؛ لأنَّ مَن خالف الاعتقاد الصَّحيح فهو مُفارق للجماعة، ولهذا لو نظرتَ في أحوال المسلمين وتتبَّعتَ تاريخ المسلمين؛ لوجدتَّ أنَّ الفُرقة مُلازمة لأهل البدعة.
يقول أبو قِلابة الجرمي -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- مِن فُقَهاء التَّابعين عن أهل الأهواء: "افترقت بهم الأهواء، واجتمعوا على السَّيف"؛ لماذا ؟
لأنَّ البدعة مُلازمة للفرقة، فلابدَّ كما أنَّهم فارقوا الاعتقاد الصَّحيح في دينهم، وفارقوا جماعة الدِّين، فحتمًا سيُفارقون جماعة الأبدان، كما قال الإمام أحمد: "مُفارقون للكتاب مخالفون للكتاب"، فالبدعة ملازمة للفرقة.
وهذه وصيَّةٌ لأهل الإيمان ولأهل الإسلام، ولحُكَّام المسلمين وعامَّتهم؛ أنَّهم إذا أرادوا الاجتماع فعليهم أن يجتمعوا على كتاب الله وعلى سُنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعلى فهم السَّلف الصَّالح؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ» .
إذن الافتراق مُلازم لأهل البدعة، ولو تتبعتَ تاريخ أهل البدع والفُرقة لوجدتَّ أنَّهم أهلَ خروجٍ بدءًا من الخوارج، ونهايةً بالمُرجئة، مع أنَّ المرجئة يقولون: "لا يضر مع الإيمان ذنب"، ومع ذلك فهم أهل سيفٍ؛ لأنَّ البدعة تتبعها الفرقة، فإذا أردنا أن نجمع الناس فعلينا أن نجمعهم على كتاب الله وسنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا ما يُميِّز هذه البلاد -وفَّقَ الله حكَّامها إلى كل خيرٍ- أنَّهم جمعوا النَّاس على كتابِ الله وعلى سُنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا يكون اجتماع إلا على هذين، وإلا فترك هذين الأصلين وعدم التَّحاكُم لهما سببٌ للفُرقَة ولانكسار الشَّوكَة -نسأل الله السَّلامة والعافية- ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ»، وهذا الحديث أخرجه أهل السُّنن بسندٍ صحيح.
ولم تتفرَّق الأمَّة في أبدانها إِلَّا لَمَّا تفرَّقت في العلميَّات، وَإِلَّا فما الذي أوجب للخوارج التَّفرق ومُنابذة أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بل ومقاتلة الصَّحابة؛ إِلَّا أنَّهم افترقوا عنهم في الاعتقاد، ولم يقع هذا في هذه الأمة الإسلامية فحسب؛ بل وقع في الأمم السَّابقة كما قصَّ الله تعالى علينا في مُحكَم كتابه، قال الله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [آل عمران: 19]، فقد يكون الافتراق بعد العلم، فالبغي في العِلم سببٌ من أسباب الافتراق، والآية تُبيِّن أنَّ الخلاف في العلميَّات أي: في الاعتقاد- أوجبَ تفرُّقَهم واختلافهم، ولا يزالون إلى يومنا هذا.
ومن هنا نعلم أنَّه لا يُمكن أن يجتمع النَّاس إلا على الاعتقاد الصَّحيح، وعلى التَّوحيد، وعلى ما وصَّى الله تعالى به نوحًا وما وصَّى به محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من إقامة الدِّينِ وإقامة التَّوحيد، ونبذ الشِّرك، والاعتقاد الصَّحيح في توحيده في ألوهيَّته وفي ربوبيَّته وفي أسمائه وصفاته، فلا يُمكن أن تجتمع الأمَّة على الشِّعارات وعلى الأيدلوجيا المصنوعة من قبل البشر، والتَّاريخ والواقع يشهدان بذلك، فإنَّ مصيرهم إلى الافتراق والاختلاف والمنابذة، وأما إذا اجتمعوا على الدين فإنَّهم وإن حصل خلاف بينهم؛ فإنهم ينزعون إلى الاجتماع، لأن أصولهم ومرجعيَّتهم واحدةٌ، وتحاكمهم إلى كتاب الله وإلى سنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهذا هي وصايا الأنبياء، ووصايا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأمَّتهِ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعن العِرباض بن سارية -رضي اللَّه عنه- قال: وَعَظَنَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَوعظةً بَليغَةً وَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رسولَ اللهِ، كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَا تَعْهَدُه إِلَينَا؟ فَقَال: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، وَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اختِلافًا كَثيرًا، فَعَليْكُمْ بسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بالنَّواجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ». رواه أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه.
وفي رواية له: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ...». ثم ذكره بمعناه)
}.
هذا الحديث البليغ العظيم تحته مسائل مُهمَّة، وهي مِن وَصايا النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التي ينبغي لكل مسلمٍ أن يحفظها وأن يعمل بها، وبخاصَّةٍ في زمن المتغيِّرات وزمن الفتن، فإنَّ لوزم وصايا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سببٌ للنَّجاة، نسأل الله أن يُوفقنا للتفقُّه والتَّعلم من هَديه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأن ينفعنا.
المسألة الأولى التي يحسنُ أن نبحثها: أنَّ في الحديث الإشارة إلى موعظة في قوله: (وَعَظَنَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَوعظةً بَليغَةً وَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ)، فدلَّ على أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يَعظهم.
ومن المهمِّ جدًّا أن نُبيِّنَ أنَّ مَواعظ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كانت مُوجزة وبليغة، ويُراعي فيها أحوال السَّامعين وقلوبَهم، قال عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- وهو من فُقهاء الصحابة: "كانَ يَتخَوَّلُنا بالموْعِظَةِ في الأيَّامِ؛ كراهِيَةَ السَّآمةِ عليْنا" ، فهذه وصية للدُّعاة ولأهل الخير؛ أنهم يتحيَّنون الأوقات المناسبة، وأن تكون الموعظة وجيزة، ولهذا فإنَّ عائشة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها- تقول: "كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ" ، وهذا يدلُّ على أنَّ الواعظ ومُعلم النَّاس الخير لابد له أن يحرص على أن يكون كلامه واضحًا وبيِّنًا ومُوجزًا وفَصيحًا يَفهمه النَّاس جميعًا، ولا يتنطَّع في حديثه.
وقول عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها: "أن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكُنْ يسرِدُ الحديثَ سرْدَكم" ، يدلُّ على أنَّ النَّاس بدأ فيهم التَّغيُّر على ما كان عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكانت -رَضِيَ اللهُ عَنْها- تُرشدهم إلى هذا.
ومن خصائص مَواعظ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومَن أراد أن ينتفع بها فهي مَوجودة، صحيح أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ماتَ؛ ولكن سنَّته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيَّة، فينتفع للإنسان بها ويسمعها ويتأملها ويتدبرها، فمن خصائصه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه أُعطيَ جوامع الكلم، فيتكلم بالكلام الوجيز البليغ العظيم النَّفع، ولهذا جاء في الحديث: «فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ» ، وهذا يدلك على أنَّ الموعظة من منهج الأنبياء والمرسلين، ومن منهج نبينا محمدٍ؛ والترغيب فيما عند الله -عزَّ وَجلَّ- والترهيب من عذاب الله -عزَّ وَجلَّ، فإنَّ الأصل في كلام الأنبياء هو الوعظ والبشارة والنذارة، قال تعالى: ﴿رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ [النساء: 165]، وقال -عزَّ وَجلَّ: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُوا شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنفُسِنَا ۖ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ﴾ [الأنعام: 130]، دلَّ على أنَّ الأنبياء يعظون أقوامهم.
قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدً﴾ [الأعراف: 164]، وقال -عزَّ وَجلَّ: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ [الغاشية: 21]، وقال -عزَّ وَجلَّ: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: 55]، وقال -عزَّ وَجلَّ: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 9]، وقال: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125].
إذن؛ الوعظ هو هَدي الأنبياء، وما أحوج النَّاس إلى الوعظِ والتَّذكير والتَّبشير والنِّذارة؛ فيكون الإنسان على وسطية من جهة البشارة، ومن جهة التنذير؛ لأن بعض الناس يُغلب جانب الوعيد ويترك جانب الوعد! بل إن الجمع بينهم أن يحذرهم من النار ويرغبهم في موعود الله -عزَّ وَجلَّ- بالجنَّة، فيبشرهم ويُنذرهم، كما هو هدي النبياء.
وهذا يستدعي منَّا سؤال: ما هي الموعظة؟ كيف لي أن أعظ الناس؟ وما هي أبلغ المواعظ؟ هل المواعظ بالقصص التي يتناقلها الناس، أو بالمؤثرات؟ أو بالألحان؟ أو بالسَّماع وما شاكل ذلك؟
أعظم موعظة في القرآن الكريم، فالله سمَّاه موعظة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 57]، فتأمل قول الله "موعظة" و"شفاء"، فهو شفاء لمراض القلوب، لأن القلوب تمرض كما أنَّ الأبدان تمرض، فلا علاج لها إلا بتدبُّر القرآن، وأن يعظ الإنسان نفسه، وأن يعظ المؤمن إخوانه بهذا القرآن العظيم، فكل موعظة لا تستند على كتاب الله وعلى سنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فنفعها ضعيف؛ لأنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- يقول لنبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق: 45]، فالأصل في الذكرى والوعظ هو التَّذكير بالقُرآن، وبقوارع التَّنزيل ليفهما الناس، فيُقبلُوا على ربِّهم، وينتهوا عمَّا حرَّمَ الله -عزَّ وَجلَّ.
قال الله -عزَّ وَجلَّ- في مواضع كثيرة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا...﴾، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ...﴾، كلها مواعظ ونداء من الله -عزَّ وَجلَّ- وهذا ابن مسعود يقول: "إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو﴾، فَأَرْعِهَا سَمْعَكَ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ يَأْمُرُ بِهِ، أَوْ شَرٌّ يَنْهَى عَنْهُ"
فالمطلوب من أهل الإيمان أن يتَّعظوا بما في القرآن من مواعظ، وأن يُحيوا قلوبهم، لأنَّ لا حياة لقلوب الناس إلا بالقرآن العظيم، فأثر القرآن عظيم، فما أحوج الأمَّة إلى مراجعة كلام الله -عزَّ وَجلَّ- وقراءة القرآن بالتَّدبُّر، فمن لا يتدبر القرآن يضعف انتفاعه به، والله خاطبَ وعاتبَ أهلَ الإيمان الذين لا تعظون بقوارع التَّنزيل، فقد سمَّاها العلماء "قوارع التَّنزيل"، قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الحديد: 16]، نسأل الله السلامة والعافية.
فإذن؛ الناس في زمنٍ شبكات التَّواصل، وزمن الانفتاح والفضائيات والمثيرات؛ ما أحوجهم إلى المواعظ، ولكن تُتَحيَّن الأوقات المناسبة، والأسلوب الطيب الحكيم، حتى يكون للإنسان أثر، والوعظ ليسَ حكرًا على فئةٍ مُعيَّنة، فالمطلوب التبليغ، والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» ، تبليغ الناس بالخير ودعوتهم إلى الخير، ووعظ الأبناء والبنات والأزواج بالمواعظ التي تنفع.
من خلاصة ما تقدَّم يتبيَّن لنا: أنَّ شرط الموعظة الحسنة التي توافق هدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو التَّخوُّل بها، لا تُكرَّر ولا يُطوَّل فيها؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما كان يُطيل خشية السآمة، مع أنَّ كلامه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعظم الكلام وأنفعه، ومع أنَّ الخطبة في الجمعة عبادة، ومع ذلك نهى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الإطالة، وأثنى الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على مَن لا يُطيل في خُطبة الجمعة فقال: «إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ»، كأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: الفقيه مَن لا يُطيل الخطبة، وهذه دعوة لكل خُطباء المسلمين، أن يُراعوا أحوال السَّامعين ولا يُطيلوا الخطبة، وليس ثَمَّ عذر، لأنَّ كلام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واضح وبيِّن، فلا يُطيل عليهم، وإن كانت الإطالة نسبيَّةٌ لكنَّها معلومة، فمن عرف معنى الإطالة وفهم وقرأ عمل بذلك، وإذا تجاوز الرُّبع ساعة أو الثلث ساعة فهو طول!
ومن لهم عناية بعلوم النَّفس يَقولون: العشر دقائق الأول في الحديث هي التي يكون فيها السَّامعين مُنصتين لك، ثُمَّ بعد ذلك ربما تجري بهم الهواجس!
ومنه توفيق الله -عزَّ وَجلَّ- لهذه البلاد ولأئمة الدَّعوة وتلاميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومَن سلكَ هذا المنهج أنَّهم جروا على عادةٍ طيِّبةٍ في تحديث النَّاس بعد صلاة العصر بحديثٍ أو بحديثين؛ فكل هذا من المواعظ؛ لأنَّ أعظم ما يُوعَظ النَّاس به هو كلام الله وكلام رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فيا عبد الله! إن أردتَّ الانتفاع وحياة القلب؛ فأقبل على كلام الله، وأقبل على كلام رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واستعن بكل ما يُفسِّر لك كلام الله، وكلام رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنَّ هذا هو سبب النَّجاة، وسبب حياة القلوب.
أسأل الله أن يوقفنا للعلم النافع، والعمل الصَّالح، وأن يُحيي قلوبنا، وأن يتوفانا مُسلمين غير خزايا ولا مفتونين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا مُحدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك