الدرس التاسع

فضيلة الشيخ د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

1398 12
الدرس التاسع

أصول الإيمان (2)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور فهد بن سعد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله يا شيخ عبد الرحمن.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من حديث أبي أمامة الباهلي في باب "التَّشديد في طلب العلم للمراء والجدال".
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعن أبي أمامة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مرفوعا: «ما ضَلَّ قومٌ بعدَ هُدًى كانوا عليهِ إلَّا أوتوا الجدَلَ» ثمَّ تَلَا قَولَه تعالى: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾. رواه أحمد والترمذي وابن ماجه)}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأشهد أنَّ لا غله إلَّا الله وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله، بلَّغَ البلاغَ المبينَ، وتركَ هذه الأمَّة على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزغُ عنها إلَّا هالكٌ.
وهذا الحديث من الوصايا النَّفيسَة لأمَّته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والحديث رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه، وإسناده حسنٌ من جهة الصِّناعة الحديثيَّة.
وهذا الحديث العظيم يُفيدُ طالبَ العلم ويبين أنَّ مقصود العلم هو الانتفاع، وليس المقصود من التَّعلُّم والتَّعليم هو المماراة والجدال، والظُّهور على الآخرين بعلوِّ العلم، ولهذا فإنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيَّنَ في هذا الحديث أنَّه ما ضلَّ قومٌ بعد هدًى، وهذا يجعل الإنسان في وجل وفي خوفٍ من الضَّلال، فإنَّ من أسباب الضَّلال للأمم السَّابقة بعدَ أن منحهم الله تعالى الهُدَى والنُّور والبيان؛ أنَّهم تسلَّطَ عليهم الشَّيطان بأن أوقع فيهم الجدال، ولهذا فإنَّ الجدل والمراء ليسا من صفات أهل الإسلام، ولا من أهل الإيمان؛ بل هو مَذموم، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا تَلا هذه الآية ذَكَرَ أنَّ من صفات المشركين وهذا في زمن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المجادلة والمخاصمَة لا لمعرفة الحق، ولكن لأجل المعارضة فقط، فهم لا يهدفون إلى التَّعلُّمِ ولا إلى معرفة الحق، والله تعالى عالمٌ بما في النُّفوس وبما في النِّيَّات، ولهذا كان منهم المجادلة في أمر عيسى بن مريم؛ لأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- أنزل قوله: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ [الأنبياء:98]، يعني: أنتم والذين تعبدونَ ، فــ "ما" هنا موصولة؛ فجادلَ أهلُ الشِّركِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالوا: عيسى بن مريم تعبده النَّصارى، فقد رضينا أن يكون مع معبوداتنا اللات والعزَّى في النَّار؛ جدالًا وخصامًا، وإلَّا فهم يَعرفون أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- اختصَّ عيسى بن مريم، ولم يأتِ عيسَى بأن يُعبَد، بل أتى بأن يُعبدَ الله وحده.
والمقصود أنَّهم فعلوا ذلك مجرد مُعارضة، فأنزل الله تعالى الاستثناء في ردِّ كلامهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ۖ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ﴾ [الأنبياء:101]، الآيات.
وهذا يُفيد طالب العلم أن يحذر من الجدال والمراء، وألا يكون ديدنه في طلبه للعلم وفي مجالسه المجادلة والمراءاة، ولهذا ينبغي أن يكون الحرص كل الحرص على التَّعلُّم والانتفاع، وإذا لحَظَ ممَّن يحصل بينه وبينهم الحوار أنَّه يُجادل؛ فعليه أن يُنبهه أنَّ مقصوده هو معرفة الحق ومعرفة الأمر على وجهه وليس المجادلة؛ لأنَّ المجادلة مذمومة كما ذكر الله -عزَّ وجلَّ- وهي داخلة في المراء.
ومن المسائل المتعلقة بهذا الحديث: أنَّه ينبغي أن يُفرَّق بين الجدل، فمنه ما هو محمود، ولكنَّه في نطاقٍ ضيِّق، ومنه ما هو مذموم.
أمَّا المذموم فهو كما تقدَّم: هو الذي يكون فيه تعالٍ على الخصم، كأن يُظهر في جداله تفوَّقَه العلميِّ على الآخرينَ، ولهذا فإنَّ بعض طلاب العلم قد يُثير مسألة من المسائل لأجل أنَّ عنده محفوظ فيها، والله -عزَّ وجلَّ- أعلم بالنِّيَّات، فينبغي للإنسان أن يحذر من هذا، ومن إبطال الشَّيطان لعمله، كذلك أن يسعَى في إبطال قول الخصم الذي يُجادله لمجدر تهوينه من الرَّأي ولإظهار أنَّه متعالٍ عليه في الفَهمِ والمعرفةِ؛ فكل هذا من الجدال المذموم.
أما الجدال المحمود فهو مُقيَّدٌ في النَّص الشَّرعي بأن يكون بالتي هي أحسن، وهو أمر الله -عزَّ وجلَّ- لأنَّ الإنسان قد يحتاج إلى الجدال، وهو الحوار والمناقشَة.
قال -عزَّ وجلَّ: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل:125]، يعني: اختَر في حواركَ معهم وفي مناقشتك لهم الطَّريقة الحُسنَى، وهي أن يكون من تحاوره يعلم منك، وتُظهر له أنَّ مرادكَ الوصول إلى الحق.
كذلك من الجدال المحمود: أن تحترم مَن تناقشه في مسألة أو تحاوره فيها، وألا تُسفِّهَ رأيه، وقد جاءت أخرى ولكنَّها تتعلق بأهل الكتاب، لأنَّ أهل الكتاب عندهم بقيَّةٌ من علم، قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [العنكبوت:46].
والجدال وسيلةٌ للوصول إلى الحقِّ، ويُحتَاجُ إليه، ولهذا قال الله -عزَّ وجلَّ- في مُحكَمِ كتابِهِ عن نبيه نوح: ﴿وا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَ﴾ [هود:32]، إذن الأنبياء يحتاجون إلى الجدال، ويحتاجون إلى المناظرة والمناقشة، وهذا وقع من أنبياءِ الله، وما وقع من نوحٍ وقع من إبراهيم في حواره مع ذاك الطَّاغية الذي أنزل الله -عزَّ وجلَّ- فيه آيات تُتلَى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة:258]، فهذا حوار وجدال، ولكن جدالٌ بالتي هي أحسن، وحصل بهذا الجدال والحوار ظهور الحقِّ عل الباطل، فهذا المدَّعي للربوبيَّة أحله نبي الله إبراهيم إلى سنَّةٍ كونيَّةٍ لا يستطيعُ أن يُغيِّرها، وأنَّ الشَّمس تطلع من المشرق ثم تغرب من المغرب، فقال: إن كان لك التَّصرُّف والتَّدبير فلتُغيِّر هذه السُّنَّة، فبُهِتَ الذي كفر، وهذا من أحسنِ ما يكون من الجدال.
إذن الجدل المذموم واقعٌ من الكفَّار بعدَ ظهور دلائل الإيمان، والله -عزَّ وجلَّ- أخبرَ عن أهل الشِّركِ أنَّهم في مجادلتهم مع النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنَّما يُخاصمون ويُجادلون، وإلَّا فإنَّ الله -عزَّ وجلَّ- أقام البراهين والدَّلائل على أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- هو المستحق للعبوديَّة، وهو المستحق لأن يُعبَدَ وحده، وعلى بطلان هذه الآلهة، وجادلهم النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالأدلَّة الشَّرعيَّة، وبالبراعين العقليَّة، وبالفطرَة السَّليمَة، وبواقعهم وحالهم -كما تقدم- في براهين الألوهيَّة.
وهذا يدعونا إلى ان نعرف أنَّ الجدال وسيلة من وسائل ظهور الحق، ولهذا قد يحتاج الإنسان لجدالٍ على المخالفين لأهل السُّنَّة والجماعة، وهم مَن يسميهم السلف بــ "أهل الأهواء"، وهذا الجدال مُقيَّد بأهل الأهواء بأن يكون المقصود منه ظهور الحق على الباطل، وأن يُحتَاج إليه، فقد يُحتاج إليه في زمنٍ دونَ زمنٍ، وأغلب ما نُقل عن السَّلف -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- النَّهي عن جدال هؤلاء؛ لأنَّ حقائق السُّنَّة وبراهين السُّنَّة لا تحتاج إلى جدال، فالحق واضحٌ وبيِّنٌ لمَن أراد أن يضربَه، ولأنَّ منهج التَّلقِّي عند أهل الأهواء يختلف عن منهج التَّلقِّي عند أهل السُّنَّة والجماعة، فإذن ما الفائدة المرجوة ممَّن يُخالفك في أصلك الذي أنت تدينُ الله -عزَّ وجلَّ- به!
فأهلُ السُّنَّة يدينون لله بأنَّ النَّقل حاكمٌ على العقل، وأهل الأهواء يدينون بأنَّ العقل حاكمٌ على النَّقل؛ فهذا اختلافٌ في منهج التَّلقِّي، وهذا الذي يجعل جُملة مِنَ السَّلف ينهونَ عن مجادلة أهل الأهواء، كما قال عمر بن عبد العزيز: "مَنْ جَعَلَ دِينَهُ غَرَضًا لِلْخُصُومَاتِ أَكْثَرَ التَّنَقُّلَ" .
وفي زماننا هذا تعلَّمنَا من مشايخنا ومن اهل العلم أنَّهم إذا دُعُوا إلى المناظرات والمجادلات لا يكون منهم هذا، وإنَّما الحق ظاهر، فإنَّما تحتاج إلى المناظرة في أوقاتٍ مُعيَّنَة ، وفي وقت غلبة الباطل على الحق؛ ولهذا فإنَّ الشيخ ابن باز -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- لَمَّا دُعيَ إلى مناظرة مع أحد من أهل الأهواء والبدع في زمانه امتنع لهذا الملحظ، فإنَّ السُّنَّة ظاهرة، والعقيدة ظاهرة، وبراهين التوحيد ظاهرة، فما الحاجة إلى المناظرة! هو يُريد أن يُظهر بدعته بهذه المناظرة، وإلَّا لو كان طالبًا للحقِّ فإنَّ الحق موجودٌ بحمد لله في الوحيين، في كتاب الله، وفي سنَّة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ ما الفائدة في أن تُناظِر شخصًا بينك وبينه فرقٌ في منهج التَّلقِّي، فهذا يَدين بمرجعيَّات مختلفَة عن مرجعيَّة أهل السُّنَّة، له مسندٌ خاصٌ به يُشكِّك في داواوين السُّنَّة، ويَقدح في أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما الفائدة من النِّقاش؟!
فليس ثَمَّ عودٌ إلى أصل يُمكن أن يُحتَكم إليه ويُرجع إليه، فما الفائدة من هذه المناظرات إذن؟!
ومن المسائل التي تتعلق بهذا الحديث: أن يُعلم أنَّ من الجدال المذموم ضربُ النُّصوص بعضها ببعضٍ، ولهذا فإنَّ الواجب رَد المتشابه من المسائل إلى المُحكَم.
وقد يكون الجدال من خلال هذا المضمون، وهو التعلُّق بالمشتبهات والإشكال فيها، ولهذا جاء النَّهي من النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن المجادلة في هذا، ولهذا خرج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهم يتنازعونَ في قراءات القرآن، وَتَعْلَم أنَّ القرآن أُنزل على سبعةِ أحرفٍ، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُقرئ أصحابَه على هذه السبعة، فكلٌّ يزعمُ أنَّه سَمِعَ من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكلٌّ يقرأُ على وجهٍ يُخالف الوجه الآخر، فغضب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا احتكموا إليه، وهذا يُلحَظُ في مسألة الجدال.
كذلك من الجدال: التَّنازُع في مسائل باب القضاء والقدر، فقد يُستدل بآية في القدر، ويستدل الآخر بآية أخرى، فهذا من الجدال، وقد حدث هذا في عهد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا الجدال، فخرج عليهم النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهم يَتَنَازعون في القدر، والتَّنازع مَبدؤه الاحتكام إلى النُّصوص؛ لأنهم صحابة -رضوان الله عليهم- يَعرفون أنَّ المرجعية في هذه الأمور إنما تكون للنصوص؛ فغضب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال: «أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ؟» ، وظهر في وجهه الغضب وجاء عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْنَتَيْهِ الرُّمَّانُ)، غضبًا.
والمطلوب هو التَّسليم، وترك هذا الجدال.
وقد تُدعَى إلى مجلسٍ أو يحصل حوار؛ فتلحظ مِن المخالف في مَسألة مُعيَّنةٍ المجادلة، وأنه ليس مُريدًا للحق، فالواجب على المؤمن عند هذا أن ينتهي عن الجدال، فإنَّ الجدال لا فائدة منه.
ونضرب لك بنصٍّ شرعي يدل على ذلك: حينما يُستدل -مثلًا- بشيءٍ قد كتبه الله -عزَّ وجلَّ- عليك، ويُستند إليه على أنَّه عذر لك في ترك ما أوجب الله عليك، أو في ترك سُنةٍ من السُّنن، أو في ترك فضيلةٍ مِنَ الفضائل، وهذا حدث في عهد النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقد طُرق النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فاطمة وعليًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- ليلًا، فقال: «أَلَا تُصَلِّيَانِ؟»، فقال علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَ)، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يأمرهم بقيام الليل ويحثهم عليه، وكلام علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في هذا الموضع جدلًا، لا شكَّ أنَّ الأنفس بيد الله -عزَّ وجلَّ- ولكن المطلوب هو فِعل السَّببِ في القيام، فلم يُناقشه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يُحاوره، وإنَّما انصرف -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين قال علي ذلك، وهذا أدب نبوي، فحينما تسمع مِنَ المخالف الاستدلال بمثل هذه الأمور أو غيرها، وأنه قد يحيد؛ لأنَّه ليس بمعصومٍ؛ ولأنَّ مِن طبيعة النفس أن تطلب العذر فيعتذر، وهذا الاعتذار غير مقبول.
قال علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْنَا ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهُوَ يَقُولُ: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلً﴾) . فمن طبيعة النفس طلب المعاذير.
ولهذا فإنَّ الإنسان ينبغي له أن يتنبَّه لمثل هذا، وهذا ما يُسَمَّ في عِلمِ النَّفس "الحيل النفسية"، وهي ثقافة التبرير، تبرير المعصية، تبرير التكاسل عن الطاعة، وأشياء كثيرة جدًّا ينبغي أن يحذرها المسلم؛ لأنَّ هذا مِن مَداخلِ الشيطان.
مِن الأدب النَّبوي أنَّكَ إذا عرفتَ أنَّ الشَّخص الذي تُحاوره يستدلّ عليك بمثل هذه الأمور فعليكَ الانتهاء؛ لأنَّ هذا أسلم، فكم مِن مجادلةٍ وحوارٍ أعقبهما الخصامٌ وتنافرُ القلوب، والسُّكوتُ يكون في ذلك الوقت هو الأولى.
{لعل الانصراف عن المجادلة يُربِّي نفس من يُجادِل أكثر من الدُّخول في المجادلة، كما حصلَ مع عليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ}.
صحيح، ولهذا نُقِلَ هذا عن علي وحُفِظَ، ورواه علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من باب تعليم الأمَّة؛ لأنَّ هذا مِن آداب النُّبوَّة، والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُمثل الأدبَ والخلُقَ الكريم، قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4].
وهذا الذي ينبغي للإنسان أن يتأسَّى فيه بالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبخاصَّة أنَّ النَّفس تُحب العلوَّ، فكون الإنسان يُضعِف أمرَ العلو في النَّفس فهذا شيءٌ عظيمٌ، وهذا من فضائل ومن كريم السَّجايا التي ينبغي للمسلم أن يتخلَّقَ بها؛ بل هي وعدٌ مِن الله -عزَّ وجلَّ- بالخير في الآخرة، قال تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص:83]، فهذا مَوعود الله -عزَّ وجلَّ- لك في الآخرة، وهو العلو على المخاصم والمُجادِل، فتسكت طلبًا لِمَا عندَ الله -عزَّ وجلَّ، ولهذا وردَ في الأثر: «أَنا زَعِيمٌ ببَيتٍ في ربَضِ الجنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّ» ، فقد يتحوَّل الجدال إلى مراء، والمراءُ مِن أنواعِ الجدالِ، فإذا تحوَّل الجدال إلى مِراء فإنَّ الأدبَ النَّبوي حينئذٍ الانتهاء، والانتهاء قد يكون فيه قطعٌ للخصام، فهذه أخلاق النبوَّة، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب:21]، نسأل الله أن يُوفقنا ويوفق جميع المسلمين إلى التَّأسِّي بالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي يُمثِّل الخلق الكريم.
{أحسن الله إليكم..
ذكرتم أنَّ جدال الأنبياء لقومهم مِن طرائق مَعرفة الحقِّ، وذكرتم أيضًا أنَّ الجدال من طرائق أهل الباطل؛ قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما ضَلَّ قومٌ بعدَ هُدًى كانوا عليهِ إلَّا أوتوا الجدَلَ» ، فكيف نُفرِّق بين جدالِ أهلِ الحقِّ وهم الأنبياء وأتباعهم، وبينَ جدالِ أهلِ الباطل؟}.
أهل السُّنَّة هم خُلاصَة أهل الإسلام، ويُمثِّلونَ الحقَّ لمَن أرادَ الحقَّ، ومرجعيَّتهم إلى هذه النُّصوص، وأمَّا أهل الأهواء فإنَّ الجرابَ الذي ينزعون إليه هو جرابُ الشُّبهاتِ والجدالِ والمناقشَة، ولهذا فهُم يُحبُّونَ أن يُظهِرُوا هذا الجدال؛ لأنَّ أهدافهم وأدبيَّاتهم تقوم على التَّشكيك، إمَّا التَّشكيك في أصلِ الإسلام، وهذا يفعله أهل النِّفاق، وإمَّا التَّشكيك في ثوابت أهل السُّنَّة والجماعة، ولهذا لا تجدهم إلَّا أنَّهم يَستهدفون دواوين السُّنَّة بالتَّشكيك، يَستهدفون القضايا التَّاريخيَّة بالتَّشكيك، يَنزعون إلى أحاديث مُعيَّنة للتَّشكيك، فهذا هو الجراب الذي يُشكِّكونَ به.
ومثال لذلك: تجد الآن أنَّ المناوئين لدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قديمًا وحديثًا ينظرون إلى مسائل مُعيَّنةٍ ويُحاولون أن يُثيروا الغبار عليها، دونَ المسلَّمات والقواعد والآثار والنَّتائج العظيمَة التي أثَّرَت في هذه الدَّعوة، فهذا ميدانٌ واسع، وبالتَّالي فالإنسان يعرف أنَّ منهج أهل السنَّة هو ترك الجدال، فالجدال يُحتاج إليه في مواضع وتقارير مُعيَّنَة وله آدابٌ، فالمطلوب هو البلاغ والتَّبيلغ وإظهار الحق، وفرقٌ بينَ الحوار والنِّقاش الذي يُرَادُ فيه ظهور الحق، وبينَ الجدال والمحاورَة التي هدف المتحاوِرَين فيها هُو المغالبة والمُخاصَمة -كما ذكرنا.
ولهذا نهى السَّلفُ عن هذا الجدال المذموم، كما ستأتي الأحاديث -إن شاء الله- بشيءٍ من ذلك.
{ثَمَّة أمرٍ يا شيخ!
بعضُ مَن يكون مُتحمِّسًا لنُصرَة الدِّين، ولا يكون عنده علم شرعي؛ يدخل بعض مواقع الشُّبهات بهدف المجادلة والذَّبِّ عن الدين؛ فهل هذا الأمر محمود؟}.
لا؛ هذا غيرُ محمودٍ، وهذا يُلجأ إليه في مَواضع مُعيَّنة.
ولهذا نقول: إنَّ الإنسان لابدَّ أن يستوعبَ اليقين الذي هو موجود، والاستكثار من اليقين أولى من الاستكثار من الشَّك، ولهذا قال عمر بن عبد العزيز: "مَنْ جَعَلَ دِينَهُ غَرَضًا لِلْخُصُومَاتِ أَكْثَرَ التَّنَقُّلَ".
ولو رجعنا إلى التَّاريخ نجد أنَّ مِن أسباب ضلال الجَهم بن صفوان أنَّه كان يُناظر طائفةً من الدُّهريَّة، ولو رجعتَ إلى رؤوس أهل الأهواء تجد أنَّ جملةً منهم إنَّما جاءهم الأمر من هذه الخصومات، فالإنسان يحتاج أن يستكثرَ مِن اليقين ومِن الوحي، وفي الوحي غُنية عن هذه الخصومات والمجادلات، ولهذا فإنَّ ثقافةَ الحوارات والمناقشات ثقافةٌ واردةٌ على أهل الإسلام وعلى أهل السُّنَّة، فأهلُ الأهواءِ لن ينزعونَ عن أهوائهم إلَّا مَن كان منهم مُريدًا للحقِّ وأراد الله هدايتَه، فينبغي ألَّا يُشغَل النَّاس بمثل هذه الحوارات؛ لأنَّ هذا ليس مِن طريقة السَّلف -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- في الجدالِ والخِصَام، فالمطلوبُ هو البلاغ والبيان، ومَن أراد الحق فهذا هو الحق، وإلَّا فإنَّ أهل الباطل لهم موانع، وأهل الكفر والطغيان لهم أسباب مُتعددة في الضَّلال، ولكن الحديثَ أشارَ إلى قضيةٍ؛ وهي أنَّ الجدالَ يقطعُ عن العمل، والمطلوبُ هو العمل وليسَ الجدال، والجدالُ يجعلك تنافح عن القضيَّة التي أنت تُجادل فيها فيقطعك عن العملِ، فدينك فيه واجبات وفضائل، فتنقطع عن هذا بالجدال والحوار، والدَّعوة بابها مفتوح، وأنتَ لستَ بحاجةٍ إلى أن تُجادل في أي قضيةٍ كقضية النَّصارى، وإنَّما عليك البيان والإيضاح، وما لم تعلمه من الجدال فإنَّك تتركه، والحقُّ له قبولٌ وله نورٌ يَقبله كلُّ مُريدٍ له، ودين الله ظاهر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قالت: قال رسول اللَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ»، متفق عليهِ)}.
هذا الحديث في الصَّحيحين.
ومعنى قوله: «الْأَلَدُّ»، أي: الأعوَج في الجدال، والذي يُراوغ عن الحقِّ.
وقوله: «الْخَصِمُ»، صفةٌ له، يعني: مُولَع بالخصومَة، وهذا في بيان أنَّ الله -سبحانه وتعالى- يُبغض هذه الصِّفَة في الرِّجال، وقد جاءت الأحاديث بالتَّحذير من الخصام والجدال.
والألد في خصومته غالبًا يَفْجُر في الخصومَة ويكذب، وهذا من صفات أهل النِّفاق، وقد جاء النَّهي عن هذا، وأنَّ الفجور في الخصومة من علامات النِّفاق، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ»، والمخاصمَة نوعٌ من أنواع الجدال، وأبغض الرِّجال إلى الله الألد في الخصام، وهذه صفة تحدُث في بعضِ الأشخاص، وعليه أن يُعالج نفسه.
فاللَّدود هو كثير الخصام والمناقشَة، ما ينفك عن المخاصمَة والمناقشة، كل شيء يُريد أن يُخالف به، وهذه من الأخلاق المذمومَة التي جَاء ذمُّها في النُّصوصِ الشَّرعيَّة، فمَن كانت فيه هذه الخصلة فعليه أن يُعالج نفسه، وقبيحٌ بالإنسان أن يكونَ خَصِمًا لدودًا، فالإسلام والأخلاق الكريمة تنهى عن المخاصمَة والمخالفَة والجدال ومحبَّة المخالفَة في كلِّ شيءٍ والمناقشَة في كل شيء، وسببها عِللُ النَّفس البشريَّة.
ومن المعالجة: أن يعرف أنَّها صِفةٌ مَذمومةٌ فيتخلَّص منها -نسأل الله السَّلامة والعافية.
{أحسن الله إليكم يا شيخ..
بعضهم يقول: انا أطالب بحقي؛ فهل تتنَافى المطالبة بالحقِّ في كلِّ شيء مع النَّهي عن الجدال؟}.
المطالبة بالحق مَطلوبة، ولكن بالتي هي أحسن، قال -عزَّ وجلَّ- في أهل الكهف: ﴿وَلْيَتَلَطَّفْ﴾ [الكهف:19]، فإذا طالبتَ بحقِّكَ فكن مُتلطِّفًا بالمطالبَة، وعليك بالألفاظ الحسَنة التي تستطيع أن تصل بها إلى الحق، فقد يكون لك حقٌّ ثابتٌ فتُطالب به بطريقة غَيرِ مَقبولة فيكون هذا من سوء الأدب.
وقد حدثنا الشيخ الصالح الأطرم -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- لَمَّا كنَّا ندرسُ عليه، أنَّ الشيخ محمد بن إبراهيم مُفتي الدِّيار -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وهو شيخٌ للشيخ صالح، يقول: إنَّ أحد القضاة جاء إليه في مَسجده، فقال: أنا يا شيخ ما ترقيتُ وأنا كذا وكذا...، وفلان ترقَّى، وفلان ترقَّى!
انظر إلى المشايخ كيف يُعلمون الآداب، وعِلمُ الأخلاق يُستفاد من الأشياخ والجلوس معهم؛ فقال الشَّيخ محمد: يا ولدي، طالب بحقِّكَ وما عليك من النَّاس.
وهذا أدبٌ في المطالبة، وفي المجادَلة والخِصام طالب بحقك، وما عليك من الناس، يعني هذا القاضي ذكر فلانً وفلانًا ليُثير مَن يُطالبه بحقه عليه، كأنَّه مظلوم، وكأنَّه يقول: أنت ظالمني، وأنت كذا...!
فأنت تُطالب بحقك بالتي هي أحسن، وتلطَّف في الخطاب، والله -عزَّ وجلَّ- أمرَ موسى وهارون بالتلطُّف، قال تعالى: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: 44]، فالقول اللَّين خُلقٌ ينبغي للإنسان أن يتخلَّق به، فيُجمِّل ألفاظَه، حتى في الخطابات التي يكتبها الموظَّفين فيما يتعلَّق بحقوقهم يجب عليهم أن يتلطَّفوا في عباراتهم، فأنت لا تعرف أثرَ اللفظِ في نفوس النَّاس، ولا تُقدِّر أثر الخطاب الجيِّد في نفسِ مَن يقرأه، فهذه آداب ينبغي للإنسان أن يتحلَّى بها.
وفي دوائر أهل السنَّة قد تكون فيه مسائل خلافيَّة، ويكون مثلًا الحق معك وثابتٌ بيقينٍ ولكنَّك ما تُحسِنُ إظهارَ الحقِّ بكونك تُسيء الأدب، فيظهر المخالف بأدبه عنك؛ لأنَّ النَّاسَ يُحبِّونَ الخير واللُّطف ويُحبُّونَ الأدب، ويُثنونَ عليهم بالأخلاق والأدب، وإذا ناقشتَ قضيَّةً فكُن كذلك، فكلُّ شخصٍ قال بقولٍ فله أتباع، وأمَّا الخروج عن مجالِ النِّقاش والكلامِ فلا.
ولهذا فإنَّ ممَّا ينبغي أن يعرفه دُعاة الحقِّ أنَّ إبطال الباطل في كثيرٍ من الأحوال لا يحتاج إلى تسميَّات، وفي قليل من الأحيان يحتاج إلى تسميات، والمطلوب هو إيضاح الحق وإبطال الباطل، وهذه طريقة تعلَّمناها مِن مشايخنا ومِن علمائنا، وهذا هو منهجُ أئمَّة الدَّعوة، ففي بعضِ المواضع يُسمَّى فلانٌ، وإلا ففي المواضع الأكثر تجد أنَّه يُحاول أن يبعد عن التَّسميَّات وما شَاكلَ ذلك، فلا تنتصب إلى الدِّفاع وبيان الحقِّ إلَّا وقد تخلَّقتَ بهذه الآداب وعرفتها، والتُّراث الإسلامي حافل بنماذج في الرُّدود والرَّد على المخالف، والرَّد على المخالف، وهو سِمَةُ الأدبِ والحوارِ بالتي هي الأحسن، والله -عزَّ وجلَّ- قال عن أهل الكتاب: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [العنكبوت: 46]، فما بالك بأهل الإسلام! فهم يحتاجون إلى الجدال بالتي هي أحسن.
والله -عزَّ وجلَّ- خاطب الناس جميعًا وليس للمسمين فقط، فقال: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنً﴾ [البقرة: 83]، وقال: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الإسراء: 53]، وهذا خطاب لأهل الإيمان أن يكون خطابهم بالتي هي أحسن.
{البعض يستشكل يا شيخ ويقول: بعضهم مُبتدع بدعة غليظة، كيف لا أسمِّيه، وكيف لا أزجر في الألفاظ؟!}.
المطلوب هو الأدب مع كلِّ النَّاس كائنًا مَن كان، وقد يُسمَّى المخالف ولكن في مواضع، بحسب ما يقوم به الشَّخص، وفي بعض الأحيان قد تكون التَّسمية ليس لها حاجة، وهذا ما يُسمُّونَه بالسِّياسة الشَّرعيَّة، والفقه الشَّرعي، فقد تكون التَّسمية ليس لها داعٍ؛ لأنَّ التَّسمية في بعضِ الأحيانِ ربَّما تُظهر البَاطل الذي عنده، فالأصل في خطاب المسلم وغير المسلم المخالف أن تكون بالتي هي أحسن، وليس بالزَّجر، ولا بمثل هذه الأمور، فهذا هو خطاب الشَّريعة، وهذه هي آثار النُّبوَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعن أبي وائلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِأَرْبَعٍ، دَخَلَ النَّارَ -أَوْ نَحْوَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ- لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ لِيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، أَوْ لِيَأْخُذَ بِهِ مِنْ الْأُمَرَاءِ". رواه الدَّارِمي)}.
هذا الأثر إسناده ضعيف عن عبد الله بن مسعود، وهو موقوف عن عبد الله بن مسعود، ولكن الشَّيخ ابن باز -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يقول عن هذا الأثر: "مَعْنَاهُ صحيحٌ".
وفيه مسألة مُهمَّةٌ جدًّا، وهي: أهمِّيَّة النِّيَّة الصَّالحة في طلبِ العلم، فقد ذكر عبد الله مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جملةً من النِّيَّات الفاسدة، أو جملةً من آفات طلبِ العلم:
الآفة الأولى: مُباهاة العلماء، أنَّه يُريد أن يُباهي بالعلم، وإنَّما ينبغي لطالب العلم أن لا يتعلَّم العلمَ على وجهِ التَّباهي والتَّفاخر.
الآفة الثَّانية: مماراة السُّفهاء، يعني: يتعلَّم هذا العلم لأجل الممارة، فيُماري ويُجادل ويُخاصم، ويظهر على مَن خالفَه، فهو تعلَّم لا لأجلِ أن يعملَ، ولا لأجلِ أن يرفعَ الجهلَ عن نفسِهِ، وإنَّما تعلَّم ليُماري، وهذا فيه المراء المذموم.
الآفة الثالثة: قوله: "أَوْ لِيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ"، يعني طلب العلو ويُشار إليه بالبنان ويُقال عالم، كما جاء في الحديث: «وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ إِنَّكَ عَالِمٌ وَقَدْ قِيلَ»، وفي الحديث: «وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ»، يعني: حظُّك مِنَ الدُّنيا قد حصلَ، ومع ذلك ما ينفعك هذا العلم.
الآفة الرابعة: قوله: "أَوْ لِيَأْخُذَ بِهِ مِنْ الْأُمَرَاءِ"، أي: لينال القُرْبَ منهم، وكلُّ هذه نيَّات فاسدة، وكم كان ذلك في الزَّمان السَّابق إلى أن تقومَ السَّاعة؛ قد يتعلَّم العلمَ لأجلِ أن يصِلَ إلى منزلةٍ معيَّنةٍ عند الأمراء، أو لينال حظة عند السَّلاطين؛ فكلُّ هذا العلم الذي طلبه وبالٌ عليه -نسأل الله السَّلامة والعَافية.
ولهذا ينبغي أن يُعلَم أنَّ العلم شرفٌ لا يُعادله شرفٌ لمَن صحَّت منه النِّيَّة، وتقدَّم أنَّ النِّيَّة الصَّالحة في العلم أن يَنويَ بالعلمِ أن يرفعَ الجهلَ عن نفسِه، وأن يتعلَّمَ ليعملَ، ويدعو إلى الحقِّ الذي تعلَّمَه، وهذا يحتاج من طالب العلم إلى تعاهدٍ، لأنَّه ربَّما لحقَه شيءٌ من الفساد؛ فلابدَّ من تجديد النِّيَّة والمجاهدَة على ذلك.
وخيرُ ما يُحصَّل به النِّيَّة الصَّالحة هو الدُّعاء؛ فإنَّ طلب ما عند الله -عزَّ وجلَّ- أن يورثه الإخلاص لا شكَّ أنَّه من أسباب توفيق العبد للعم النَّافع.
ونكتفي بهذا القدر، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك