الدرس الحادي عشر

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

4637 12
الدرس الحادي عشر

أصول الإيمان (1)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المُشاهدين الأَعِزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأُرحبُ بفضيلة الشَّيخ الدكتور: فهد بن سعد المقرن، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاك الله يا شيخ عبد الرحمن، ووفقنا الله وإيَّاك للعِلمَ النَّافع والعملَ الصَّالح.
{اللهم آمين.
سنبتدئ في هذه الحلقة -بإذن الله- من كتاب "أصول الإيمان" للشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- من عند حديث أبي الدرداء -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مرفوعًا: قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَافِيَةٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئًا، ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّ﴾». رواه البزار وابن أبي حاتمٍ والطبراني}.
أحسنت بار الله فيكم.
بسم الله، والحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسولِ الله، وبعد؛ فهذا الحديث حديثٌ عظيم، وهو حديث أبي الدرداء، وصحَّحه جمعٌ من الأئمَّة المتقدمين، وممّن صححه الإمام الهيثمي، وله شواهد كثيرة، وإسناده بمجموع طرقه لا شكَّ أنَّه حديث صحيح.
هذا الحديث مِن جوامع كلم النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسبق أن قلنا: إنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أوتيَ جَوامع الكَلِم، واختُصِرَ له الكلام اختصارًا، فكلام النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لو أرادَ أن يَعدُّه العادُّ لعدَّهُ، ولكنَّه مع ذلك فهو عظيم النَّفع والمعاني، وممَّا يُمثِّل به أهل العلم هذا الحديث، ولهذا فإنَّ هذا الحديث قال عنه أهل العلم: إنَّه من أصول الإسلام، وهو أصل تتفرَّع عليه قواعد كثيرة جدًّا، ولهذا قال السَّمعاني -رحمه الله تعالى: "إنَّ هذا الحديث أصل كبير من أصول الدِّينِ وفروعه"؛ لأنَّه يتضمَّن معانٍ وأحكامًا وقواعدَ كلَّها مَردُّها إلى هذا الحديث النَّبوي الكريم، فصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.
ولهذا فإنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له روايات، وهذه الرِّواية التي ذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى- وهي رواية أبي الدرداء، وثَمَّ روايات عن بعضِ الصَّحابة على غير هذه الرواية تختلف ألفاظها.
المقصود: هو معاني هذا الحديث العظيم.
ولهذا فإنَّ أبا الدرداء يقول: قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلالٌ».
الكتاب: يُراد به القرآن، والسُّنَّة النَّبويَّة، فيُراد بالكتاب في هذا الحديث: كتابه وكلامه ووحيه الذي هو القرآن، وسنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنَّها الوحي الثَّاني، ولأنَّ وجوبَ الطَّاعة للنَّبيِّ من دلالةِ الكتابِ، ولهذا قال عبد الله بن مسعود لما ذكر النَّامصة والمتنمِّصة -وهذا ورد في السُّنَّة- قال عبد الله بن مسعود وهو مِن أئمَّةِ الصَّحابة وعلمائِهم؛ قال: "وَمَا لِي أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ"، فهذه إشارة إلى هذا المعنى الذي ذكرته له. قال امرأة مستشكلة: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ!
قال: "لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ أَمَا قَرَأْتِ قول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُو﴾ [الحشر: 7]" ، رواه البخاري.
وفي قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذا الحديث: «مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ»، يعني: ما جاءَ حلالًا في القرآن، وما جاءَ حلالًا في سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
بمعنى آخر: ما دلَّت النُّصوص على أنَّه حلالٌ فهو حلالٌ، وما حرَّمت النُّصوص فهو حرام، وهذا الحديث يُبيِّن أنَّ المؤمنَ يكونُ وقَّافًا عند حدودِ الله في التَّحليل والتَّحريم، لأنَّ التَّحليل والتَّحريم ليس مِن شأنِ الخَلقِ، وإنَّما هو مِن أمرِ الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولهذا يقول الله تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمً﴾ [النساء: 65]، والذي أمرَ بتحكيمِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو الله -عَزَّ وَجَلَّ- وهذا دلالتُه ظاهرةٌ وبيِّنةٌ بحمد الله.
قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ»، وجاء في الحديث عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه قال: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ»، يعني أنَّ الشَّريعة وضَّحت ما هو حلال وما هو حرام وبيَّنته، فلا مزايدة على ذلك، ولا مكانة لأحدٍ أن يتقوَّل في الحلال والحرام، إذن ثَمَّ حلال وثَمَّ حرام، وهذا معلوم لأهل الإسلام جميعًا، ولهذا ثَمَّ من المسائل ما هو مُجمَع عليه في مسائل التحليل والتحريم، أن هذا حلال وذاك حرام.
ولهذا قال أهل العلم في مسائل التحليل والتحريم: "إذا استحلَّ ما هو معلوم من الدين بالضَّروةِ"؛ ورتَّبوا عليه أحكام شرعيَّة، ومنها الكفر
والاستحلال: هو أن يعتقد أنَّه حلال ويُصرِّح، كأن يعتقد أن الخمر حلال، فهذا باتِّفاق المسلمين أنَّه وقعَ في ناقضٍ من نواقض الإسلام. إذن هذا من جهة هذا التَّصوُّر واضح.
ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ»، أي واضحة النصوص.
ثم قال في الحديث الآخر: «وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ» ، يعني ثَمَّ أمورٌ قد تشتبه عليك. والواجب هو الاجتناب، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دع ما يُريبك إلى ما لا يُريبك» ، وقال: « الإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطْلُعَ عَلَيْهِ النَّاسُ » ، إلى غير ذلك من النصوص التي وضَّحت الموقف فيما يشتبه، ولكن الكلام فيما هو حلال وما هو حرام.
قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَافِيَةٌ»، ثَمَّ شيءٌ سَكَتَت النُّصوص عن الكلام فيه بالتَّحليل أو التَّحريم، ولهذا قعَّدوا لهذه الكلمة «وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَافِيَةٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ»، قاعدةٌ مصرَّحٌ فيها كالقواعد الفقهيَّة لابن رجب الحنبلي، ففيها قواعد مترتِّبة على هذا الحديث النَّبوي، وهو: المسكوت عنــــه.
من فروع هذا الأصل الشَّرعي: ما يُقرِّره أهلُ العلم وأهلُ الأصول بمصطلح "البراءة الأصليَّة"، يعني أنَّ الأصل خلوُّ الذِّمَّةِ من الحكم الشَّرعي فيما سُكِتَ عنه، ولهذا رتَّبوا عليه أمورًا شرعيَّة، فقالوا: إنَّ الأصل في المعاملات الإباحة، وكله باعتبارِ النَّظر إلى حديث النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَافِيَةٌ»، فالأصل في الأشياء هو الإباحة، والأصل هو براءة الذِّمَّة؛ وكلها على هذه القواعد الشَّرعيَّة، وحينما نقول إنَّ الأصلَ هو الحلُّ في أمور العادات والمعاملات؛ فمَن أراد أن يُحرِّم لابدَّ أن يأتي بالدَّليل مِن كلامِ الله ومِن كلامِ رَسُوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا يُقال من جهة الرأي.
كذلك مِن القواعد التي قد تُعتبَر من التَّفريعات، أو قرينة لهذه القاعدة "البراءة الأصليَّة" أنَّ الأصل في العبادات التَّوقيف، عملًا بقول النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث عائشة «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» .
إذن الأصل في العبادات: التَّوقيف، فليسَ لأحدٍ أن يخترِعَ عبادةً من عنده، أو يستحسن ذوقًا، أو يفعل شيئًا وينسبه إلى الشَّريعة إلا بدليل.
وكذلك ليسَ له أن يُحرِّم ما سكتت عنه الشَّريعة دونَ أن يُظهِر أنَّه حرام، فليس له أن يقول ذلك، ولهذا فإنَّ التَّحريم لا يُقال من جهة الرأي ولا من جهة الذَّوق، ولا من جهةِ الاستحسان؛ بل لابدَّ من الدليل والبرهان، قال تعالى: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: 111]، لأنَّ تحريم ما سُكتَ عنه يحتاج إلى دليل.
ولهذا فإنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- حرَّم القولَ عليه بغيرِ علمٍ، فالكلام فيما سُكِتَ عنه التَّحريم هو قولٌ على الله بغير علم، وهذا من كبائر الذُّنوب؛ بل هو قرين الشِّرك، لقول الله تعالى: ﴿وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 33]، ولهذا فلا يجوز للمسلم ولا للمسلمة أن يتكلَّموا في أمورِ التَّحريم دونَ دليلٍ، فلابدَّ من الدَّليل، وهذا مِن تعظيمِ النَّصّ الشَّرعي، وأنَّك تقف حيثُ أوقفَتْك النُّصوصُ.
وهذا لا يعني أنَّ الشَّريعةَ فيها أمورٌ فارغة، أو هنا أمور لم تُغطِّها الشَّريعة، فالشَّريعة الإسلاميَّة -بحمد الله- غطَّت كلَّ فروعِ المسائل الفقهيَّة، ولكن بدلالة النُّصوص، ولهذا فإنَّ بعض المفتونين يتقوَّل على الله -عَزَّ وَجَلَّ- بغير علم، ويخوضُ فيما ما لا يُحسِن؛ فيزعم أنَّ النَّصَّ الشَّرعيَّ يُنظَرُ فيه من جهةِ القَبولِ والرَّد، ولا شكَّ أنَّ هذا -والعياذ بالله- من الضَّلال!
يقول بعضهم: إنَّ النَّصَّ الشَّرعي لابدَّ أن تُنزَع عنه القَداسَة، ويخضع لقواعد النَّقد كغيره من النًّصوص"!
وهذا -نسأل الله السَّلامة والعافية- كلامٌ من بعض المفتونين والمتهوِّكين!
إذن يكون الإنسان عنده توازنٌ في كلِّ هذا، تعظيمُ النُّصوص الشَّرعيَّة، وتعظيمٌ في النَّفسِ أن يقول الإنسانُ عن شيءٍ أباحه الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنَّه حرام دون دليلٍ، فمن شِعار أهل الإسلام تعظيم النُّصوص، والوقوف عند حدود الله -عَزَّ وَجَلَّ.
المسألة الثَّانية: في دلالةِ النَّص السَّابق مِن قول النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا سَكَتَ عَنْهُ»، هذا يجرُّنا إلى مسألةٍ تكلَّم فيها أهلُ العلم، وهي: هل الله -عَزَّ وَجَلَّ- يُوصَف بالسُّكوت أخذًا بظَاهرِ هذا النَّص أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- سكتَ عن أشياء في حديث أبي ثعلبة الخُشني «وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ»؟
بعضُ أهلِ العلم يُطلِقُ القولَ بأنَّ الله كما يُوصَف بالكلامِ فهو يَسكتُ عن الكلام، بدلالة هذا الحديث.
وبعضُ أهلِ العلمِ يتوقَّف في نسبةِ السُّكوت إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- ويرى التَّعبير بما جاءت به عبارات السَّلف، وهو أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- يتكلَّم إذا شاء، أمَّا السُّكوت المذكور هنا فهو ليس السُّكوت عن الكلام، لأنَّه تارةً يُعبَّر بالسُّكوتِ عن الكلام، وتارةً يكون تعبيرًا عن السُّكوت عن إظهار الحُكم، وليس باعتبارِ أنَّه لم يتكلَّم فيه، وإنَّما لم يتعرَّض له.
فالظَّاهر من النَّص السَّابق هو عدم إظهار الحُكم، فقوله «وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ»، أي: لم يُظهر الحكم فيها، لا سكوتًا عن الكلام، وعليه فالأولى التَّوقُّف في وصف الله -عَزَّ وَجَلَّ- بهذا الوصف حتى يثبت النَّص الشَّرعي الخالي من المعارضة والاحتمال، فالأولى أن يُقال: إنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- يتكلَّم إذا شاء، وأرجو أن تكون المسألة من مسائل الاجتهاد.
قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ»، وهذا النَّص يُفهَم في سياق النُّصوص الأخرى، لأنَّ النُّصوص تُجمَع ولا تُفرَّق في دلالاتها، وقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا يتوافق مع قول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: 89]، فالقرآن تبيانٌ لكلِّ شيءٍ، وقال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: 44]، وقال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 38]، وقال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينً﴾ [المائدة: 3]، ومن هذه الدَّلالات النَّصيَّة الواضحة البيِّنَة -التي هي مِن دلالةِ المُحكَم وليست مِن دلالةِ المتشابه- نفهم أنَّه ليس في التَّشريع منطقةٌ فارغة، فالشَّريعة غطَّت كلَّ شيء، ولهذا اجتهد العلماء -رحمهم الله- بتفريع القواعد الشَّرعيَّة لضبطِ فروع المسائل، وإن كانت الفروع متَّسعة، ولكن في ضبطِ أصولهَا وفي تفريعاتها، ولهذا قعَّدوا قواعد عظيمَة عليها مدار الشَّريعة وأحكام الشَّريعة، سواء في باب المعاملات، أو في باب العبادات، أو في باب الأقضيَةِ التي تحكم بها المحاكم الشَّرعيَّة ويصير النَّاس إليها، مثل حديث «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»، مع أنَّه حديثٌ ضعيفٌ إلا أنَّه قاعدة مشهورة ومعروفة، فرتَّبوا عليه مسائلَ سدِّ الذَّرائعِ، ودلالةِ الموافقة، ودلالةِ الخالفة، ودلالةِ الاقتضاء، ودلالةِ الإيماء، والمصالحِ المرسلَة؛ وهذا الاجتهادُ وهذه التَّفريعات التي انبثقَت من النُّصوصِ ليست وليدة يوم وليلة؛ بل هذه الاجتهادات كانت في قرونٍ، وما زالَ أهل العلم في هذه المسائل ينقل بعضهم عن بعض، ويتَّفقون على الأخذِ بها.
إذن ليست الشَّريعة كلأٌ مباحٌ لكلِّ أحدٍ أن يتكلَّم فيها، ويتكلَّم في مسائل التَّحليل والتَّحريم بغير علم، ولذلك فالله -عَزَّ وَجَلَّ- أدَّب أهل الإسلام فقال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، وفي الحديث: «أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا ، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ» .
فالواجبُ على أهلِ الإسلام أن يرجعوا إلى أهل العلم، وهذا -بحمد الله- يشهد به القاصي والدَّاني من أهلِ الإسلام ومن غيرهم، أنَّ الإسلام صالحٌ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، وباب الاجتهاد عند العلماء بابٌ مفتوحٌ لم يُغلَق، فالاجتهاد في المسائل وفي الفرعيَّات وفي النَّوازل؛ ولكن هذا الاجتهاد لابدَّ أن يُضبَط بالنَّص الشَّرعي، ولا يكون مورد الاجتهاد الذَّوق، أو الخضوع لما يُسمَّى بضغط الواقع، فثَمَّ مسائل متَّفق عليها، ولهذا دائمًا في مسائل العلم يُنظر إلى مسائل الإجماع، فثَمَّ مسائل مُجمَع عليها بين أهل العلم، وهذه محلُّ اتِّفاقٍ ولا يجوز لأحدٍ أن يُخلَّ به، مسائل التَّحليل والتَّحريم ومسائل المعاملات؛ هناك مسائل كثيرة جدًا مُجمَع عليها، أمَّا أن يُستسلَم لضغطِ واقع النَّاس في جعلِ الشَّريعة تبعٌ لأذواقِ الناس وأهوائهم؛ فهذا من الغلط ومن الانحراف!
فالشريعة -بحمد الله- صالحة في بلادنا وفي غيرها؛ بل هذ صالحة لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، وهي تتوافق مع المتغيرات من الحوادث، فليس في الشريعة ضيق؛ بل فيها السَّعة، قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، وقال: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَ﴾ [البقرة: 286]، فالشَّريعة كلها -بحمد الله- ثابتة وواضحة، فعلى أهل الإسلام إذا أرادوا العزَّ والرِّفعَة أن يلتزموا هذه الشَّريعة، لأنَّ بها تجتمع القلوب، وبها تحصل العزَّة للإسلام، وقمع أهل الباطل، لأنَّ أهل النِّفاق في عهد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي أزمانٍ فيما بعد ذلك هم الذين يقولون هذه الكلمات السَّاقطة التي تتعلق بأحكام الشَّريعة، ولذا إذا جاء باب المناظرة والحِجاج في مسائل كثيرة؛ فدائمًا يقفُ أهلُ العلم على مسائل الإجماع، فتجد أنَّ أهلَ الباطلِ وأهلَ الفتنةِ والذين لا يُريدون أن يلتزموا بشرائع الإسلام؛ تجدهم أوَّل مَن يخرق إجماع المسلمين في المسائل.
وترى ذلك في مسائل كثيرةٍ جدًّا، تارةً في مسائلِ تحليلِ ما حرَّم الله -عَزَّ وَجَلَّ- ممَّا هو معلوم من الدِّين بالضَّروة، وما شاكلَ ذلك، فثَمَّ مسائل مُجمَع عليها، ولا أريدُ أن أُفصِّل في هذا حتى لا أُطيل؛ ولكن هذا يُفيد طالب العلم في الحِجاج والمناظرة مع هؤلاء، أنَّه دائمًا يُحيل إلى المسائل المُجمَع عليها.
ولهذا لو نظرتَ في مسائل كثيرة جدًّا بين فقهاء المذاهب الأحناف والشَّافعيَّة والمالكيَّة والحنابلة؛ تجد أنَّ صورَ الخلافِ قابلةٌ للأخذِ والرَّدِ والرأي والرأي الآخر، ولكن مسائل الإجماع متَّفق عليها، فمَا يجمع أهل الإسلام أكثر ممَّا يُفرقهم -يحمد الله- فلا تظنَّ أنَّه لو قيل إنَّ هذا حنلبيٌّ أو هذا شافعيٌّ أنَّهم مختلفون؛ بل هي مدارس، وهم -بحمد الله- يتفقَّهون، وعندهم تسليمٌ للنَّص الشَّرعي، وهذا منقول عن الإئمَّة، وهذا شيء يشهد به الواقع وتاريخ المسلمين، فما يجمعهم أكثر ممَّا يُفرِّقهم.
والحاصلُ والمطلوبُ: هو الخضوع للشَّريعة الإسلاميَّة، أمَّا مسائل النَّوازل وما شاكل ذلك فهي محلُّ اجتهادٍ؛ لكن لا يُتنازَل عن النُّصوص الشَّرعيَّة، ولا يُزال عنها، ولا كما يقولون أنَّ في الشَّريعة منطقة فارغة؛ بل إنَّ الشريعة قد غطَّت كلَّ شيءٍ، ولهذا فإنَّ المخالفين في الشَّريعة كما في باب الأقضية والقوانين تجد جزءًا من دساتيرهم التي يفتخرون بها مأخوذٌ عن الشَّريعة، ولا نبرِّر لهم هذه الدَّاستير لأنَّها أحكامٌ وضعيَّة، ولكن جزءًا كبيرًا جدًّا من الدَّساتير المعمول بها في بعض الدُّول الغير مسلمة تجده مأخوذٌ من كتب فقهاء المذاهب، وهذا يدلُّك على أنَّ الشَّريعة فيها غُنيَةٌ عظيمةٌ جدًّا.
وواجب على المسلمين حكَّامًا ومحكومين أن يلتزموا بشريعة الله -عَزَّ وَجَلَّ- ففيها كل خير للإسلام والمسلمين.
{قال -رحمه الله: (وعن ابن مسعود - رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَنْ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ، فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرَخَاةٌ، وَعِنْدَ رَأْسِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ : اسْتَقِيمُوا عَلَى الصِّرَاطِ وَلَا تَعْوَجُّوا، وَفَوْقَ ذَلِكَ دَاعٍ يَدْعُو، كُلَّمَا هَمَّ عَبْدٌ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ قَالَ : وَيْحَكَ ! لَا تَفْتَحْهُ ; فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ». ثُمَّ فَسَّرَهُ فَأَخْبَرَ : "أَنَّ الصِّرَاطَ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَأَنَّ الْأَبْوَابَ الْمُفَتَّحَةَ مَحَارِمُ اللَّهِ، وَأَنَّ السُّتُورَ الْمُرَخَاةَ حُدُودُ اللَّهِ، وَأَنَّ الدَّاعِيَ عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ هُوَ الْقُرْآنُ، وَأَنَّ الدَّاعِيَ مِنْ فَوْقِهِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ ". رَوَاهُ رَزِينٌ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ والترمذي عن النواس بن سمعان بِنحوه)}.
حديث عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرضَاه- من الأمثال النَّبويَّة، وهو من الأسَاليب النَّبويَّة المؤثِّرة التي كانَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يستخدمها في تعليم أصحابه -رضوان الله عليهم- وهي تُقرِّب المعقول في صورةِ المحسوس لتعزيزِ الخيرِ والتَّنفيرِ من الشَّرِّ.
وضربُ الأمثال من أساليبِ العربِ التي يُعرَفونَ بها، ولكنَّها ممَّن أوتي جوامع الكلم -عليه الصَّلاة والسَّلام- أبلغ وأوجز وأنفع، ولهذا فإنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمً»، الصراط المستقيم هو الذي يسأله المؤمنُ ربَّه في كلِّ ركعة من ركعاتِ الصَّلاة، ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: 6].
وتعدَّت أقوال أهل العلم في تعريف وبيان ما هو الصراط المستقيم:
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى: "والقول الجامع في تفسيره: هو الطريق الذي نصبه الله لعباده على ألسنةِ رسله، وجعله موصلًا إليه، وهو إفراده بالعبوية، وهو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله".
ولو اطلعتَ على كتب التَّفاسير لوجدَّتهم يُفسِّرون الصِّراط المستقيم بتفاسيرٍ متعدَّدة -لا أقوال مختلفة- ولكن متعدِّدة، فتارة يقولون: إنَّ الصِّراط المستقيم هو القرآن. وتارة يقولون: هو الإسلام. وينقلون عن أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويذكرون أشياء كثيرة جدًّا.
وهذه التَّفاسير لا تحسبها من الاختلاف الذي يُفهم منه التَّاد، ولكن هي من اختلافِ التَّنوُّع.
والمراد باختلاف التَّنوُّع: هو تفسير الشَّيء بجزء من معنها لا بكلِّهِ، فالصَّراط المستقيم هو: القرآن، والرَّسول، والإسلام، والجماعة، وما شاكلَ ذلك، وكلُّها تجتمع على هذا الصِّراط المستقيم، وهو الالتزام بامرِ الله، وأمرِ رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي يسأله المؤمن في كلِّ ركعةس من ركعاته، فيسأل ربَّه أن يهديه الصراط المستقيم.
إذن تفسير الصِّراط المستقيم بالهِدَاية من جهة الدَّلالة والإرشاد، فقد هدانا الله -عَزَّ وَجَلَّ- إلى الصِّراط المستقيم، مِن جهةِ أن دلَّنا على أسباب الهداية ووضَّح معالمها، فليس في هذا المعنى التباس، فمن التزم الإسلام، والتزم القرآن، والتزم النَّص، والتزم إجماع أهل العلم، والتزم فهم السَّلف فقد عرفه من جهة دلالة الإرشاد، فأرشده الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ» ، وذلك من جهة دلالة الإرشاد، ولكن من جهة دلالة التَّوفيق فهذه من الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولهذا يسأل المؤمن ربَّه هذه الهداية حينما يقول ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ فيسأل ربه دلالة التَّوفيق والإلهام لهذا الصَّراط المستقيم، لأنَّه لا يُنَال بالأسبابِ، وإنَّما هو إمدادٌ من الله -عَزَّ وَجَلَّ- وإعانة وتوفيق.وفي استفتاح النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لصلاة الليل كان يدعو بهذا الدُّعاء: «اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ ، وَمِيكَائِيلَ ، وَإِسْرَافِيلَ ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» ، وهذا مِن أجزاء الهِدَاية التي يسألها المسلم ربَّه، لأنَّه ثَمَّ اختلافٌ، وثَمَّ فتنٌ، وثَمَّ معضلاتٌ، أمورٌ سيمرُّ النَّاس بها، فلا موفَّقَ إلا مَن وفَّقه الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولا مَهدي إلا مَن هداه الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- عن هذه الهداية: ﴿إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء﴾ [القصص: 56]، نسأل الله لنا ولكم وللإخوة المشاهدين والمشاهدات أن يهدينا الصراط المستقيم.
إذن هذا أمر مهم جدًّا لابد أن على ذُكرٍ من أهل الإيمان.
ثم قال: «وَعَنْ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ»، إذن ثَمَّ صِراطٌ وهو مستقيم، لا اعوجاج فيه.
يقول علماء الهيئة: إنَّ أقرب الطُّرق للوصول هو الطَّريق المستقيم بين نقطتين.
قال: «وَعَنْ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ»، يعني على الجانب الأيمن والأيسر لهذا الصراط «سُورَانِ»، السُّور: هو الذي يحولُ بينَ الشَّيء وبين رؤية الناس له.
قال: «فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ»، إذن ثَمَّ سورٌ على اليمين، وثَمَّ سورٌ على اليَسار، وعلى هذا السُّور أبواب، وهذه الأبواب موصوفة بأنَّها مُفتَّحة، السور الأيمن عليه أبواب، والسُّور الأيسر عليه أبواب مفتَّحة، وهذه الأبواب لا تحولُ بينكَ وبينه، يعني ثَمَّ فتحةٌ للباب، ولكن هذا الجزء المفتوح لا كالأبواب التي يوصَد عليها الأبواب، وإنَّما عليها ستور، والآن -كما تعرفون- أنَّه ربما تكون فتحة الباب عليها باب، وأحيانًا يكون عليها ستار.
إذن هذه الأبواب لا تحول بينك وبينه إلا ستور مرخاة عليها، فأنت لا ترى ما خلف هذه الأبواب، وهذا من تمثيل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن أبلغ ما يكون وصف الشيء.
قال: «وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرَخَاةٌ، وَعِنْدَ رَأْسِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ : اسْتَقِيمُوا عَلَى الصِّرَاطِ وَلَا تَعْوَجُّو»، يعني لا تميلوا يمينًا ولا شمالًا، لأنَّ الاعوجاج هو الميل عن هذه الأبواب، وجاء في بعض الأحاديث «على كل باب داعٍ يدعو إليه»، أي: شيطان يدعو إليه، والرِّويات تُجمَع، فالشَّيطان يُسوِّقُ لهذا السِّتر.
قال: «وَفَوْقَ ذَلِكَ دَاعٍ يَدْعُو، كُلَّمَا هَمَّ عَبْدٌ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ»، فمن طبيعة الإنسان أنَّه يتشوَّف لما هو مخفي.
إذن ثَمَّ بابٌ وعليه سِترٌ، فتدفعه نفسه إلى أن يرى ما خلفَ هذا السِّتر، فهذا من دقَّة المثل النَّبوي، قال: «كُلَّمَا هَمَّ عَبْدٌ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ»، ثَمَّ همٌّ وتشوُّفٌ لدى الناس، وفي بعض الروايات «على كل باب شيطان يدعو إليه، هلموا...» ، أي: ادخل فيه، ويُزيِّنه لك أن تدخل، وهذا اعوجاج عن الصِّراط المستقيم.
قال: «كُلَّمَا هَمَّ عَبْدٌ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ. قَالَ : وَيْحَكَ ! لَا تَفْتَحْهُ ; فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ»، تلجْه: أي تدخل فيه، ولهذا فإنَّ الباطلَ مزيَّنٌ بأشياء، فإذا فتحت السِتر دخلتَ، وكما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ» ، فالقرب من هذه الأماكن ربَّما أوقعك.
قال: (ثُمَّ فَسَّرَهُ فَأَخْبَرَ)، بعد هذا المثال البليغ فسَّر ابن مسعود هذه المفردات.
قال: (أَنَّ الصِّرَاطَ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَأَنَّ الْأَبْوَابَ الْمُفَتَّحَةَ مَحَارِمُ اللَّهِ)، المقصود بمحارم الله: هي كل ما حرم الله -عَزَّ وَجَلَّ، فكل هذه السُّتور المرخاة على الأبواب هي كل ما حرم الله من الصَّغائر والكبائر، ولابدَّ للكبائر من توبة، وأمَّا الصَّغائر فإنَّها تكفِّرها الجسنات الماحية، والصلوات الخمس كما قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ [هود: 114].
إذن محارم الله هي: الأبواب.
قال: (وَأَنَّ السُّتُورَ الْمُرَخَاةَ حُدُودُ اللَّهِ)، يعني ما حدَّه الله -عَزَّ وَجَلَّ- ألا تتجاوزه، فهَتكُكَ للسِّتر يُعدُّ تجاوزًا منكَ لِما حدَّه الله -عَزَّ وَجَلَّ، فقد تجاوزت من منطقة الحلال إلى منطقة الحرام.
قال: (وَأَنَّ الدَّاعِيَ عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ هُوَ الْقُرْآنُ)، لأنَّ القرآن وما جاء فيه هو الذي يُبنَى عليه مسائل التَّحليل والتَّحريم.
إذن هذه أمور عظيمة جدًّا يمرُّ بها الإنسان، وهذا يدلُّ على أنَّ سلولكك لهذا الصِّراط المستقيم، والتزامك بالقرآن والوحي هو التزامك لهذا الدَّاعي، ولهذا أوصاك الله -عَزَّ وَجَلَّ- به في نصوص كثيرة، قال الله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُو﴾ [آل عمران: 103].
قال: (وَأَنَّ الدَّاعِيَ مِنْ فَوْقِهِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ).
إذن ثَم داعٍ على الصِّراطِ وثَمَّ واعظٌ، والفِطرة السَّليمة التي فطرَ اللهُ الناسَ عليها من محبَّة الخير وغرس الإيمان في قلب المؤمن. والنفس اللوامة، قال تعالى: ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ [القيامة: 2].
قوله: (وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ)، هو واعظ الخير وهو الذي يعظك ألا تلج هذه السُّتور التي زُيِّنَت لك، وأنَّك إذا وجلتها دخلتها -نسأل الله السَّلامة والعافية.
وطبعًا هذه المحارم تشمل ما حرَّمه الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ويشمل الوقوع في الفتن، لأنَّها هتكٌ لتلك السُّتور، والإنسان لابدَّ أن يمرَّ على هذه الأحوال التي أخبر بها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذه من المواعظ العظيمة التي وعظها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بها أهل الإيمان، فلابدَّ من الثبات على الصراط المستقيم، ولزوم هذا الثبات إنما يكون بعمل الصالحات، وبسؤال الله -عَزَّ وَجَلَّ- الثبات، ولا تثبيت إلا مَن ثبَّته الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولهذا فينبغي لنا أن نُكر من دعاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة -نسأل الله السلامة والعافية.
{شيخ أحسن الله إليكم...
قد يبدو للإنسان سؤال: إذا كان الصراط المستقيم هو الإسلام، وإذا كان المسلم يدعو الله -عَزَّ وَجَلَّ- في قراءة سورة الفاتحة ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ وهو مسلم، فكيف يتفق المعنى؟}.
بارك الله فيك.
لأنَّ الهداية لها أصلٌ ولها زيادة، فأنتَ مهديّ من جهة أنكَ لزمتَ طريقَ الإسلام، فأنت تسأل الله المزيد من الهداية، قال تعالى: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: 137]، وقال: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمد: 17]، فأنتَ تسأل الله المزيدَ، والإيمان لا يزال يزيد وينقص، وهذا من قواعد أهل السنَّة، وتسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- مزيدًا من الهداية لأنَّ الهداية مراتب وأحوال، فثَمَّ هداية كاملة وثَمَّ هداية ناقصة، ومع هذا السؤال تسأل ربَّك الثبات على الصراط المستقيم، فأنت تتصوَّر في سؤال ربَّكَ الهداية أن يزيدك الله منها، وأن يثبتك عليها، لأنَّ الحي لا تؤمَن عليه الفتنة، وأنت تعرف - يا عبد الله ويا أمة الله- أن الإنسان ما دامت نفسه وروحه في جسده فإنه معرضٌ للفتن، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 2]، زيَّن الله -عَزَّ وَجَلَّ- هذه الفتن ليعلم الله مَن يخافه بالغيب، وليعلم الله الصَّادق من الكاذب، وهو عالم -سُبْحَانَه وَتَعَالَى- ولكن ظهور علمه -عَزَّ وَجَلَّ- لا يكون إلا بهذا، لأنَّ كلٌّ يدَّعي الإيمان، ولكن يظهر جوهر الإيمان وأصله بالثبات على الإسلام والاستقامة، ولا يزال الإنسان يُفتَن بفتنٍ كثيرة جدّصا، في بيته، في أهله، في ولده، في علاقاته؛ فلا يزال يُفتَن، ولهذا أمرك الله -عَزَّ وَجَلَّ- بهذا الدعاء العظيم، وهو دعاء الفاتحة ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، فلا تزال تسأل ربك الهداية، اللهم اهدني فيمن هديت، اللهم وفقني إلى الهداية، اللهم اهدني إلى الصراط المستقيم، اللهم جنبني الفتن، وهكذا..، فكل مسلم يستلزم بهذا.
{قال -رحمه الله: (تَلَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 7]، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ»)}.
هذا الحديث العظيم عن أم المؤمنين عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَلَا هذه الآية من سورة آل عمران، وهي من أصول الإسلام في بيان ما قامت عليه الشَّريعة.
يقول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ﴾، أي: أنزل الله على محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: ﴿الْكِتَابَ﴾، هو: الوحي، الوحي من كلامه -سُبْحَانَه وَتَعَالَى- والوحي الآخر من سُنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والوحي منه ما هو محكمٌ ومنه ما هو متشابهٌ، قال: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾، يعني: أنَّ القرآن منه آيات محكمات.
قال: ﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾، يعني: هي أصل الكتاب، وأصل الكتاب قد بانَ بالمحكمات، وبعض أهل العلم يقول: أصول الشَّريعة وقواعد الشَّريعة الكبرى وأركان الإسلام وما يتعلق بذلك هو واضح وبيِّنٌ بالمحكمات، فأغلب ما في النًّصوص هو المحكم.
قال: ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾، يعني بعض الآيات متشابهات.
إذن ثَمَّ مُحكَم وثَمَّ متشابه، ولهذا قال أهل العلم: أجمَعُ ما يُقال في تعريف المُحكَم: هو"البيِّنُ الواضح الذي لا يلتبِس"، وهو الغالب في النُّصوص، وهو أصل الكتاب.
والمتشابه: هو الذي يشتبه أمره على بعض النَّاس دون بعض، أو ما لا يُعلَم معناهُ، ومن المتاشبه ما لا يعلمه إلا الله -عَزَّ وَجَلَّ:
ويُمكن أن يُقال: إنَّ المتشابه:
- متشابه حقيقيّ.
- متشابه نسبي.
الحقيقي: مثل كيفيَّة صفات الرَّب -سُبْحَانَه وَتَعَالَى- قال تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، قال الإمام مالك للسائل: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول"، فكيفيَّة أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- هذا من المتشابه، وممَّا استأثر الله تعالى به، فكيفيَّة اتِّصاف الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالصِّفات فهذا من المتشابه.
والنِّسبي: يعني يختلف من شخصٍ إلى شخص، فقد يشتبه عليك نصٌّ ولا يشتبه على غيرك، يشتبه على هذا العالم ولا يشتبه على غيره، فلانٌ دونَ فلان، هذا يراه أنَّه من المُحكم الواضح البيِّن، وهذاك مشتبهٌ عليه.
قال: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾، إذن ثَمَّ مُحكمٌ وثَمَّ متشابه متَّفق عليه، وهذا لا يخصُّ القرآنَ ولا السنَّةَ فقط؛ بل المحكم والمتشابه يكون دونَ دلالةِ الكتاب والسُّنَّة؛ بل بكلام أهلِ العلم قد يكون هناك محكم وهناك متشابه، بل كلام النَّاس أيضًا يحصل فيه المحكم والمتشابه، ولهذا تحصل الخصومة في المتشابه من الكلام، يعني أنتَ أردَّتَ بهذا الكلام كذا -لأنَّه مشتبه وحمَّال أوجه- وذاك أراد كذا...، وهذا يحصل، حتى يكون الإنسان على ذُكْرٍ من هذا وفهمًا له.
إذن القرآن فيه محكَمٌ ومتشابه، والسُّنَّة كذلك، قال تعالى: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾.
الآن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يُصنِّف موقف الناس من المُحكَم والمتشابه، فقال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾. يعني لا يذهبون إلى المُحكَم، بل يذهبون إلى المتشابه، ولهذا فإنَّ عمدَة أهل الضَّلالة ودعاه قديمًا وحديثًا أنَّهم لا يذهبون للمحكم، ولا يستدلون به؛ إنَّما يستدلون بالمتشابه لضربِ أصولِ الإسلام وقواعد الإسلام الكبرى، وهذا ليسَ في مسألة واحدة؛ بل في مسائل متعدِّدة، وبه يَبينُ لك ما يُريد الحق ومَن يُريد الزَّيغ، لأنَّ ليسَ كلُّ داعٍ للضَّلالِ يقول أنا داعٍ للضَّلال أو رافضٌ لأحكام الشَّريعة! هو يريد أن ينقض أحكام الشَّريعة ببعض دلالات المتشابه! فعمدتهم المتشابه، لأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- لم يُرد بهم الهداية ولا الخير، فجعل أنظاهم لا تنصرف إلا إلى المتشابه، ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ».
قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾.
يقول أهل العلم: الزَّيغ هو الميل، والضَّلال، والشَّكُّ، وقل ما شئتَ عن الزَّيغِ في تفاسير أهل العلم، فهؤلاء في قلوبهم مرض.
وإنَّما ضلَّت الخوارج باتِّباع المتشابه من النُّصوص، يقول السّلف -رحمهم الله: "إنما أتوا من العُجمَة". والعُجْمَة ليست بمعنى أنَّهم ليسوا بعرب؛ ولكنم لا يفهمون دلالات النُّصوص، وأعرضوا عن فهم الصَّحابة والتَّابعين، فوقعوا في الزَّيغ، لأنَّ الله يعلم ما في القلوب.
قال تعالى: ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ﴾، فمرادهم الفتنة. وجاء في بعض التَّفاسير: إردة الشِّرك أو إرادة الإضرار بأهل الإسلام، أو ما شاكل ذلك.
وتارة يكون اتِّباعهم ابتغاء تأويله، يعني ابتغاء معرفة المتشابه، ومعرفة المتشابه لا يكون بالنَّظر إليه، وإنَّما بردِّه إلى المُحكَم.
{يعني يكون موقف طالب العلم وطالب الحق أن يرد المتاشبه إلى المحكم}
نعم، يكون كذلك.
وليس هذا في مسألة واحدة، ولكن في أبواب العلم كلها، وتذكر لمَّا تكلَّمنا عن باب القدر قلنا: إنَّ المُحَكم فيه أنَّ الله حَكَمٌ عدلٌ لا يظلم؛ مسائل يعقد الإنسانُ قلبَه عليها، حتى إذا استشكل عليه النَّصُّ فإنَّه يردُّه إلى المُحكَم، والمحكم يكون في جميع أصول العلم، كأصول الفقه، وغيرها، فلو جئتَ مثلًا في كتاب الطَّهارة؛ تجد أنَّ فيه مسائل محكمَة، فإذا اشتبهت عليك المسائل تردَّها إلى المُحكَم وتلزمه، فهذه طريقة أهل العلم.
فطريقة السلف -رحمهم الله- أنَّهم يُعلِّمونَ النَّاسَ بصغار العلم قبل كباره، والله -عَزَّ وَجَلَّ- قال: ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ [آل عمران: 79]، جاء في تفسير "الرَّباني" عن ابن عباس وغيره: أنَّه هو الذي يُربِّي النَّاس بصغار العلم قبل كباره.
صِغارُ العلم: هو تعليمهم المحكمات، وليس تعليمهم المتشابه، فإذا جئتَ تُقرِّر مسألة ما تقول إنَّ المسألة فيها خلاف؛ بل تُقعِّد لهم القواعد، حتى إذا استقرَّت نفوسهم على ذلك استطاعوا أن يلجوا في المسائل المختلف فيها.

ولعلَّ -إن شاء الله- في الحلقة المقبلة نكملُ فروعَ مسائلِ طريقة أهل الأهواء في مسألة اتِّباع المتشابه.
{جزاك الله خيرًا يا شيخ.
وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ اللهَ أن يجعلَ ذلك في موازينِ حَسَناتِكُم، هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر.
إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمةٍ، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك