الدرس الخامس

فضيلة الشيخ د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

2585 12
الدرس الخامس

أصول الإيمان (1)

بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أُرحبُ بكم إخواني وأخواتي المُشاهدين الأَعِزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقاتِ البناءِ العلميِّ، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ سعد بن فهد المقرن. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله يا شيخ.
{في الحلقة الماضية شَرَعنَا في بابِ قول الله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الزمر: 67]، ولم يَتَسَنَّ لنا التَّعليق على مسائلِ الباب، ولعلنا في هذه الحلقة نقرأ هذا الباب.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (بَابُ قَوْلِ اللّه تَعَالَى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر: 67].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، سَمعتُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُول: «يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟».
ولَهُ عَن ابنِ عمر -رَضِيَ اللَّهُ عنهما- عن رسول اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عليه وسَلَّم- قال: «يَقْبِضُ اللَّهَ الأَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ».
وفِي رِوَايةٍ عَنْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ هَكَذَا بِيَدِهِ وَيُحَرِّكُهَا يُقْبِلُ بِهَا وَيُدْبِرُ يُمَجِّدُ الرَّبُّ نَفْسَهُ أَنَا الْجَبَّارُ أَنَا الْمُتَكَبِّرُ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْعَزِيزُ أَنَا الْكَرِيمُ فَرَجَفَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمِنْبَرُ حَتَّى قُلْنَا: لَيَخِرَّنَّ بِهِ" رواه أحمد.
ورواه مسلم عن عبيد الله بن مقسم، أنه نظر إلى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- كيف يحكي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «يَأْخُذُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- سَمَاوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ بِيَدِهِ وَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، وَيَقْبِضُ أَصَابِعَهُ وَيَبْسُطُهَا، ويقول: أَنَا الْمَلِكُ» حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى إِنِّي لَأَقُولُ أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
}.
تحت هذه الأحاديث وهذه الروايات التي ساقها المؤلف -رحمه الله تعالى- مسائل مُهمَّة:
المؤلف -رحمه الله تعالى- قال: (بَابُ قَوْلِ اللّه تَعَالَى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾)}.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأصلِّي وأُسلِّم على المبعوث رحمةً للعالمين.
تحت هذا الباب مسائل:
الأولى: هذه الآية ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ فيها إثبات علوِّ الله -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- في ربوبيَّتة، وفي ألوهيَّته، وفي أسمائِهِ.
ومعناها: أنَّ الخلقَ ما عظَّموا اللهَ حقَّ تعظيمه -سُبحَانَهُ وَتعَالَى.
ولهذا قال نوح لقومه: ﴿مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارً﴾ [نوح: 13-14].
قال ابن عباس في تفسيرها: "لَا تُعَظِّمُونَ اللَّهَ حَقَّ عَظَمَتِهِ!" .
ولهذا قال نوح: ﴿مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارً﴾، فآية عَظَمَة الربِّ -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- وآياته هي مخلوقاته، والكون كتابٌ مفتوحٌ يشهدُ بعظمةِ الرَّبِّ -سُبحَانَهُ وَتعَالَى.
وَعَظَمَتهُ لا تُحيط بها العقول، ولا يُقَدِّرُها النَّاس حقَّ قدرها، ولكن يَرَونَ شيئًا مِن عظمةِ الله -عزَّ وَجَلَّ- فيُسبِّحونَه وينزِّهونه -جل في علاه.
ولهذا قال الله -عزَّ وَجَلَّ: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت:53]، فالآيات الأفقيَّة والآيات النَّفسيَّة تدلُّ على عَظمة الربِّ -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- فدقَّة مخلوقاتهِ دليلٌ على أنَّه تعالى عظيم، وأنَّه خلقَ هذا الكون فأحكمه، ولهذا أمرنا بالتَّفكُّرِ في عظمته، والتَّفكُّرِ في عظمَتهِ فرعٌ عن التَّفكُّرِ في مخلوقاته -سُبحَانَهُ وَتعَالَى.
ومخلوقاته التي خلقها الله -عزَّ وَجَلَّ- عظيمة، والكون يشهدُ بعظمة هذا الرَّب الخالق.
ولهذا فهذه الآيات فيها ردٌّ على الذين لم يُقدُروا الله حقَّ قدره، وأساؤوا الظَّنَّ بربهم:
الطائفة الأولى: المشركون الذين عبدوا مع اللهِ غيره، وصرفوا حقَّه لغيره، فإنَّ الشِّركَ ظلمٌ؛ بل هو أعظم الظُّلم، وهو عدولٌ عن الحقِّ، وظلمٌ عظيمٌ كما أخبر الله -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- في كتابه، وهو إساءة ظنٍّ بالله، فالمشرك لم يُعظِّم الله -عزَّ وَجَلَّ- حقَّ تعظيمه.
الطائفة الثانية: المعطِّلة نُفاة الصِّفات التي جاءت في كلام الله، وفي كلام رسوله، ومن ذلك نُفاة العُلو، ونُفاة الاستواء على العرش، ونفاة النُّزول، وسائر ما أخبر الله -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- به عن نفسه، ومن ذلك هذه الأحاديث التي جاءت في وصفه -سُبحَانَهُ وَتعَالَى.
الطائفة الثالثة: مُنكرو النُّبوَّات الذين زعموا أنَّ الله -عزَّ وَجَلَّ- لم يُرسل الرسل، ولم يُنزل الكتب، فهؤلاء منكرو النبوَّات، ولهذا قال الله تعالى في آية أخرى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 91].
والرَّبُّ -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- لن نصل إلى تعظيمهِ حقَّ تعظيمه، ولهذ كان من ثناءِ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- على ربِّه ومن تمجيده له أنَّه كان يقول: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ، كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» .
فهذه هي المسائل المتعلِّقة بهذه الآيات.
وثَمَّ مسألة أخرى: أَنَّ هَذِهِ الأَحَادِيثُ فِيهَا إِثْبَاتُ صِفَةِ اليَدِ لِلهِ -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- وهي من صفاته الذَّاتيَّة، فجاء في وصفِ يده -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- أنَّه يقبضها ويبسطها -كما تقدم من الأحاديث التي قرأناها.
وهذه اليد لله -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- يَقطع العبد أَنَّها لا تُماثل أيدي المخلوقين؛ لأنَّه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11] -سُبحَانَهُ وَتعَالَى.
والله -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- أثبتَ أنَّ له يدان، قال تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: 64]، فوصفهما بالبسطِ في كلامه -سُبحَانَهُ وَتعَالَى.
وجاء في الحديث: «يَقْبِضُ اللَّهَ الأَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ»، فَنُثبِتُها كما جاءت في النُّصوص، وهي يدان، كلتا يديه -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- يمين في الخير والبركة -كما تقدَّم في الأحاديث.
كذلك من المسائل التي تُخرَّج تحت هذا الباب: ما جاء في وصف الراوي للنبي صلى الله عليه وسلم، حيث ذَكَرَ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُحرك يَده، ويُقبل بهما ويُدبر، وهذا ليس لتمثيلِ فِعلِ الرَّبِّ -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- بسماواته، إنَّما هو لتحقيق إثبات الصِّفة، وأنَّ المراد هو حقيقة الصِّفة، وأنَّ القبضَ والبسطَ الذي وصفه النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على وجهٍ يمتنع فيه التَّأويل، وإخراج اللفظ عن ظاهرهِ، مثل ما سبق من الأحاديث التي مرَّت معنا حينما وضع النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينه حينما تلا قول الله -عزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرً﴾ [النساء: 58].
{(عن عِمران بن حصينٍ - رضي اللَّه عنه - قال: قال رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّه عليه وسَلَّم:
«اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ» قَالَ: قَالُوا: قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، قَالَ: «اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ» قَالَ: قُلْنَا: قَدْ قَبِلْنَا، فَأَخْبِرْنَا عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ؟ قَالَ: «كَانَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي اللَّوْحِ ذِكْرَ كُلِّ شَيْءٍ». قَالَ: وَأَتَانِي آتٍ، فَقَالَ: يَا عِمْرَانُ، انْحَلَّتْ نَاقَتُكَ مِنْ عِقَالِهَا، قَالَ: فَخَرَجْتُ فَإِذَا السَّرَابُ يَنْقَطِعُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا، قَالَ: فَخَرَجْتُ فِي أَثَرِهَا، فَلَا أَدْرِي مَا كَانَ بَعْدِي")
}.
هذا الحديث تحته مسائل، وهو مُخرَّج في الصحيحين -كما ذكرت:
المسألة الأولى: أنَّ هذا الحديث في ظاهره كان في عام الوفود حينما وفدت القبائل على النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقد جعلَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وفد بني تميم، ووفد اليمن -وفي بعض الروايات أنَّهم الأشعريين- فالنَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال لوفد بني تميم: «اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ» قَالُوا: (قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَ)، فهذا الوفد لقرب إسلامهم فجُلُّ اهتمامهم العطاء الدُّنيوي، ولم يفهموا من البُشرى إلا هذا العطاء، ولهذا أعرض عنهم النَّبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الأشعريين -أو وفد اليمن- فقال: «اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ».
من المسائل المتعلقة بهذا الحديث: أنَّه قد جاء في هذا الحديث وصفُ الرَّبِّ -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- فالله تعالى أحدٌّ، صمدٌ، هو الأوَّل، والآخر، والظَّاهر، والباطن، وهو بكل شيءٍ عليم.
فجاء في وصف الرَّبِّ -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- أنَّه كان الله قبلَ كلِّ شيءٍ، ثم إنَّ الله -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- خلقَ عرشه، وجعل عرشَه على الماء كما جاء في بعض الرِّوايات «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ»، ولمَّا خلق عرشه -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- استوى عليه استواءً يليق بجلاله وعظمته.
قال: «وَكَتَبَ فِي اللَّوْحِ ذِكْرَ كُلِّ شَيْءٍ»، ولهذا تكلم أهل العلم في أيُّهما أسبق خلق العرش أم خلق القلم، وليس هذا موضع ذكر هذه المسائل.
وفي بعض روايات الحديث في غير هذا الحديث: «كَانَ فِي عَمَاءٍ» ، والعَمَاء -كما جاء في تفسيره عن بعض السَّلف: أنه السَّحاب الرقيق.
فالله -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- أخبر أنَّه كانَ قبلَ كلِّ شيء؛ لأنَّه هو الأوَّل والآخر، والظَّاهر، والباطن.
وفي الحديث: إثباتُ القدرِ، وأنَّ الله تعالى كتب في اللَّوح المحفوظِ ذكر كل شيء، يعني ما هو كائنٌ وواقعٌ، فلا يقع في مُلكه -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- إِلَّا مَا قَد كتبه وعلمه وشاءه وقدَّره، وخلقه فأوجده، كما هو متعلَّق الإيمان بمراتب القضاء والقدر.
المسألة التي تليها: عمران بن حصين راوي هذا الحديث تحسَّر -رضي الله عنه- على فواتِ العلم، ولهذا جاء في بعض الروايات: (وأَيمُ اللهِ لَوَدِدْتُ أنَّها ذَهَبَتْ –يعني: الناقة- وَلَمْ أَقُمْ) ؛ لأنه لم يسمع تمام حديث النَّبي -صلى الله عليه وسلم.
وفيه ضبط الصَّحابة -رضوان الله عليهم- لكلامِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- حتى أنَّهم ذكروا كل الملابسات المتعلِّقة بحديث النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّهم هُم الأمناء في نقلِ حديثه -صلى الله عليه وسلم.
ولهذا جاء في رِواية فيها عمران بن حصين (وأَيمُ اللهِ لَوَدِدْتُ أنَّها ذَهَبَتْ –يعني: الناقة- وَلَمْ أَقُمْ)، هكذا ينبغي أن يكون حرص طالب العلم على التَّحصيل، وأنَّه لا يؤثِّر على تحصيل العلم حظوظ الدُّنيا، وإن كان عمران بن حصين -رضي الله عنه- لا يُلام على ذلك؛ لأنَّ فوات ناقته ربما سيشق عليه بانحلالها من عقالها، ولكن بعض العِلْم إذا فَاتَ لا يُمكن أن يُعوَّض، ومنه حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الغيبيَّات؛ لأنَّ عمران -رضي الله عنه- كما هو ظاهر النَّص لم يستطع أن يعرف تمام الحديث حتى ممَّن حضرَ حديثَ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ولهذا تحسَّر -رضي الله عنه- على فواتِ ذلك العِلم، فرضي الله عن أصحابِ النبي -صلى الله عليه وسلم- وألحقنا بهم.

{قال -رحمه الله: (عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جُهِدَتِ الأَنْفُسُ، وَضَاعُ الْعِيَالُ، وَنُهِكَتِ الأَمْوَالُ، وَهَلَكَتِ الأَنْعَامُ، فَاسْتَسْقِ اللَّهَ لَنَا، فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِكَ عَلَى اللَّهِ، وَنَسْتَشْفِعُ بِاللَّهِ عَلَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْحَكَ، أَتَدْرِي مَا تَقُولُ؟ فَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا زَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ، إِنَّهُ لا يُسْتَشْفَعُ بِاللَّهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ، شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَيْحَكَ، أَتَدْرِي مَا اللَّهُ؟ إِنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ، وَعَرْشُهُ عَلَى سَمَاوَاتِهِ، وَسَمَاوَاتُهُ عَلَى أَرْضِهِ، هَكَذَا -وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ- وَإِنَّهُ لَيَئِطُّ بِهِ مِثْلُ أَطِيطِ الرَّحْلِ بِالرَّاكِبِ» )}.
هذا الحديث فيه مسائل:
المسألة الأولى: هذا الحديث من جهة سنده فيه ضعف، ولكن ما زال علماء أهل السُّنَّة يتتابعون على إيراده، وعلى الاحتجاج به، ويردونه في مصنفاتهم، وإيراد أهل السُّنَّة لهذا الحديث لأنه من شواهد ما دلَّت عليه النُّصوص للاعتضاد به، وجرى عليه أئمة أهل السُّنَّة، ولهذا فإنَّ من منهج علماء أهل السُّنَّة في مصنفاتهم أنَّهم يوردون الحديث الضعيف، لا للاحتجاج به في مسألة مُعينة، ولكن للاعتضاد به، وهذا الإيراد منهم منهج علمي متناقل بين المصنفين من علماء أهل السُّنَّة، فإنك لو رأيت في كتب أصول السُّنَّة كـ "شرح أصول الاعتقاد" لللالكائي، وقبله "السُّنَّة" للخلَّال، و"السُّنَّة" لعبد الله بن أحمد، و"السُّنَّة" لابن عمرو الطلمنكي، وغيرها من كتب المصنفات في الاعتقاد، لوجدت أنُّهم يُوردون أحاديث فيها ضعف، فمن لا يعرف طريقة الأئمة في التَّصنيف يظن أنَّ ذاك ليس بالأمر الحسن منهم، وهذا قلَّةِ فهمٍ لطريقةِ أهل العلم في التَّصنيف، فهم في مسألة معَّينة يُوردون ما صحَّ من الحديث، وهذا هو الأصل، ويوردون ما لم يصح من الحديث الضَّعيف؛ لأنَّ الحديث الضَّعيف ليس حتمًا أن يكونَ ضعيفًا في رأي كلِّ أحد، فإنَّ الضَّعيف بطرقهِ يصلُ إلى مرتبةِ الحسنِ، والحسنُ قسيمُ الحديثِ الصَّحيحِ -كما هو معلوم- فينبغي أَلَّا يُجترأ على الأئمَّة المصنِّفين، أو نقدهم لأجل ذلك، فهذا من منهجهم في التَّصنيف، ومن ذلك هذا الحديث.
المسألة الثانية في هذا الحديث: فيه إثبات علوِّ الله -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- على عرشه، وله -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- علوُّ الذَّاتِ والقدرِ والقهرِ، كما هو مقرَّرٌ عن أهل السُّنَّة.
وعلُّوه -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- من صفاته الذَّاتية التي لا تنفك عنه بحالٍ من الأحوال، وهذا العلو ثابت بأدلَّةٍ كثيرةٍ جدًّا، وإجماع المسلمين، وقد تقدَّم ذكر كتاب الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في الردِّ على الجهميَّة "اجتماع الجيوش الإسلامية"؛ بل إنَّ أهل العلم لأجل الرَّدِّ على مَن خالف في إثبات هذه الصِّفة صنَّفوا مصنفات، ومن ذلك مصنف الإمام ابن قدامة -رحمه الله تعالى "إثبات صفة العلو"، من ذلك كتاب "العلو" للإمام الذهبي -رحمه الله- وغفر الله له، ومصنفات أهل السُّنَّة لا تكاد تخلو من إثبات هذه الصِّفة وتقريرها، وهي ثابتة -كما ذكرت لك- بأدلَّة متنوِّعة ومتكاثرة.
المسألة الثالثة: إثبات أنَّ العرش فوق السَّماوات، وهو من مخلوقات الرَّبِّ -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- وليس داخل في سماواته كما يقول بعض الفلاسفة الذين ينفون العرش، إمَّا أن يُفسِّرونه أو يَتَأوَّلونه بالملك، أو يقولون: إنَّه الأفلاك وما شاكل ذلك.
وقد جاء وصف العرش في نُصوص كثيرةٍ، فقد جاء في هذا الحديث أنَّ عرشه كهيئة القبَّة على سماواته، وهذا من أوصاف العرش، وإن كان الحديث فيه مقال، وجاء وصفه بأنَّه يُحمل، وأنَّ الملائكة تحمله، وأنَّ الربَّ -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- استوى عليه، وأنَّ له قوائم، وأنَّ موسى يُفيق عند الصَّعقِ فيكون آخذٌ بقائمةٍ من قوائم العرش، إلى غير ذلك من أوصاف عرش الرب -سُبحَانَهُ وَتعَالَى.
وطريقة أهل السُّنَّة: هي إثبات مَا أثبته النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في النصوص لعرش ربه -سُبحَانَهُ وَتعَالَى.
ولأجل هذا فإنَّ أهلَ العلم صَنَّفوا فيه مُصنفات ككتاب: "العرش وما ورد فيه" لابن أبي شيبة، وكتاب "العرش" للذهبي، وغيرها من المصنفات في ذكر عرش الرَّبِّ -سُبحَانَهُ وَتعَالَى.
المسألة الرابعة: جاء في روايات ذكر الأطيط، وجاء تفسيره في الرواية: أنَّه الصَّوت الذي يصدر بأطيط الرَّحل بالرَّاكب، فإثبات هذا الوصف للعرش يُوقَّف فيه على ثبوت الروايات، فبعض أهل العلم يُصحح رواية الأطيط كابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله- وبعضهم ينفي ذلك لعدم ثبوت الروايات.
وفي الجملة؛ فإنَّ المؤلف -رحمه الله تعالى- ساقَ هذا الحديث لبيان عظمة الرَّبِ -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- وأنَّه ليس مِن الأدبِ في شيء أن يقول ذلك الأعرابي ( نَسْتَشْفِعُ بِكَ عَلَى اللَّهِ، وَنَسْتَشْفِعُ بِاللَّهِ عَلَيْكَ)، فإنَّ هذا جاء فيه النَّهي عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- ولعل يأتي -إن شاء الله- تفصيل ذلك في مسائل متعلقة بذلك.

{قال -رحمه الله: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «قَالَ اللَّهُ -عزَّ وَجَلَّ: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ أَلِدْ، وَلَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفْئًا أَحَدٌ» )}.
تحت هذا الحديث مسائل:
المسألة الأولى: قول النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللَّهُ»، هذا يُسمَّى بالحديث القدسي، وهو كلام الله لفظًا ومعنى، ولكن الفرق بينه وبين القرآن أنَّه لا يُتعبَّد بتلاوته وليس بمعجزٍ، أمَّا الحديث القدسي الصحيح فهو من كلام الله -عزَّ وَجَلَّ.
المسألة الثانية: أنَّ الله -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- صبور على ما يقع من خلقه من الأذى، حليم عليهم، وذاك من صفاته -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- ومن صفات كماله، فلا أصبرَ من الله -عزَّ وَجَلَّ- ولا أحلمَ منه -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- على خلقه، وإنَّما كائنٌ منه ذاك؛ لأنَّه تعالى يستوفي عذره على ابن آدم، حتى إذا قابله يوم القيامة لا يكون حجة على ربه -سُبحَانَهُ وَتعَالَى.
المسألة الثالثة: أنَّ تكذيب العباد لربهم كائن بإنكار البعث؛ لأنَّه قال: «لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي»، فإنكار البعث واقع في الأمم السَّابقة، ومن ذلك ما وقع من أهل الجاهلية في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين بُعث النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهم، فأنزل الله -عزَّ وَجَلَّ- آيات كثيرة جدًّا في الدلالة على البعث، وإنكار البعث معلوم من أهل الجاهلية في زمن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ولهذا قال الله -عزَّ وَجَلَّ- في الدلالة والحُجَّة على أنَّ البعث كائن، فجاء في صفة الرجل الذي جاء إلى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وفتَّتَ العظم بين يديه وقال: تزعم أن الله يبعث هذا؟ فقال الله -عزَّ وَجَلَّ: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ [يس: 78]، فهذا استشكال وشبهة، والجواب والحجة الدَّامغة: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [يس: 79]، وهذه حجَّة دامغة لأهل الباطل، فإن هذا الجاهلي حينما فتَّتَ العظ، قال: كيف يحيي الله هذه العظام وهي رميم؟! ولم يسأل نفسه السؤال المهم وهو: أنَّ الذي أنشأها أوَّلَ مرةٍ قادرٌ على أن يُعيدها مرةً ثانيةً! ولهذا قال الله تعالى: ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ۚ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [ق: 15].
ولهذا فأدلَّة الرَّبِّ -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- على البعثِ عظيمة جدًّا مِن خلال النُّصوصِ، وهي أدلة عقلية سالمة من المعارضة، ترد على كل مبطل.
ولهذا نقول: مَن أراد الاهتداء فعليه بكلام الله -عزَّ وَجَلَّ- ومن أراد دفع الشُّبهات فعليه بالتدبُّر في كلام الله -عزَّ وَجَلَّ؛ لأنَّ هذا الزَّمان الذي نعيش فيه قد طغت فيه الشُّبهات، وكثر فيه التَّشبيه على النَّاس والتَّشكيك، فمن أراد الاهتداء فعليه بكلام الله -عزَّ وَجَلَّ- ولهذا قال الله تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9]، ومن هدايته: أن يهدي طالب العلم وطالب الحقِّ إلى الحججِ والبراهين التي ترد على أهلِ الباطل، ومنه مسألة البعث.
وهذه الشُّبهات واقعة الآن في الأزمنة المعاصرة، كما كانت في السَّابق، فإنَّه لكل قومٍ وارث من الباطل، وجنود الشَّيطانِ لا يزالون يُلقون على قلوبِ ولد آدم الشُّبهات التي تصرفهم عن ربهم -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- فهو واقعٌ في هذه الأزمنة المعاصرة بظاهرة الإلحاد، ومحاولة تعليل نشأة الخلق بتعليلاتٍ سقيمةٍ باطلةٍ، لا أدلَّة علميَّة عليها، بل هي ساقطة من جهةِ المنهج العلمي التَّجريبي، ومن ذلك نظرية "دارون" في النُّشوء والارتقاء التي تسمى نظرية "التَّطور" وهي نظرية عقديَّة فكريَّة تصادم الأديان بكافَّة أجناسِها، فإنَّ محصَّل هذه النَّظرية هو إنكار الرَّبِّ -سُبحَانَهُ وَتعَالَى.
ولهذا فإنَّ محاولة بعض المسلمين أسْلَمة هذه النَّظريَّة هو خطأ منهم، والتَّسويق لها والزَّعم أنَّها لا تتعارض مع الإسلام ولا تتعارض مع الإيمان لأنَّهم يؤمنون ببعضِ أجزائها، كالقول بأنَّها واقعة في الحيوان دون الإنسان أو ما شاكل ذلك، ولهذا يُسوَّق الآن في القنوات الفضائيَّة عبر برامج مختلفة، وعبر بعض الأشخاص لهذه النَّظريَّة ومحاولة التَّسويق لها، لأنَّهم يجدون في شباب المسلمين بُغية العلم والاهتمام بالعلم التَّجريبي، فيُحاولون أن يُبينوا أنَّ هذه النَّظريَّة لا تتعارض مع القرآن، والحقيقة أنَّ هذه النَّظرية بكليَّتها وبتفَاصِيلِها مُصادِمةٌ لما جاء في كلامِ الله، وما جاء في كلامِ رسوله -صلى الله عليه وسلم- بل هي مُصَادِمةٌ للأديان كلها، حتى النَّصارى لا يقبلون بهذه النَّظرية، وحتى اليهود لا يقبلون بها، فهي مصادمة للأديان، ولكن يُسوَّق لها على أنَّها نظرية فكريَّة.
وقد تسألون: لماذا يُركِّزون على هذه النَّظريَّة مع أنَّها تسقط بين الفَينة والأخرى مِن خلال العلم التَّجريبي سقوطٍ مدوٍّ؟
هم عندهم أنَّه ليس ثَمَّ شيء يُمكن الإجابة عنه بالنَّسبة للنَّاس أو ما يسمى بـ "أسئلة الوجود" إلا بنظرية النُّشوء والارتقاء، فهي أحسن نظريَّة عَثَرَ عليها الإنسان -كما يزعمون؛ لأنهم يُنحُّونَ الأديان والغيبيَّات، وبالتَّالي هؤلاء منهجهم العلمي الفكري مخالف لمنهج أهل الإسلام، والله -عزَّ وَجَلَّ- فضَّل أهل الإسلام وميَّزهم عن غيرهم بإيمانهم العميق بربِّهم -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- وأدلَّة أنَّ الله -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- خلقَ هذا الخلق أكثر من أن تُحصَى، ولكنَّها الشُّبَه، نسأل الله السلامة والعافية- التي إذا تكاثرت على القلوب صرفت القلب عن الحق، فنسأل الله -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- أن يثبتنا على الحقِّ، وأن يثبِّتنا على الدِّين حتى نلقاه.
من المسائل المتعلقة بهذه الأحاديث: الشَّتم، فقد جاء في الحديث: «وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ، فَقَوْلُهُ لِي وَلَدٌ فَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدً» -سُبحَانَهُ وَتعَالَى.
الشَّتمُ واقعٌ من العباد في نسبة الولد له -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- وتقدَّم في بعض الأحاديث أنَّهم ينسبون له ولد، ويرزقهم ويُعافيهم، فمن ربوبيَّته -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- أنَّه لا يمنعهم العطاء ولا الرِّزق ولا الخير حتى يستوفوا عذرهم، فلا يكون لهم عذر ولا حُجَّة على ربهم -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- يوم القيامة.
وهذا الشَّتم بنسبة الولد والصَّاحبة واقع من طوائف:
فإنه واقع من بعض مُشركي العرب الذين قالوا: إنَّ الملائكة بنات الله، قال الله -عزَّ وَجَلَّ: ﴿وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثً﴾ [الزخرف: 19].
وواقع من النَّصارى حينما قالوا: إنَّ المسيح ابن الله، قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: 30].
وواقع من بعض طوائف اليهود: قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾.
فهذا يدلُّ على أنَّ نسبة النَّقائص إليه تعَالَى من الشَّتم للربِّ -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- وذاك -والعياذ بالله- من أعظم الجُرم.
والله -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- منزَّه عن الصاحبة -وهي الزوجة- ومنزَّه عن الولد، قال تعالى: ﴿مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدً﴾ [الجن: 3]، فالخلق عباده، والعبودية تُنافي الوِلادة، والولد جزء من والده، والله تعالى بائنٌ من خلقه، مُتعالٍ عن خلقه -تعالى وتقدَّس.
وهذه النُّصوص تبعث في قلبِ العبد تعظيمَ الرِّبِّ -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- ولا يكون تعظيمه إلا بموافقة ما جاء عن الأنبياء، وما جاء عن نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم، فإنَّ ما جاء في كلام الله وفي كلام رسوله هو المنهج المناسب في تعظيمه -سُبحَانَهُ وَتعَالَى، ومن ذلك تنزيه الرَّبِّ، فإنَّ العبد في عباداته وفي أذكاره وفي صلواته يُنزه الرَّبَّ -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- عما قاله المتهوِّكونَ في ربِّهم، كما فعلَ أولئك الذين نسبوا له الصَّاحبة، أو نسبوا له الولد، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.

{قال -رحمه الله: (ولهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» )}.
تحت هذا الحديث مسائل:
المسألة الأولى: قوله: «يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ»، هذا مِن أذى العباد لربِّهم -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- فإنَّهم يسبُّون الدَّهر، وحينما يسبُّون مَن لا يملك شيء فيرجع السَّبُّ إلى مَن دبَّره، فإذا سبَّ الدَّهرَ فقد سبَّ الله -عزَّ وَجَلَّ- وهذه عادة عندَ البشرِ، فإنَّهم يسبُّون الدَّهر، وربَّما جرى منهم الشَّتم للأيام أو اللَّعن لها، وكل هذا ممَّا جاء النهي عنه في كلام الرَّبِّ -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- في هذا الحديث، قال تعالى: «يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ»، فلا يجوز للإنسان أن يسبَّ الأيام، ولا اللحظات، ولا يلعنها، فكل ذلك منهيٌّ عنه؛ لأنَّ السَّب راجعٌ إلى المدبِّر وهو الرَّبُّ -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- ولهذا قال الله في الحديث القدسي: «وَأَنَا الدَّهْرُ»، وليس من أسماء الله "الدهر"، وهذا باتِّفاق أهل العلم، ولكن المعنى هنا: أنا الذي بيدي التَّدبير، وليست الأيام ولا الليالي ولا السَّنوات هي التي تُدبِّر. ولهذا قال الله تعالى في الحديث: «بِيَدِي الْأَمْرُ»، فالأمرُ بيدِ الله -سُبحَانَهُ وَتعَالَى، فكونك تسبُّ هذه الأيام أو اللَّحظات أو الدُّهور أو الفصول؛ كلُّ ذلك هو سبٌّ لمَن لا مُلك له، ولا سبيل له، ولا سلطان له، ويعود السَّبُّ إلى مَن دبَّره، فكان هذا أذًى للربِّ -سُبحَانَهُ وَتعَالَى. إذن الأمر بيد الله تعَالَى.
قال: «أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ»، ولهذا كان وصفُ الأيَّامِ بأنَّها سوداء، أو وصف اليوم بيوم مظلم، أو ربَّما يشتم اليوم أو اللحظة، أو يشتم السَّاعة التي تعرف فيها على فلان؛ كل ذلك مما جاء النَّهي عنه.
والغريب أنَّ سبَّ الدهر هو عادة -كما ذكرنا- توافق عليها الشُّعراء وأصحاب المقالات، فإنَّهم دائمُا يُعوِّلون على ذلك، وأذكر كلامًا لابن الجوزي -رحمه الله تعالى- في "صيد الخاطر" قال: "قلَّما تجد أبيات شعر أو ما شاكلها إلا وفيه سب الدهر"، وذلك من عادات الجاهلية، وليس من عادات أهل الإسلام، ولهذا لا يجوز بحالٍ من الأحوال أن يسبَّ ابن آدم الدهر، بل إنَّ ذلك من الكبائر؛ لأنَّ الله -عزَّ وَجَلَّ- قال: «يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ»، فلا يليق بحالٍ مِن الأحوال بالعبدِ المؤمن ولا بالأمَةِ المؤمنة أن تلعن أو أن تسبَّ الأيَّام أو الليالي أو السَّنوات، ولكن الإنسان قد يجري عليه بقدر الله -عزَّ وَجَلَّ- أيَّام قد يُصاب فيها، فإنَّه لا يلوم الأيَّام؛ لأنَّها محالٌّ لمضيِّ قدر الله فيك، ولكن التجئ إلى ربِّك -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- وسَلْهُ العافية واستغفر وعُدْ إليه، فإنَّ الأمورَ بيدِ الله -عزَّ وَجَلَّ- وهي كائنةٌ بقدرهِ -سُبحَانَهُ وَتعَالَى.
وهذا مما يدلُّك على أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فيما جاء به وأخبر عن الرب -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- أنَّه ما ترك شيئًا من الخير إلا ودلَّ الأمة عليه، حتى في ألفاظها وفي كلماتها، فالمؤمن المسلم يكون وقَّافًا على ما جاء عن الله، وما جاء عن رسوله -صلى الله عليه وسلم- ويقول الكلام الأحسن، لقوله تعالى: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الإسراء: 53]، ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنً﴾ [البقرة: 83]، فالكلام الحسن هو: الكلام السَّالم من الشَّتم لغير الله، والشتم لله -عزَّ وَجَلَّ- من حيث لا يشعر.
وكذلك من المسائل المتعلِّقة: أنَّ الإنسان قد لا يُريد الشَّيء فيقع فيه من حيثُ لا يشعر، فهو لا يريدُ أذى الرَّبِّ -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- ولكنَّه لأجلِ هذه الألفاظ التي لا يُلقي لها بالًا يترتَّب عليها الأذى للرَّبِّ -سُبحَانَهُ وَتعَالَى.
ولهذا جاء في الحديث: «وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا ، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ» ، يظنها كلمة يسيرة تخرج من شفتيه، قال في رواية: «يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفً» ، فما أحوج الألسُن إلى الضَّبطِ وإلى الإمساكِ، فيُمسك الإنسان لسانَه عن أن يتكلَّم إلا وِفق أدبٍ أدَّبه الله تعالى به، وجاء عن رسوله -صلى الله عليه وسلم- نسأل الله أن يهدينا للتي هي أحسن.

{لو قصد بتوصيف اليوم بأنَّه حارٌّ شديد الحرارة، أو شديد البرودة. فهل يدخل في السَّبِّ؟}.
بعض أهل العلم يتجوَّز في ذلك، وقال: إنه من جهة الإخبار عن اليوم، ولا بأس به؛ لأنَّ الله -عزَّ وَجَلَّ- قال: ﴿فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ﴾ [القمر: 19]، وقال: ﴿فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ﴾ [فصلت: 16]، فإن قَصَدَ بذلك أنَّه حصل له السُّوء، لا نسبة الشَّرِّ إلى الله -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- فإنَّه قد يجوز الإطلاق، ولكن الأصل في هذا الباب أنَّ الإنسان لا يسبُّ الدهر، فلا يُتسمَّح في هذه الإطلاقات.

{المسألة الثانية في قوله «وَأَنَا الدَّهْرُ». هل الدَّهرُ من أسماء الله؟}.
قلنا: الدَّهر باتِّفاقِ أهل العلم ليس مِن أسماء الله -عزَّ وَجَلَّ- وقد تقدَّم معنا في وصفِ أسماء الله -عزَّ وَجَلَّ- وصفاته: أنَّ أسماء الله -عزَّ وَجَلَّ- كمالٌ لله تعَالَى، وهذا الوصف لما قال: «وَأَنَا الدَّهْرُ»، لا يريد به أن يُسَمَّى بـ "الدَّهر" ومَن سمَّاه بهذا من بعض أهل العلم مثل ابن حزم فقد غَلِطَ، فمعنى قوله: «وَأَنَا الدَّهْرُ» أي: أنَّه يُدبر الدَّهر، فلا يُلامُ مَن لا يُدبِّر، فإنَّ لومَ مَن لا يُدبِّر يعود اللوم والشَّتم إلى المدبر، وهو الرَّب -سُبحَانَهُ وَتعَالَى، لأنَّ تقليب الليل والنَّهار -وهي آية من آيات الله عز وجل- بيده -سُبحَانَهُ وَتعَالَى.

مُقدِّمة عن الإيمان بالقدر.
الإيمان بالقدرِ هو مِن أركانِ الإيمان بالله -عزَّ وَجَلَّ- وهذا الإيمانُ بقدره -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- متعلِّق به مراتب أربع:
- الإيمان بأنَّ الله -عزَّ وَجَلَّ- عَلِمَ كلَّ شيءٍ، فليس يقع في ملكه شيء ولا يعلمه -سُبحَانَهُ وَتعَالَى-.
- الإيمان بأنَّ الله قد كتبَ كلَّ شيءٍ في اللوحِ المحفوظِ.
- الإيمان بأنَّ الله قدَّر وشاء، وأراد قدره، فلا يقعُ في مُلكِ الله -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- إلا ما شاءه وأراده.
- الإيمان بأنَّ اللهَ خلقَ كلَّ شيءٍ وأوجده.
هذه مراتبُ الإيمان بالقضاء والقدر، لا يكون الإنسان غافل عن هذه المراتب الأربع.
إذن؛ علمه، وكتبه، وشاءه، وأراده، وخلقه وأوجده.
وهذه المراتب دلَّت عليها النُّصوص كما سوف يأتي مِن إيراد المؤلف.
كذلك من المقدِّمات المهمَّة: قال -عزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ﴾ [آل عمران: 79]، الرَّبانيُّ: هو الذي يُعلمُ النَّاسَ صِغارَ العلمِ قبلَ كبارِهِ، ومِن صِغارِ العلمِ المقدَّمات التي أذكرها.
فمن الأمور المهمَّة: أنَّ الإنسان في بعض هذه المسائل -وخاصَّة باب الإيمان بالقدر- يتعلَّم ما هو المُحكَم فيه، وما هو الأصل في بابِ القضاءِ والقدرِ، حتى إذا خاضَ في تفاصيلِ مسائلِ القضاءِ والقدرِ كان على بيِّنةٍ مِن أمره، فيعودُ إلى المُحكَم ممَّا دلَّت عليه النُّصوص؛ لأنَّه ستأتي نصوص معنا يوردها المؤلف قد تُشكِل على الإنسان.
المحكم في باب القضاء والقدر -ولعل يأتي مزيد بيانٍ لها:
- أنَّ الله -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- حكمٌ عدلٌ، فالله لا يظلم النَّاس شيئًا، لا يغيب هذا عن ذهنك، فإذا نظرتَ لقدر الله -عزَّ وَجَلَّ- فلا يوقع الشَّيطان في قلبك أنَّ ذاك من الظُّلمِ؛ لأنَّ الله حكمٌ عدلٌ، فلا يظلمُ الله -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- خلقَه.
- ولا يقع في ملكِه -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- إِلَّا مَا يُريد، وما شاءه وقدَّره -سُبحَانَهُ وَتعَالَى- وعَلِمَه، كما سيأتي -إن شاء الله- مزيد بيان، ولعله يكون في الأسبوع المقبل -إن شاء الله.

{وفي الختام نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يرفعكم به الدرجات العُلى.
وهذه تحيَّة عطرة مِن فريق البرنامج، ومنِّي أنا مُحدُّثكم، إلى أن نلقاكم في الحلقة القادمة، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك