بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكمُ ورحمة الله وبركاته.
أُرحبُ بكم إخواني وأخواتي المُشاهدين الأَعِزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأُرحبُ بضيفنا الفَاضل فضيلة الشَّيخ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكَ الله يا شيخ عبد الرحمن.
{سنبدأ في هذه الحلقة في متن "أصول الإيمان" من قول المؤلِّف -رحمه الله تعالى: (باب الإيمان بالقدر وقولِ اللَّهِ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورً﴾
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ وقوله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾.
وفي "صحيح مسلم" عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنهما- قال: قال رسول اللَّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ»)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله وصفيه مِن خَلقه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبهِ وسلِّم تسليمًا كثيرًا، وبعد:
ثمة مسائل مُهمَّة في باب القضاء والقدر لابدَّ مِن بيانها وتعلُّمها قبلَ الخوضِ في المسائل المتعلِّقة بهذه الأحاديث التي وضعها المصنِّف في هذا الباب:
من المعلوم أنَّ الإيمانَ بالقَدَرِ مِن أركان الإيمان، وهذا ثابتٌ بالنُّصوصِ، ولكن لأنَّ هذه المباحث تحتاج مِن طالبِ العِلم قبلَ أن يخوضَ فيها أن يكونَ قد تعلَّم أصولَ بحثِ هذه المسائل، وسبق معنا في قول الله تعالى: ﴿وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ [آل عمران: 79]، والرَّباني: هو الذي يُعلم النَّاس بصغارِ العِلم قبلَ كبارها.
ومن التَّعليم المُهم: أن يعلمَ طالبُ العلم في كلِّ بابٍ مِن الأبواب مُحكم هذا الباب، وأن يعرف هذا المحكم، وأن يستمسك به، وأن يَردَّ المُتشابه إلى ذلك المُحكَم، لهذا فالخوض في باب القضاء والقدر فيه أصول محكمات لابدَّ لطالب العلم أن يَعلمها وأن يَتَعَلَّمها، حتى إذا جاءت المباحث ومضايق العلم والإشكالات كان على مُحكمِ هذا العِلم، وهذا ليس في بابِ القضاء والقدر فقط؛ ولكن في أبوابٍ كثيرةٍ مِنَ العِلم، ولكن لمسيسِ الحاجة في هذا الباب أردنا أن نُبيِّنَ هذه المقدِّمات، حتى إذا وَلَجنا في بعض المسائل لا يكن على الإنسان إشكال، ولا يكن على طالب العلم ولا على مُؤمن إشكال في هذه المسائل.
أولًا: مِن هذه المقدِّمات المهمَّة: أنَّ عليًّا -رضي الله عنه- قال: "القدر سِرُّ الله في خلقِهِ"، وهذا أثرٌ مشهورٌ عن علي -رضي الله عنه.
ومعنى هذا الأثر: أنَّ تفاصيل القَضاء والقَدر لا يُمكن أن تُلِم به العقول البشريَّة؛ لأنَّ العقول قاصرة عن إدراكِ تفاصيل هذه المسائل، ولكن حَسْبُ طالب العلم فيها أن يكون على الجُمَل وعلى المُحكَم.
ولهذا قال الطَّحاوي في عقيدته: (فالخوض في القدر ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان)، وهذا منقول وأُثر عن النَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى الصَّحابة عن التَّعمُّق في القضاء والقدر، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَحْنُ نَتَنَازَعُ فِي الْقَدَرِ، فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ، حَتَّى كَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْنَتَيْهِ الرُّمَّانُ، فَقَالَ: «أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ ، أَمْ بِهَذَا أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حِينَ تَنَازَعُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ أَلَّا تَتَنَازَعُوا فِيهِ» ، رواه أهل السنن من الترمذي وغيره بأسانيد صحيحة.
إذن الخوضُ والتَّعمُّقُ هذا لا ينبغي لطالبِ عِلمٍ ولا لمؤمنٍ أن يخوضَ فيه؛ لأنَّه مِن الأبوابِ التي يدخل الشَّيطانُ فيها على الإنسان، فيكتفي في الجُمَل، ويترك تفاصيل هذه الأمور، والتَّعمُّق في بحث هذه المسائل.
ولذلك نقول: إنَّ ثَمَّ مسائل إذا عَلِمَها الإنسان زالت عنه كثيرٌ من الشُّبهات.
ثانيًا: من هذه المسائل المحكمة: أنَّ الأصل في باب القدر هو الإيمان بمحكمه، وَرد المتشابه إلى هذا المحكم.
فما هو المحكم في باب القضاء والقدر؟ وما هو الأصل في باب القضاء والقدر؟
القاعدة الأولى: أول الأمور التي ينبغي للإنسان أَلا يَغفل عنها وهو يبحث هذه المسائل: أنَّ الله عدل -سبحانه- ولا يظلم أحدًا، قال تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46]، ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدً﴾ [الكهف: 49]، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ [النساء: 40].
إذن الله -سبحانه تعالى- لا يظلم، وجعل الظُّلم محرمًا وَحَرَّمَه على نفسه -سبحانه تعالى- كما جاء في الحديث.
فهذه قاعدة مهمَّة من المُحكَم، فإذا تصوَّر في بعضَ المسائل أشياء يعلم أنَّ الله -سبحانه تعالى- حَكمٌ عدلٌ لا يَظلم، وتعالى سبحانه وتقدَّس عن الظُّلم، فهذا من المحكم.
القاعدة الثانية: كذلك من المسائل المهمة في المحكم: أنَّه لا جبرَ في أفعال العباد، يعني: العبد ليس مكره على الفعل أو مجبور عليه، وهذا مُحكم، فالعبد له مشيئة واختيار، وهو يعلم من نفسه أنَّه له مشيئة واختيار، ولا يُعاقبه الله إلا على ما عمل وفعل، ولا يُعاقبه الله -سبحانه تعالى- على عِلمه القديم، ولهذا قال الله -عز وجل- في بيان أنَّ الإنسان مختارٌ، وأنَّ له الإدراة: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ [التكوير: 28]، وقال تعالى: ﴿فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ﴾ [المدثر: 55]، ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ﴾ [الإسراء: 18]، وهذه المشيئة مِن العبد لا تقع إِلا بعد سبقها من الله -عز وجل- فمشيئة الله قبلُ، ﴿لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [التكوير 28، 29]، فمشيئة الله سابقة، والعبد له مشيئة، وهذا مِن المحكم الذي إذا تصوره الإنسان زالت عنه كثير من الواردات الشَّيطانيَّة، هذه المسألة الثَّانية -أو القاعدة الثَّانية.
القاعدة الثَّالثة: أنَّ حُجَّة الله على عباده قائمة بأمور كثيرة:
- بالفطرة التي فَطَرَ الله النَّاس عليها: قال تعالى: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: 30]، وقول النَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» ، والميثاق السَّابق الذي أخذه الله -عز وجل- قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 172]، الآيات.
- بإرسال الرسل: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولً﴾ [الإسراء: 15].
- بإنزال الكتب: قال تعالى: ﴿رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: 165]، وقال -عز وجل: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ [آل عمران: 184].
إذن حُجَّة الله على عباده قائمة، ولا عُذر لأحدٍ في الوقوع في المعصية، أو الوقوع فيما هو أعلى من ذلك وهو الكفر!
القاعدة الرَّابعة: أنَّ العبد يعلم من نفسه الاختيار، فلا أحد يقول: إني مجبور، ولا يمكن للإنسان أن يحتجَّ بالجبر، وهو يعرف هذا من نفسه، قال الله -عز وجل: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: 10]. إذن بيَّن الله له طريق الخير، وطريق الشر.
قال الله -عز وجل: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصلت: 17]، وهذه هداية الدَّلالة والإرشاد، قال -عز وجل: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورً﴾ [الإنسان: 3].
وأمَّا هداية التَّوفيق والإعانة والتَّسديد -وسوف تأتي إن شاء الله- فهذه محضُ فضلٍ من الله -عز وجل- يَهدي مَن يشاء ويُضلُّ مَن يشاء وِفقَ حكمته -سبحانه تعالى- قال تعالى: ﴿وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ﴾ [الشورى: 52]، ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: 7]، هذه هداية التوفيق، وقال الله -عز وجل: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الحجرات: 17].
إذن هداية التَّوفيق محضُ فضلٍ وتوفيقٍ وتسديدٍ من اللهِ، واللهُ أعلم بالمحالِّ -المواضع- القابلة للهداية من المحالِّ التي لا تقبل، والإضلال هو تركُ العبد وشأنه، وعدم إمداده بأسباب العون والتَّوفيق، وهذا محضُ فضلٍ من الله -عز وجل.
وحتى تكون عندك الصَّورة واضحة وبيِّنة ولا يقع في قلبك شيء يجب أنْ تعلمَ أنَّ الله -سبحانه تعالى- يقطع المعاذير لهؤلاء حينما يُدخلهم النَّار، أنَّهم لا عذر لهم، وإن علم منهم اختيار الكفر، ولا يعاقبهم إِلا بما عملوا، وتأمَّل قول الله -عز وجل: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنعام: 27]، ثمَّ قال الله -عز وجل: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام: 28]، يعني: لو ردَّهم الله -عز وجل- إلى حالهم الأولى في الدُّنيا لاختاروا الكفر، وعادوا إلى ما نُهوا عنه، وهذا يَدُلُّك على أنَّ الله -سبحانه تعالى- لا يَظلم مثقال ذرة، وأنَّ الله أعلم بالمحالِّ التي تقبل الهداية والمحالِّ التي لا تقبل.
فإذا علمتَ هذه المُحكمات؛ فتأتي مسائلُ أخرى مُهمة جدًّا قبلَ الخوضِ في تفاصيلِ الأحاديث النَّبويَّة؛ لأنَّها مِن القواعد المهمَّة.
القاعدة الخامسة: أن تعلمَ مراتبَ القضاءِ والقدرِ:
المرتبة الأولى -وهي ورادة في استقراء النُّصوصِ كما قد بيَّنَّا: العلمُ السَّابقُ، أنَّ الله علم كل شيءٍ -سبحانه تعالى- وهذا ممَّا لابدَّ مِن الإيمان به.
المرتبة الثَّانية: الكتابة في اللوح المحفوظ، أنَّ الله كتبَ كلَّ شيءٍ في اللوحِ المحفوظِ عنده، ولهذا في الحديث: «إِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ».
المرتبة الثَّالثة: المشيئة العامَّة: أنَّ الله شاء كل شيء وأراده -سبحانه تعالى- ولا يقع في مُلكه إلا مَا يريد.
المرتبة الرَّابعة: الخلق والإيجاد: أنَّ الله خلقه وأوجده، فليس ثَمَّ شيءٌ خارجٌ عن خلقِ الله وإيجاده -سبحانه تعالى.
وهذه المراتب منها ما هو قبل وقوع المقدر -القدر- ومنها ما يكون بعد وقوع المقدور -كما سنبين إن شاء الله.
ومن المقدمات المهمة في باب القضاء والقدر: الكلام عن المرتبة الثَّالثة وهي: "المشيئة".
فمشيئة الله وإرادته -سبحانه تعالى- باستقراء النُّصوص، تنقسم إلى قسمين:
القسم الأوَّل: الإرادة أو المشيئة الكونيَّة القَدَريَّة، وسمَّاها بعض أهل العلم "الإرادة الكونيَّة القَدَريَّة" اختصارًا، وهذه يدل عليها قول الله -عز وجل: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82]، فكل شيءٍ كائن بإرادته الكونيَّة القَدَريَّة، إذن يريد الله -عز وجل- أشياءً كونًا وقدرًا.
القسم الثَّاني: الإرادة الدِّينيَّة الشَّرعيَّة، ويدل عليها قول الله -عز وجل: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، فدلَّ على أنَّ بعضَ الأمورِ قد يُريدها الله -عز وجل- كونًا وقدرًا ولا يُريدها دينًا وشرعًا، وقد يُريدها دينا وشرعًا ولا يُريدها كونًا وقدرًا، ولهذا فإنَّ سبب ضلال الفِرَق المخالفة لمنهج أهلِ السُّنَّة والجماعة في مسائل القضاء والقدر هو التَّسوية بين الإرادتين، ولم يفرقوا بينهما.
وقد هَدى الله أهلَ السُّنَّة إلى القولِ الوسط الذي هو منهج السَّلف، وهو قول الصَّحابة والتَّابعين وأخبار النَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّهم لمَّا اعتمدوا على الآثار والتزموا بها والتزموا بالنُّصوص هداهم الله إلى الصراط المستقيم، فضلت الفِرَق بسبب عدم التَّفريق بين الإرادتين.
فضلت القَدَريَّة -وهي أسبق ظهورًا- ثم ضلَّت بعدها الجبريَّة، وسنفصل -إن شاء الله- في هذين المذهبين على وجه الإيجاز؛ لأنَّه مِن المُهم جدًا أن يعرفَ طالبُ العلمِ هذه المسألة.
إذا علمَ طالبُ العلم أنَّ ثَمَّ إرادة كونيَّة قدريَّة وإرادة دينيَّة شرعيَّة فلابد أن يعرف الفرق بينهما حتى إذا جاءت المسائل لا تُشكل عليه.
قلنا: إنَّ الله -عز وجل- قد يُريد الشَّيء كونًا وقدرًا ولا يُريده دينًا وشرعًا، فمن الفروق التي ذكرها أهل العلم:
الفرق الأول:
- أن الإرادة الكونيَّة القَدَريَّة لازمة الوقوع، فهي لابد أن تقع، فإذا أراد الله شيئًا كونًا وقدرًا فلابد أن يقع.
- وأما الإرادة الدِّينيَّة الشَّرعيَّة فقد تقع، وقد لا تقع، فالله أراد مِن عِباده أن يستقيموا وأن يُؤمنوا، وأراد مِن أهل الإيمان ومن العباد الطَّاعة، فهذه إرادة دينيَّة شرعيَّة.
الفرق الثاني الذي يحصل به التمييز:
- أنَّ الإرادة الكونيَّة القَدَريَّة: عامَّة وشاملة، فكل شيء تشمله.
- وأمَّا الإرادة الدِّينيَّة الشَّرعيَّة: فهي خاصَّة بالطَّاعات والقُربات، ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185].
الفرق الثالث:
- الإرادة الكونيَّة القَدَريَّة: لا تستلزم المحبَّة والرِّضا، يعني لا يلزم منها أن الله يحبها ويرضاها، فقد يحبها الله ويرضاها، وقد لا يحبها الله -عز وجل- بما جرت به حكمته.
- وأمَّا الإرادة الدِّينيَّة الشَّرعيَّة: فهي تستلزم المحبة والرضا.
الفرق الرابع:
- الإرادة الكونيَّة القَدَريَّة: قد تكون مَقصودة لغيرها لا لذاتها لما يترتب عليها مِنَ الحِكَم التي يعلمها الله -عز وجل- والتي قد تخفى على خلقه، فكفر الكافر ومعصية العاصي أرادها الله كونًا وقدرًا.
- الإرادة الكونيَّة الشَّرعيَّة مقصودة لذاتها، ولهذا قال أهل العلم: تجتمعان في المؤمن، وينفرد الكافر بالكونيَّة".
وثَمَّ مسائل:
لماذا خلق الله المعاصي؟
لماذا خلق الله الكفر؟
لماذا خلق الله إبليس؟
وما شاكل ذلك من الأسئلة يُجاب عليه بمثل هذه التَّفاصيل، ولَعَلَّ -إن شاء الله- يأتي في بعض المسائل التَّفريق بين المراد لذاته والمراد لغيره؛ لأنَّ الإرادة يجري فيها بحث هذه المسائل، ولهذا فعلى وجه الإجمال لبيان هذه المسألة نقول: إنَّ الإنسان -وهو إنسان- قد يريد الشَّيء لذاته، وقد يُريده لغيره، فعلى سبيل المثال: الدواء الكريه هو مُراد للإنسان لغيره، لما يترتب عليه، فهذه المرادات في حقِّ البشر، فما بالك بما هو أعلى وأجل -سبحانه تعالى- الذي لا يُقاس بخلقه، هذا حتى تُعرَف هذه المسائل وتُفهم.
وهذه المقدمات أحسبُ أنها يحصل بها شيء من البيان والإيضاح -إن شاء الله.
ثَمَّ مسألة نريد أن نُبينها في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾؛ لأنَّ هذه الآية من أعظم استدلالات أهل السُّنَّة في الرَّدِّ على القَدَريَّة الذين سنُبيِّن مذهبهم على وجه الإجمال.
قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾، قال المفسرون في هذه الآية:
الوجه الأوَّل: "ما" هنا إمَّا أن تكون اسم موصول، أي: "والله خلقكم والذي تعملون"، وهذا داخل فيه أفعال العباد، يعني: خلقكم وأفعالكم، ولا إشكال في ذلك.
الوجه الثاني: "ما" مصدرية، وعليه يكون المعنى "والله خلقكم وعملكم".
وعلى كلا القولين فإنَّ أفعال العباد مخلوقة لله -عز وجل؛ لأنَّ القَدَريَّة يقولون: إنَّ أفعال العباد ليست مخلوقة لله -عز وجل- ولهذا فإنَّ هذه الآية من أعظم الحُجج في الرَّدِّ عليهم.
كيف تكون أفعال العباد مخلوقة؟
أهل العلم يقولون قاعدة مهمة في باب القضاء والقدر: "أنَّ خالق السَّببِ التَّامِّ خالقٌ للمسبَّبِ"، في الدَّلالة على أنَّ أفعال العباد مخلوقة لله -عز وجل.
فأفعال العباد منسوبة للعباد والله خلقها.
كيف خلقها الله -عز وجل؟
فيُرد بهذه القاعدة.
ما الذي ركَّبَ فيه الحواس وأعطاه القدرة والاستطاعة؟
وهذه مباحث من مباحث القضاء والقدر، ولعل يأتي -إن شاء الله- لها تفصيل وبيان على وجه الإيجاز.
فالذي خلقه وقدَّره هو الله، وما نتج عنه من العمل مخلوق لله -عز وجل.
ثم الآية التي بعدها في قول الله -عز وجل: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾.
هنا مسألة مهمَّة جدًّا يحسُن بيانها في هذه المباحث، فكلُّ ما هو كائن سبق به القدر، ويجري بحث مسألة تعتبر من المسائل التي قد يكثر الكلام فيها، وهي:
هل ثَمَّ فرقٌ بين القضاء والقدر؟
أحسن ما يُقال في هذا: أنَّ القضاء ما قُضيَ ووقع، والقدر يَعُمُّ ما قُضيَ وما لم يُقضَ وما لم يقع، فالقدر أعمُّ والقضاء أخصُّ، ولهذا قال الله -عز وجل- عن سليمان: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ﴾ [سبأ: 14].
حديث عبد الله بن عمرو تكلمنا عنه، في أنَّ الله -عز وجل- قدَّر مقادير الخلائق، أمَّا حديث علي بن أبي طالب الآتي فتحته مسائل، ولعلنا نقرأه.
{(عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ، وَمَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ»، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ ؟ قَالَ : «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ، فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ»، ثُمَّ قَرَأَ ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ﴾)}.
هذا الحديث حديث عظيم في بيان القضاء والقدر، وأنَّ الله -عز وجل- قد كتب كل شيء.
المسألة الأولى التي تُبحث في هذا الحديث: أن الله كتب أهل الجنة، وجاء في الحديث «وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ»، فكتب الله كل شيء، أهل الجنة قد كتبهم الله، وأهل النار قد كتبهم الله -عز وجل.
وهي مرتبة من مراتب الإيمان بالقضاء والقدر، وهي مرتبة الكتابة، وكونه -سبحانه تعالى- قد كتب ذلك، فعلمه وكتبه وشاءه وخلقه وأوجده، فكون الله -عز وجل- قد كتب ذلك فلا يعني الجبر بوجهٍ من الوجوه.
ونرجع إلى المسائل المحكمات التي ذكرنا تقريرها فيما سبق؛ لأنَّ علمه -سبحانه تعالى- غائب عن خلقه، لا أحد يعلم علم الله -عز وجل، فكون الله علمه وكتبه فلا يعني ذلك أنَّ الإنسان مجبور أبدًا، كما سيبين النَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك، والله يعلم كل شيء، وعلمه شامل ما هو كائن وما لم يكن لو كان كيف كان يكون -سبحانه تعالى.
والله لا يُعذِّب على عِلمه سبحانه حتى يقع من العبد الفعل والاختيار لما قد كتبه الله -عز وجل- عليه، إذن ليس ثَمَّ جبر بوجه من الوجوه، ونظيره قول الله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ﴾ [البقرة: 143]، ولهذا لا يقل أحد إن الله لا يعلم ذلك! بل علمه، ولكن ظهور علمه -سبحانه تعالى- لم يقع، علم الله -عز وجل- من يتبع الرسول ومن لا يتبع الرسول إذا حُوِّلَت القبلة، ولكن ظهور هذا العلم هذا الذي أراده الله -عز وجل- في هذه الآية.
والعبد يعلم من نفسه الإرادة والاختيار، وهذا دائمًا نؤكد عليه ونقرره، أنَّ الإنسان يعلم من نفسه أنَّه ليس ثَمَّ جبر، وأنَّه مُختار ومُريد، وهذا هو الذي يُعذَّب ويُعاقب عليه العبد، فله مشيئة واختيار، والله يُحاسبه على إرادته واختياره، فما أحد يقول: أنا فعلت المعصية وأنا أجد من نفسي أني مجبور! بل هو يسعى إليها ويفعلها، والكفر كذلك، فتجده يُقبل عليه ويتهوَّك ويخوض فيه، فهذا يُعاقبه الله -عز وجل- على ذلك.
المسألة الثانية: هل ما كتبه الله -عز وجل- قابل للتغيير كما قال الله تعالى: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ﴾ [الرعد: 39]، أم أنَّ ما كتبه الله -عز وجل- لا يتغيَّر؟
نقول -كما في تقرير أهل العلم: إنَّ مَا كتبه الله -عز وجل- في اللوح المحفوظ عنده -وهو المرتبة الثانية من مراتب الإيمان- لا يتغيَّر ولا يَتَبدَل، وأمَّا ما في صُحفِ الملائكة فهذا يَتَغير، وهو في قول الله تعالى: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ﴾، وهو في التقدير الحولي السَّنوي الذي يكون في ليلة القَدر في صُحف الملائكة، ولهذا فإنَّ الملائكة لا تعلم إِلَّا مَا أَعلمها الله -عز وجل- في التقدير الحولي الذي يُكتب في صحف الملائكة، والذي قال الله -عز وجل- فيه: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: 4].
ومن القدر الذي قد كتبه الله -عز وجل- ويحصل به المحو والإثبات ما هو مُعلَّق، ويسمه بعض أهل العلم: "القدر المُعلَّق"، إن فَعَلَ كذا يحصل له كذا، إن دعا حصلَ له المقصود، إن لم يحصل منه الدُّعاء فلا، وهذا إنَّما يكون في صحف الملائكة، ومن ذلك الحديث المشهور: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» .
كذلك من المسائل المهمَّة التي تحتاج البحث: مسألة التَّوفيق والخذلان، وهي تابعة لمسائل المشيئة والاختيار وخلقِ أفعالِ العباد.
إذن مَا الذي يجعل ثَمَّ فَرْقٌ بين المؤمن والكافر وبين المُطيع والعَاصي مَا دام أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- عَلمه وكتبه وشاءه وخلقه وأوجده؟ ما الفرق بينهما؟ أليس ثَمَّ مسائل يُفرَّق فيها؟
أهل العلم يقولون: هذه مسألة التوفيق والخذلان، فالله -سبحانه تعالى- يخصُّ بعض عباده بالتوفيق، ويُعينهم، ويصرف عنهم موانع الضَّلال، هذا الإنسان يراه من نفسه وأنَّه يُعان، مثل: القيام لصلاة الفجر، أليس ثَمَّ مُعانٌ ومخذولٌ؟! إذن هو توفيق، قال الله -عز وجل: ﴿وَلَـٰكِن كَرِهَ اللَّـهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُو﴾ [التوبة: 46]، هذا التَّثبيط هو الخذلان، فخذلهم الله -عز وجل.
فإذن فالتَّوفيق: هو الإعانة، وأن يصرف عنه موانع الضَّلال.
والخذلان: أن يَكِلَ اللهُ العبدَ لنفسه، فلا يُعينه، ولا يصرف عنه موانع الضلال، ولهذا في دعاء النَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ» ، هذا طلب من العبد لربه الإعانة والتوفيق، فهذا يُسَمه بعضُ أهلِ العلم الإمداد مِن الله، فهو إعانة وتوفيق، وحينما يعلم العبد ذلك يَشهد عَظيم المنَّة مِن الله عليه، فلا يُعجب بنفسه، ولا يبطر على النَّاس ولا يتكبَّر؛ بل يعرف أنَّ الأمر محضُ فضلٍ وتوفيقٍ.
فإن قال أحد: لماذا وفَّق الله -عز وجل- ذاك وخذل هذا؟
نقول: هذا عدل منه -سبحانه تعالى؛ لأنَّ الله جعله مُختارًا فاختار، فكون الله -عز وجل- يُمدُّ هذا ويُعينه ويخذل هذا فالله -سبحانه تعالى- أعلم بالمحالِّ التي تقبل الهداية والمحالِّ التي لا تقبل ذلك، وهذا يبعث الإنسان على أن يَشهد أنَّ النَّفس ظالمة ومقصرة، وأنَّه إذا لم يكن من الله -عز وجل- عون وتوفيق فالعبد مخذول.
المسألة التي بعدها وهي من المسائل المهمة: مذاهب النَّاس المخالفون لأهلِ السُّنَّة والجماعة في القدر على وجه البيان والإجمال:
المذهب الأوَّل: غلاة القَدَريَّة، وهم أسبق مِن الجبريَّة، وهؤلاء حدثوا في أواخر عهد الصَّحابة، في عهد عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وهؤلاء أوَّل ما ظهروا أنكروا علم الله -عز وجل- وقالوا: إنَّ الله لا يَعلم المُطيع مِنَ العَاصي، ولا يعلم المؤمن من الكافر حتى يقع! تعالى الله عمَّا يَقولون علوًّا كبيرًا.
وهؤلاء الذين قال فيهم الشافعي: "نَاظَرُوا القَدَريَّة بِالْعِلْمِ فَإِنْ أَقَرُّوا بِهِ خُصِمُوا وَإِنْ جَحَدُوهُ كَفَروا"، فهؤلاء هم الأوائل من القَدَريَّة، ثم صار القَدَريَّة إلى الإقرار بالعِلم ونفي المراتب الباقية من مراتب الإيمان بالقضاءِ والقدر.
المذهب الثَّاني: غُلاة الجبرية، وهم الجهميَّة أتباع الجهم بن صفوان الذين يزعمون أنَّ العبد لا قُدرة له ولا اختيار، وأنه كالرِّيشةِ قي مَهبِّ الرِّيحِ، وكالآلة في يدِ الصَّانع، وكالقلم في يدِ الكاتب، فهؤلاء هُم غُلاة الجبرية.
طبعًا هذا المذهب يجرُّ إلى تعطيل الشَّريعة -نسأل الله السَّلامة والعَافية- ولهم قبائح في مثل هذه المسائل، ولكن الإنسان يحكي المذاهب حتى يكون على معرفة بأن هؤلاء غلاة.
المذهب الثَّالث: القَدَريَّة المعتزلة؛ لأنَّ المعتزلة ورثوا مذهب القَدَريَّة أتباع عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء، فالمعتزلة مَعروفون، وقد ورثوا مذهب القَدَريَّة، وهؤلاء هم مَن يقولون: إنَّ أفعال العباد ليست مخلوقة لله -عز وجل- وأنَّ العبد يخلق فعل نفسه. هذا هو المذهب الثَّالث الذي يُنظر في باب مسائل القضاء والقدر.
المذهب الرَّابع: الجبريَّة الأشعريَّة؛ لأنَّ الأشعريَّة وبخاصَّة المتأخِّرين منهم عندهم جبرٌ في مسائل القضاء والقدر -كما هو معروف- وهم نُفاة الأسباب والعِلل الذين يقولون بالكسب، ولهم مذهب مشهور ومعروف وهو أنَّ الله -عز وجل- يفعل عند السَّبب لا به، يعني: السِّكين ليست بقاطعة، والنَّار ليست بمحرقة بذاتها، لشُبهةٍ عندهم.
قالوا: لو قلنا إنَّ لها تأثير لكان ثَمَّ مُؤثر غير الله تعالى!
وقولهم هذا إنَّما لأنهم لم يسلكوا مَسلك أهل السُّنَّة والجماعة في النَّظر والجمع بين النُّصوص، فقالوا: النَّار عند الملامسة تحرق، فيفعل الله -عَزَّ وَجَلَّ- عندها لا بها، فيخلق الله الحرق، والسكين عند الاقتران يخلق الله القطع! وكل هذه مذاهب فاسدة، ولكن ذكرناها حتى إذا جاء طالب العلم لبحث هذه المسائل التي مرَّت عليه يَعرف نُفاة الأسباب والعلل.
ومذهب أهل السنة -كما هو مُقرر: أنَّ الله -عز وجل- قد قَدَّر كُلَّ شيء، وسيأتي -إن شاء الله- بيان ذلك في بعض المسائل.
المسألة التي تليها: أنَّ الإشكال الذي قد يُتصوَّر في أوَّلِ الحديثِ هو أنَّ الله قد كتبَ كلَّ شيءٍ وقدَّره، ولهذا قال بعض الصَّحابة في بعض الروايات: "أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟!"
هذا إشكال، هل يقتضي أنَّ الله كتب أن نترك العمل؟! فأجاب النَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما أعلمهم أنَّ الله -عز وجل- قد كتب كل شيء، قال: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»، إذن المطلوب منَّا العمل بما يرضي الله -عز وجل.
كيف أعمل وأنا قد كتب الله -عز وجل- أني من أهل الشقاوة؟
قال النَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»، ثم تلا الآيات، وهذه التلاوة لهذه الآيات تزيل الإشكال، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى﴾، إذن العطاء من اختيار العبد، والتقوى من اختيار العبد وعمله، قال الله -عز وجل: ﴿وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ﴾، التَّصديق: إيمان بالجنَّة، وبموعود الله -عز وجل- إذن هو عمل بأسباب الهداية فوفَّقه الله للهداية.
ولهذا فإنَّ المطلوب مِنَ النَّاس جميعًا أن يعلموا أنَّ العلمَ السَّابق لا شأن لهم فيه، ولكن المطلوب منهم أن يعملوا الأسباب، وأن يسألوا الله -عز وجل- أن يُوفقهم إلى الخير، وأن يختم لهم بالصَّالحات، وأن يَهديهم الصِّراط المستقيم، وأن يُميتهم على هذا الصِّراط المستقيم.
أمَّا ما علمه الله -عز وجل- فهذا ليس لهم فيه شأن، فلعل تلاوة هذه الآيات تُزيل الإشكال الذي قد يتبادر إلى الذِّهن، فالنَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما أخبر به يُصدِّقه القرآن، وما أجمله النَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تفسره هذه الآيات، وكذلك ما أُجمِلَ في كلام الله -عز وجل- يُفسره ما جاء في القرآن، فالقرآن والسنة وحيان.
{الأعمال هي أسباب لنيل رحمة الله، ولتيسير الجنة، أليس كذلك؟}.
نعم، سيُيسَّر له، فالمطلوب مِنَ العبدِ أن يَعمل، ولا يَقُل قَد كتبني الله -عز وجل- مِن كذا أو كذا؛ لأنه غائب عنه، وإذا علم الله -عز وجل- منه إرادة الخير وفَّقه للخير، قال تعالى: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ﴾، فهذا يُزيل الإشكال، ولهذا لا يتبادر إلى الذِّهن أنَّ ثَمَّ جبر، وإنما يُعذَّبُ الإنسان على اختياره، إذن هذا حديث النَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُقطَع به ويُردُّ به.
ونُحبُّ أن نُبيِّن بعض الأمور المهمَّة:
الآن في شبكات التَّواصل الاجتماعي تُثار الشُّبهات، ومن أعظم أسباب الضَّلال في مثل هذه المسائل هو الخوض في باب القضاء والقدر، وأنَّ الباحث أو السَّائل يجعل قلبه كالإسفنجة تتلقى الشُّبهات ولا يتلقى العلم، والمطلوب من طالبَ العلمِ وطالبَ الحقِّ أن يأخذَ الحقَّ ويستوعبه، حتى إذا أُشرِبَ القلبُ هذا الحق فإنَّ يستطيع أن يردَّ الباطل، ولهذا فليس من الحسن ولا من التَّوفيق أن يلج الإنسان باب الشُّبهات، والنَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى الصَّحابة عن الخوض في القضاء والقدر والتَّعمُّق فيه، ويكفي للإنسان فيه الجُمَل، وهذه الجُمَل والمحكمات يردُّ بها على هذه الوسوسات، والشياطين يدخلون من هذه الأبواب، كما مرَّ معنا التَّسلسل في خلق الموجودات الوارد في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم.
وكذلك من أسباب الضَّلال: أن يُقال لماذا هذا فقير؟ وهذا غني؟ وهذا مريض؟ وهذا صحيح؟!
يبحثون مسائل كثيرة، ويدخلون ويتشاحبون في كتب الفلسفة وما شاكل ذلك، التي هي زُبالة أفكار البشر، ويتركون الحقَّ!
ووصيتي لكل باحثٍ عن الحقِّ: أن يُقبل على كلام الله، وكلام رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّ فيه الشِّفاء، فكلام أهل العلم وتقريراتهم تزول به الشُّبهات، ويستقيم الإنسان على الصِّراط المستقيم.
أمَّا إذا كان يأخذ هذا الدِّين بشكٍّ، فلا شكَّ أنَّ الواردات تكون عليه كثيرة، وأمَّا إذا أخذه بيقينٍ وإيمان فإنَّه يستطيع أن يردَّ الباطل بما أعلمه الله -عز وجل، وبما وفَّقه إليه مِن فَهم النُّصوص والرَّدِّ على الشُّبهات التي هي بحرٌ لا ساحل له.
فنصيحتي للشَّباب والشَّابَّات في مواقع التَّواصل ألَّا يدخلوا في أمور لا يُحسنونها، وإذا وردت عليه الشُّبهة فعليه أن يسأل «فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ» ، ولا يكتم هذا الشَّيء المُشكِل؛ لأنَّ بعض الشباب قد يكتم هذه الأمور، وهذا لا يصلح، فكلُّ ما في نفسِهِ يقوله لمن يعلمَ منه العلمَ والمعرفة حتى يُجلِّي عنه هذه الشُّبهة، ربَّما ترى الشُّبهة كبيرة وهي صغيرة جدًّا، فإذا سألت أهلَ العلم زالت عنك وزالت عن صدرك بحمد الله، والحمد لله فإنَّ الحق أبلج، والباطل لجلج، ونحن -بحمد الله- على يقينٍ وثبات في ديننا، ونسأل الله -سبحانه تعالى- أن يثبتنا على الدين، وأن يتوفانا على هذا الدين المستقيم، وأن يوفقنا لما يرضيه -سبحانه تعالى.
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يرفعكم به الدرجات العلا.
هذه تحية عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.