بسم الله الرحمن الرحيم.
{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أُرحِبُ بكم إخواني وأخواتي المُشاهدين الأعِزَّاء في حلقة جديدةٍ مِن حلقات البناء العِلمي، وكما لا أنسى أن أرحب باسمي واسمكم فضيلة الشيخ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن.
فأهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ.
هذا هو اللقاء الثالث من لقاءات شرح متن أصول الإيمان.
توقفنا في الحلقة الماضية عند حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رحمةِ الله -سبحانه وتعالى.
وفي هذه الحلقة -بإذن الله- سنشرع في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه، قال: («إِنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا رَأَتْ كَلْبًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ يُطِيفُ بِبِئْرٍ، قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنَ الْعَطَشِ، فَنَزَعَتْ لَهُ، فَسَقَتْهُ، فَغُفِرَ لَهَ».
وقال: «دخلت النَّارَ امرأة في هرةٍ حبستها؛ لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ». قال الزّهري: "لِئلا يتكل أَحد ولا ييأس أَحد". أخرجاه)}.
الحمدُ لله رب العَالمين، وأُصلي وأُسَلِّم على المبعوثِ رَحمةً للعَالمين، نسألُ الله -سبحانه وتعالى- أن يُعَلِّمنا ما يَنفعنا، وأن يَرزقنا العمل بما عَلِمنَا، وأن يُفَقِهَنَا في دينه، وأن يُوفِقَنا لكلِ خيرٍ، وأن يَنفعنا بما نسمع، وأن يَجعل مَا نقولُ حُجَّةً لنا لا حجَّة علينا.
وكما ذكرت -أخي الفاضل- وقرأت هذين الحديثين من رواية أبي هريرة -رضي الله عنه.
الحديث: (وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- مرفوعا: «إِنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا رَأَتْ كَلْبًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ يُطِيفُ بِبِئْرٍ، قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنَ الْعَطَشِ، فَنَزَعَتْ له مُوقَهَا، فَسَقَتْهُ، فَغُفِرَ لَهَ»).
هذا الحديث مخرَّج في الصحيحين من حديث ابن عمر -رضي الله عنه- وكذلك من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه.
تحت هذين الحديثين مسائل:
المسألة الأولى: بعض المفردات تحتاج بيان، مثلًا: النَّبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إِنَّ امْرَأَةً بَغِيًّ»، البغيُّ: هي المومس التي تزني وتقبض أجرًا على فِعلها -نسأل الله العافية والسلامة.
ومِن الألفاظِ التي تحتاج بيان في الحديث: قال: «فَنَزَعَتْ له مُوقَهَ»، المُوق: هو الذي يُلبَس فوق الخُف، وهي كلمة فارسيَّة معرَّبة.
فهذه المرأة رأت هذا الكلب بلغ به العَطش مَبلغًا عظيمًا جَعَلَه قد أدلع لسانه -وهذا وصف لحالة الكلب- في يوم حارٍّ، وهي قد وصلت إلى بئرٍ -الذي يؤخذ منه الماء- فعملت عملًا، وهو أنه من رحمتها بهذا الكلب نَزَعَتْ لَه هذا الموق وأخذت مِن خِلاله الماء فسقت هذا الكلب، هذا عمل فعلته وهي امرأة وقعت في كبيرة من كبائر الذنوب، وهي مُستديمة على هذه "الكبيرة"، وهي كَبِيرةُ الزِّنَا -أعاذنا الله وإيَّاكم مِن هذا- فَقَابَلَها اللهُ -عزَّ وجلَّ- بالمغفرةِ لها مِن أجل هذا العمل.
نفسر الحديث الذي بعده: قال: «دَخَلَت النَّارَ امرأةٌ فِي هِرَّةٍ».
الهرة: هي أنثى القط.
هذه الهرة «حَبَسَتْهَ»، أي: منعتها مِن أن تنطلق.
قال: «لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَ» حينما حبستها.
قال: «وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ»؛ لأنَّ الهِرَّة تأكل خشاش الأرض، أي: الحشرات وما شاكل ذلك.
ثم ختم الزهري -رحمه الله تعالى- قال: (لِئلا يتكل أَحد ولا ييأس أَحد)، سنأتي عليه بالبيان -إن شاء الله- من خلال المسائل.
المسألة الثانية: مما يُستفاد من هذين الحديثين: أنَّ العملَ الصَّالح إذا قَويَ الإخلاص فيه قد يأتي على السيئات كلها بالمحو، فالعمل الصَّالح ولو كان في نظرك قليلاً، ولكن إذا استكمل شروطه، وعَظُمَ الإخلاص فيه؛ يأتي على السيئات كلها فيمحوها، وهذا فضل الله ومن رحمته -عزَّ وجلَّ- بخلقه.
المسألة الثالثة: حَبْسُ الحيوان وتعذيبه ليس في شريعة الإسلام، بل هو محرَّم، فالمرأة حبستها ولم تُطْعِمها ولم تتركها تأكل مِن خَشَاشِ الأرض، فكان ذلك العمل في صورته عملٌ يسيرٌ عند كثيرٍ مِنَ النَّاس ولكنه كان مِن أَسبابِ دخول النَّار -نسأل الله السَّلامة والعافية.
ولهذا فالإنسان ينبغي عليه أن يَعتني بمتابعته للنَّبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في عمله، وبتحقيق الإخلاص في الأعمال.
ولهذا يقول أهل العلم: تحقيق الإخلاص، وتجريد المتابعة؛ لأنَّ العملَ الصَّالِح إذا أخلص الإنسان فيه لله -عزَّ وجلَّ- كان ثَوابُه عند الله عظيم. ولك عبرة في قصَّة المرأة البغي.
المسألة الرابعة: كان ابن المبارك -رحمه الله- يقول: "كم من عمل قليل عظَّمته النيَّة، وكم عمل عظيم حقَّرته النيَّة"، ولهذا فإنَّ تفاضل الأعمال ليس بصورته الظاهرة كما يتصور النَّاس، وإنما بحسب ما يقوم في القلوب.
ولهذا فالإنسان يرجو مِن كُلِّ عملٍ فضل الله -عزَّ وجلَّ، ويخشى مِن كُلِّ ذَنبٍ، فأنت ربما تَعمل بعض الأعمال الصَّالحة وأنت تظن أنَّها يسيرة، ولكنَّها عند الله عظيمة إذا تحقق الإخلاص، ولهذا كان السلف -رحمهم الله- يحبون أن يكون لهم خبيئة من عمل صالحٍ.
والخبيئة: هي الأعمال التي لا يطلع عليها أحد.
كانوا يُحبون ذلك حتى يَعظُم الإخلاص فيها؛ لأنَّه إِذَا عَظُمَ الإخلاص في العمل عَظُم الأجر مِن الله -سبحانه وتعالى.
فانظر إلى تلك المرأة التي أَسرفت على نفسها بالمعاصي، فَعَمِلَت هذا العمل وأخصلت فيه لله -عزَّ وجلَّ- رجاء ثوابه، فكان ذلك من أسباب المغفرة -نسأل الله أن يغفر لنا.
لهذا -كما قلت: إنَّ الأعمالَ لا تتفاضل بصورتها الظَّاهرة، وإنما تتفاضل بحسب ما يقوم في قَلبِ العبدِ، ولهذا «سبق درهم ألفي درهم، وسبق دينار ألف دينار» ، ما الذي جعله يسبقه؟
الإخلاص لله -عزَّ وجلَّ.
فلهذا ينبغي للإنسان أن يُعنَى بتحقيق الإخلاص لله -سبحانه وتعالى.
ولهذا وردت أحاديث كثيرة في غير هذا الموضع: «أن رجلًا أماط شوكة عن الطريق فغفر الله له» .
إذن لا تَحقرنَّ مِنَ المعروف شيئًا، ولا تحقرنَّ الأعمال في صورتها الظَّاهرة، فَرُبَّ العمل القليل عظَّمته النيَّة وجعلته عظيمًا، وعمل آخر يبدو عظيمًا في صورته ولكنه يضعف من جهة النيَّة. ولذلك فمدار الأمر على الإخلاص لله -سبحانه وتعالى.
المسألة الخامسة: قال محمد بن شهاب الزهري -وهو أحد أئمة التابعين: (لِئلا يتكل أَحد ولا ييأس أَحد). الله أكبر!
سيكون الإنسان بين الخوف والرجاء، يرجو رحمة الله -عزَّ وجلَّ- وفي نفس الوقت يخشى عذابه، فربما أعمالٌ صَالحة كانت من أسباب دخول الجنة، وربما أعمالٌ يَسيرةٌ تكون سببًا في دخول النَّار، ولهذا لابد أن يكون الإنسان على خوفٍ ورجاءٍ حتى يَسير في هذا الطريق حتى يبلغ فَضل الله -عزَّ وجلَّ- ولهذا لِمَا يقوم في القلب من الإخلاص وإن كانت الأعمال في ظاهرها أنها يسيرة؛ يكون الثَّواب عند الله -سبحانه وتعالى.
ولهذا -أيُّها الإخوة- لابد للإنسان أن يُعنَى بتحقيق الإخلاص في قلبه، فيتذكر هذا الإخلاص، ويتذكر أنَّه يعمل لله -عزَّ وجلَّ- ويَعظُم هذا في قلبه، ويرجو ثواب الله على هذا.
{قال -رحمه الله: (وعنه مرفوعا: «عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي السَّلَاسِلِ». رواه أَحمد والبخاري.
وعن أبي موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وسَلَّم: «مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ يَدَّعُونَ لَهُ الْوَلَدَ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ». رواه البخاري.
وله عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صَلَّى اللَّه عليه وسَلَّم: «إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتعالى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ»)}.
تحت هذه الأحاديث التي ذكرها المصنف -رحمه الله تعالى- مسائل:
المسألة الأولى: في قول النَّبي -صَلَّى الله عليه وَسَلَّم- «عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي السَّلَاسِلِ».
هذا العجب صفة من صفات الله -عزَّ وجلَّ- وهي كغيرها من الصفات، تُثبَت لله مع قَطْعِ مُمَاثلة صفات الله -عزَّ وجلَّ- لخلقه على حدِّ قوله -سبحانه وتعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].
وهذه الصِّفة وَرَدَت في النُّصوصِ مِن كلام الله، ومن كلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهذا من كلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- وفي قراءة عبد الله بن مسعود ﴿بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ﴾ [الصافات: 12]، حيثُ نِسبَةُ العَجَبِ للهِ -سبحانه وتعالى- وهو كَغَيرِه مِن صِفَات الله -عزَّ وجلَّ- تثبَت كما جاءت في النُّصوص، ولا يُسأل عنها بكيفٍ، كصفة النزول، وصفة الضَّحِك، ويُقطَع نفي المماثلة لله -عزَّ وجلَّ- لخلقه في صفاته -سبحانه وتعالى.
وفي الحديث مسألة ثانية: أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي السَّلَاسِلِ»، الحديث في أصح أقوال أهل العلم أنَّ هذا يَصدق على مَن وقع عليه الأسر من الكفار في الجهاد، وكان بعد الأسر مُسلمًا، وهذا وقع من عدد من أبناء التَّابعين، وتابعي التابعين، فإنَّ آباءهم كانوا موالي بسبب الأسر، ثم حصل لهم ولآبائهم بهذا الأسر الخير الكثير.
على سبيل المثال: الحسن البصري -رحمه الله تعالى- وابن سيرين، كانا من أبناء موالي، ومع ذلك فمن أبطأ به عمله لم يُسرع به نسبه، والإسلام ليس حِكرًا على جنس دون جنس، وإنما ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13].
الأسر في صورته الظَّاهرة عُقوبة وأذى ومصيبة، ولكن ربما محنة أعقبتها المنحة من الله -سبحانه وتعالى- فهذا هو موضع عَجَبُ الرَّبِّ -سبحانه وتعالى- أنَّ هَذا الأسر كان سببًا لدخولهم الجنة، ولهذا فإنَّ العبرة بالخواتيم.
وكذلك حديث: «مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ»، فصفة الصبر تُثبَت لله -عزَّ وجلَّ- فالله يصبر على الأذى، ومن أسمائه -سبحانه وتعالى- الصبور.
وآثار صبره -سبحانه وتعالى- ما ذُكر في هذا الحديث، فالله -عزَّ وجلَّ- لا يُقاس صبره بصبر خلقه، ولهذا حِلمُ الله -عزَّ وجلَّ- وصبره لا يُماثل صبر المخلوقين، ولهذا قال: «عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ»، يعني: أنَّ الله -جلَّ وعلا وتقدَّس- يدَّعون له الولد -وهذا نسبة تعطيل له وعجز- كما يقوله النَّصارى ومن سار على نهجهم، ومع ذلك فالله -عزَّ وجلَّ- يُعافيهم ويرزقهم؛ لأنَّ رُبوبية الله -سبحانه وتعالى- ليست حِكرًا على أحد، فهي شاملة، ومع ذلك فالله -عزَّ وجلَّ- يُعافيهم وَيرزقهم، ويُقيم عليهم الحجج، حتى إذا جاء يوم القيامة وَفَّاهم أعمالهم وليس لهم حُجَّةً على الله -سبحانه وتعالى- بشيءٍ. فهذا من الأحاديث العظيمة
كذلك حديث أبي هريرة الذي ذكرته قبل قليل عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتعالى إِذَا أَحَبَّ عَبْدً»، هذا فيه إثبات صفة المحبَّة لله -سبحانه وتعالى- وأنَّ الله يُحبُّ عباده، وأنَّ صفة المحبة لله تعالى كغيرها من الصفات، لا تُقاس بصفات المخلوقين على أيِّ وجهٍ كان، وبابها باب الصفات الكاملة، إثباتها كما جاء في النصوص، وعدم السؤال عنها بــ "كيف" ومعرفة معاني هذه الصفة، أنَّ لها معنًى ولها آثار.
وفي الحديث جاء أثر هذه الصفة:
قال: «إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتعالى إِذَا أَحَبَّ عَبْدً»، فأثر هذه الصفة أنه «نادى: يا جبريل»، فيه إثبات صفة النِّداء، وأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يُنادي ويتكلم، وكلامه ليس ككلام المخلوقين بأي وجهٍ من الوجوه.
قال: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانً»، والله -عزَّ وجلَّ- يتكلم -كما هي عقيدة أهل السنة- بحرف يُكتب، وصوتٍ يُسمَع.
قال: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ».
طبعًا هذه مَرتبةٌ عظيمةٌ مِن مراتب الولاية، أنَّ الولي يَبلغ مِن مَحبةِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- له أنَّ الله تعالى يُنادي جِبريل بهذا، وجبريل يُنادي في الملأ الأعلى بهذا، فهذه مَرتبةٌ عظيمةٌ لا تكون إِلَّا لأولياءِ الله الذين حققوا الإخلاص، وجرَّدوا المُتابعة لرسولهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلم- فيُعلَم مِن هَذا أنَّ الله -سبحانه وتعالى- يُحبُّ عبدَه، وفيه إثبات أنَّه يُحب -سبحانه وتعالى.
قال: «ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ»، يعني: يَقبله أهل الإيمان؛ لأنَّ العِبْرَةَ بالقبولِ ليس لعموم أهل الأرض؛ لأنَّ الأنبياء وهم أنبياء لهم أعداء، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ [الأنعام: 112]، فهذا يعني أنَّ القبولَ في الأرض يكون لأهلِ الإيمانِ، فيُحبُّه أهل الإيمان، وهذه مرتبةٌ عظيمةٌ مِن مراتبِ الولاية لعبده -سبحانه وتعالى.
{قال -رحمه الله: (عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ : كُنَّا جُلُوسًا لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، فَقَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا، لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُو»، ثُمَّ قَرَأَ : ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾ الآية رواه الجماعة)}.
هذا حديث جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ البُجَلي، وجَرِيرِ من أعيان الصَّحابة، ومن قبيلة عربية -قبيلة بجيلة- جهة اليمن، وجرير -رضي الله عنه- حدَّث عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم، فالنَّبي -صلَّى الله عليه وسلم- في مجالس متعددة يُحدث الصَّحابة ويُخبرهم بما يكون يوم القيامة، فهو يسوق لنا هذا الحديث.
قال: (كُنَّا جُلُوسًا لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ)، القمر -كما هو معلوم- له أحوال، فتارة يكون هلالًا، وتارة يكون أحدبًا، وتارة يكون بدرًا، وهكذا حتى يصل إلى مرحلة المحاق، فالقمر في ليلة البدر يُعدُّ من أحسن ليالي الشهر من السُّمَّار والمسافرين، ورؤية القمر ليالي البدر من أعظم أحوال رؤية القمر، فيراه النَّاس كلهم، ولا يخفى على أحدً؛ لأنّهَ في مرحلة الهلال أو ما شاكلها يكون خفيًا، وأمَّا ليلة البدر فيمكث على أهل الأرض في الليل مُدة طويلة، ولهذا فالنَّبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أنَّ أهل الإيمان يرون ربهم كما يرون هذا القمر، وهذه الرؤية تكون في عَرصات يوم القيامة، والعَرصات: جمع عَرَصَة، وهو المكان الواسع، وتكون في الجنة، وهذه الرؤية خاصة بأهل الإيمان.
وأمَّا الكفار فقد ثبت أنهم محجوبون عن رؤيته -سبحانه وتعالى، وهذا من العذاب الذي يُعجله الله -عزَّ وجلَّ- لهم في عَرصات يوم القيامة، قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين: 15].
ولهذا أثبت السَّلفُ الصالح مِن الصَّحابةِ والتَّابعين هَذه الصِّفة، وهي أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يُرى، ورؤية الله -عزَّ وجلَّ- هي من أعظم نعيم أهل الجنة كما جاء في حديث صهيب الذي خرَّجه الإمام مسلم في قوله تعالى: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26]، حيثُ فَسَّرَ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- الزيادة برؤية الرَّب -سبحانه وتعالى- في الجنة، فهذا أعظم نعيم لأهل الجنة.
ولهذا شبَّه النَّبي -صلى الله عليه وسلم- هنا الرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي؛ لأنَّ القَمَرَ مخلوق، والله -سبحانه وتعالى- هو الخالق، ولكن شبَّه الرؤية بالرؤية، يعني: كما أنَّكم تَرَونَ القَمَرَ ليلة البدر لا تضامون في رؤيته، أي: لا يلحقكم ضيمٌ، ولا يلحقكم أذى في رؤيتة، فما أحد يتزاحم على رؤية القمر، وكل النَّاسِ يَرَونَه؛ لأنَّه عالٍ في السماء، فيرونه على حدٍّ سواء، فكذلك شبَّه الرؤية بالرؤية، ولهذا قال: «لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ».
والله -عزَّ وجلَّ- يُرى، وحينما يُرى فرؤيته ليست كرؤية خلقه -سبحانه وتعالى- فهو لا مَثيلَ له، ولا سميَّ له، ولا نِدَّ له ولا نَظِير -سبحانه وتعالى- ونبين هذا فيما سيأتي -إن شاء الله.
وهنا لفتةٌ تربويةٌ عظيمةٌ وهي أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- حينما يُحدث الصَّحابة بما يكون يوم القيامة؛ يُبيِّن لهم أنَّ هذا الذي يكون يوم القيامة، وهذه الأعمال الصَّالحة لها أسباب في الدُّنيا، فعلى أهل الإيمان أن يتعاطوا أسباب هذا النَّعيم، ولهذا لمَّا حدثهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بما هو كائن يوم القيامة وأن أهل الإيمان سيرونه؛ ذَكَرَ لهم السَّبَبَ فقال: «فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُو»، ولاحظ عبارة النَّبي -صلى الله عليه وسلم!
يعني: كُن حَريصًا على هاتين الصَّلاتين، قبل طلوع الشَّمس، أي: صلاة الفجر، والصَّلاة قبل الغُروب، أي: صلاة العصر.
ولهذا قال النَّبي -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ» .
إذن من أسباب حصول الرؤية لك يوم القيامة أن تكون -يا عبد الله- ممَّن واظبَ وحافظَ على صلاتي الفجر والعصر حيث يُنادى بهنَّ في المساجد؛ لأنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة: 43].
وقال ابن مسعود: "لَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ" ، هذه السنة الواجبة وليست السنة المستحبة.
ولهذا ينبغي لأهل الإيمان أَلَّا يُفرطوا في هذا الثَّواب العظيم، وفي هذا الفضل العظيم، كما أنَّ صلاة الصبح وصلاة العصر جاءت فيها أحاديث كثيرة، فينبغي للإنسان أَلَّا يحولُ بينه وبين هاتين الصَّلاتين حائل، فيكون حريصًا كل الحرص أن يُصلي هاتين الصَّلاتين، وأن يتذكر حديث النبي -صلى الله عليه وسلم: «فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُو»، فهذه وصية المُحب لمن يُحب -صلوات ربي وسلامه عليه- الذي ما ترك من خيرٍ إِلَّا ودلَّ الأمة عليه -عليه الصلاة والسلام.
{أحسن الله إليكم يا شيخ..
من الأسئلة التي قد تتكر معنا: عند الكلام عن صفات الله -سبحانه وتعالى- وعن أسمائه، بعض الناس يقول: قد يقع في الذهن بعض التشبيه، فما السبيل إلى دفع هذا التشبيه؟}.
عند السلف -رحمهم الله- قواعد عظيمة.
أولًا: ما يَقذفه الشيطان في قلبك فهذا من وسوسة الشيطان، وينبغي أن تعرف أنَّ الله -سبحانه وتعالى- أعظم وأجل من أن يُدرَك من جهة كيفية الصفات، لهذا فمن قواعد أهل العلم من أهل السنة والجماعة، يقولون: "قطع الطَّمع عن إدراك كيفية الصفات"؛ لأنَّ القَلبَ له طمع في إدراك هذه الكيفية، ولكن إذا قطعته انقطع، فتعلم أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- لا يمكن أن يُدرك من جهة كيفيته، وتعرف أنَّ للصفةِ معنى، ولكنَّ الله -عزَّ وجلَّ- أجل وأعظم من أن يُكيِّفه أهل التكييف -سبحانه وتعالى.
ولهذا النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فيما جاء عنه من النُّصوص؛ ليس المطلوب منَّا أن نكيِّفها، ولكن المطلوب أن نثبتها ونعرف معناها، ونثبت آثار هذه الصفة، وفي الحديث لما حدَّث النبي -صلى الله عليه وسلم- بحديث: «يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ يَدْخُلَانِ الْجَنَّةَ» ، فقال الصحابي: أوَيضحك ربنا؟!
لكن لم يخض في مسألة التكييف؛ فلم يَقُل:
- كيف يضحك الرب -سبحانه وتعالى؟!
- هل له -تعالى وتقدَّس- أسنان وشفتان؟!
الله -عزَّ وجلَّ- مُنزَّه عن ذلك؛ لأنَّه لا مَثِيلَ له، ولا سَميَّ له، ولكنَّ الصَّحابي نَظَرَ إِلى آَثَارِ هذا الضَّحِك فقال: "نَعْدَمَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا" ، فآثار هذا الضحك هي رحمة الله -عزَّ وجلَّ- بخلقه.
ولهذا فإنَّ مِن آَثَارِ هذه الرُّؤية: أن يكون الإنسان محبًّا لربه -سبحانه وتعالى- سائلًا أن يريه الله -عزَّ وجلَّ- وأن يلحقه النعيم، وأعظم النعيم هو رؤية الربِّ -سبحانه وتعالى- في الجنة.
جاءت أحاديثٌ كثيرةٌ في أنَّ هذا يكون يوم المزيد، وأنه يحصل لهم من الحبور ومن اللذة، ومن السرور ومن النَّضارة لأهل الجنة ما يرجعون إلى أهليهم في الجنة فيرون أحوالهم قد تغيرت، وذلك فضل الله -عزَّ وجلَّ- نسأل الله ألا يحرمنا فضله.
{قال -رحمه الله: (وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أنَّ رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وسَلَّم قال:
«مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلا بُدَّ لَهُ مِنْهُ». رواه البخاري)}.
هذا الحديث حديث عظيم، ويشتمل على أحكامٍ كثيرةٍ جدًّا، وعلى معانٍ عظيمة جدًّا، ولهذا بعض أهل العلم، منهم الشوكاني -رحمه الله تعالى- المتوفى 1250 للهجرة شرحه في كتاب بعنوان: "قطر الولي على حديث الولي"، هذا يُسمى بحديث الولي؛ لأنَّه حدَّد ولاية الله -عزَّ وجلَّ- لخلقه وبينها، طبعًا هذه الولاية كائنة، وأنَّ مِن خلق الله أولياء لله -عزَّ وجلَّ- كما في حديث جبريل: «إنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبدًا نَادَى جِبْرِيل»، وهذه المناداة لا تكون إلا لأولياء الله -عزَّ وجلَّ.
وولاية الله لبعض خلقه لا تكون إلا لمراتب الخُلَّص من خلقه، ووردت الولاية في قول الله تعالى: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [يونس: 62]. من هم؟
قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [يونس: 63]، إيمان وتقوى.
إذن سبيل الولاية: الإيمان والتقوى.
كيف يكون الإنسان وليًا لله -عزَّ وجلَّ؟
مَن كان مؤمنًا بالله مُتقيًا له -سبحانه وتعالى.
ولهذا فإنَّ الله إذا تولاك فإنَّه يُفرِّج كُربَك، وَيَزيل عنك الخطوب، وليس عليك خوف ولا حُزن، فالله تعالى قال: من خلقه، ووردت الولاية في قول الله تعالى: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق2، 3].
إذن من أراد أن يَبْلُغ سبيل الولاية فعليه بالإيمان والتقوى، ويتحقق الإيمان بالإيمان بالله -عزَّ وجلَّ- والمتابعة للنَّبي -صلى الله عليه وسلم، مع تحقيق الإخلاص وتجريده والمتابعة للنبي -صلى الله عليه وسلم- فهكذا تكون الولاية لله -سبحانه وتعالى.
ولهذا فهذا الحديث بيَّنَ هذه الولاية، وكيف أنَّ الإنسان إذا كان الله -عزَّ وجلَّ- تولاه لا يضره مَن في الأرض جميعًا، وجاء في حديث عبد الله بن عباس: «وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ» ، وفي الآية الأخرى في سورة الأنعام: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82].
إذن سبيل ولاية الله -عزَّ وجلَّ- هو: الإيمان والتوحيد.
تحقيقُ التَّوحيد في القلب، فمن عَظُمَ تَوحيده لله -عزَّ وجلَّ- كان وليًّا لله، ومَن عَظُمَت تَقواه لله -عزَّ وجلَّ- كان وليًّا لله، هذه هي الولاية، ولهذا فلا يمكن أن تكون ولاية الله -عزَّ وجلَّ- لمن يدعو غير الله، أو يَستغيث بغيرِ الله، أو يَذبحُ لغيرِ الله، هذه ولاية الشيطان، أمَّا ولاية الرَّحمن فلا تكون إلا لأهل التَّوحيد الذين يعبدونه وحده، ويُخلصون العبادة لله وحده، ولا يَخلطون أعمالهم بالشِّرك الظَّاهر الأكبر، أو بالشِّرك الأصغر، أو بالشِّرك الخفي -وهو شرك الرِّياء- فهؤلاء هم أولياءُ الله -عزَّ وجلَّ.
ولهذا قال : «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّ»، أي: مَن عادى وليَّ الله -عزَّ وجلَّ.
«فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ»: مَن المُحارَب ومَن المُحَارِب؟
المحارَب: مَن عادى ولي الله -عزَّ وجلَّ.
فكيف إذا كان الله -عزَّ وجلَّ- طليبه وهو المُحارِب له! ما ظنك؟!
لاشك أنَّه خَابَ وَخَسِرَ، ولهذا فالإنسان يخشى مِن معاداة أولياء الله -عزَّ وجلَّ.
أمَّا أهل التقوى والإيمان، فلا يتعرض لعباد الله -عزَّ وجلَّ- بالظلم؛ لأنَّ هذا يفتح عليه باب الحرب من الله -سبحانه وتعالى- نسأل الله السلامة والعافية.
قال: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ».
هنا نقطة مهمة لابد أن نجعلها شعارًا لنا في حياتنا، نعلمها لأولادنا، نتعلمها ونطبقها؛ وهي أنَّ أعظم القُربِ إلى الله -عزَّ وجلَّ- هو أداء الفرائض، بعض النَّاس عنده خلل، فيتقرب إلى الله -عزَّ وجلَّ- ويُحسِّن النَّوافل ويُضعف الفَرائض، والصَّحيح أنَّ أعظم شيء هو أداء الفرائض، ومن ذلك أداء الصَّلوات الخمس في المساجد، وفي أوقاتها لمن لم يكن من أهل المساجد كالنساء؛ لأنَّه يحصل تقصير من النساء في البيوت من تأخير الصلوات الفرائض.
إذن أعظم قُربة هي أداء الفريضة، وكأداء الزكاة، بعض الناس يتصدق ويبخل بالزكاة، فأعظم قربة هي الزكاة، وكذلك الصيام والحج لمن استطاع إليه سبيلًا، هذه أركان الإسلام، فتحسنها وتحرص عليها كل الحرص.
ولهذا فالله -عزَّ وجلَّ- قال: «وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ»، يؤدي الفرائض ثم النوافل، فهو أدى الفرائض ولم يُقدِّم النوافل.
قال: «وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ»، فالنوافل يحبها الله -عزَّ وجلَّ- وكلما تزداد منها تَقرُب من محبة الله -عزَّ وجلَّ. إذن هو يُجاهد في بلوغ سبيل الولاية، والمجاهدة تكون بأداء الفرائض والإتيان بالنوافل.
قال: «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ»، إذا وصل إلى مرحلة الولاية «كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ»، يعني: لا يسمع إلا ما يُرضيني، «وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ»، لا يُبصر إِلَّا مَا يُرضي الرَّب -سبحانه وتعالى- «وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَ»، يعني: لا يبطش ولا يُعاقب إلا لأجل الله وفي الله. «وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَ»، فهو لا يذهب إلى مُنكراتٍ ولا إلى معاصٍ، ولا يشهد الزُّور؛ لأنَّ الله تعالى قال: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ [الفرقان: 72]، مواقع المنكرات والمعاصي، فهو لا يسير برجله إِلَّا إلى مرضاة الله -عزَّ وجلَّ- كاتِّباع الجنائز، وزيارة المرضى، وصلة الأرحام، وما شاكل ذلك وما شابهه، فهذه ولاية عظيمة.
ثم بعد ذلك قال الله -عزَّ وجلَّ- عن جزائه: «وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ»، فهو وصل إلى مرتبة أنه إذا سأل الله -عزَّ وجلَّ- أعطاه، ولا يحول بينه، ولهذا لا يُقاس الناس بصورهم الظاهرة وأشكالهم، أو مناظرهم، أو هيئاتهم؛ وإنما مقامهم عند الله -عزَّ وجلَّ- فهذا خفي لا يعرفه أحد، وفي الحديث: «رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» ، وهذا لا يكون إلا لمرتبة عظيمة وولاية، وما حصل هذا بأمر يسير، لا شك أنه بالمجاهدة، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69].
قال: «وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»، إذن الله -عزَّ وجلَّ- يُحقق له مطلوبه، يُحقق له سؤله ويُعيذه ممَّا يكره، ومن ذلك أنه يسأل الله -عزَّ وجلَّ- الجنة، ويستعيذ بالله -عزَّ وجلَّ- من النار، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
إذن هذه الولاية هي ولاية الله -عزَّ وجلَّ- ولهذا فرقٌ بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ولهذا فيه رسالة ماتعة، أنصح طلاب العلم بقراءتها، وهي رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى: "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" لأنه حصل لبس في زمنه -حتى في زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى حصل لبس- فإنَّ بعض الناس قد يُصور له الطُّرقيَّة وأهل التَّصوُّف أنَّ الولاية تكون بهذه المخاريق التي يفعلونها، أو بخرق العادات أو ما شاكل ذلك، فالأمر يُنظر إليه بالاتباع، وتحقيق الإخلاص، ومتابعة النَّبي -صلى الله عليه وسلم.
إذن ولاية الله -تبارك وتعالى- لا تكون بالمخاريق، ولا بخرق العادة؛ لأنَّ الشَّافعي -رحمه الله- قال: "لو رأيته يطير في الهواء ويمشي على الماء فلا تغتر به حتى يُنظَر إليه عند الأمر والنهي"، يعني: عند الحلال والحرام.
فإذن ولاية الله -عزَّ وجلَّ- لا تكون بهذا، إنما تكون بتقوى الله تعالى، ومن كان يظنُّ أنَّ ولاية الله -عزَّ وجلَّ- تُدرَك بغير هذا فهو من أولياء الشيطان، وليس من أولياء الرحمن.
إذن ثَمَّ ولاية لله -عزَّ وجلَّ- ولهذا قد تُجرى المخاريق وخرق العادات على أيدي أولياء الشَّيطان، ولكن ليس هذا بمقياس؛ وإنما المقياس ما ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- وما ذكره قبل ذلك الله -سبحانه وتعالى.
مسألة نختم بها في الحديث: قوله: «وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلا بُدَّ لَهُ مِنْهُ».
هنا الله -عزَّ وجلَّ- وصف نفسه بالتَّردد على الصحيح من أقوال أهل السُّنة، بعض أهل السُّنة يرى إثبات هذه الصفة، وبعضهم يَرى أنَّه لا تُثبَت، ولكنَّ الصَّحيح أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يُوصَف بالتَّردد كما وصف به نفسه، وهي كغيرها من الصفات، وهذا التردد ليس التردد الناشئ عن عدم العلم بالعواقب؛ بل التردد هنا الذي ذكره الله -عزَّ وجلَّ- سببه اجتماع الإرادتين، فمن محبة الله -عزَّ وجلَّ- لوليِّه ومن رحمته بِه أنَّه يقضي عليه -عزَّ وجلَّ- القضاء والقدر، وأنه لابد له من الموت، ولكن لأنه بلغ هذه المرتبة من الولاية فالله -تبارك وتعالى- يكره مساءته، فوصف الله -تبارك وتعالى- التردد بأنه اجتماع الأمرين -أو هاتين الإرادتين- وأمر الله -عزَّ وجلَّ- في قدره في خلقه وأنه لابد له منه، ﴿ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [المائدة: 54]. نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن ينفعنا بما قلنا.
{قال -رحمه الله: (وعنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ». متفق عليه)}.
هذا الحديث فيه مسائل:
المسألة الأولى: إثبات صفة النزول لله -عزَّ وجلَّ- وهي من صفاته الفعلية الاختيارية، متعلقة بالمشيئة.
المسألة الثانية: أنَّ من قواعد أهل السنة: قطع الطمع عن إدراك كيفية الصفات.
- فلا يُقال: "كيف ينزل؟"؛ لأنَّ الله لا يُسأَل عن صفاته بــ :كيف".
- ولا يُقال: "هل يخلو العرش منه إذا نزل؟" فهذه الأسئلة لا تتوجه.
- ولا يُقال: "كيف ينزل في الثلث الآخر، والثلث الآخر يختلف في البلدان؟"، لأن الله لا يُقاس بخلقه.
ومع هذا فالله -سبحانه وتعالى- مع نزوله لا ينفك عن العلو -سبحانه وتعالى- فنزوله ليس كنزول المخلوقين حتى يُقاس بأنَّ المخلوقَ إذا نزلَ علاهُ شيءٌ، فالله نزوله ليس كنزول خلقه، وصفة العلو صفة ذاتية، يعني: لا تنفك عنه -سبحانه وتعالى- وأمَّا صفة النزول فهي صفة اختيارية فعليَّة.
{وهل يُثبت منها صفة العلو؟}.
لاشك.
المسألة الثالثة: أنَّ الله -سبحانه وتعالى- لماذا أخبرنا بالنزول؟
قلنا: إنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- يُخبرُ لما يترتب على النزول من الأثر، فصار أهل التَّشكيك وأهل الشُّبهات إلى الكلام في النزول، وتركوا أثر هذا النزول.
وأثر هذا النزول: الاستجابة، والقرب من خلقه بالإجابة والإثابة، وتفريج الكروبات.
المسألة الرابعة: أنَّ الله -سبحانه وتعالى- يتكلم، وفيه إثبات صفة الكلام لله -عزَّ وجلَّ، والله يتكلم بحرفٍ وصوتٍ، وكلامه متعلق بمشيئته وإرادته، فهي صفة ذاتية من جهة أن الله موصوف بالكلام، وفعلية اختيارية من جهة آحاد الكلام.
ولعل في المستقبل -إن شاء الله- يكون بيانًا وتوضيحًا، ولهذا ينبغي للإنسان أن يغتنم هذا الفضل العظيم من الله -سبحانه وتعالى- الكريم، أن الله في الثلث الآخر ينزل.
ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم إلى اغتنام هذه الأوقات الفاضلة، ومنها الثلث الآخر، وأن يوفق المشاهدين لاغتنام هذا الوقت الفاضل، أن يرفعوا أيديهم بالدعاء لأنفسهم ولوالديهم وللمسلمين، وأن يصلح الله أحوال المسلمين في كل مكان. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على ما أجدتم به وأفدتم، ولا أنسى أن أشكركم أنتم أيها المشاهدون على حسن إنصاتكم واستماعكم.
إلى أن نلقاكم في الحلقات القادمة، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.