الدرس الرابع

فضيلة الشيخ د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

2580 12
الدرس الرابع

أصول الإيمان (1)

{السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناءِ العلميِّ، وأرحبُ بكم فضيلة الشَّيخ في هذه الحلقة}.
حيَّاكم الله.

{توقَّفنا في الدَّرسِ الماضي عِندَ حديثِ أبي هُريرة المتضمِّن لصفةِ النُّزولِ، وفي هذه الحلقة -بإذن الله- نشرع في حديث أبي موسى الأشعري.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (عن أبي موسى الأشعري - رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صَلَّى اللَّه عليه وسَلَّم: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ، إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ، عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ» رواه البخاري)}
هذا الحديث ُالمُخرَّج في صحيحِ البخاري تحته مسائل مُهمَّة:
المسألة الأولى: هذا إخبار مِن الله -عزَّ وجلَّ- عمَّا أعدَّه لأهلِ الجنَّة، وما ذكره النَّبي -صلى الله عليه وسلم- جاء في كلام الله -عزَّ وجلَّ- في قوله تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: 46]، كما في سورة الرحمن، وقال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: 62]، فالله تعالى يُخبر عمَّا أعدَّه الله -عزَّ وجلَّ- لأهل الإيمان، وهذه الجنان كما أخبر النَّبي -صلى الله عليه وسلم- جنَّة مشتملة على ذهبٍ وما فيها، وأخرى مشتملة على فضَّةٍ وما فيها، وهذا من نعيم الله -عزَّ وجلَّ- الذي يكون في الجنَّة.
ولهذا أتذكَّرُ مقولة لحبر هذه الأمة وإمام المبشرين عبد الله بن عباس حينما قال: "لَيسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الجَنَّةِ إِلَّا الأَسْمَاء" ، فالله -عزَّ وجلَّ- أخبر، أنَّها مِن جهة الاسم مُشتركة، ومن جهة المعاني فهي مُختلفة، ولهذا أعدَّ الله -عزَّ وجلَّ- لأولياءهِ ولأهلِ الإيمانِ ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ، أسأل الله -سبحانه وتعالى- لي ولكم وللأخوة المشاهدين والأخوات المشاهدات أن يُدخلنا الجنة بمنِّه وفضلِهِ ورحمتِهِ.
كذلك اشتمل هذا الحديث على مسألة أخرى، وهي: أنَّه ليس دونَ أهلِ الجنَّة وبين أن يروا ربهم إلا رِدَاء الكِبرياء على وجههِ في جنَّةِ عدن.
والرِّداء في هذا الحديث وفي بعض الأحاديث: جاء عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أن الله تعالى يقول: «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعِزَّةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي، وَاحِدًا مِنْهُمَا، أُلْقِيهِ فِي النَّارِ» .
وهذا المعنى لكلمة "الرداء" و"الإزار" يُفهم وِفقَ دلالة النُّصوص، ولهذا مِن دلالة النُّصوص أنَّ مَا وُصف الله تعالى به في النُّصوص لا يُماثل أوصاف المخلوقين بأي وجهٍ من الوجوه، ولهذا -قطعًا- فإنَّ الإزار والرداء المذكورين لله -عزَّ وجلَّ- ليس هو الإزار والرداء الذي يكون للمخلوق؛ لأنَّ الله لا مَثيل له -سبحانه وتعالى- فالرداء والإزار المذكورين في النُّصوص يصدق عليهما ما يكون ملابسًا للموصوف ولا ينفك عنه، ويحجب صفته عن الرائي، وبهذا المعنى قال الله تعالى فيما جاء في الحديث القدسي: «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي»، وقوله: «إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ»، فدلَّ على أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- احتجب عن خلقهِ -سبحانه وتعالى- في رؤيته بهذا الرِّداء، ولهذا فظاهر الحديث -كما قلنا- لا يدلُّ بوجهٍ من الوجوه على أنَّ لله إزارًا ورداءً مِن جنس الأُزرِ والأرديَةِ التي يلبسها النَّاس؛ بل جاء في الحديث النَّفي لتوهُّم هذا المعنى الفاسد.
إذن الإزار والرِّداء الذي وردَ في النُّصوص اسمان لما يحجب رؤية الرَّائي عن المرئي، وهذا يصدق في قول النَّبي -صلى الله عليه وسلم: «وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ، إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ»، إذن الرَّب -سبحانه وتعالى- احتجبَ بهذا الكبرياء عن خلقِهِ، وعن أهلِ الجنَّة في أن يروه، وهذا كائن لهم إذا دخلوا الجنَّة، فإنَّهم سيرون ربَّهم -سبحانه وتعالى.
أرجو أن يكون في هذا الفهم والبيان، أنَّ الرِّداء والإزار الذين وردا في النُّصوص لا يُتوهَّم فيهما أنهما مِن جنسِ أردية وأُزُر المخلوقين، فالله تعالى لا يُماثل المخلوقين، وعلى هذا فهما اسمان لما يحجب رؤية الرائي إلى صفةِ المرئي، ولهذا جاء في الحديث: «وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ، إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ»، وفي الحديث: «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعِزَّةُ إِزَارِي»، فهذه حُجُبٌ احتجبَ بها الرَّبُّ -سبحانه وتعالى- عن خلقهِ بها.
ومِن المسائل التي يتضمنها هذا الحديث: أنَّ رؤية أهلِ الجنَّة لربِّهم واقعة كما جاء في الحديث، وأنَّها ليست دائمة، بل يَرونه في وَقتٍ دُون وقتٍ، جاء في الروايات والنُّصوص أنَّهم يَرونَ ربَّهم أيَّام الأعيادِ ويوم الجمعة الذي هو يوم المزيد، فيُتوَقَّف فيها على وفِق ما دلَّت عليه النُّصوص.

{أحسن الله إليكم يا شيخ..
إذا وردت الصِّفة في الحديث أو في الآية؛ هل يُتوقَّف على نفسِ هذه الصِّفة، أو يُستنبط منها معنًى آخرًا؟
يعني بعض الأئمة في دعاء القنوت يقول: "يا مَن تعطَّف بالعزِّ"، فكأنَّهم فهموها من لفظِ "الرداء". فما حكم هذا القول؟}.
إذا كان هذا التعطُّف بدلالتهِ اللغويَّة يصدقُ على هذا فالأمر واسع؛ لأنَّ مِن القواعد أنَّ بابَ الإخبار عن الله -عزَّ وجلَّ- أوسع مِن بابِ الصِّفات، ولكن ينبغي لأهلِ العلم والأئمَّة في دعائهم لربِّهم -سبحانه وتعالى- أن يحرصوا على المأثورِ عَن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- والمنقول عن سلف هذه الأئمة بالتَّوسُّلات، ولكن لا يُقال: إنَّه يُريد بذلك معنًى صحيحًا أو يدلُّ ذلك على معنًى صحيح! فالأمر -إن شاء الله- واسع.

{قال -رحمه الله تعالى: (باب قول اللَّه تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [سبأ: 23].
كذب الكهنة ودجلهم.
عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُمْ بَيْنَمَا هُمْ جُلُوسٌ لَيْلَةً مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إِذْ رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ، فَقَالَ: «مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ إِذَا رُمِيَ بِمِثْلِ هَذَا؟» قَالُوا: كُنَّا نَقُولُ: وُلِدَ اللَّيْلَةَ عَظِيمٌ أَوْ مَاتَ عَظِيمٌ. فَقَالَ: «إِنَّهَا لَمْ يُرْمَ بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنْ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ إِذَا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَتْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ حَتَّى يُسَبِّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ أَهْلَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَيَسْتَخْبِرُ أَهْلُ السَّمَوَاتِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى يَبْلُغَ الْخَبَرُ أَهْلَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَخْطَفُ الْجِنُّ السَّمْعَ فَيُلْقُونَهُ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ، فَمَا جَاءَوُا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ الْحَقُّ، وَلَكِنَّهُمْ يَقْرِفُونَ وَيَزِيدُونَ».
عَنِ النِّوَاسِ بْنِ سَمْعَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُوحِي بِالأَمْرِ تَكَلَّمَ بِالْوَحِي أَخَذَتِ السَّمَوَاتُ مِنْهُ رَجْفَةً، أَوْ قَالَ: رَعْدَةً شَدِيدَةً خَوْفًا مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فَإِذَا سَمِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ صُعِقُوا، وَخَرُّوا لِلَّهِ سُجَّدًا، فَيَكُونُ أَوَّلُ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبْرئِيلُ، فَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ مِنْ وَحْيِهِ بِمَا أَرَادَ، ثُمَّ يَمُرُّ جِبْرِئيلُ عَلَى الْمَلائِكَةِ كُلَّمَا مَرَّ بِسَمَاءٍ سَأَلَهُ مَلائِكَتُهَا: مَاذَا قَالَ رَبُّنَا يَا جِبْرِيلُ؟ فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: قَالَ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. قَالَ: فَيَقُولُونَ كُلُّهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ جِبْرِيلُ، فَيَنْتَهِي جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ» رواه ابن جرير وابن خزيمة والطبراني، وابن أبي حاتم، واللفظ له)
}.
هذا الباب يتضمَّن مسائل كثيرة جدًّا، وهذا الباب داخلٌ في أصولِ الإيمان مِن جهةِ تعظيم الرَّبِّ -سبحانه وتعالى- وبيان أنَّ الله -سبحانه وتعالى- يُنفذ أَمْرَه في ملائكته، وأنَّ أَمْرَه -سبحانه وتعالى- يأتي إلى ملائكته فيتلقَوْنَ هذا الأمر وِفقَ ما جاء عنه -سبحانه وتعالى- على وجه التَّعظيم.
في الحديث: (عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ)، وهو رجل من الأنصار، وجهالة الصَّحابي لا تضرُّ -كما هو مقرَّرٌ في مصطلح الحديث.
قال: (أَنَّهُمْ بَيْنَمَا هُمْ جُلُوسٌ لَيْلَةً مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إِذْ رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ)، هذا ما يُسميه النَّاس بالشِّهاب الذي يُرى في الصَّحاري، وفي الأماكن المفتوحة.
فَقَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ إِذَا رُمِيَ بِمِثْلِ هَذَا؟»، النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألهم: ماذا تعني لكم هذه العَلامة أو هذه الآية الكونية؟
(قَالُوا: كُنَّا نَقُولُ)، أي: على عادة أهل الجاهليَّة، أو تصوُّرات أهلِ الجاهليَّة لمثل هذا.
قول: (وُلِدَ اللَّيْلَةَ عَظِيمٌ أَوْ مَاتَ عَظِيمٌ)، يظنون أنَّ هذه الحوادث العُلويَّة لها أثر في الحوادث السُّفليَّة، مثل: موت عظيم، أو حياة عظيم، فيظنُّونَ أنَّه ثَمَّ ترابطٌ بينها وبين الحوادث العلويَّة، ومنها هذا النَّجم، أو هذا الشِّهاب الذي احترق في الغلاف الجوي -كما هو معلوم.
قال النَّبي -صلى الله عليه وسلم- لنفي هذا المعنى الفاسد: «إِنَّهَا لَمْ يُرْمَ بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ»، النبي -صلى الله عليه وسلم- ينفي أن يكون للحوادث العلويَّة دخل في الحوادث السُّفليَّة، فليس ثَمَّ ارتباط.
وجاء في أحاديث أخرى -كما سوف يأتي معنا- بيان ذلك، وقطع هذا الظَّن الجاهلي.
ثُمَّ أخبرهم النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بما يكون مِن الوحي، وأنَّ ممَّا خلقه -عزَّ وجلَّ- من هذه النُّجوم، ومن ذلك الشُّهب، وأنَّ مِن وَظَائِفها الرَّمي بها لمن استرق السَّمع؛ لأنَّ وظائف النُّجوم -كما ذكرها أهل العلم: للاهتداء بها، وزينة، ورجوم للشياطين. وفق ما جاءت به النُّصوص.
ثم إلى آخر الحديث، وجاء في بعض العبارات التي تحتاج بيان لأنها من غريب الحديث، وأما ما قبل فهو واضح وبيِّن، ولكن جاء في بعض الروايات «ولكن يفرِقُون» أو «يَقْرِفُونَ».
وضبط لفظ «يَقْرِفُونَ »، الأشهر أنها بالرءا، وثَمَّ رواية «يقذفون».
وعلى الوجهين تأتي بمعنى الخوض، يعني: أنَّهم يخلطون ما يسترقونه من السَّمع مما أمر الله تعالى به، ومما وصلها إلى الملائكة؛ فيخلطونه بأكاذيبهم.
إذن هم يكذبون ويخلطون ما استرقوه.
وجاء في روايات بضمِّ الياء، وجاء بفتحها بمعنى الصُّعود، وجاء في رواية أخرى «يُقرِّفون» أي يُكذِّبون؛ وهذا يُراجع فيه كتب غريب الحديث.
والحاصل: أنَّهم يكذبون أو يزيدون، كلها تشير إلى دلالة معنًى واحدٍ. هذه المسألة الأولى فيما يتعلق بهذه الأحاديث التي قرأتها.
المسألة الثَّانيَّة: أنَّ الأحاديث هذه فيها دلالة على ما نتكلَّم فيه من أصولِ الإيمانِ وهو إثبات صفة العلوِّ لله -سبحانه وتعالى- وأنَّه هو العلي الأعلى؛ لأنَّه -سبحانه وتعالى- فوقَ سماواته مستوٍ على عرشه، وهو -سبحانه وتعالى في مُلكه- يأمر بأمره الذي يتلقاه جبريل، ثم يوصله إلى ملائكته، وهذا إثبات على أيِّ وجهٍ يكون وحيُهُ -سبحانه وتعالى- وهو العلي الأعلى، وصفة العلو لله -عزَّ وجلَّ- ثابتة، وهي صفة من صفاته الذَّاتيَّة التي لا تنفك عنه، وله -سبحانه وتعالى- عُلو القَهر والقَدر وَعُلو الذَّات، فأنواع العُلو الثلاثة ثابتة له -سبحانه وتعالى.
أمَّا عُلو القَهر والقَدر: فهو مُتفق عليه بين أهل الإسلام.
وأما عُلو الذَّات: فبعض الطوائف المنحرفة تشكك فيه، أو لا تُقرُّ به.
ولا شك أنَّ إثبات صفة العلو -كما سيأتي إن شاء الله معنا- أدلتها ثابتة وكثيرة جدًا بدلالة الفطرة والعقل والشَّرع، ومَن أرادَ المزيد مِن ذلك فليُراجع كتاب ابن القيم الجوزية "اجتماع الجيوش الإسلاميَّة على غزوِ المعطِّلة والجهميَّة"، فإنَّه ذكر أكثر مِن ألف دليل وأجناس هذه الأدلة.
هذا فيما يتعلق بإثبات صفة العلو.
المسألة الثالثة: مما دلَّت عليه هذه الأحاديث: أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يتكلَّم، وكلامه لا يُماثل كلام المخلوقين، وهو بحرف يُكتَب، وبصوتٍ يُسمَع، وكلامُه ليس ككلامِ المخلوقين -سبحانه وتعالى- ولهذا فإنَّ الملائكة تسمع كلامه -سبحانه وتعالى- وهذا مِن دلالات الحديث.
المسألة الرابعة: جاء في بعض الرِّوايات وصف كلامه -سبحانه وتعالى- في الحديث وسماع الملائكة له -وهذه ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد- «كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوَانِ» ، وهذا وصف لسماع الملائكة لصوته -سبحانه وتعالى- لا وصفٌ لكلامِهِ، ففرقٌ بين سماع الملائكة -وصف السماع- ووصف الكلام.
ولهذا جاء في الروايات -كما سيأتي- أنَّ الملائكة إذا سمعته قالوا: «قَالَ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ»، وقال: «صُعِقُوا، وَخَرُّوا لِلَّهِ سُجَّدً».
إذن قوله: «كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوَانِ»، هذا وصفٌ لسماع الملائكة.
أمَّا وصف كلامه -سبحانه وتعالى وتقدّسَ- فجاء في حديث واحد، وهذا الحديث يدلُّ على أنَّ كلامَه ليس ككلامِ المخلوقين، وهو: أنَّ يوم القيامة يتكلَّم الرَّبُّ -سبحانه وتعالى- بكلام «يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ، كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ» ، فهذا وصف لكلامه، وهذا دليلٌ على أنَّ كلامَه لا يُماثل ُكلامَ المخلوقين بوجهٍ من الوجوه.
ومِن تلك الوجوه التي أخبرنا بها الله -عزَّ وجلَّ: أنه يستوي في سماع كلامه القريب والبعيد، وأمَّا المخلوق لا يستوي كلامه، وهذا دلَّ على أنَّ كلامه ليس ككلام المخلوقين بوجهٍ من الوجوه.
المسألة الخامسة: تضمَّنَ الحديثُ إبطال العادات الجاهليَّة.
حركات الأفلاك السَّماوية، تُسمى "الأفلاك" عند عُلماء الهيئة، حركة النُّجوم، والشُّهب وما يتعلق بها؛ لا تعلُّق لها بالحوادث السُّفليَّة، وهذا جاء من النَّبي -صلى الله عليه وسلم- البيان الواضح البيِّن؛ لأنَّ أهلَ التَّنجيمِ وأهلَ الكهانَةِ يُلبِّسونَ على النَّاسِ، ويزعمونَ أنَّ للحوادث العلويَّة أثرٌ في الحوادثِ السُّفليَّة، وليس ثَمَّ ارتباطٌ، ولهذا يزعمون أنَّ النُّجوم لها أثر، فيقول: إنَّ القمرَ إذا كان في برجِ العقربِ فإنَّ الإنسان لا يخرج، ولا يفعل!
فكل هذا باطل، وجاء عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه باطل.
ومن ذلك ما يتعلَّق بالنَّاس الآن في هذه الأزمنة ما يسمى بالأبراج، ففي الجملة يقولون: إنَّ كل واحدٍ له برج بحسب ميلاده، فأنت مولود في الشهر الفلاني فأنت برج الأسد، وذاك برج العقرب، وبالتالي حتى في مسألة الزَّواج والطَّلاق يرتبطون بالنُّجوم، وحتى في الوضع النَّفسي للإنسان يقولون: أنت البرج الفلاني فعليك أن تفعل كذا؛ فكل هذا مِن الهُراء ومن الباطل الذي نهى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- عنه وأبطله؛ بل هذا من التَّنجيم، فهذه طريقةُ أهلِ التَّنجيم الذين نهى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإتيان إليهم وعن الجلوس إليهم، وعن سؤالهم، فقال: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، ومن ذلك متابعة هذه الأبراج والنجوم، والآن جاءت على أشكال مُتنوعة، فجاء عن طريق شبكات التواصل، والبرامج، والهواتف الذَّكية، وما شابه ذلك، كل هذا مِن الباطل؛ فليس ثَمَّ تأثير للحوادث العلويَّة في الحوادث السفلية، ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّهَا لَمْ يُرْمَ بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ»، لنفي هذا المعنى الجاهلي؛ لأنَّ هذا مِن عادات الجاهليَّة.
وكذلك في كُسوف الشَّمس الذي حَدَثَ في زَمَنِ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال في بيانه: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَا يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ» لنفي هذا المعنى الجاهلي.
إذن الحاصل: أنَّ هذه النُّجوم والأبراج من طريقة أهل التَّنجيم، وليس مِن الإسلام في شيءٍ البتَّة، فعلى المسلم أن يحذر مِنَ هؤلاء، وممن يُسوِّغ لهم أو يزعم ذلك، فكل هذه أكاذيب وتُرَّهات.
المسألة السادسة: أنَّ الله تعالى يَقضي وَيَأمر بأمره الكوني، وأنَّ الملائكة تُقابل أمره بالتَّسبيح له -سبحانه وتعالى- وهذا التسبيح يبلغ السَّماء الدُّنيا على وجه التَّعظيم لله -سبحانه وتعالى- والتَّنزيه.
كذلك في هذه الأحاديث وصف لطريقة استراق شياطين الجنِّ للسَّمع، فما يقوله الله -عزَّ وجلَّ- مِن أمره فيبلِّغه ملائكته، وإيصاله إلى أوليائهم من الكهنةِ والعرَّافين.
قال: «فَمَا جَاءَوُا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ الْحَقُّ، وَلَكِنَّهُمْ يَقْرِفُونَ وَيَزِيدُونَ»، فإذن ثَمَّ استماع من هؤلاء الشَّياطين لما يأمر الله -عزَّ وجلَّ- به، ومما يكون مِنَ الغيبيَّات.
المسألة السَّابعة -وهي داخلة تحت هذه الأحاديث: جاء في رواية سفيان في وصف استراق شياطين الجن لهذا السَّمع، قال: «وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ» ، إذن هم يتوصلون إلى الوصول إلى السَّماء الدُّنيا لِسَماع ما يأمر الله -عزَّ وجلَّ- به ملائكته من أمره الذي يأمر به، وصف سفيان -أحد الرواة- فقال: «فَحَرَفَهَا وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» ، فهذه طريقة استراقهم للسمع.
ولهذا شياطين الجن لهم ثَمَّ وسائل لا يملكها الإنسان، ولهذا فهم عالم غيبيّ لا نعلم منه إِلَّا مَا جَاء في الوحي، ولهذا قال الله عنهم: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾ [الأعراف: 27] يعني: إبليس وذريته؛ لأنَّه عالم خفيٌّ غيبيٌّ لا نعرف على أيِّ وجهٍ يكون حياته إِلَّا مَا جَاء في النُّصوص.
مِن المسائل المهمة التي ذكرها الشيخ في كتاب "التوحيد" وأوردها هنا، وهي مهمة في هذا الجانب، يقول الشيخ -رحمه الله تعالى: "قَبُولُ النُّفُوسِ للْبَاطِلِ، كيفَ يَتَعَلَّقُونَ بواحِدَةٍ ولا يَعْتَبِرُونَ بِمِائَةِ كَذْبَةٍ؟"، فقد جاء في بعض الروايات أنَّ الكلمة الواحدة يضيفون إليها مائة كذبة.
يقول الشيخ -رحمه الله تعالى: "قَبُولُ النُّفُوسِ للْبَاطِلِ" ولهذا فالدَّاعية والمعلِّم والموجِّه والمُربِّي يحتاج أن يعرف هذا؛ لأنَّ نفوس النَّاس تتقبَّل الباطل، وبخاصَّة ما يتعلَّق بالغيبيَّات واستشراف المستقبل، والتَّوقعات، النَّاس عندهم تعلُّقٌ بذلك، ولذا فإنَّ طالب العلم والمعلِّم يعرف هذا ويُعالج هذه القضيَّة بالأسلوب الشَّرعي، ويعرف أنَّ الباطل له قبول عند النَّاس، فعليه أن يَدفع عنهم هذا الباطل بمعرفة الحق، ومعرفة الهدى والنُّور، وبالاهتداء بكلام الله، وبكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- ولهذا قال الله تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9]، وقال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُو﴾ [آل عمران: 103]، وقال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء: 82]، فالنَّاس يحتاجون إلى الحقِّ من كلام الله وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- حتى يزول عنهم هذا الباطل، فالنَّاس يتعلَّقون بالباطل، ويصدِّقون هؤلاء الكهنَة العرَّافين الكَذَبَة بكذبة واحدة، يعني: بواحدة في المائة؛ فإذا عرفتَ أنَّ النُّفوسَ تتقبَّل البَاطل فعليك أن تُعالجَ نفوس النَّاسِ، وأن تسلك الأسلوب الشَّرعي في التَّعامل معهم في أَطْرِهِم وتوجيههِم إلى الحقِّ -نسأل الله الهداية للجميع.

{أحسن الله إليكم..
مَا يتعلَّق الأبراج؛ بعضهم يقول: إنَّها مِن باب المزاح، وآخر يقول: إنَّها مِن باب السُّؤال والبحثِ عنها فقط وأنا لا أؤمن بها. فما حُكْمُ ذلك؟}.
إتيانُ العرَّافينَ والكَهَنةِ والمنجِّمينَ كلُّ هؤلاء بابهم واحد؛ والنَّبي -صلى الله عليه وسلم- أبدأ وأعاد في بَيَّنَ وأعادَ في ذلك، وَسَدَّ الذَّرائع المُفضية لِمَا قَد يَقع في قلبِ المُسلم مِن الإنحراف العَقَدي والعياذ بالله!
فالنَّبي -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَن سُؤالِهم، ومن ذلك الإتيان، ومن ذلك مَا يُسميه الإنسان بحب الاستطلاع؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن ذلك كله، فقال: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمً» ، وقال: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، وفي قول جماعة من أهل العلم أنَّ هذا كفرٌ أكبر؛ لأنَّ مَن صدَّق أن أحدًا يعلم الغيب دون الله -عزَّ وجلَّ- فقد كفر، قال تعالى: ﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [النمل: 65]، وقال: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ﴾ [الأنعام: 59]، فهذا الباب أحاطه النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بسورٍ عظيم لحماية عقيدتك أنت أيها المسلم، لأنَّ أعظم ما تملكه هو توحيدك يا عبد الله ويا أمة الله، فحافظوا عليه من كل ما يُدنِّسه أو يُنقصه.
هذه عقيدة وإيمان، فلا ينبغي للإنسان ولا يجوز له بأي حالٍ من الأحوال حتى على سبيلِ الاستطلاع؛ لأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- مَا حَذَّر منه إلا لأنَّه أراد التَّحذير من الشَّرِّ؛ ولأنَّ نفوس النَّاس تتقبل الباطل، ونفوس النَّاس ضعيفة خاصَّة في هذا الزَّمان، لأنَّه ربَّما أتى الواحدُ كاهنًا أو عرَّافًا أو سألَ مُنجِّمًا أو قُرَّاء الكفِّ فقال له شيء؛ فربما ترتَّب عليه تأثير النَّفس وغلبة الحزن، وربما أدَّى إلى أمور عظيمة -نسأل الله السَّلامة والعافية.
فالغيب لله، ولا أحد يعلم الغيب، لا هؤلاء أصحاب الأبراج ولا غيرهم، والمؤمن قويٌّ بإيمانه، متوكِّلٌ على الله -عزَّ وجلَّ- ومن أراد إصلاح حاله فلا يكون هذا الإصلاح بالاستشراف لهؤلاء وبسؤالهم، وإنما إصلاح الحال يكون بطلب الهداية من الله وسؤاله -عزَّ وجلَّ، وما تخافه يا عبد الله ويا أمة الله من المستقبل علاجه هو دُعاء الله -عزَّ وجلَّ- والتوكُّل عليه.

{قال المؤلف: (باب قولِ اللَّه تعالى ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر: 67].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، سَمعتُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُول: «يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟».
ولَهُ عَن ابنِ عمر -رَضِيَ اللَّهُ عنهما- عن رسول اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عليه وسَلَّم- قال: «يَقْبِضُ اللَّهَ الأَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ».
وفِي رِوَايةٍ عَنْهُ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ هَكَذَا بِيَدِهِ وَيُحَرِّكُهَا يُقْبِلُ بِهَا وَيُدْبِرُ يُمَجِّدُ الرَّبُّ نَفْسَهُ أَنَا الْجَبَّارُ أَنَا الْمُتَكَبِّرُ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْعَزِيزُ أَنَا الْكَرِيمُ فَرَجَفَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرُ حَتَّى قُلْنَا: لَيَخِرَّنَّ بِهِ" رواه أحمد.
ورواه مسلم عن عبيد الله بن مقسم، ونظر إلى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- كيف يحكي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «يَأْخُذُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- سَمَاوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ بِيَدِهِ وَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، وَيَقْبِضُ أَصَابِعَهُ وَيَبْسُطُهَا أَنَا الْمَلِكُ» حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى إِنِّي لَأَقُولُ أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
}.
تحت هذه الأحاديث وهذه الروايات التي ساقها المؤلف -رحمه الله تعالى- مسائل مهمَّة:
المؤلف -رحمه الله تعالى- قال: (باب قولِ اللَّه تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾).
سمَّى هذا الباب بهذه الآية العظيمة، وتحت هذا مسائل:
المسألة الأولى: أنَّ في هذه الآية إثبات لعلوِّ الله تعالى في ربوبيّته وفي أسمائه وصفاته -سبحانه وتعالى.
ومعنى الآية: أنَّ الخلق ما عظَّموا الله حقَّ تعظيمه، وهذا لعظمته -سبحانه وتعالى- ولهذا في سورة نوح قال تعالى: ﴿مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارً﴾ [نوح: 13-14]، فَذَكَرَ أَفضال اللهِ تَعَالى وَأَنْعَامِه وَآَيَاه على خلقه.
ولهذا قال ابن عباس في تفسير هذه الآية التي في سورة نوح: "ما لكم لا تُعظِّمون الله حقَّ تعظيمه".
ومن تعظيمه -سبحانه وتعالى: تحقيق التوحيد، وإخلاص الدعاء له، فهذا يحصل به تعظيم الربِّ -سبحانه وتعالى.
ولهذا فمن آيات تعظيم الله -عزَّ وجلَّ: عظمة هذه المخلوقات، في دلالتها على أنَّ الله -سبحانه وتعالى- عظيم؛ لأنَّك إذا رأيتَ المخلوقات التي في هذا الكون الفسيح، ورأيت ما فيها من العظمة؛ فالذي خلقها أعظم -سبحانه وتعالى.
ولهذا قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت:53]، فآيات الآفاق يَرَاهَا النَّاس، الشَّمس، والقمر، والنجوم، والمجرَّات، وما شاكل ذلك من الآيات العُلويَّة.
والآيات النَّفسيَّة: ما طبعه الله -عزَّ وجلَّ- وركَّبه في الإنسان مِن الغرائز ومِن الوظائف؛ وكلُّها تدلُّ على أنَّ الربَّ -سبحانه وتعالى- عظيم.
ولهذا إذا رأيتَ هذه المخلوقات وما تسير عليه مِن الدِّقَّة المتناهية علمت أنَّ الذي خلقهم عظيم، وأنَّك ما قدرته حقَّ قدره -سبحانه وتعالى.
ولهذا يقولون: الكون كتاب مفتوح يشهد بعظمة الربِّ -سبحانه وتعالى. ويقول الله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: 21].
وهذه الآية تشتمل الرَّدَّ على طوائفٍ كُثُر، وقد ذكر الله تعالى قوله: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ في أربعة مواضع من كتابه -سبحانه وتعالى.
وهذه الطوائف:
الطائفة الأولى: المشركون الذين عبدوا غيره، وصرفوا حقَّ العبادة لغيره.
الطائفة الثانية: المُعطِّلة، نُفاة الصِّفات الإلهيَّة.
الطائفة الثالثة: مُنكرو النُّبوَّات ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 91].
ولهذا فأحسن ما يُقال في هذا الباب -باب عظمة الرَّب: أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يُقَدِّرَ الرَّب حقَّ قَدْرِه، ولهذا في ثنائه لا نستطيع أن نُثْني عليه، فيقول: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ، كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» .
ولعلَّ -إن شاء الله- في الحلقة القادمة نستوعب باقي المسائل ونُفصِّل الكلام في هذا الموضع.

{وفي الختام نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما قدَّمتموه وعلى ما تقدِّمونَه، نسألُ الله أن يرزقنا العلم النَّافع والعملَ الصَّالح.
هذه تحيَّةٌ طيِّبةٌ مِن فريق البرنامج ومنِّي أنا لكم أيُّها المشاهدون، إلى أن نلقاكم في الحلقةِ القادمة، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك