الدرس العاشر
فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سعد المقرن
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المُشاهدين الأَعِزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأُرحبُ بفضيلة الشَّيخ الدكتور: فهد بن سعد المقرن، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاك الله يا شيخ عبد الرحمن، وأسأل الله -سُبحَانَهُ وَتَعَالَى- العِلمَ النَّافع والعملَ الصَّالح وأن يوفِّقنا لما يُرضيه سُبحانه.
{اللهم آمين..
سنبدأ في هذه الحلقة -بإذن الله- من كتاب "متن أصول الإيمان" بباب الوصيَّة بكتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (باب الوصية بكتاب اللَّه-عَزَّ وَجَلَّ.
وقول اللَّه تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾
عن زيد بن أرقم -رضي اللَّه عنه- أنَّ رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَوَعَظَ وَذَكَّرَ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ» فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ: «وَأَهْلُ بَيْتِي»، وفي لفظٍ: «كِتَابُ اللَّهِ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ، مَنِ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى الْهُدَى، وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ عَلَى الضَّلَالَةِ». رواه مسلم.
وله في حديثِ جابرٍ الطَّويل أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال في خطبة يوم عرفة: «وَقَدْتَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللَّهِ، وَأَنْتُمْ تَسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُبُهَا إِلَى النَّاسِ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ»)}.
أحسنت -بارك الله فيك.
بسم الله، والحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وبعد:
فإنَّ المؤلف -رحمه الله تعالى- عقدَ هذا الباب لبيانِ أنَّ الله -سُبْحَانَه وَتَعَالَى- أوصَى أهلَ الإيمانِ بالتَّمسُّكِ بكتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- والاعتصامِ به؛ لأنَّ الاعتصامَ بالقرآنِ سبيلُ النَّجاة من الفتن، وسبيلُ النَّجاة مِن عذاب النَّار، ولهذا فإنَّ المؤلف -رحمه الله تعالى- صدَّرَ هذا الباب بقوله تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾.
فالله -عَزَّ وَجَلَّ- يأمر أهل الإيمان في هذه الآية بأن يتَّبعوا القرآن وما جاء فيه، فالقرآن العظيم جاءت فيه أحكام، وجاءت فيه شرائع وسُنَن، وكل ما يتعلَّق بأمور النَّاس، وأمرنا الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالاعتصام بالقرآن، فقال الله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُو﴾ [آل عمران: 103].
والقرآن العظيم هو كلام الله، ووحيه الذي أنزله على قلبِ رسوله محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو كلامه -سُبْحَانَه وَتَعَالَى- حرفًا ومعنًى، مِنه بدأ –يعني: من الله بدأ- وإليه يعود؛ لأنَّ من علامات السَّاعة في آخرِ الزَّمان أنَّ القرآن يُرفَع، وهو كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- ليس بمخلوق، ومَن قال إنَّ القرآن مخلوق فقد أعظمَ على الله الفِريَة.
والقُرآن صفةٌ من صفات الله -سُبْحَانَه وَتَعَالَى- وأجمع أهل السُّنَّة والجماعة على أنَّ القُرآن غيرُ مخلوق، وحكى هذا الإجماع جمعٌ من أهلِ العلم من المتقدِّمين ومن غيرهم من المتأخِّرين، فهذا محل إجماع، ولا خلاف في ذلك بحمد الله؛ وإنَّما اشتُهِرَ الإمام أحمد، إمام أهل السُّنَّة والجماعة بهذا؛ لأنَّه اُمتُحِنَ في زمنِ الفِتنةِ بقول المعتزلة الذينَ زعموا أنَّ القرآنَ مخلوقٌ، وأظهر الله تعالى السُّنَّة بقيام الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- بإظهار الحق، وصبرَ على ذلك حتى أظهره الله عليهم، وظهر الحقُّ بالدَّليل من كلام الله، ومن كلام رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولهذا فإنَّ المؤلف ذكرَ هذه الأحاديث العظيمة في وصيَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذه الأمَّة بالقُرآن.
والقُرآن هو الهدى والنُّور، وفيه البيان، قال الله تعالى في بيان أنَّ الهدى في القرآن: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9]، فالهداية إنَّما تكون بالقُرآن، لأنه ما ترك شيئًا إلَّا وبيَّنه قال الله-عَزَّ وَجَلَّ: ﴿هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: 89]، وبيَّن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنَّ القرآن فيه حياة القلوب وفيه المواعظ، وفيه شفاء القلوب من أمراضها، فقال: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 57]، وقال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ [فصلت: 44]، وقال تعالى: ﴿كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب﴾ [ص: 29].
فالقرآن من بركته العظيمة أنَّ مَن أخذَه فقد أخذَ بالخيرِ كلِّه، ومَن حفظَه فقد فازَ وأفلحَ، ومَن عملَ به نجا، وأمر الله أهلَ الإيمان بألَّا يقفوا عندَ قراءته؛ بل أمرهم بالتَّدبُّر بما في القرآن من المعاني والأحكام والمواعظ، فقال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَ﴾ [محمد: 24]، وعاتب الله أهلَ الإيمان وهم صحابة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذينَ نزلَ القرآن وهم يسمعونه؛ فقال: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾ [الحديد: 16]، والقُرآن مواعظ وأحكام وقَصص، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ [يوسف: 3].
فوصيَّة الله -عَزَّ وَجَلَّ- لأهلِ الإيمانِ ووصيَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأهل الإيمان بالاعتصامِ بالقرآن قراءة وتدبُّرًا وتعلُّمًا وتعليمًا، قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» ، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ...» ، إلى غير ذلك من الأحاديث، ولهذا فإنَّ الشيخ ابن باز -رحمه الله تعالى- كان يُسأل في مواضع كثيرة: ما أفضل كتابٍ يدرسه طالب العلم؛ فكان يُوصِي بالقرآن. ويقول الشيخ ابن باز -رحمه الله تعالى- في فتاواه: "نصيحتي للجميع أن يعتنوا بالقرآن الكريم، وأن يُكثروا من تلاوته بالتَّدبُّرِ والتَّعقُّل".فهذا كلام العلماء وكلام الأئمَّة.
إذن واجب أهل الإيمان أن يُقبِلُوا على كلام ربِّهم علمًا وتعلُّمًا؛ لأنَّ القرآن فيه كلّ الخير، فأصول الخير مذكورة في القرآن، والآدب أيضًا؛ فعلاقة المسلمين ببعضهم، وعلاقة المسلمين بغيرهم؛ كلها موجودة في هذا القرآن الكريم، ولهذا لا اجتماع للأمَّة إِلَّا بالاعتصام بالقرآن، فلا يُمكن أن تجتمع الأمَّة المحمَّديَّة إلا إذا اعتصمَت بالقرآن العظيم، ولهذا قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- في وصيَّته:﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُو﴾ [آل عمران: 103].
وقد سمعتُ للشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- في درسٍ من دروسه المسجَّله أنَّه رآى رؤيا أنَّ حبلًا ممتدًّا من السَّماء، وأنَّه أخذ بهذا الحبل العظيم، فصعدَ إلى السماء. يقول: فعبَّرتُ هذه الرؤيا أنَّ القرآن هو حبل الله المتين، وأنِّي أرجو أن أكون معتصمًا بالقرآن العظيم.
إذن القرآن لا تنقضي عجائبه -كما سيأتي معنا في الآثار- ولهذا فإنَّ القرآن يأمر بلزم الجماعة، فيقول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59]، فلا جماعة إلا بالاعتصام بالقرآنِ، طاعة ولاة الأمر تابعة لطاعة الله ورسوله في المعروف -كما قرَّرَ ذلك أهل العلم- بل إنَّ القرآن فيه أصول السِّياسَة، علاقة الحاكم بالمحكوم، وعلاقة الدَّولَة المسلمَة بغيرها، فأصول هذا موجودٌ في القرآن، وأنا أذكر بعض النَّماذج، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾ [النساء: 83]، فهذا يتعلَّق بالحربِ والسِّلم والعلاقات الدَّوليَّة، قال تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾، أي: ردُّوه إلى الرسول في حياته؛ لأنَّه يُمثِّل الإمامة.
قال: ﴿وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ يعني: بالقرآن وبالوحي. ﴿لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلً﴾ [النساء: 83].
إذن علاقة المسلم بغيره موجودةٌ أصولها في القرآن، وواجب أهل الإيمان أن يُقبِلوا على كلام الله قراءة وتعلُّمًا وتعليمًا، ولهذا فإنَّ من فضلِ الله علينا في هذه البلاد وفي غيرها من بلاد المسلمين، ومن توفيقه للمسلمين ولحكَّام المسلمين العناية بالقرآن العظيم، وفي هذه الدَّولة المباركة -وفقها الله لكل خير وزادها الله من كل خير- أسَّست الجمعيَّات لتحفيظ القرآن وتعليمه، بل جعلت مسابقات يأتي إليها من كلِّ أنحاء العالم، يتسابقون في حفظِ القرآن وفي تلاوته، وفي تدبُّره، وفي معانيه؛ فهذا -بحمد الله- من نعمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- وهذا من الأخذِ بهذه الوصيَّة العظيمة التي أوصى الله -عَزَّ وَجَلَّ- بها، والتي هي من أسباب جمع القلوب، ودفعِ الشُّرور، ولهذا فعلى أهل الإسلام جميعًا أن يُقبلوا على كلام ربِّهم قراءة وتعلُّمًا، وألَّا يهجروا هذا القرآن العظيم، وألَّا يحولوا بينهم وبينَ قراءة القرآن شيء من المُلهيات من شبكات التَّواصل أو البرامج وما شاكل ذلك، أنَّها أخذت حيِّزًا كبيرًا من حياة المسلم والمسلمة؛ بينما القرآن قد تضعف صلتهم به، فإذا أدرتَّ أن تعرف علاقتك بربِّك ستجدها في بارزة في أمرين:
في صلاتكَ.
وفي علاقتك مع القرآن العظيم.
ولهذا فإنَّ القرآن بركة، ومن أخذه أفلح، ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ» ، وفي أحاديث كثيرة جدًّا يحثُّ النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على قراءة القرآن، والإنسان إمَّا أن يكون قارئًا لهذا الكلام ومتدبِّرًا أو سامعًا، فمن عجزَ أو ضعُفَت همَّتُه أو قصُرَ به علمه، كأن يكون لا يُحسِن القراءة والكتابة؛ فعليه البسَّماع، والحمد لله فإنَّ المملكة العربية السعوديَّة وغيرها من الدول الإسلاميَّة لديها ثَمَّ إذاعات للقرآن الكريم ليُسمَع القرآن، فإمَّا أن تكون تاليًّا أو سامعًا أو متدبِّرًا للقرآن العظيم، أسأل الله أن ينفعنا بهذا القرآن العظيم، وأن يوفقنا إلى تلاوته على الوجه الذي يُرضيه، وأن يجعلنا ممَّنيُقيم حروفه وحدوده، ويُؤمن بمحكَمه ومتشابهه على طريقة أهل الإيمان والهُدَى.
ولهذا فإنَّ المؤمن يسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- دائمًا أن يهديه إلى القرآن العظيم، وجاء في الحديث الكرب المشهور، وفيه: «...أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي» ، إلى غير ذلك من الأحاديث العظيمة، وسنقف على بعض الألفاظ التي وردت في حديث زيد بن أرقم المشهور، قال المؤلف: (عَنْ زيد بن أرقم -رَضِي اللَّهُ عَنه- أنَّ رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم خَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأثنَى عَلَيْهِ)، وهذا في خطبة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حجَّة الوداع -كما جاء في بعض الرِّوايات، ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا بَعْدُ: أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ»، ويعني بذلك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الموت، قال تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: 30]، وقد كتب الله -عَزَّ وَجَلَّ- الموت على كلِّ نفس، وعادة النَّاس أنَّ الوصية تكون في آخر الحياة، وهذا الحديث من وصايا النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الأخيرة في حياته.
قال: «وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ، أَوَّلُهُمَا: كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ»، وقد بيَّنَّا أوجه الهُدى والنُّور الذي في القرآن.
قال: «فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ»، والاستمساك بهذا القرآن يكون بالعمل به، والإيمان بحكمه ومتشابهه، ورد المتشابه إلى المُحكَم كما هي طريقة أهل السُّنَّة.
قال: (فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ «وَأَهْلُ بَيْتِي»)، يعني: أوصيكم بأهل بيتي.
وفي لفظٍ: «كِتَابَ اللَّهِ، هُوَ حَبْلُ اللَّهِ، مَنِ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى الْهُدَى، وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ عَلَى الضَّلالَةِ» ، ولا شكَّ في ذلك، فمن أعرض عن كتاب الله فإنَّ ضالٌّ، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكً﴾ [طه: 124]، وقال تعالى عن مَن اتَّبع القرآن: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾ [الأنعام: 122]، إلى غير ذلك من الآيات.
حديث زيد بن أرقم يُحيلنا إلى مسألةٍ مهمَّة، فقد وردَ في بعض هذه الألفاظ وصيَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأهل بيته، قال «وأَهْلِ بَيْتِي»، ولهذا نقول:
أولًا: إنَّ الرِّوايات جاءتبألفاظٍ متعدِّدَة في حديث زيد أرقم، ومَّما جاءت به الرِّوايات: «تَرَكْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللَّهِ، وَسُنَّتِي» ، عن جمع من الصَّحابة، وذكر في بعض الرِّويات أنَّ الثِّقَل الآخر هو سُنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ففي بعض الروايات «أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي»، وفي بعض الروايات: «وَعِتْرَتِي» ، فالعترة: هم أصل الإنسان ونسبه نسله، ولهذا جاءت الوصيَّة بالعترة.
فالخلاصة من هذا: أنَّ الرِّويات جاءت بالوصية بالكتاب، وجاءت بالكتاب والسُّنَّة «كِتَابَ اللَّهِ، وَسُنَّتِي»، وجاء في بعض الروايات تسمية العِترَة، والعِترَة -بكسر العين- تشمل: نساءه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونسله، وأبناء علي، وعمومته، وسيد هذه العترة هو محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثانيًا: والمقصود بعِترَة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هم أهل بيته الذينَ هم على دينه، فيخرج من ذلك أبو لهبِ، لأنَّه ليس على دين النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو عمُّه، وكذلك يخرج أبو طالب من هذا الإجماع.
ثالثًا: إنَّ رواية مسلم التي بين أيدينا فيها اختصار من الرَّاوي، وليست الرِّواية على النَّحو الذي يُفهَم منه الوصيَّة، وجعل الثَّقل الثاني هو «أهلُ بيتي»، فتمام الرواية («وأهلَ بيتي» يعني أوصيكم)؛ لأنَّ المعنى يختلف، ففي هذه الرِّواية "أهلَ" منصوبة، يعني أذكركم الله في أهل بيتي، وأوصيكم بأهل بيتي، فهذه وصية النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأهل البيت.
رابعًا: أنَّ الوصيَّة بآل بيت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حقٌّ، وأهل بيته حقُّهم المحبَّة والإكرام والتَّوقير، وأن يُقدَّموا على غيرهم لمقامهم، والعطاء من بيت مال المسلمين وبحمد الله هذا ما يفعله أهل السُّنَّة في كل زمانٍ ومكانٍ، وما قامت عليه هذه البلاد المباركة السعودية في أطوارها الثلاث وفي عهد مؤسِّس الدَّولة السُّعودية الملك عبد العزيز -رحمه الله تعالى- فإنَّهم يرعون ويُراعون أهل بيت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وهذا لمن ثبتت له صحَّة النَّسب، لأنَّ دعوى النَّسب لا تُقبَل من كل أحد، فكام يقول أهل العلم وعلماء الأنساب: إنَّ النَّاس مؤتمنون على أنسابهم ما لم يدَّعوا شرفًا، فإذا ادَّعى شرفًا احتاج إلى بيِّنة، فمن ثبت بالبيِّنة الشَّرعيَّة أنَّه من أهل بيت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلهم التَّوقير والاحترام، وكما قلنا أنَّ هذه الدَّولة -بحمد الله- قامت على هذا الأصل، فهم يُراعون آل بيت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-من محبَّةٍ وإكرامٍ وعطاء، وهذا معروف.
فالخلاصة: أنَّ جَعْلَ أهل البيت أحد الثَّقلين جاء في رواية.
والصَّواب أنَّ الثِّقل الذي أوصى به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قوله «وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ»، هو كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- وسنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والصَّواب في الرِّوايات هو الوصيَّة بأهل بيت النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولهذا في سياق حجَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي خطبة الوداع قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي» ، وفي بعض الروايات «مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابُ اللَّهِ»، فالنَّص جاء على كتاب الله.
والنَّصُّ على كتاب الله نصٌّ على سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا معلوم، لأنَّ السُّنة مذكورة في القرآن، وطاعته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من طاعة الله -عَزَّ وَجَلَّ- وهذا معلوم ومشهور من أحاديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وممَّا دلَّت عليه السُّنَّة، ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي﴾ [آل عمران: 31]، وقال: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُو﴾ [الحشر: 7]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدًّا.
فخلاصة ما تقدَّم: أنَّ خطبة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فيها الوصيَّة بكتابه، وفي بعض الرَّويات أنَّ الثَّقلين هو التَّمسُّك بالكتاب والسُّنَّة.
وهذا يدلُّ عليه أشياء كثيرة جدًّا، لأنَّ أهل بيته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كغيرهم ليسوا معصومين من الخطأ، وقد وقع إجماع أهل العلم على ذلك، إجماع أنَّ الصَّحابة -رضوان الله عليهم- وآل بيت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليس لهم العصمة، لا كما يقول بعض أهل البدع الذي يدَّعونَ موالاة آل بيت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويقعون في المخالفات الشَّرعيَّة، فأهل بيت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند أهل السُّنَّة والجماعة لهم حق الإكرام والتَّوقير، ولكن لا يعتقدون أنَّ لهم العصمة، وعلى ذلك تدل النصوص من كلام الله ومن كلام رسوله ومن كلام آل بيت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فعليٌّ له أقوال.
وكذلك عِترَة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العَتِرَة يدخل فيها نساء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكذلك يعتقد أهل السُّنَّة أنَّهم ليس لهم عصمة من الوقوع في الغلط، وليس آل بيت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من مصادر التَّشريع، فمصدرا التَّشريع هما: كتـاب الله، وسنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا وقع إجماع الصَّحابة والتَّابعين وتابعي التابعين؛ بل إنَّ الروايات الثَّابتة عن آل بين النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي يشمل نساء النبي، ويشمل ذريَّة علي-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وأرضاه- فكلها واضحة وبيِّنة في أنَّ ليس لهم العصمة بأيِّ وجهٍ من الوجوه، فهذا قد وقع عليه الإجماع.
إذن وصية النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأهل بيته أي بأهل الإيمان منهم، ولهذا فقد يقع من أهل بيت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما وقع سابقًا، وسيقع فيما بعد؛ فيع منهم الغلط، وتقع منهم المعصية، فليسوا بمعصومين من ذلك، كما أنَّ أبا طالب وقع منه الكفر، وكذلك أبو لهب؛ ولذا فقد يقع من أهل بيت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك.
إذن الذين يستحقُّون الولاء منهم هم أهل الإيمان منهم، وهذا محل إجماع، فلا يُزايد مُزايدٌ على أهل السُّنَّة في ذلك؛ لأنَّهم أقرب الموافقة لوصيَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والنُّصوص يُجمَع بعضها إلى بعضٍ، والذي أذكره لكَ هو محل إجماع من كلام الصَّحابة والتَّابعين ومن تبعهم بإحسان، وقد صرَّحَ أهل السُّنَّة بذلك، ولذلك فإنَّك تجد أهل السُّنَّة في عقائدهم يذكرون الوصيَّة بأهل بيت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا يعتقدون فيهم العصمَة كما يعتقد أهل البدع، والنُّصوص واضحة وبيِّنَة أنَّ ما دون النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد يقع منه الغلط، ولذا فأهل السنة لا يعتقدون العصمة لأبي بكرٍ، ولا لعمر، ولا لعثمان، ولا لعلي-رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، ولا آل بيت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا محل عناية وفهم، وثَمَّ مؤلفات ومصنفات في حقوق آل بيت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وموقف أهل السُّنَّة والجماعة من ذلك، و-بحمد الله- كما ذكرنا أنَّ هذه الدَّولة قامت على هذه الأصول البيِّنَة الواضحة.
ولهذا قال: (وله في حديثِ جابرٍ الطويل أن النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال في خطبة يوم عرفة: «وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابُ اللَّهِ»)، القرآن، نصَّ على ذلك، فمَن تمسَّكَ بالقرآن لن يحصل له الضَّلال، وهذه بشارة لأهل الإيمان، أن يتمسَّكوا بهذه الوصيَّة، وأن يُعنوا بكتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنَّه لا ضلال مع التَّمسُّك بالقرآن والإيمان به، والسُّنَّة ممَّا جاء في القرآن الكريم.
قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَنْتُمْ تَسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ ؟»، دلَّ على أنَّ هذه الأمَّة تُسأَل عن نبيِّها هل بلَّغَ أو لم يُبلِّغ، ولهذا ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- في آخر سورة المائدة سؤال الرَّب-سُبْحَانَه وَتَعَالَى وهو أعلم- لنبيه عيسى بن مريم بمحضرٍ من أمَّة عيسى، فقال:﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾[المائدة: 116 - 117]، إلى آخر الآيات.
إذن النبي يُسأَل عن أمَّته، وتُسأَل الأمَّة عن نبيِّها هل بلَّغ؟
إذن قوله: «وَأَنْتُمْ تَسْأَلُونَ عَنِّي»، دلَّ على أنَّ هذه الأمَّة تُسأَل عن نبيِّها، وهذه الشَّهادة واقعة، وهي شهادة الأمَّة له -عليه الصلاة والسلام- بالتبليغ.
قال: «قالو»، أي: قال الصحابة -رضوان الله عليهم- وأحباب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذين رأوا تفاني النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الدَّعوة وفي التَّبيلغ، وغاية مهجته قد بذلها في ذلك؛ قالوا: (نشهد أنك قد بلغت)، أي: نشهد أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد بلَّغَ البلاغَ المبين، وهكذا على كلِّ مؤمنٍ أن يتذكر أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بلَّغَ البلاغ المبين، ولهذا فقد جاء في بعض الرِّوايات: «لَقَدْ تَرَكْتُكُم عَلَى مِثْلِ الْبَيْضَاءِ لَيْلِهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا إلَّا هَالِكٌ» ، يقول أبو الدرداء: "ما ترك لنا شيئًا إلا وأخبرنا عنه خبرًا"، اللهم صلِّ وسلِّم على النَّبي، بلَّغَ البلاغ المبين، وتركنا على البيضاء.
ولهذا فإنَّ من عِظَم تبيلغ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أنَّه يُعاتَب على حرصِهِ على البلاغ والتلبيغ والهداية، فقال الله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفً﴾ [الكهف: 6]، فاللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمد، فكيف لا يكون منه البلاغ المبين!
والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضحَّى بنفسه الشَّريفة، وأُخرِجَ من مسقط رأسه ومن داره، ومن مدينته التي نشا فيها من مكة إلى المدينة -يثرب- لأجل هذا البلاغ، وبحثَ عن المُعين، فذهب إلى أهل الطَّائف، ورُميَ بالحجارة حتى دميت عقباه، وأُلقيَ سَلا الجزور على ظهره -عليه الصَّلاة والسَّلام- وتحمَّلَ وصابرَ وصبرَ-عليه الصلاة والسلام- وأُذيَ وحُوصِرَ في شِعبِ هامر ثلاث سنوات حتى أكلَ الصَّحابة ومَن معه ورقَ الشَّجرِ من الجوع، إلى غير ذلك من الأحداث التَّاريخيَّة المعلومة والمذكور في كتب السُّنَة، ثم بعد ذلك ذهب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى المدينة لمَّا وجدَ النَّصير والمعين، ثم قاتل -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأجل هذا التَّبيلغ، ولأجل حماية هذه الدَّعوة؛ فشُجَّ رأسه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكُسِرَت رباعيَّته لأجل هذا التبيلغ، والرسول-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال هذا الحديث في حجَّة الوداع، في آخر زمانه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمَّا علم أنَّه قد دنا أجله؛ فانزل الله: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابً﴾ [النصر: 1]، إشارة إلى أنَّ أجل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد قرُبَ، ولهذا قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟»، قال الصحابة: (بلغت وأديت ونصحت)، فسُرَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-بذلك.
قال: (فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُبُهَا إِلَى النَّاسِ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ»)، إشارة إلى علوِّ الرَّبِّ-عَزَّ وَجَلَّ- في السماء، وأنَّه جعله شهيدًا، قال: («اللَّهُمَّ اشْهَدْ». ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)، فصلوات ربِّي وسلامه عليه، فإنَّه قد بلَّغَ البلاغ المبين، وترك الأمَّة على البيضاء، ليلها كنهارها لايزيغ عنها إلا هالك، وحفظ الله -عَزَّ وَجَلَّ- هذا القرآن وهذا الهدى، فمن أراد الهداية والهدى من أفرادٍ أو جماعات فعليهم أن يتمسَّكوا بكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فللهم وفقنا إلى التَّدبُّر وقراءة القرآن، وتعلُّم ما فيه من العمل، والتَّمسُّك به حتى نلقى ربَّنا -سُبْحَانَه وَتَعَالَى.
{قال -رحمه الله: (وعن علي -رضي اللَّه عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «أَلَا إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ»، فَقُلْتُ: مَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:«كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا كَانَ قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتَّى قَالُوا:﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ﴾ [الجن:1-2]، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هَدَى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ».رواه الترمذي وقال: غريب)}.
هذا حديث علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مشهور معروف، ودائمًا إذا جاءت أوصاف القرآن العظيم ذكر أهل العلم هذا الحديث العظيم، والأوصاف حق ثابتةٌ في القرآن، والصَّواب من جهة السَّندِ أنَّه موقوف على عليٍّ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ولا يصح رفعه؛ لأنَّ فيه الحارث الأعور، وهو مُتكلَّمٌ فيه، ونُسِبَ إلى الضَّعفِ الشَّديد، ولهذا يقول ابن كثير -رحمه الله تعالى: "وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهو كلام حسنٌ صحيح"، وقد صدقَ -رحمه الله تعالى- فإنَّك إذا أردتَّ أن تجمعَ أوصاف القرآن وأن تُحدِّثَ النَّاس به لن تجد أفضل من هذا الأثر الموقوف على علي-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في إخبارهم بما في القرآن العظيم من العلوم النَّافعة وما فيه من الحكم، ولهذا قال: «أَلَا إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ»، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكرَ أنَّ هذه الأمَّة سيقع فيها الفتن، ويقع الهرج والمرج، فأخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أكثر من حديث بذلك، وهذا محل اتِّفاق بين أهل العلم، ولهذا فإنَّ العلماء -رحمهم الله- تجدهم في مصنَّفاتهم من دواوين السُّنَّة يذكرون كتابًا ويسمُّونه "كتاب الفتن"، ففي صحيح البخاري كتاب الفتن، وفي صحيح مسلم، ففي دواوين السُّنَّة كلها؛ بل ثَمَّ مُصنَّفات لأهل العلم في الفتن، وهذه المصنفات بها روايات أحاديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الفتن، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تركَ الأمَّة على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وفي بعض الرِّوايات الثَّابتة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه قام مقامًا عظيمًا من صلاة الفجر إلى أن غربت الشَّمس، ينزل من على المنبر يُصلي، قال أبو هريرة-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "فما تركَ شيئًا إلا وأخبرنا به". فأعلمُنَا بها أحفظنا لحديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: "فسمَّى لنا كلَّ شيء"، وفي بعض الروايات قال: "حتى أدخل أهل الجنَّة الجنَّة وأهل النار النار"، أي: أخبرهم بما هو كائن، وهذا من حرص النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وممَّا أخبرهم به: وقوع الفتنة في زمانهم، وفي زمن مَن جاء بعدهم، فأخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّ الفتنة ستقع في أصحابه، وهذا وقع، فما المخرج من هذه الفتن؟
قال: «سَتَكُونُ فِتَنٌ كَرِيَاحِ الصَّيْفِ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمٌ خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، مَنِ اسْتَشْرَفَ لَهَا، اسْتَشْرَفَتْهُ» ، وأخبر أنَّ أعظم فتنة تقع هي فتنة الدَّجال في آخر الزَّمان، وجاء في بعض الروايات أنَّ العصمة من فتنة الدَّجال يكون بحفظ سورة الكهف، أو بقراءة أول عشر آيات من سورة الكهف، فدلَّ ذلك أنَّ المخرج من الفتن هو التَّمسُّك بالقرآن العظيم.
قيل: (مَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟). قال: «كِتَابُ اللَّهِ»، فهذا الأثر سواء رُفِعَ أو كان موقوفًا على علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في معانٍ عظيمة، وهي أنَّه لا مخرج للأمَّة من الفتنة إلا بالاعتصام بالقرآن العظيم، جعلنا الله من أهل القرآن، الذين هم أهل الله وخاصَّته.
قال: «فِيهِ نَبَأُ مَا كَانَ قَبْلَكُمْ»، ولهذا لو قراتَ القرآن تجد فيه أخبار الأمم السَّابقة، فذكر الله أشياء كثيرة عن الأمم السَّابقة كقوم عاد وقوم ثمود وقوم صالح، فهذا على مستوى الأمم، وعلى مستوى الأفراد ذكر من أمر الجبابرة والظَّلَمَة فرعون وقارون وهامان؛ إذن فيه نبأ مَن كان قلبكم.
قال: «وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ»، يعني خبر ما سيكون بعدكم موجود في القرآن.
قال: «وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ»، إذا حصل الخصام والقضاء والتَّنازع، سواء بين الأمم أفرادًا أو جماعات؛ فالذي يحكم بينهم هو القرآن العظيم، ولهذا فمن توفيق الله -عَزَّ وَجَلَّ- للملكة العربية السعودية -زادها الله توفيقًا وَنَصَرَ الله بها الإسلام وأهله- أنَّ الدُّستور -كما يُسمَّى في الدول الأخرى- وهو النِّظام الأساسي للحكم، موجود فيه في المادة السَّابعة: أنَّ الحكم هو لكتاب الله وسنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكل نظام يخالف القرآن والسُّنَّة فهو باطل؛ وهذا من توفيق الله -عَزَّ وَجَلَّ- لهذه الدولة أن تعتصم بالقرآن؛ لأنَّه سبب نجاتها ونجاة غيرها من الأفراد والجماعات، وهذا من تحقيق وصيَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالاعتصام القرآن، ولهذا فالمحاكم الشَّرعيَّة تقضي بكتاب الله وسنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذه نعمة ينبغي أن تُذكر فيُحمَد الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليها، ويُشكَر ولاة الأمر عليها، ونقول لهم: زادكم الله توفيقًا وهُدًى وثباتًا على هذا الدِّين؛ لأنَّ هذا الدِّين عزٌّ لهذه الدَّولة -بإذن الله -عَزَّ وَجَلَّ.
قال: «وَهُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ»، القرآن فصلٌّ، فيه مواعظ وحياة للقلوب، وشفاء لأمراض الشُّبهات التي ترد على القلب، فوساوس الشَّيطان لا يقطعها إلا القرآن العظيم.
قال: «مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ»، هذا يعني أنَّ كلَّ شخص-سواء أفراد أو جماعات أو دول- تُقيم عقيدتها أو دولتها على غير القرآن؛ فهي إلى انتهاء، ولهذا ما يعارض القرآن إلا وهو ساقط، ولهذا عارضت القرآن أممٌ كالفُرسِ والرُّوم، وكلها زالت وسقطت، وبقيَ هذا القرآن العظيم محفوظًا في الصُّدور متلوًّا.
وفي زماننا المتأخر ظهر الاتِّحاد السُّوفيتي، ولما قامت الشُّيوعيَّة صارت تحارب كل شيء، حتى تعلُّم القرآن وحفظه؛ ولا شكَّ أنَّ هذا انحرافٌ عظيمٌ، ومع ذلك حُفِظَ القرآن، وزالت الشُّوعيَّة وذهبت، وبقيَ القرن، فمن تركه من جبار قصمه اللَّه، ونهايته إلى زوال، وهذا فيه بُشرَى لأهل الإيمان ممّن يعتصمون بالقرآن أنَّهم فائزون ومفلحون.
قال: «وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ» فمن ابتغى الهدى من غير القرآن من زُبالةِ أفكارِ البشرِ فيما يتعلَّق بالتَّشريع وما يعلق بالأحكام والأخلاق؛ كل ذلك مصيره الضَّلال، فالهدى والفلاح للأمَّة وللأفراد والجماعات لا يكون إلا بالاهتداء بالقرآن.
قال: «وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ»، وهذا يُوافق قول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُو﴾ [آل عمران: 103]، فحبل الله هو القرآن، في تفسير جمعٍ من الصَّحابة -رضوان الله عليهم- وهو الإسلام، وغير ذلك من التَّفاسير، وهذا من اختلاف التَّنوُّعِ لا اختلافِ التَّضادِّ، وقد نصَّ جمعٌ من أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-على أنَّ حبلّ الله المتين هو القرآن، فمن تمسَّكَ به نجا، وهو الحبل الذي يوصل إلى النَّجاة ودخول الجنان.
قال: «وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ»، وصف الله -عَزَّ وَجَلَّ- القرآن بأنَّه ذِكْر، قال: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ [الزخرف: 44].
وإذا سأل سائل وقال: ما أعظم الذِّكر؟
قيل له: القــــرآن.
ولهذا فإنَّ ابن تيمية -رحمه الله تعالى رحمة واسعة- كان يجلس بعد الفجر يذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- فأشكل عليه هل الأفضل أن يتلو القرآن باعتباره ذكر؟ أو يذكر الأذكا والأوراد المشروعة؟
قال: "فرأيتُ أنِّي أُكرِّرُ الفاتحةُ، وأنَّ في قراءة الفاتحة مرَّات عديدة فيه جمعٌ بينَ قراءة القرآن والذِّكر؛ لأنَّ فيها ذكر"، وهذا من لطائف الاستدلال.
قال: «وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ»، قال تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: 6]، جاء في تفسير الصحابة أن الصراط المستقيم هو القرآن، فمن تمسَّكَ بالقرآن هُديَ إلى صراطٍ مستقيم،قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153]، إذن الصراط المستقيم هو القرآن.
قال: «هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ»، الأهواء لا تزويغ بالقرآن؛ لأنَّه واضحٌ بيِّنٌ، محكمه واضحٌ، المتشابه في القرآن يُردُّ إلى المُحكَم، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَ﴾ [آل عمران: 7].
قال: «وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ»؛ لأنَّه محفوظ، قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، فيتميَّز كلام ربِّنا عن كلام غيره.
قال: «وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ»، صَدَق! فالعلماء لا يشبعون من القرآن؛ لأنه لا تنقضي عجائبه، والعلماء يستدلُّون بالقرآن على كلِّ شيءٍ حتى في تعبير الرُّؤى، فتجد في القرآن إشارة لتعابير الرؤى، والاستدلالات بالنُّصوص وما شاكل ذلك.
إذن؛ كلَّما تلوتَ هذا القرآن وقرأت فيه وقرأت في تفسيره فإنَّك لا تشبع.
قال: «وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ»، فكلام البشرِ إذا كُرِّرَ يَخلَق –يعني: قد لا تتقبله الأنفس- أمَّا كلام الله فلا يخلَق، تسمعه في المساجد، ويُتلَى عليك، وهذا من إعجاز القرآن، أنَّك كلَّما تسمع الآيات كلَّما تتجدَّد لك المعارف والمعاني والمواعظ، ويحصل لك السُّرور والسَّعادة ويزداد إيمانك وأنت تسمع، فمثلًا أنت تقرأ الفاتحة مرارًا ومع ذلك تجد أنَّك كلما تقرأ هذه الفاتحة كلَّما أنَّها لا تخلق عن كثرة تكرارها، وهكذا كل آيات القرآن.
قال: «وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ»، لا تنقضي عجائب القرآن، ولهذا نقول: مَن أراد الهُدَى، مَن أراد المعارف؛ فليُقبِل على القرآن بكليَّته، وابن تيمية -رحمه الله تعالى- لما سُجِنَ في سجن القلعة وأُخذَت منه الدَّفاتر والأقلام والقراطيس؛ يقول: "فأقبلتُ على القرآن، فحصل لي شيءٌ من النَّدم أنِّي لم أجعل عمري كله في تفسير القرآن"، فالقرآن له خير وبركة، وأحكام، وتوجيهات، نسأل الله أن يرزقنا الانتفاع بالقرآن، كما قال مطرِّف بن عبد الله الشخير: "تفكرتُ في الخير فإذا الخير كثير، وتفكرتُ في جِماعه، فإذا جماعه الدُّعاء"، نسأل الله أن ينفعنا بالقرآن العظيم، وأن يهدينا إليه.
قال: «هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتَّى قَالُوا...»، الجنُّ هم خلقٌ آخرٌ غيبيٌّ خفيٌّ عنَّا، قال تعالى: ﴿إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم﴾ [الأعراف: 27].
قال: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبً﴾، تعجَّبوا من القرآن، وجملة من مسترقي السَّمع.
قال: ﴿يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِوَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدً﴾، إذن القرآن يهدي إلى الرُّشد، الجنّ وهم الخلق الخفي عنَّا علموا أنَّ القرآن يهدي للرُّشد! فما بالنا نُقصِّر في القرآن العظيم ونتوانى!
وهذا الخطاب لنفسي المقصِّرة أولًا ولإخواني وأخواتي المشاهدين والمشاهدات؛ فما لنا لا نُقبِل على القرآن؟!
ليكن للإنسان ورد من القرآن قراءة وتدبُّرًا وتعلمًا؛ حتى يكون من أهل الفلاح.
قال: «مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ»، أي: كل مَن استدلَّ بالقرآن فهو صادق.
قال: «وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ»، أُجرَ أجرًا عظيمًا.
قال: «وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ»، أعظم العدل هو أن يُحكَم بكلام الله، وبكلام رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: «وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هَدَى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»، إذا أردتَّ أن تعظ النَّاس أو توجِّههم؛ فعليك بالقرآن، قال تعالى: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق: 45].
وذكر بعض العلماء أنَّ خطبة الجمعة إذا خلَت من الاستدلال من ذكر ولو آية؛ فلا تصح هذه الخطبة!
فوصيَّتي للدعــــاة وللناس جميعًا: أن يُكثروا من الاستدلال بكلام الله، وبكلام رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّه أعظم الذكر، وأعظم الوعظ، وأعظم نفع للناس، وعلينا جميعًا حفظ القرآن، لأنَّه شيءٌ عظيم، ومَن لم يستطع حفظ القرآن فليحفظ شيئًا قليلًا منه.
وكذلك آيات القرآن التي فيها المفصل العظيم، الذي من سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه يُتلى في صلاة الفجر، فعلى الأئمَّة والذين يُصَلُّونَ بالنَّاس أن يُراعوا سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قراءة المفصَّل، ففيه المواعظ العظيمة التي تذرف لها الدُّموع وتوجل لها القلوب، فالقرآن العظيم فيه نفع للمسلمين جميعًا، أسأل الله أن ينفعنا وإيَّاكم بالقرآن العظيم، وأن جعلنا من أهل القرآن، وأن يوفقنا لتدبُّر هذا القرآن وتعلمه وتعليمه، وأن يرزقنا التَّمسُّك بهذا القرآن العظيم إلى حين الممات.
وأسأل الله -سُبْحَانَه وَتَعَالَى- لي ولكم التَّوفيق والهُدَى والسَّداد.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ اللهَ أن يجعلَ ذلك في موازينِ حَسَناتِكُم، هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر.
إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمةٍ، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
2524 22
-
3243 12
-
3327 12
-
4637 12